ليس موسى بن نصير ومولاه طارق بأوسع ذرعا من مسلمة، فسنفتح القسطنطينية وننفذ منها إلى الأرض الكبيرة قبل أن يجاوز موسى بن نصير جبل الزهرة إلى أرض إفرنسة، وتشهد دمشق موكبا آخر قريبا ينسي أهل الشام موكب ابن نصير، ويلهيهم عن مائدة سليمان بن داود! •••
كان عهد الوليد بن عبد الملك خليقا بأن يطول؛ فقد ولي الخلافة ولم يزل في باكر الشباب، وقد عمر أبوه عبد الملك وجده مروان حتى جاوزا الستين، ولكن بني عبد الملك كثير، وكأن كلا منهم قد استقر في وعيه الباطن أن من حقه أن يجلس قدرا من عمره على عرش عبد الملك، فلولا بقية من الحفاظ على العهد - أو لعلها خشية افتراق الكلمة - لوثب بعضهم على بعض يستبقون عرش الخلافة؛ فكأنما اقتضت حكمة الله ألا يعمر الوليد طويلا من أجل ذلك.
على أن الوليد كان على نية الغدر، فلولا أن الأجل أعجله من مأمله لجعلها وراثة لولده دون أخيه وولي عهده سليمان؛ وكان يؤازره على هذه النية طائفة من أمرائه وبطانته وقادة جنده، فلما بغته الموت ووليها من بعده سليمان بن عبد الملك، كانت أشياء تحيك في صدره من بطانة الخليفة الراحل ... وكانت أشياء تحيك في صدورهم كذلك، ولكن مسلمة بن عبد الملك - كما قال أبوه - كان مجن هذه الدولة، فرد سيوفا - كانت مشرعة - إلى أغمادها، وبصق على الفتنة فانطفأت. •••
وتهيأ مسلمة للحج، ففرق أصحابه على الثغور ، وعقد الألوية لأمراء الصائفة، ووزع الأعطيات في الجند، ثم سار في موكب فخم ضخم على ظهر البادية إلى الحجاز، يصحبه النعمان بن عبيد الله ...
ونزلوا ذات يوم للقيلولة في بعض مراحل الطريق، ثم نهضوا يستأنفون الرحلة، وكان بالنعمان في ذلك اليوم وجع يثقل به، فلا يكاد ينهض، ولكنه لم يطب نفسا بالتخلف، فتحامل على نفسه حتى ركب، وأسلم زمام ناقته إلى الحادي،
6
ثم أخذته إغفاءة،
7
فمال برأسه على قتب الراحلة، وسبحت به الأحلام في بحر بعيد الشاطيء، فانكشفت له صور من الحياة لم يرها من قبل، ولم تخطر له في وهم، ولا في أمنية ...
ثم نشط من إغفاءته هذه معافى خفيف الحركة، ولكن رأسه مما ازدحم فيه من الأوهام والصور لا يكاد يثبت بين كتفيه ...
Unknown page