Bina Umma Carabiyya
منهاج مفصل لدروس في العوامل التاريخية في بناء الأمة العربية على ما هي عليه اليوم
Genres
وقد يقول قائل: إن اشتداد خطر الغزو ينبغي له أن يؤدي إلى اتحاد يفرض فرضا عند اللزوم، وهذا صحيح عموما ولكن بعد تجاوز حد معين من الضغط الخارجي يحدث التشتت لا التجمع، وتنشأ المراكز المحلية بعصبيات محلية يحتمي في حماها الناس بقدر الاستطاعة.
ويبقى أخيرا أن نشير إلى أن انقسام المغرب بين الأقطار أو الوحدات الحالية ليس شيئا طارئا أو جديدا، بل هو قديم يلازم تاريخه معظم الوقت، ليس معنى ذلك أننا عرفناها دائما بهذا التحديد. فإن الدول المغربية كانت تسعى دائما لبسط سلطانها على المغرب كله، ولكن هذا كان لا يلبث أن يزول وتبرز من جديد أقسام المغرب التقليدية. فهي في الواقع تتجمع حول مراكز اقتضت وجودها حاجات البيئة ومطالب الظروف المتكررة.
والذي نرجوه من قلوبنا أنه عندما يتهيأ للمغرب أن تتحرر «الجزائر»، وأن يتم تخلص تونس والمملكة المغربية من القوات الأجنبية، أن لا يثور بين أبنائه مطالب إقليمية على أساس ما كان في أيام دولة كذا أو دولة كذا، بل تسوى شئون «الحدود» على أساس مصالح أهلها ومنافعهم بالقدر الذي يسلم به العقل والأخوة الصحيحة.
ودراستنا لهذا القسم من العالم العربي تبدأ بأواخر القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر؛ أي تبدأ بزوال الملك الإسلامي بالأندلس نهائيا عند أواخر القرن الخامس عشر واتخاذ الممالك الأوروبية خطة الهجوم على جميع ثغور الأقطار المغربية في البحر المتوسط وفي المحيط، ومحاولة ملاحي تلك الممالك العثور على طرق ملاحية توصلهم إلى الأقطار الشرقية الآسيوية ملتفين حول بلاد المسلمين، وأملهم أن ينشئوا بذلك صلات اقتصادية دينية حربية مباشرة مع تلك الأقطار الآسيوية غير الإسلامية، وكأنهم بذلك يحيطون بلاد المسلمين بدائرة حصار قد تنتهي بتضييق الخناق عليهم.
وعلى هذا فقد توالت حملات الأوروبيين الغربيين على الثغور المغربية كما قدمنا، وترتب عليها - كما قدمنا أيضا - أن وقفت حركات إنشاء الدول المغربية الكبرى نهائيا، وصارت الظاهرة - كما قدمنا أيضا - أن كثرت مراكز الحياة وغلبت عليها الصفة المحلية.
وترتب عليها أيضا - وهذا نذكره الآن - أن القوات البحرية العثمانية وجدت في الكفاح بين المغاربة والأوروبيين فرصة التدخل لإغاثة المغاربة ولإضعاف القوى البحرية الأوروبية وحرمانها من امتلاك قواعد على السواحل الأفريقية الشمالية.
وبهذه الأحداث يبدأ التاريخ الحديث للمغرب العربي. على أنه يجدر بنا قبل أن ننتقل إلى عرض أحوال أقطار المغرب قطرا قطرا أن نلفت النظر إلى ما يأتي:
أولا: أن الحرب البحرية في تلك الأزمنة لم تكن من شأن أساطيل الحكومات وحدها - كما هو الحال الآن - بل كان الغالب أن يقوم المغامرون بتجهيز سفنهم للحرب وشحنها بالمقاتلين من المغامرين أمثالهم، ثم يخرجون للسطو على السفن التجارية التي يملكها خصومهم الدينيون دون أن يلقوا بالا عن ما إذا كانت الدول التي يملك رعاياها تلك السفن في حالة حرب مع دولهم هم. وقد تخرج سفن المغامرين إلى ضرب سواحل أولئك الخصوم ومحاولة سبي أهل قرى تلك السواحل، وقد تلتقي سفن المغامرين في البحر بسفن مسلحة لخصومهم الدينيين فيكون قتال، والمنهزم حظه الأسر والرق، فيعمل مكبلا بالأغلال في تحريك مجاذيف سفن الآسرين، أو يعمل مكبلا بالأغلال في دور صناعة الآسرين - أو الليمانات - ومن هنا نستخدم في مصر كلمة الليمان لسجن يؤخذ فيه المسجونون أخذا شديدا، ويستمر الأسير يعاني ما يعاني إلى أن يمن الله عليه بالموت، أو إلى أن يمن الله عليه بمن يفتديه بالمال من ذوي قرباه أو من المحسنين.
وقد وجدت الحكومات إذ ذاك في هذا النوع من الحرب منافع مختلفة، فكانت تحقق بواسطته ما تحققه الأساطيل الرسمية، وفي نفس الوقت كانت تستطيع التبرؤ من أعمال مغامريها، وهم وحدهم الذين يؤدون ثمن الهزيمة.
وهذه الطريقة عرفتها حكومات ذلك العهد مسيحية كانت أو إسلامية، والمغامرون المسلمون من هذا النوع هم الذين استولوا على تلك الثغور المغربية ثم وجدوا أن لا قبل لهم بالبقاء فيها إلا إذا وضعوا أنفسهم تحت السيادة العثمانية، فأصبحت تلك الثغور وأحوازها البرية أقاليم عثمانية، بيكويات وباشويات وما إلى ذلك. ويطلق عليها الكتاب الأوروبيون اسم
Unknown page