Bila Quyud
بلا قيود: تقنيات حررت البشر ودفعتهم لحافة الهاوية
Genres
وهذا يثير التساؤل حول كيفية توزيع ثروة المجتمع الحديث على أعضاء المجتمع غير القادرين على العثور على عمل مربح؛ فلن يكون من المنطقي افتراض أن يخضع العدد المتقلص من العاملين الذين ما زال لديهم دخول كافية لضرائب بمعدلات مرتفعة، وأن تعيد الحكومات توزيع هذا المال على أفراد المجتمع الذين لا يستطيعون العثور على وظائف. فمن ناحية، ستأتي مرحلة لا يعود فيها من يملكون بالعدد الكافي لإعانة من لا يملكون. ومن ناحية أخرى، يؤدي عدم وجود عمل هادف للأشخاص البالغين إلى تدمير احترامهم لذواتهم. وتقدير الذات لا يمكن استرجاعه بالإعانات.
وقد تصير هذه المشكلة أكثر خطورة على الرجال من النساء في نهاية المطاف؛ لأن أغلب النساء لديهن خيار حمل الأطفال وتربيتهم، ويحظى هذا الدور بقبول اجتماعي عالميا، ويعد مهما من أجل بقاء كل مجتمع إنساني مستقبلا، غير أن مكانة المرأة وكرامتها في المجتمع المعاصر لا تستند إلى دورها الإنجابي فحسب؛ فلو حرمت المرأة من مصدر دخلها المستقل وأمنها الاقتصادي ستتراجع مكانة المرأة سريعا إلى مستواها البائس الذي كان في مجتمع منتصف القرن العشرين.
تجربة القرن العشرين الاشتراكية الكبرى التي حاولت فيها روسيا وأوروبا الشرقية والصين وضع كل الأنشطة الاقتصادية تحت سيطرة حكومات الدول، فشلت في أن تحقق ازدهارا عاما أو اكتفاء ذاتيا أكثر في الحياة لسببين. أولا: لأنها تعارضت مع النزعة البشرية القديمة والغريزية للعمل وتحقيق مكسب شخصي. وثانيا: لأن النظام القائم على مبدأ «من كل على حسب طاقته، إلى كل على حسب حاجته» لا يمكن أن ينجح إلا في مجموعة بشرية متماسكة مثل العائلة، حيث يستمد الأشخاص احترامهم لذاتهم من حب ورضاء الآخرين، ويرون سعادتهم في سعادة أقرب الأشخاص إليهم وشركائهم في الحياة، لكن مهما كانت هذه المبادئ نبيلة فهي لن تنجح على مستوى الدول؛ حيث أغلب الناس أغراب بعضهم عن بعض.
وفي الوقت نفسه نتج عن عصر تكنولوجيا المعلومات بالفعل بعض التقدم الملحوظ في الثقافة البشرية، ومن أهم سماته القدرة غير المسبوقة على التواصل مع الآخرين، وتبادل المعلومات بحرية أكبر وعلى نطاق أوسع، وتجميع حكمتنا الجماعية لتنتفع بها الإنسانية في نهاية المطاف. وتبدأ هذه القدرات مع الفرد الذي منح الآن القدرة على إبداء رأيه بطريقة تسمح لأي شخص آخر على وجه الأرض الاستماع له.
وسائل التواصل الاجتماعي والمنابر الرقمية
من بين كل القدرات البشرية التي أفرزتها تقنية المعلومات حتى الآن، ربما كان أقلها توقعا الانتشار المفاجئ لنظام التواصل المسمى بوسائل التواصل الاجتماعي، حيث ينشئ كل فرد شبكة شخصية من أشخاص آخرين، ويتواصل بانتظام مع الأشخاص الآخرين في هذه الشبكة. ورغم الترحيب بوسائل التواصل الاجتماعي باعتبارها شكلا جديدا تماما من التواصل الإنساني، فإن مبادئ التواصل البشري التي تجسدها قديمة قدم عصور ما قبل التاريخ.
المجتمعات الأبسط التي درسها اختصاصيو علم الإنسان طوال القرن العشرين - مجتمعات الصيد وجمع الثمار والمزارعين الذين سلكوا نهج قطع أشجار الغابات وحرقها من أجل توفير مساحات للزراعة - كانت لديها طريقة مميزة في إبلاغ الأعضاء الآخرين في جماعتها بأفكارها ومشاعرها. فنظرا لأن مساكن هذه الجماعات كانت عادة صغيرة الحجم ومصنوعة من مواد قابلة للاختراق مثل جلود الحيوانات أو قش النخيل - وبما أنها كانت لا تبعد عادة عن بعضها سوى بضع أقدام فقط - فقد كان أفراد هذه المجتمعات يتمتعون بقدر ضئيل من الخصوصية أو لا يتسنى لهم أي قدر من الخصوصية على الإطلاق. وعندما كانوا يجلسون في خيامهم أو أكواخهم كان أي شيء يقولونه بنبرة عادية يستطيع جيرانهم سماعه، وأي شيء يقال بصوت عال كان يسمعه بسهولة جميع الأشخاص الذين يعيشون في مخيماتهم الصغيرة المتلاحمة.
وكان حين يصير لدى أحد الناس الذين يعيشون في مثل هذه المجتمعات شكوى من زوج أو جار أو قريب أو عدو، يقيم نفسه في منتصف ساحة عامة - في الفسحة التي كانت تقع غالبا وسط مجموعة من الأكواخ أو الخيام، على سبيل المثال - ويبث شكاواه في نبرة اتهام مرتفعة. ولم تكن الخطب التي تلقى على هذا النحو موجهة لفرد واحد، وإنما للمجتمع ككل، وكان المعتاد أن يستمع إليها أفراد المجتمع باهتمام كبير. وفي كثير من الأحيان كان أحد أفراد الجماعة يصيح ببعض تعليقات الاستحسان أو الاستهجان من داخل حدود مسكنه، وأحيانا كان يفترض أن تكون هذه التعليقات الصادرة عن الجمهور غير المرئي غالبا ساخرة، ولم يكن من المستبعد أن تثير هذه التعليقات ضحك أفراد آخرين في الجماعة.
لم يقتصر دور هذه الخطب المشحونة بالعاطفة على إعطاء المتحدث وسيلة للتنفيس عن إحباطاته فحسب، ولكنها كانت تتيح كذلك بث الشكاوى الفردية في ساحة الخطاب العام. وكانت تعليقات المستمعين - التي كانت دائما ما يسمعها أفراد آخرون في المجتمع - هي الأخرى بمثابة وسيلة لاستطلاع الرأي العام، وكانت تعطي فرصة للجماعة ككل للإدلاء بدلوهم في إيجابيات وسلبيات شكوى المتحدث. على هذا النحو، كانت قيم وسلوكيات الجماعة نفسها تبث وتؤيد وتراجع وتجود عن طريق هذه الأفعال الشائعة من إلقاء الخطب.
لكن حين نشأت القرى الدائمة أثناء الثورة الزراعية، لم تكن الطبيعة المادية لهذه المساكن الأكثر استقرارا مرحبة إلى حد ما بهذا الطقس البشري القديم؛ إذ إنه في العديد من المجتمعات الزراعية، كما في المجتمعات الريفية المتناثرة في شمال أوروبا والشرق الأقصى، كانت الأسر المستقلة تميل للعيش في الحقول والحدائق التي امتلكتها، وكانت منازلهم يبعد بعضها عن بعض بعشرات أو مئات الياردات عادة؛ شديدة البعد بعضها عن البعض لدرجة تحول دون سماع إحدى الأسر المجاورة شكوى أحد الأشخاص. علاوة على ذلك، كانت هذه المستوطنات كثيرا ما تفتقر إلى المنطقة المشتركة التي يصل إليها كل أفراد المجتمع بسهولة. وقلما كان الناس الذين يعيشون في هذه المجتمعات يتواصل عن كثب بعضهم مع بعض إلا فيما يطرأ من مراسم جماعية مثل الأعراس أو الجنازات أو الشعائر الدينية.
Unknown page