فابتسم حسين يغالب ارتباكه، ولم أطراف شجاعته وقال: سأسافر في نهاية سبتمبر، وأنت تعلم أن الحكومة تصرف المرتبات مؤخرا!
وأدرك حسن ما يعنيه قبل أن يتم كلامه، فتفكر دون أن يبدو على وجهه شيء مما يدور في نفسه، ثم سأله: وما المرتب الذي تنتظره؟ - سبعة جنيهات. - يا خيبتها يوم أرسلتك إلى المدرسة! .. وطبعا لا تملك من نفقات السفر ومعيشة شهر أكتوبر مليما؟
فابتسم حسين في تسليم وهو يعجب لما شعر به نحو أخيه - في هذ الموقف - من الارتباك والحياء؛ كأنه يسأل رجلا غريبا، وجعل حسن ينظر إليه صامتا وعقله لا يني عن التفكير؛ «جاء حسين في ظرف غير مناسب، إني أنتظر نقودا لا أدري متى تأتي، ولكن يدي الآن فارغة، مصفاة لا يبقى فيها شيء، تبا لها! لا يمكن أن أصارحك بالحقيقة، لتقم القيامة قبل ذلك! إنه في حاجة ملحة إلى النقود، ولا بد أن يحصل عليها، مستقبل الأسرة يتوقف على هذه الجنيهات، وليست في الواقع بالكثير، ثمن أوقيات حشيش، وينفق مثلها أي فتى أرعن في أسبوع بدرب طياب؛ سناء مفلسة أيضا، لم أعد أبقي لها على شيء! ولكن لا بد أن أعينه، كيف؟ لماذا لم يحضر إلا اليوم؟ إلام تبقى أسرتنا شوكة في جنبي؟!» وظل ينظر إلى أخيه صامتا حتى امتلأ حسين قلقا وخوفا. ثم غادر حسن الفراش فجأة، وذهب إلى الصوان ففتح درجا وعكف عليه دقائق ثم عاد إلى مجلسه ومد يده إلى أخيه فإذا فيها أربع أساور ذهبية، وقال بسرعة: خذ هذه الأساور، وبعها في الحال وانتفع بثمنها.
وجمدت يد حسين فلم تتحرك، واتسعت عيناه انزعاجا وإنكارا، وهتف وهو لا يدري: ما هذا؟! .. أساور من هذه؟
فقال حسن ببساطة وقد ضايقه انزعاج الآخر: أساور سناء، امرأتي! - وبأي حق آخذها؟ - إن أخاك يعطيك إياها، لا شأن لك بصاحبتها.
واشتد انزعاجه وتساءل في امتعاض كيف يعيش أخوه؟ ثم تمتم: لست مرتاحا إلى أخذها، أما من سبيل آخر؟
وحنق حسن على هذا «التعفف» فقال بجفاء: إذا كنت حنبليا حقا فما عليك إلا أن ترفضها، وليس عندي غيرها!
فرمقه بارتياب، ولكنه قرأ في وجهه الصدق فأحس بضيق وقهر؛ «أساور امرأة! .. وأي امرأة! .. محال. شيء لا يصدق، ولا يمكن أن يدور لي بخلد، ولم أعلم - ولو في كابوس - بأنه وقع لي! كيف يمكن أن أحترم نفسي بعد ذلك؟! أرفض؟ والعمل؟! ليس لديه نقود أخرى، ينبغي أن أصدقه. ولكن محال أيضا أن أضيع الوظيفة، وما عسى أن أصنع لو أفلتت الفرصة؟ كلا، لا يمكن أن أرفض، لا يمكن أن أقبل . لا يمكن أن أرفض، لا يمكن أن أقبل! أرفض، أقبل، أرفض، أرفض، أقبل، أقبل! شيء واحد يستحق اللعنة؛ هو الحياة، الحياة والحظ .. والوالدان اللذان أتيا بنا إلى هذه الدنيا، كان يلعب بأوتار العود ولا يبالي شيئا! سحقا لي، كيف أفكر؟ هيهات أن تذهب من مخيلتي صورة جثمانه، رحمة الله عليه، ليس الذنب ذنبه. كالدجاج نلتقط رزقنا بين القاذورات! حجرة الدجاج على السطح ملتقى حسنين وبهية. شيء تشمئز منه النفس؛ فلأرفض. ولكن لا حياة إلا بالإذعان، لن يدري أحد! ولكني سأذكره ما حييت، وسأخجل منه ما حييت! إنه ينتظر الجواب؛ فإما الإذعان وإما الموت! فلآخذها كدين ثم أقضيه عند الميسرة! إنك تخادع نفسك، بل إني صادق ولأقضين ديني! ارفض أو لا تزعم بعد الآن أنك رجل شريف، إني جائع، شريف وجائع، ولن أرفض. تبا للحياة! إني أدرك الآن ماذا ساق أخي إلى هذا الوكر؛ أسرة ضائعة وحياة قاسية، يجب أن أبت في الأمر وإلا تفجر رأسي كالدجاج.» - ماذا قلت؟
ورفع عينيه في ذهول وقد أثر فيه صوته تأثيرا مخيفا، وكانت الأساور ما تزال في يده، فخفض عينيه وقال بخجل: إني أشكر لك كرمك، وأقبله على العين والرأس، وأرجو أن تعده دينا أقضيه عند الميسرة بإذن الله. - اقبله هدية إذا شئت، ولا تنس أن تخبر أمك بأنني اقترضت النقود من الأستاذ علي صبري ...
وأثار ذكر أمه ألما حادا في نفسه فوجد امتعاضا، وتضاعف هذا الامتعاض وهو يتناول الأساور ويدسها في جيبه، ثم قال: يؤسفني أنني أزعجتك، وأظن أنه ينبغي أن أذهب كي تواصل نومك.
Unknown page