وكانا بلغا موقف السيارة في العطفة الثانية، فقبض على يدها وفتح بالأخرى باب السيارة، وازدردت ريقها واندفعت إلى الداخل في حركة عصبية، وجلست، فأغلق الباب وراءها، ودار حول السيارة ودخل من الباب الآخر وهي لا تكاد تدري به، ومالت إلى الوراء لتباعد بين وجهها وبين النافذة المشرفة على الطريق، ثم غشيتها غرابة؛ بدا لها كل شيء غريبا خياليا لا يمت للواقع بسبب؛ الطريق الذي تتساقط عليه ظلمات المساء وأشباح المارة، والسيارة الهرمة المتهلهلة، ونفسها، وأصوات الناس، ودوي عجلات الترام، واستعدت إرادتها بقوة لتعود إلى وعيها، واسترقت نحوه نظرة وهو جالس أمام عجلة القيادة بقوام فارع، ووجه معروق صلب، ووجنتين بارزتين وأنف ضخم صخري، وفم عريض كفم البولدج، فأعادها منظره إلى عالم الحقيقة، والوعي والأعصاب، والدم والخوف. واستخرج الرجل قارورة تحت مقعده وفض سدادتها ثم نظر فيما حوله في شيء من الحذر، ورفع فوهتها إلى فيه، وأفرغ في جوفه جرعات غزيرة، والتفت إليها بوجه متقلص العضلات وسألها: ألا تشربين قليلا من النبيذ؟
فقالت بعجلة واضطراب: كلا، لا أتعاطى الخمر.
فرفع حاجبيه دهشة وهو يمصمص، وأعاد القارورة إلى موضعها، وبدأت السيارة تتحرك وهو يقول: من الحكمة أن أشرب الآن حتى إذا بلغنا مقصدنا بلغته في سلطنة.
وانطلقت السيارة مقرقرة تشق سبيلها بسرعة مستهترة، وعجبت نفيسة من جرأته، وبدا لها قويا جسورا، وفي الوقت نفسه غير أهل للثقة أو الشرف، ولكن ما حاجتها إلى الرجل الشريف؟ لم تعد أهلا له، ولم يعد ضالتها، ولا تخاف شيئا في الوجود بقدر ما تخافه على نفسها. وسمعته يقول ضاحكا في زهو: ما أطول نفسك في التدلل! ولكن طالما قلت لنفسي: مصير الحلو أن يقع! وها هو قد وقع.
ورحبت بالكلام لتهرب من أفكارها واضطرابها، فارتسمت على شفتيها ابتسامة وتساءلت: ومن أدراك أني وقعت؟!
فضحك ضحكة وقال: سنرى ما يكون في صحراء ألماظة.
وتساءلت في قلق : صحراء ألماظة؟! هل نغيب طويلا؟ - حتى منتصف الليل!
فتملكها فزع شديد تراءى لها خلاله وجه أمها وشقيقيها، وقالت بلهجة المستصرخ: يا خبر أسود، يجب أن أعود إلى البيت قبل العشاء! أوقف السيارة بربك.
فقال بدهشة وفتور: حقا؟! لا تخافي، سنعود قبل العشاء، ولكن ماذا تخافين؟ - أهلي.
فلحظها بارتياب ساخر وسألها بلهجة ذات معنى: أهلك! ألا يعلمون؟!
Unknown page