فقال حسن متظاهرا بالاستياء: صدقت يا أستاذ (وسكت لحظة ثم تساءل) ولكن ماذا يفعل التخت هنا؟
فمد الأستاذ ساقيه فبلغتا منتصف الطريق الضيق، وقال مشيرا إلى القهوة التي يعدها العمال: إليك قهوة بالنهار، وحانة بالليل، وسيرقص فيها نسوان الست زينب الخنفاء - وهي على فكرة شريكتي - وبين ساعة وأخرى أغني، مجال العمل واسع، والرزق مضمون، ولكن عليك بحفظ أغاني عبد الوهاب يا حلو! - لا أكاد أحفظ منها شيئا! - لا بد مما ليس منه بد. وطقاطيق أم كلثوم أيضا، هذا حكم الزمان!
فقال حسن ضاحكا: ربنا معنا.
فقال علي صبري باطمئنان: إني متفائل خيرا، هذا المكان مبارك، وهو أصل ثروة محمد العربي نفسه.
وتساءل حسن من أين للأستاذ الثروة التي يبدأ بها هذه الحياة الجديدة؟ زينب الخنفاء؟! هي فوق الأربعين على أحسن الفروض، وليس بها من جمال فيما عدا جسمها البقري، ولكنها لقية وذات ساعدين مثقلتين بالذهب، لا داعي للحسد ما دام سيحظى بنصيبه من هذه الثروة! فرجت، ولعل ليالي التسكع والجوع قد غارت إلى غير رجعة، ثم سمع الأستاذ يقول: ولكن عملك كسنيد ثانوي بالقياس إلى ما ينتظر منك! - وماذا ينتظر مني؟
ألقى سؤاله بثقة وزهو كأنه عالم حقا بما ينتظر منه، فقال الأستاذ: إنك أدرى الناس بهذه الأحياء؛ ففي كل متر مربع بلطجي أو برمجي أو سكير عربيد، فمن لهؤلاء؟ أنت! وهناك المخدرات، وتجارتها فن هائل يتطلب مهارة وقوة وجرأة فمن لها؟ أنت!
وابتسم حسن ابتسامة عريضة، ظلت مرتسمة على شفتيه طويلا، وداخله سرور وحماس وفخار، هذه هي الحياة حقا، حياة تدب تحت مهاوي النبابيت ومساقط الكراسي، وفي دهاليز الغرز، حيث السماء ذهب والأرض أشواك، والطريق مشارب شتى يفضي بعضها إلى اللذة والعزة وبعضها إلى السجن والموت؛ فها هنا وطنه ومراحه، وما هو بالغريب في هذا الدرب المتعرج المتلاطم الشرفات، حيث تختلط آهات الدلال بعواء العربدة، وأريج البخور بعرف الخمور، وسباب المتعاركين بقيء المخمورين، إلى غناء وعزف وقصف. بوسعه أن يقضي بين أحضانه أعمارا دون ملل، يأكل ويشرب ويربح، ويسكر ويحشش ويغني. وأشرق وجهه بنور الأمل، وألقى على ما حوله نظرة؛ كان السكون يتبدد تحت وقع أقدام القادمين؛ فهذه ضحكات ممطوطة، وأرداف متأرجحة، ونظرات فاجرة عارمة. وفتحت الأبواب وأحرق البخور، وصفت المقاعد، وطقطقت ضحكة ولعلعت أخرى ... صباح الخير!
38
قال حسنين بتأثر: شكرا للصيف!
فتساءلت في حياء وهي تدري ما يعني: لماذا تشكر الصيف؟ - لأنه جردك من معطفك السميك، فتبديت في فستان حلو يجلو محاسنك ومفاتنك!
Unknown page