وجدت نفيسة نفسها في حجرة متوسطة الحجم، قامت على جانبيها كنبتان كبيرتان وبضعة مقاعد، أما أرضها ففرشت ببساط أسيوطي، وفي جدارها المواجه لمدخلها شرفة تطل من الدور الرابع على شارع شبرا. كان الأثاث قديما والظاهر أن الحجرة كانت معدة لجلوس الأسرة في أوقات الفراغ، كما يمكن أن يستدل عليه من وجود الراديو بداخلها على كثب من الباب. وقد لاحظت الفتاة مذ وطئت قدماها الشقة أنها على قدر وافر من الجاه يبدو في الصالة الصغرى التي أثثت كمدخل للبيت، والصالة الكبرى الفاخرة المعدة للسفرة، فحق لها أن تصدق صاحبة بيتهم بعطفة نصر الله حين قالت لها: «جئت لك بزبونة ملآنة، عروس ومن أسرة كريمة، فأرجو أن تخيطي ثيابها بما تستحق من عناية علها تفتح لك مغلق الأبواب.» وكانت نفيسة مضطربة لدخولها بيتا غريبا للعمل أول مرة. وجلست على مقعد قريب من الباب تنتظر. وكانت ترتدي ثوب الحداد وقد أرسلت شعرها الأسود في ضفيرة قصيرة، فبدا وجهها العاطل من الزواق والحسن شاحبا بائسا، «بيت غريب وأناس غرباء. خطوة جديدة في سبيل المهنة. لست إلا خياطة، ليست كرامتي التي تعز علي، ولكن كرامتك أنت يا أبي.» ولم يطل بها الانتظار إذ جاءت الحجرة فتاة في العشرين على حسن ورشاقة، فقامت تستقبلها، وسلمت عليها القادمة وهي تلقي نظرة متفحصة ثم قالت: أهلا وسهلا. حضرتك الست نفيسة التي أرسلتك ست زينب؟
فقالت الفتاة في حياء: نعم يا هانم، وحضرتك العروس؟
فأومأت بالإيجاب مبتسمة، ثم جلستا، وهي تقول: ست زينب تثني عليك جميل الثناء. وإني أتوسم فيك الخير.
فابتسمت نفيسة ابتسامة باهتة، وانفرجت شفتاها دون أن تنبس بكلمة. «لعلها قالت إني خياطة ماهرة، هذا حسن. أمدح أم ذم؟ لا أدري. ترى هل قصت عليك نبأ أسرتنا؟ كان أبي كأبيك. وكنت سيدة مثلك، وطالما انتظرت العريس، ولكنه لم يأت. ولن يأتي.» وسألت العروس في رقة وهي تعلم الجواب: لماذا ترتدين السواد؟
فأجابتها في حزن: توفي والدي منذ شهرين، وكان رحمه الله موظفا في وزارة المعارف. - حدثتنا بذلك ست زينب، البقية في حياتك. - حياتك البقية. نحن من بنها، وخالتي تقيم هناك مع زوجها الذي يملك محلجا للقطن.
ودخلت عند ذاك خادم حاملة بقجة، فوضعتها إلى جانب سيدتها وذهبت، وحلت العروس عقدتها فانحسرت عن كوم من الحرائر مختلفة ألوانها، وأدركت نفيسة من النظرة الأولى أنها أقمشة للثياب الداخلية. ولعلها أرسلت بالفساتين إلى خياطة كبيرة، وارتاحت لهذا لأنها كانت تشفق من أن تعرض سمعتها لتجربة شاقة لا قبل لها بها، عمل في حدود طاقتها وربح مضمون، وقامت إلى مجلس العروس وراحت تتفحص الأقمشة وتتحسسها قائلة: مبارك عليك، يا له من حرير نفيس.
فافتر ثغر العروس عن ابتسامة سعيدة وقالت: نبدأ الآن بالقياس، وعلى فكرة أعندك مانع من مباشرة العمل هنا في بيتنا؟ عندنا ما تحتاجين إليه من الأدوات كلها، وليس ثمة أطفال في البيت، وفضلا عن هذا كله فبيتنا غير بعيد من عطفتكم، فتستطيعين الحضور كل يوم في غير مشقة.
ولم تر نفسية بدا من أن تقول: لك ما تشائين يا هانم.
وقامت الفتاة ووقفت أمامها، وجعلت نفيسة تقيس الأقمشة عليها، امتلأ أنفها الغليظ برائحة الحرير الجديد، وشعرت لمسه وهو ينزلق بين أصابعها بإحساس غريب، فيه اشتهاء وفيه ألم. بيد أنها أحست كذلك، حيال استسلام الفتاة، وما تعقده على مهارة يديها من رجاء بنوع من السيادة. فكأنها ظفرت بأمل في العزاء، ولكن سرعان ما فتر واخلف وراءه يأسا قاتما «عروس وحرير، أحقا أخيط هذه الثياب لهذه العروس؟ كلا هذه الثياب الداخلية تهيأ للعريس قبل العروس! ستداعب أنامله أهدابها الناعمة ومادتها اللطيفة، إني أشارك في هذا الزواج، وسأشارك في زيجات كثيرة دون أن أتزوج، قانعة من هذا كله بأحلامي المحرقة. يا لها من فتاة مليحة وسعيدة، تكاد السعادة تتوهج في عينيها! اليوم تجهز الحرير، وغدا تنتظر الحبيب، وتتنسم أنفاس الأمومة الحارة تهفو عليها من أفق وردي. طالما حلمت بهذا وأبي يقول لي إن الخفة أنفس من الجمال، ثم بلغت الثالثة والعشرين بين الإشفاق والرجاء، وبموته مات الرجاء. لماذا خلقت هكذا دميمة؟ لماذا لم أخلق كإخوتي الذكور؟ ما أجمل حسنين، وحسين، حتى حسن، إني ميتة كأبي، وهو في باب النصر وأنا في شبرا» وسمعت العروس تسألها: أتحبين أن تتسلمي بعض أجرك مقدما؟
فقالت بعجلة: لا داعي لذلك مطلقا.
Unknown page