وكره لهفتها وجزعها من أعماق صدره، ولكنه لم يجد بدا من أن يقول في هدوء: إنه مطمئن إلى الحالة وسيعود صباحا، كيف حاله الآن؟
فقالت نفيسة: لم يفق بعد.
وارتمى على الكرسي الوحيد بالحجرة، وأغمض عينيه .. «أنا الجريح حقا، إنه ينام نوما عميقا في غيبوبة سعيدة، فمن لي بمثل هذه الغيبوبة؟ لا أظن الحال خطيرة جدا؛ هكذا يقول الطبيب الغافل. كلا، إنها خطيرة جدا، وإبلاله أخطر من موته. إذا ساءت الحال أبلغ الخبر إلى البوليس، وإذا تحسنت جثم على صدري حتى يبلغ أعداؤه البوليس عنه؛ فالفضيحة آتية لا ريب فيها .. أين المهرب من هذه الآلام جميعا؟! إني أمقت هذا الجريح وأمقت نفسي وأمقت الحياة جميعا! أما من حياة غير هذه الحياة، ومخلوقات غير هذه المخلوقات؟» والظاهر أن أفكاره انعكست على صفحة وجهه فتقبضت أساريره في امتعاض وألم، ولاحت من أمه التفاتة إليه فاشتد بها التأثر وقالت له برقة: هون عليك، أخوك بخير، والله حافظه وحافظنا.
وفتح عينيه في دهشة، ورمقها بنظرة غريبة دون أن ينبس بكلمة.
88
وجاء الطبيب في صباح اليوم الثاني، ثم غادر البيت معلنا اطمئنانه، وبذلك نجا حسنين من الخطر القريب الداهم ليفرغ لقلق متصل وعذاب بطيء، وأوهام لا تفارقه ليلا ولا نهارا، وانقضت أيام والأسرة في هدوء نسبي، ومضى الرجل الجريح يفيق ويسترد حيويته شيئا فشيئا، وبعودته إلى الحياة ساورته أفكار قديمة لم تلبث عدواها أن سرت إلى النفوس المحيطة به، وقد ابتسم في بادئ الأمر ابتسامة حزينة يشوبها تسليم لم تألفه طبيعته، وقال كالمعتذر: أتعبتكم كثيرا، والظاهر أن الله لم يخلقني إلا للتعب، فليسامحني الله!
والتمعت فيما حوله بسمات المجاملة والتودد، فلم ينخدع بها، أو لم ينخدع بها جميعا، فمالت عيناه نحو حسنين وقال: لا شك في أنك غاضب، ولعلك تود أن تذكرني بمواعظك السالفة!
فغمغم الشاب قائلا: لا أود إلا سلامتك.
فابتسم الرجل ابتسامة غامضة، ثم ما عتم أن تجهم وجهه، وتكالبت عليه الأفكار، فقال في لهجة مضطربة غير التي تكلم بها في أول الأمر: سلبوني نقودي، الويل لهم! كنت عازما على الهرب، ولا بد من الهرب.
وتحسس رأسه بيده وأغمض عينيه، ثم تمتم وكأنه يحدث نفسه: ماذا فعل الله بسناء؟ .. هل يكفون عنها؟ .. لن تستسلم لعدو من أعدائي، ولكنها لن تستطيع الهرب معي، فات الوقت وفقدنا نقودنا.
Unknown page