ووصلت الحرارة 41°، وبدأت النار، الشوارع نار، والبيوت نار، والظل نار، والشمس نار، والأكل نار، والنوم نار، وثمن الثلج نار، والراديو نار، عبد الحليم حافظ يجأر بأعلى صوته: نار يا حبيبي نار، وأجراس تتن تتن حريقة. فين؟ وإذا بالحريق مليون حريقة، وكل حريقة في حاجة لإطفاء. السماء في حاجة لإطفاء، والأرض في حاجة لإطفاء.
والناس والعقول وحتى الماء في حاجة لإطفاء، وتتن تتن ... المطافي تحاول بلا فائدة إطفاء الحرائق، والتنظيم يحاول إطفاء الأرض، والكازوزة ... مليون زجاجة كازوزة تحاول إطفاء الأجواف، والمحاولات كلها تزيد النار اشتعالا، والملجأ الأخير الثلج، التهمته النار وتحول إلى دخان وحشيش، يباع سرقة، ويشترى سرقة، ويتعاطى خلسة.
وبلغت الحرارة 42°، الموت. كل شيء وكائن بدأت تموت أجزاء فيه، الرغبات تموت، والسيدة محشورة بين الرجال في الأوتوبيس كالطعام البايت لا يلتفت إليه أحد، وخناقة تنشب بين بائعي العرقسوس ولكنها لا تصل أبدا إلى حد التماسك، ولسة ح اتخانق يا عم؟ الدنيا حر موت، والخدامة تتأخر وتفتح الست فمها كالعادة لتنصب منه الشتائم، فتفتحه فلا يخرج منه شيء، لسانها يقف كالعصا الجامدة في حلقها ويأبى التحرك.
الحرارة 43، 44، 45°، موت وهلوسة واستسلام كامل للحر. الحديث يتناقص إلى كلمات، ثم إلى أنصاف كلمات، كالأغاني الأخيرة لصباح ونجاح سلام: آه ... أيي... ياه، الملابس تخلع وتلقى قطعة وراء قطعة. المدير العام يلهث محشورا في البانيو، ووكيل الوزارة يهوي على زوجته المسورقة، وامرأة المعلم برعي تقول له: أيوه روح اتهوى عني يا شيخ، ويصبح الناس عرايا تماما في منازلهم، ويظن كل منهم أنه هو الوحيد العاري، ولو قدر للحيطان أن تختفي لمات الناس من الضحك على بعضهم حين يرون أنفسهم ملايين العرايا في مختلف الأوضاع: الراقد على البلاط، والرافع ساقيه، والممدد على بطنه، وأشكالا لا أول لها ولا آخر من الأجساد، أجساد أحيانا أنصافها العليا لرجال وسيدات، والسفلي أحيانا لأفيال. أجساد دائخة تنتظر غروب الشمس وكأنها تنتظر موعد الإفطار في رمضان، رءوس مدلاة مصدعة وكأنها منفوخة بدخان الأعصاب التي احترقت.
وتغرب الشمس، ومع هذا تزداد الأرض التهابا، وتتفتح ملايين الأبواب وتخرج ملايين الناس هالعة كالدجاج الذي طال حبسه، زاحفة إلى النيل، مستعرضة فيه، طالبة حمايته.
ومع بدء الظلام الحقيقي تبدأ الحرارة تتقهقر رغما عنها كالجيش العنيد، وتبدأ الألسنة تتحرك وتقول: موت، ثم نار، ثم الدنيا لسه حر، ومن جديد تبدأ الخناقات، ثم تنخفض الحرارة درجة فتصبح أحاديث.
وهناك بعد منتصف الليل بكثير، تهب نسمة واحدة فقط، يستقبلها سهران مثلي فيتثاءب مغتبطا وكأنه نجا من موت محقق، ويقول: ياه أما كان يوم! (9) الإنسان حيوان مائي
كيف يحدث هذا؟
لست أدري كيف يحدث هذا؟ من أسابيع قليلة كانت عملية غسيل الوجه أو الاستحمام بالنسبة إلي عملية تعذيب، كنت أقف أمام الدش وأتردد آلاف المرات وأنا أنظر إلى نقاط المياه الصغيرة التي تتساقط منه، وأحس الخوف منها وكأنها قطرات من ماء النار، وبعد أن أستجمع أطراف شجاعتي وأفتح الحنفية، ينساب الماء في أزيز مخيف، ويتصاعد لانسيابه بخار بارد مثلج، وكأن الماء لا يتبخر ولكنه يتجمد بخارا، وأغمض عيني في النهاية وأنا أسلم نفسي لحزمة الإبر المتدفقة من الدش، كل ثقب فيه تخرج منه إبرة مائية طويلة طولها أمتار. حزمة من الإبر الطويلة تتساقط فوق جسدي في شراهة ووحشية، وتكاد تنغرز فيه وتصل إلى النخاع.
وأي ماء كنت أراه أحس لتوي بالقشعريرة منه وكأني أخافه وأخاف لمسه، حتى النيل كنت إذا رأيت مياهه أحس برهبة طاغية. كتل ضخمة هائلة من الماء الداكن المتكاثف وكأنها غابات وأحراش مائية نامية، تنتظر أن يخطئ إنسان ويمد فيها قدمه أو يده، فتشده وتبتلعه ولا تتركه إلا مخنوقا.
Unknown page