مقدمة
حياته
فلسفته
نصوص مختارة
مراجع عامة
مقدمة
حياته
فلسفته
نصوص مختارة
مراجع عامة
Unknown page
برتراند رسل
برتراند رسل
تأليف
زكي نجيب محمود
مقدمة
لست في الفلسفة تابعا «برتراند رسل»
Bertrand Russell
في كل ما يذهب إليه؛ ذلك أني قد حددت عقيدتي الفلسفية تحديدا جليا واضحا، وإني لأزداد إيمانا بصواب تلك العقيدة كلما ازددت قراءة ودراسة وتفكيرا، وليست هي بالعقيدة التي يأخذ «برتراند رسل» بكل تفصيلاتها، وإن تكن مسايرة لفكره في الاتجاه والهدف ومنهج البحث.
فأنا أميل بفكري نحو «الوضعية المنطقية» التي تحرم على الفيلسوف - باعتباره فيلسوفا؛ إذ قد يكون الفيلسوف عالما أيضا في هذا العلم أو ذاك - تحرم على الفيلسوف أن يقول عبارة واحدة ليدلي فيها برأي في الطبيعة أو الإنسان؛ لأن الرأي كائنا ما كان، هو من شأن العلماء وحدهم، يقولونه بعد ملاحظة علمية وتجارب يجرونها في المعامل. وعمل الفيلسوف الذي لا عمل له سواه، هو تحليل العبارات التي يقولها هؤلاء العلماء تحليلا يوضحها ويضبطها، وقد يحدث - بل إن هذا هو ما يحدث في معظم الأحيان - أن يتولى العالم نفسه توضيح عباراته وتحليلها، وعندئذ يكون هذا العالم فيلسوفا إلى جانب كونه عالما، لكنه قد يحدث أيضا أن ينصرف العالم إلى موضوع بحثه، دون أن يقف عند هذه الكلمة من كلماته أو تلك العبارة، فيتولى ذلك عنه فيلسوف مختص، وبهذا تصبح الفلسفة تحليلا صرفا، أو إن شئت فقل إنها تصبح «منطقا» بحتا، وتلقي عن عاتقها ذلك الحمل الثقيل الذي تصدت له فيما مضى، حمل الحديث عن الكون في أصوله وغاياته، وهو حديث لم ينته به الفلاسفة إلى شيء، وكان يستحيل عليهم أن ينتهوا إلى شيء؛ لأنه حديث في غير موضوع من هذه الموضوعات التي يجوز فيها الكلام على نحو منتج مفيد.
على أن «رسل» إن لم يكن واحدا من رجال «الوضعية المنطقية»، فهو على رأس طائفة من الفلاسفة المعاصرين، كانت هي التي خلقتها خلقا، وأوحت بها إيحاء مباشرا؛ لأنه منذ باكورة أعماله الفلسفية قد جعل تحليل المدركات العلمية شغله الشاغل، وبوجه خاص مدركات الرياضة، كالعدد واللانهاية؛ لأنه كان رياضيا ممتازا أولا، ففيلسوفا رياضيا ثانيا، فكانت تحليلاته تلك منبها قويا لجماعة من تلاميذه ومن المتأثرين به، أن يجعلوا التحليلات المنطقية للعبارات العلمية، بل للعبارات اللغوية بصفة عامة، هي وحدها المجال المشروع للفلسفة والفيلسوف، وهو رأي أدلى به «رسل» نفسه صراحة،
Unknown page
1
وإن يكن توسع في معناه، بحيث استباح لنفسه أن يكون صاحب مذهب إيجابي في الطبيعة، وفي الإنسان، مما يتناقض مع ذلك المبدأ بمعناه الدقيق.
ومهما يكن من أمر الاختلاف بين «برتراند رسل» وجماعة «الوضعية المنطقية» التي أنتمي إليها، فلهذا الفيلسوف من الجوانب الرئيسية - في عمله وفي شخصه - ما يقربه من عقلي ومن قلبي معا.
فهو - أولا - يريد ويلح في إرادته أن تكون الفلسفة علمية المنهج؛ بحيث تقلع عما تعودته من ضرب في التأملات التي تطير إلى أجواز السماء على جناحي خيال طامح، لكنه جامح، والمقصود بعلمية المنهج الفلسفي نقطتان رئيسيتان؛ أولاهما: أن يتناول الفيلسوف مشكلة جزئية واحدة، ولتكن هذه المشكلة - مثلا - عبارة واحدة من عبارات الكلام، لينتهي في تحليلها إلى نتيجة إيجابية، يصح أن يأتي بعده سواه، فيبني عليها عمله ونتائجه، وبهذا تصبح الفلسفة - كالعلم - عملا يتعاون عليه المتعاقبون، فيزداد بناؤها طابقا فوق طابق، ولا تعود - كما هي حالها على مر القرون السالفة - عملا فرديا، بمعنى أن يبني كل فيلسوف لنفسه بناءه كاملا شامخا؛ ليأتي من بعده فيقوضه تقويضا ليعيد لنفسه بناء جديدا، وهكذا دواليك، حتى لا ترى فرقا ملموسا من حيث التقدم والترقي بين بناء فلسفي يقيمه فيلسوف القرن العشرين، وبناء فلسفي قديم أقامه يوناني في القرن الخامس قبل الميلاد، بل كثيرا ما يرجح القديم الجديد عظمة وشموخا. إن هذا العمل الفردي إن جاز في الآداب والفنون، فهو لا يجوز في نتاج العقل من فلسفة وعلم، نعم يجوز للشاعر أو الفنان أن يعبر عن ذات نفسه كما يشاء، بغض النظر عن سابقيه، لكن مثل هذا الاستقلال الفردي لا يجوز أبدا في المجال العقلي.
وأما النقطة الثانية التي قصدنا إليها من علمية المنهج في التفكير الفلسفي، فهي الأداة التي نستخدمها في تحليلنا للمشكلة الجزئية التي نختارها، وأداة المعاصرين جميعا ممن يهتمون بالفلسفة التحليلية - وعلى رأسهم «رسل» - هي المنطق الرياضي الذي ينصب على العبارة الموضوعة تحت البحث، فإذا هي أقرب ما تكون إلى مسألة في الجبر أو الحساب، ولو كملت لنا هذه الأداة، لاستطعنا أن نحقق الأمل الذي كان يحلم به ليبنتز، وهو أن نتناول مشكلاتنا من هذه الزاوية الرياضية، بحيث يعود الاختلاف في الرأي أمرا ينحسم بالحساب، لا نقاشا حول ألفاظ غامضة المدلول لا ينتهي إلى نتيجة، ولو امتد خلال القرون.
وثاني الجوانب التي تقرب «رسل» من عقلي ومن قلبي، هو هذا الدفاع الحار الذي ينهض به في سبيل حرية الفرد من كل طغيان: طغيان التقاليد الاجتماعية، وطغيان الحكومات؛ فإني لأوشك أن أرى الصدق كل الصدق في دعوى «رسل» بأن النظم الاجتماعية والسياسية كلها - في أرجاء العالم أجمع، وعلى اختلاف العصور - مؤامرة كبرى يراد بها الحد من حرية الفرد التي كان ينبغي أن تكون هي الأساس وهي المدار لكل نظام في اجتماع أو سياسة. وإن شئت فانظر في أي بلد من بلاد العالم إلى ما يسمونه «التربية» تجدها تسابقا من الهيئات ذوات السلطان للاستيلاء على عقل الناشئ ومشاعره! واستمع إلى رجال «التربية» يسألون: ما الغاية من التربية؟ ثم يجيبون: هي إنتاج «المواطن الصالح»، وصلاحية المواطن هي دائما - كما ينبهنا «رسل» - الموافقة على النظم القائمة، ويستحيل عندهم أن يكون معنى «الصلاحية» هو الثورة على تلك النظم، وإنه لمن عجب - كما يقول فيلسوفنا - «أنه بينما تستهدف الحكومات جميعا إخراج رجال من طراز يؤيد الأنظمة القائمة، ترى أبطالها من رجال الماضي هم على وجه الدقة رجال من نفس الطراز الذي تحاول الحكومات أن تمنع ظهوره في الحاضر ... فالأمم الغربية جميعا تمجد المسيح، مع أنه لو عاش اليوم لكان - يقينا - موضع ريبة من رجال البوليس السري في إنجلترا، ولامتنعت عليه الجنسية الأمريكية على أساس نفوره من حمل السلاح.»
وثالث الجوانب التي تقرب هذا الفيلسوف من نفسي: هو هذه الفرحة الكبيرة التي يفرحها كلما استطاع إقامة البرهان على خطأ اعتقاد كان يظنه الناس بديهية لا تحتمل الشك والجدل؛ انظر مثلا كيف ترن عبارته بالنشوة، وهو يثبت أن الجزء ليس حتما أصغر من الكل الذي يحتويه؛ فالنقط التي في جزء من خط مستقيم مساوية للنقط في الخط كله؛ لأن كلتيهما لانهائية العدد، والأعداد الفردية وحدها مساوية للأعداد كلها من فردية وزوجية معا؛ لأنك لو وضعت سلسلة الأعداد كلها في صف، ثم وضعت الأعداد الفردية وحدها في صف تحته، استطعت أن تجد لكل عدد من السلسلة الأولى عددا يقابله من السلسلة الثانية ... ومثل هذه الفرحة أفرحها كلما تبين لي وجه الخطأ فيما يسلم به الناس تسليما أعمى.
قد يقال - كما قيل في رسل - إن مثل هذه النزعة انقلابية هدامة خطيرة، وإن صاحبها يكون في شخصيته شبيها ب «مفستوفوليس» شيطان «فاوست»، لكنها - في رأيي - ضرورية لتمهيد الطريق نحو تغير الأفكار والأوضاع الاجتماعية التي قد تتحجر، فيظن الناس أن «صلابتها» تلك هي صلابة الصواب، واستحالة الخطأ. إن أصحاب هذه النزعة هم دائما بمثابة الفدائيين الذين يتسللون إلى حصون العدو، فيمهدون الطريق إلى دكها وتخريبها، والفرض هنا - بالطبع - هو أن ما يراد دكه وتخريبه ومحوه، بناء فاسد يستوجب التغيير والإصلاح. •••
أما بعد، فقد لبث برتراند رسل يكتب أكثر من ستين عاما، حاول خلالها أن يجيب عن أسئلة كثيرة، وأن يحل مشكلات شتى، وبديهي ألا يستقر على رأي واحد دائما إزاء نقطة معينة؛ ولذلك يتحتم على من يريد دراسته أن يتتبع أفكاره الرئيسية في تطورها وتغيرها، وألا يأخذ رأيا له في موضوع معين من كتاب معين على أنه الرأي الذي لم يتناوله صاحبه بعد ذلك بالتعديل أو التبديل.
وإنه لمما يلفت النظر أن فيلسوفنا لم يعرفه الناس بأهم إنتاجه؛ فالكتب التي سيخلد بها في تاريخ الفلسفة، مثل «أصول الرياضة» و«أسس الرياضة» و«علمنا بالعالم الخارجي» و«تحليل العقل» و«تحليل المادة»، ليست هي الكتب التي أذاعت اسمه، وأشاعت شهرته، بل الذي فعل ذلك هو ما كتبه في الاجتماع والسياسة والتربية، لكنني حين كتبت هذا الكتاب، حاولت أن أهتم بالمهم من فلسفته، بغض النظر عن مدى ذيوعه بين أوساط القراء، وجعلت تتابع الفصول متمشيا - إلى حد كبير - مع التطور الفكري للفيلسوف، كما يظهر هذا التطور في رواية الفيلسوف عن نفسه، وهي التي تراها في الفصل الأول من هذا الكتاب.
Unknown page
فلعلي قد أصبت شيئا من التوفيق في تقديم هذا الفيلسوف المعاصر إلى القارئ العربي، تقديما يحصر إنتاجه الضخم في هذه الصفحات القلائل.
زكي نجيب محمود
حياته
الفيلسوف يروي عن نفسه
1
ماتت أمي وأنا في الثانية من عمري، وكنت في الثالثة حين مات أبي، فنشأت في دار جدي، لورد جون رسل، الذي أصبح فيما بعد «إيرل رسل»، ولم يكد يجيئني أحد بنبأ عن والدي، وهما لورد وليدي أمبرلي، حتى لقد شاع في نفسي إحساس بأن يكون في الأمر لغز غامض لقلة ما عرفته عنهما، فلما بلغت الحادية بعد العشرين أخذت في العلم بشيء من الخطوط الرئيسية في حياة أبي وأمي، وما كان لهما من رأي، فكم دهشت حين رأيتني قد اجتزت المراحل بعينها تقريبا، التي اجتازها أبي في تطور عقله وشعوره.
كان المنتظر لأبي أن يخوض الحياة السياسية جريا على تقليد في عائلة «رسل»، وكانت له في ذلك رغبة، فدخل البرلمان لفترة قصيرة (1867-1868م)، لكنه لم يكن له من المزاج، ولا من الرأي ما قد كان لا بد له منهما إذا أراد لنفسه في السياسة نجاحا، فما إن بلغ من عمره الحادية بعد العشرين، حتى أحس في نفسه كفرا بالمسيحية، وأبى أن يذهب إلى الكنيسة يوم عيد الميلاد، وقد جعل من نفسه تلميذا فصديقا ل «جون ستيوارت مل» الذي علمت منذ أعوام قليلة أنه كان لي أبا في العماد، وكان أبي وأمي قد تبعا «مل» في آرائه، ولم يقتصرا في ذلك على الآراء التي صادفت عند الناس قبولا نسبيا، بل جاوزاها إلى الآراء التي كانت عندئذ تصدم الناس في شعورهم؛ كحق المرأة في الانتخاب، وضبط النسل ، وما إلى ذلك.
أراد لي أبي أن أنشأ في الفكر حرا من القيود، وكذلك أراد لأخي، فأقام علينا وصيين عرفا بحرية التفكير، لكن جدي وجدتي معا سعيا لدى المحكمة المختصة أن تغض نظرها عن وصية أبي، فكان نصيبي أن أنشأ على العقيدة المسيحية؛ ذلك أني انتقلت بعد موت أبي إلى منزل جدي، وكان ذلك عام 1876م، وكان الجد عندئذ في الثالثة بعد الثمانين من عمره، وقد نال منه الضعف الشديد، فشملني بعطف متصل، ولم تبد منه علامة واحدة تدل على ضيقه بزياط الأطفال، لكنه كان أشد ضعفا من أن يكون له في تكويني أثر مباشر، ثم مات جدي عام 1878م، فتولتني بالتعليم جدتي التي ما فتئت تقدس ذكرى زوجها، فكانت أقوى أثرا في توجيهي من أي شخص آخر، غير أني منذ بلغت رشدي جعلت أختلف معها في كثير من آرائها.
كانت جدتي متزمتة العقيدة، صارمة الأخلاق، تزدري الترف ولا تأبه لطعام، تمقت الخمر، وتعد التدخين خطيئة، وعلى الرغم من أنها قد عاشت حياتها ضاربة في مناكب الأرض، حتى استكن جدي في مأواه، إلا أنها لم تكن بطبعها مقبلة على الدنيا، فكانت تقف من المال موقف من لا يكترث به، وهو موقف لا يستطيعه إلا الذين رزقوا منه ما يكفيهم.
أرادت جدتي هذه لأولادها ولأحفادها أن يحيوا حياة نافعة فاضلة، ولم يكن بها ميل أن ينصرف أولئك الأولاد والأحفاد في حياتهم إلى ما تواضع سائر الناس على تسميته بالنجاح، كلا، ولم ترد لهم أن يتزوجوا على أساس الكسب من زواجهم، وكانت بحكم عقيدتها البروتستانتية تؤمن بضرورة أن يكون للأفراد أنفسهم حق الحكم على الأشياء، بحيث يكون لضمير الفرد سلطة عليا، ولما بلغت الثانية عشرة من عمري، أهدت إلي جدتي إنجيلا (وما زلت محتفظا به إلى اليوم)، وكتبت على الورقة التالية لغلافه بعض ما أحبت من آياته، فمنها هذه الآية: «لا يجوز لك أن تتبع كثرة الناس في فعل الشر.» وهذه الآية: «كن قويا شجاعا فاضلا، لا تخف ولا يأخذنك اليأس؛ فربك المولى في رعايتك أينما ذهبت.» فكان لهاتين الآيتين أثر عميق في حياتي، ولا أحسب ذلك الأثر قد أصابه الوهن، حتى بعد أن أمسكت عن الاعتقاد في الله.
Unknown page
تحولت جدتي في السبعين من عمرها إلى عقيدة «الموحدين» (الذين ينكرون ربوبية المسيح)، وأخذت على نفسها في الوقت ذاته أن تنصر الحكم الذاتي لأيرلندة، وراحت تعارض الاستعمار في حرارة، ولقنتني وأنا بعد في نحو السابعة أن أسيء الظن ببلادي في حروبها التي أثارتها في أرض الأفغان وعلى قبائل الزولو، وأما عن احتلال مصر، فلم تحدثني عنه إلا قليلا؛ لأنه من فعل جلادستون الذي وقع من نفسها موقع الإعجاب، وإني لأذكر الآن نقاشا دار بيني وبين مربيتي الألمانية التي قالت لي عندئذ: «إن الإنجليز ما داموا قد دخلوا مصر، فلن يخرجوا منها مهما تكن وعودهم.» فرددت عليها في وطنية مشتعلة قائلا: «إن الإنجليز لم ينكثوا قط وعدا.» دار هذا النقاش منذ ستين عاما، لكن الإنجليز ما زالوا هناك. (كتب رسل هذا عن نفسه في يوليو 1943م.)
كانت مكتبة جدي هي غرفة دراستي وموجهة حياتي، فكان فيها من كتب التاريخ ما أثار اهتمامي، لا سيما أن لأسرتي في التاريخ الإنجليزي مكانا ظاهرا منذ أوائل القرن السادس عشر، ولقد درست التاريخ الإنجليزي على أنه صراع الشعب ضد الملك بغية الحصول على الحرية الدستورية، وأحسست بإعجاب خاص نحو «وليم لورد رسل» الذي أعدم في حكم شارل الثاني، ونتيجة هذه الدراسة في نفسي هي عقيدتي بأن الثورة - كائنة ما كانت - كثيرا ما تكون في ذاتها حقيقة بالثناء.
وحدث حادث عظيم في حياتي عندما كنت في عامي الحادي عشر، وهو أني بدأت دراستي لإقليدس الذي لم يزل عندئذ هو المتن المعترف به في دراسة الهندسة، وأحسست بشيء من خيبة الرجاء حين وجدته يبدأ هندسته ببديهيات لا بد من التسليم بها بغير برهان، فلما تناسيت هذا الشعور، وجدت في دراسته نشوة كبرى، حتى لقد ظلت الرياضة بقية أعوام الصبا تستوعب شطرا كبيرا جدا من اهتمامي، وقد كان اهتماما قائما على أكثر من عنصر واحد ؛ فهو من ناحية لذة خالصة لما استكشفته في نفسي من قدرة خاصة في الرياضة، وهو من ناحية أخرى نشوة لما لمسته من قوة في استدلال النتائج من مقدماتها، ثم هو من ناحية ثالثة شعور بالاطمئنان إزاء ما في الرياضة من يقين، لكن كان أهم من ذلك كله (وقد كنت لم أزل صبيا) أني آمنت بأن الطبيعة تعمل وفق قوانين الرياضة، وأن الأفعال الإنسانية - كحركات الكواكب - يمكن حسابها في دقة إذا ما أسعفتنا القدرة الكافية لذلك! فلما بلغت من عمري الخامسة عشرة انتهيت إلى نظرية شديدة الشبه بنظرية الديكارتيين، إذ شعرت باعتقاد الواثق أن حركات الأجسام الحية إنما تنظمها قوانين الديناميكا تنظيما تاما، وإذن فحرية الإرادة وهم الواهمين، لكنني وقد سلمت بوجود الشعور الواعي عند الإنسان على أنه حقيقة قائمة لا شك في صدقها، لم أستطع أن أذهب مع المادية مذاهبها، ولو أنني أحسست نحوها بعض الميل، لما فيها من بساطة تعليل، ولأنها تنبذ «الكلام الفارغ» في تفسير الكون، وكنت عندئذ لا أزال على عقيدتي في وجود الله؛ لأن برهان «العلة الأولى» قد بدا لي ممتنعا على الدحض.
هكذا لبثت حتى ذهبت إلى كيمبردج في سن الثامنة عشرة، وكنت قد عشت حياة معتزلة إلى حد بعيد؛ ذلك أني نشأت في داري على أيدي مربيات ألمانيات، ومديرات الدار كن ألمانيات أو سويسريات، ثم انتهى أمري بعد ذلك إلى مربين من الإنجليز، فلم أخالط الأطفال إلا قليلا، وحتى إن خالطتهم وجدتهم لا يثيرون من نفسي اهتماما بأمرهم، حتى إذا ما كنت في عامي الرابع عشر أو الخامس عشر، اهتممت بالدين اهتماما شديدا، وجعلت أقرأ مفكرا في البراهين التي تقام على حرية إرادة الإنسان، وعلى خلوده، وعلى وجود الله، وقد كان يشرف على تربيتي لبضعة أشهر أستاذ متشكك، فكنت أجد الفرصة سانحة لمناقشته في أمثال هذه المسائل، لكنه طرد من عمله، ولعلهم طردوه لظنهم أنه يهدم لي أساس إيماني، فإذا استثنيت هذه الأشهر التي قضيتها مع هذا الأستاذ وجدتني قد احتفظت بفكري لنفسي، أدونه في يوميات بأحرف يونانية، حتى لا يقرأها سواي، لهذا كنت أشقى شقاء من الطبيعي أن يعانيه مراهق معتزل عن الناس، وعزوت شقائي عندئذ إلى فقداني لإيماني الديني.
ظللت ثلاثة أعوام أفكر في الدين، معتزما ألا أدع أفكاري تتأثر بأهوائي، فانتهيت بفكري أولا إلى عدم الإيمان بحرية الإرادة، ثم انتهيت إلى نبذ فكرة الخلود، لكنني ظللت على عقيدتي في وجود الله، حتى أتممت عامي الثامن عشر، وعندئذ قرأت في الترجمة الذاتية التي كتبها مل عن حياته، هذه العبارة: «لقد علمني أبي أن سؤالي: «من خلقني؟» ليس بذي جواب؛ لأنه يثير على الفور سؤالا آخر: «ومن خلق الله؟»» وفي اللحظة التي قرأت فيها تلك العبارة، استقر مني الرأي على أن برهان «العلة الأولى» على وجود الله برهان باطل.
أكثرت من القراءة في تلك الأعوام، لكنها لم تكن قراءة موجهة، ولذلك ذهب كثير منها بغير جدوى، فقد قرأت مقدارا كبيرا من الشعر الرديء، وبخاصة شعر «تنسن» و«بايرون»، لكني وقعت آخر الأمر، وأنا في السابعة عشرة من عمري، على «شلي» الذي لم يكن قد أنبأني به أحد، فظل «شلي» لأعوام كثيرة هو الرجل الذي أحببت أكثر من أي رجل آخر بين عظماء الماضي، ثم قرأت كثيرا ل «كارلايل»، وأعجبت بكتابه «الماضي والحاضر»، لكني لم أحب كتابه عن «الملابس»، وأما الرجل الذي كدت أتفق معه في الرأي اتفاقا تاما فهو «مل»، وكان لكتبه «الاقتصاد السياسي» و«الحرية» و«خضوع المرأة» أثر عميق في نفسي، وعلقت على كتابه في المنطق تعليقا مفصلا، لكنني لم أستطع قبول رأيه بأن قضايا الرياضة تعميمات من التجربة، وإن كنت لم أعرف ماذا يمكن لقضايا الرياضة أن تكون إذا لم يكن مصدرها التجربة.
حدث ذلك كله قبل ذهابي إلى كيمبردج، ولو استثنيت الثلاثة الأشهر التي كان يشرف علي خلالها ذلك الأستاذ المتشكك الذي أسلفت ذكره، قلت إني لم أكن قد وجدت حتى ذلك الحين من أعبر له عما يجول بخاطري من أفكار، وقد أخفيت شكوكي الدينية عن أهلي، ذلك أني قلت مرة لمن كان في الدار إني مؤمن بالمذهب النفعي في الأخلاق، فقابلوني بعاصفة من السخرية حملتني على أن أمسك عن التعبير عن فكري أمام أهلي.
فلما ذهبت إلى كيمبردج انفتح أمامي عالم جديد من نشوة ليس لها حدود؛ إذ وجدت للمرة الأولى أنني إذا ما صرحت بفكري، صادف عند السامعين قبولا، أو كان عندهم - على الأقل - جديرا بالنظر، كان «وايتهد» هو الذي اختبرني في امتحان الدخول، وقد ذكرني لكثيرين ممن يكبرونني بعام أو بعامين، وكان من نتيجة ذلك أنه لم يمض أسبوع واحد، حتى التقيت بمن أصبحوا بعد ذلك أصدقاء العمر كله، كان «وايتهد» عندئذ في الجامعة «زميلا» و«محاضرا». وكان طيب القلب إلى حد يبعث على الدهشة، لكنه كان يكبرني بعدد كبير من السنين، بحيث لم يكن مستطاعا أن أتخذ منه صديقا قريبا إلا بعد أن انقضت بضع سنين، والتقيت بكثيرين ممن كانوا في مثل سني، يتميزون بقدرتهم العقلية وتحمسهم وأخذهم الأمور مأخذ الجد، وكانوا يتناولون باهتمامهم أمورا كثيرة خارج نطاق عملهم الجامعي، فيولعون بالشعر والفلسفة، ويناقشون السياسة والأخلاق، وشتى نواحي العالم الفكري، فكنا نجتمع أماسي أيام السبت لندخل في مناقشات تطول حتى ساعة متأخرة من الليل، ثم نلتقي على إفطار متأخر صباح الأحد، ثم نخرج معا للمشي بقية اليوم، فلم يكن الشبان الممتازون عندئذ قد اتخذوا لأنفسهم وجهة النظر المشوبة بالعجرفة والتشاؤم كالتي انتابت زملاءهم بعد ذلك بأعوام، وشاعت في كيمبردج على أنها البدع الجديد، وكان المسئول عن إشاعة هذه النظرة المتشائمة فيما بعد هو «ليتن ستريتشي»، لا، لم يكن الشبان الممتازون في كيمبردج على عهدنا بهذا التشاؤم وهذه العجرفة، بل نظروا إلى العالم نظرة الأمل، وبدا العالم في أعينهم بغير تشويه، واعتقدنا جميعا اعتقاد الواثق بأن التقدم الذي ظفرت به الإنسانية إبان القرن التاسع عشر سيمضي في طريقه قدما، وأنه في مستطاعنا نحن أن نضيف إلى ذلك التقدم قسطا جديدا له قيمته، لقد كانت أياما سعيدة تلك الأيام، وما أظن الشبان الذين نشئوا منذ عام 1914م بقادرين على تصور تلك السعادة كيف تكون.
كان «ماكتاجارت» بين أصدقائي في كيمبردج، وهو الفيلسوف الهيجلي، وكذلك كان من أصدقائي «لويس دكنسن» الذي أحبه الجميع لدماثة خلقه، و«شارلز سانجر» عالم الرياضة الممتاز الذي تحول بعدئذ إلى دراسة القانون، ثم أخوان شقيقان هما «كرومتن وثيودور ليوولن ديفز»، وهما ابنا أحد رجال الدين، وأبوهما هذا هو أحد اثنين ترجما معا جمهورية أفلاطون ترجمة معروفة، أعني ترجمة «ديفزوفون»، كان هذان الأخوان أصغر وأقدر أسرة أفرادها سبعة، كلهم غاية في الامتياز، وكانت لهما قدرة نادرة على الصداقة، راغبان أشد الرغبة في أن يكونا نافعين للعالم الذي يعيشان فيه، لا يباريهما أحد فطنة، غير أن أصغرهما «ثيودور» غرق في الحمام، ولم يكن بعد قد جاوز المراحل الأولى من سيرة لامعة في خدمة الحكومة، إنني لم أصادف قط رجلين لهما ما كان لذينك الأخوين من حب عميق في نفوس كثير من الأصدقاء، كذلك كان بين من التقيت بهم كثيرا إخوة ثلاثة من أسرة «تريفليان» هم أبناء أخت «ماكولي»، اشتغل أكبرهم بالسياسة عضوا في حزب العمال، لكنه استقال من حكومة العمال حين قصرت في بلوغها من الاشتراكية المدى الذي يرضيه، وأما ثاني الإخوة الثلاثة فقد أصبح شاعرا، نشر - بين كتب أخرى - ترجمة لشعر «لوكريتس» تدعو إلى الإعجاب، وظفر ثالثهم - جورج - بالشهرة مؤرخا، وكان «جورج مور» يصغرني بأعوام قلائل، وقد كان له فيما بعد أبعد الأثر في توجيه فلسفتي.
كانت مجموعة الأصدقاء الذين صحبتهم شديدة التأثر ب «ماكتاجارت»، الذي حملنا بفطنته على دراسة الفلسفة الهيجلية، وقد علمني كيف أنظر إلى الفلسفة التجريبية الإنجليزية نظرة ترى فيها فجاجة وسذاجة، وكنت أميل إلى العقيدة بأن هيجل (وكذلك «كانت» بدرجة أقل) يتصف بعمق هيهات أن تجد له مثيلا في «لك» و«باركلي» و«هيوم» (أئمة الفلسفة الإنجليزية)، بل هيهات أن تجد له مثيلا عند الرجل الذي كنت قد اتخذته لنفسي قبل ذلك إماما روحيا، وأعني به «مل»، كنت في الثلاثة الأعوام الأولى من حياتي في كيمبردج أكثر شغلا بالرياضة من أن أجد فراغا أقرأ فيه «كانت» أو «هيجل»، أما في السنة الرابعة، فقد انصرفت إلى الفلسفة باهتمامي، وكان أساتذتي فيها هم «هنري سدجوك» و«جيمز وورد» و«ستاوت»، وكان «سدجوك» بين هؤلاء يمثل وجهة النظر البريطانية في الفلسفة، وهي وجهة أظنني قد ألممت بها، وجمعت أطرافها، ولذلك لم يكن له عندي من التقدير بادئ ذي بدء بمثل ما كان له عندي آخر الأمر، وأما «وورد» الذي أحببته حبا شديدا، فقد شرح لي الفلسفة الكانتية شرحا مهد الطريق أمامي لدراسة «لوتزه» و«سجفرت»، وأما «ستاوت» فقد كان عندئذ مشيدا ب «برادلي» ونبوغه، حتى لقد قال عنه حين أخرج «برادلي» كتابه «المظهر والحقيقة» إنه قد عرض بكتابه هذا فلسفة الوجود عرضا لا يمكن لإنسان من البشر أن يبزه فيه، وكان «ستاوت» و«ماكتاجارت» معا هما اللذان جعلاني هيجلي النظر، وإني لأذكر لحظة ذات يوم من عام 1894م، حينما كنت سائرا في شارع «ترنتي لين» رأيت فيها بلمحة واحدة من لمحات فكري (أو حسبتني قد رأيت) أن البرهان الوجودي على حقيقة الله برهان سليم، فقد خرجت يومئذ لأشتري علبة تبغ، وبينا كنت في طريق عودتي، قذفت بالعلبة فجأة إلى أعلى، وصحت وأنا ألقفها من الهواء قائلا: «الله أكبر! إن البرهان الوجودي برهان سليم.» عندئذ أقبلت على قراءة برادلي بشغف عظيم، ونزل من نفسي منزلة لم ينزلها فيلسوف سواه.
Unknown page
غادرت كيمبردج عام 1894م، وأنفقت بعد ذلك زمنا طويلا خارج بلادي، فلبضعة أشهر من عام 1894م اشتغلت ملحقا شرفيا في السفارة البريطانية بباريس، حيث كان من واجباتي أن أنسخ الرسائل المطولة لإقناع الحكومة الفرنسية بأن جراد البحر (اللوبستر) ليس من فصيلة السمك، وقد أجابت الحكومة الفرنسية بأنه كان من السمك في سنة 1713م، أي في السنة التي عقدت فيها معاهدة «أوترخت»، لم أجد في نفسي رغبة في السلك السياسي، وتركت السفارة في ديسمبر سنة 1894م، وعندئذ تزوجت وقضيت الشطر الأكبر من سنة 1895م في برلين أدرس الاقتصاد والديمقراطية الاشتراكية الألمانية، ولما كانت زوجة سفيرنا هناك ابنة عمي، فقد دعيت مع زوجتي إلى عشاء في السفارة، لكن زوجتي ذكرت في الحديث أننا قد حضرنا اجتماعا اشتراكيا، فأغلقت السفارة البريطانية بعدئذ من دوننا أبوابها، وكانت زوجتي أمريكية من مدينة فيلادلفيا، فقضينا في أمريكا ثلاثة أشهر من عام 1896م، وزرنا أول ما زرنا هناك منزل الشاعر «وولت وتمان» في مدينة كامدن من ولاية نيوجرسي، إذ كانت زوجتي تعرفه حق المعرفة، وكنت أنا معجبا به أشد الإعجاب، إلا أن هذا الارتحال قد عاد علي بأكبر الفائدة؛ لأنه أبرأني من مرض النظرة الإقليمية الذي أصابتني به كيمبردج، فقد أتيح لي بصفة خاصة أن أطلع على مؤلفات «فيشتراس» الذي لم يذكره لي أبدا أحد من أساتذتي في كيمبردج، ثم استقر بنا المقام بعد هذا الارتحال في كوخ لعامل في مقاطعة سسكس في إنجلترا، وقد أضفنا إلى الكوخ غرفة فسيحة للعمل، وكان لي عندئذ من المال ما يكفيني، بحيث أعيش في ميسرة بغير حاجة إلى عمل أرتزق منه؛ ولذلك استطعت أن أنصرف بفراغي كله إلى الفلسفة والرياضة، ما عدا الأماسي، إذ كنا نملؤها بقراءة التاريخ قراءة مسموعة الصوت.
كانت لي بين عامي 1894م، 1898م عقيدة في إمكان البرهنة بالفلسفة الميتافيزيقية على أشياء كثيرة تقال عن الكون، وهي أشياء أوهمني شعوري الديني عندئذ بأنها موضوعات هامة، وانتهى بي قراري إلى أن أتجه بحياتي إلى الفلسفة، وقدمت رسالة أحصل بها على درجة «الزمالة»، جعلت موضوعها أسس الهندسة، فصادفت الرضا عند «وورد» و«وايتهد»، ولو لم يثنيا عليها لكنت غيرت اتجاهي إلى دراسة الاقتصاد التي بدأتها في برلين، فإني لأذكر ذات صباح إذ كنت سائرا في متنزه «تير جارتن» في برلين كيف وضعت لنفسي خطة مقتضاها أن أكتب سلسلة من الكتب في فلسفة العلوم، صاعدا بها صعودا متدرجا نحو ما هو أكثر تعينا، فأبدأ بتجريد الرياضة، ثم أنتقل خطوة خطوة إلى غاية التعين في علم الحياة (البيولوجيا)، وكذلك رجوت عندئذ أن أكتب سلسلة أخرى من الكتب أعالج بها المشكلات الاجتماعية والسياسية ، بادئا هذه المرة بالعلوم المتعينة منتهيا بما هو مجرد، ثم أقيم آخر الأمر بناء على غرار ما قد صنع هيجل، فأكتب موسوعة أجمع فيها بين النظر والتطبيق، تلك خطة أوحى بها إلي هيجل، فلما انحرفت بفلسفتي بعدئذ عن الاتجاه الهيجلي، بقي لي شيء من تلك الخطة الأولى، ألا ما كان أهمها لحظة، تلك التي صممت لنفسي فيها ذلك البرنامج! وما أزال حتى الآن أحس بذاكرتي ضغطة قدمي على الثلج الذائب، وأشم الأرض اللينة الرطبة التي كانت بشيرا بزوال الشتاء.
لقد حدثت لي خلال عام 1898م عدة أحداث جعلتني أنفض عن «كانت» وعن «هيجل» في آن معا؛ من ذلك أني قرأت كتاب هيجل «المنطق الأكبر»، فكان رأيي فيه عندئذ - ولا يزال هو رأيي إلى اليوم - أن كل ما قاله هيجل عن الرياضة كلام فارغ خرج من رأس مهوش، كذلك حدث في ذلك العام ما جعلني أرفض براهين «برادلي» التي أراد بها أن ينفي التكثر في الأشياء لنفيه وجود ما بينها من علاقات، كما رفضت كذلك الأسس المنطقية للمذهب الواحدي، وكرهت النظرة الذاتية التي ينطوي عليها «الحس النقدي» في فلسفة كانت، ولولا تأثير «جورج مور» في تشكيل وجهة نظري لفعلت هذه العوامل فعلها بخطوات أبطأ، فقد اجتاز «جورج مور» في حياته الفلسفية نفس المرحلة الهيجلية التي اجتزتها، لكنها كانت عنده أقصر زمنا منها عندي، فكان هو الإمام الرائد في الثورة، وتبعته في ثورته وفي نفسي شعور بالتحرر؛ لقد قال برادلي عن كل شيء يؤمن به «الذوق الفطري» عند الناس إنه ليس سوى «ظواهر»، فجئنا نحن وعكسنا الوضع من طرف إلى طرف، إذ قلنا إن كل ما يفترض «الذوق الفطري» عندنا بأنه حق فهو حق، ما دام ذلك الذوق الفطري في إدراكه للشيء لم يتأثر بفلسفة أو لاهوت، وهكذا طفقنا - وفي أنفسنا شعور الهارب من السجن - نؤمن بصدق الذوق الفطري فيما يدركه، فاستبحنا لأنفسنا أن نصف الحشيش بأنه أخضر، وأن نقول عن الشمس والنجوم إنها موجودة، حتى لو لم يكن هناك العقل الذي يعي وجودها، ولكن ذلك لم يمنعنا عندئذ من الاعتراف أيضا بوجود عالم من المثل الأفلاطونية فيه كثرة، وليس يحده زمن، وهكذا تغير العالم أمام أعيننا، فبعد أن كان هزيلا مقيدا بقواعد المنطق، انقلب فجأة ذا خصوبة وتنوع ومتانة، خذ الرياضة - مثلا - فلماذا لا تكون صادقة في ذاتها صدقا كاملا دون أن نلجأ إلى حسبانها مجرد مرحلة فكرية تؤدي إلى ما بعدها، ولا يكمل صدقها إلا بغيرها من المراحل؟ لقد عرضت جانبا من هذا الرأي في كتابي عن «فلسفة ليبنتز»، وهو كتاب جاء وليد المصادفة؛ ذلك أن «ماكتاجارت» الذي كان مفروضا له أن يحاضر عن ليبنتز في كيمبردج عام 1898م، رغب في السفر إلى نيوزيلانده لزيارة أسرته، فطلب مني أن أحل محله في هذه المحاضرات، فكانت بالنسبة إلي مصادفة سعيدة.
وجاء عام 1900م، فكان أهم عام في حياتي الفكرية، وأهم ما حدث لي فيه زيارتي للمؤتمر الدولي للفلسفة في باريس؛ فقد كانت تقلقني الأسس التي تقوم عليها الرياضة منذ اليوم الذي بدأت فيه دراسة إقليدس، وعمري لم يزد على أحد عشر عاما، ولما أخذت بعد ذلك في قراءة الفلسفة، لم أجد ما يرضيني عند «كانت» أو عند التجريبيين، فلم أطمئن لقول «كانت» عن القضية الرياضية إنها قبلية تركيبية، ولا رضيت بما قاله التجريبيون من أن علم الحساب مؤلف من تعميمات جاءتنا بها التجربة، وذهبت إلى ذلك المؤتمر في باريس، فتأثرت بما لمسته خلال المناقشات من دقة عند «بيانو» وتلاميذه، وهي دقة لم أجدها في سواهم، فطلبت منه أن يطلعني على مؤلفاته فاستجاب، ولم أكد أدرس فكرته دراسة شاملة، حتى رأيتها توسع نطاق الدقة التي ألفناها في علوم الرياضة، بحيث تشمل موضوعات أخرى لبثت حتى ذلك الحين نهبا للغموض الفلسفي! فأقمت بنائي على الأساس الذي وضعه «بيانو»، وأضفت من عندي فكرة «العلاقات»، ولحسن حظي وجدت «وايتهد» راضيا عن منهج البحث الجديد، مدركا لأهميته، فلم نلبث إلا قصيرا، حتى بدأنا نتعاون معا على تحليل موضوعات معينة؛ كتعريف التسلسل، والأعداد الأصلية، والأعداد الترتيبية، ورد الحساب إلى أصول في المنطق، وقد أصبنا التوفيق نجاحا سريعا بعد نجاح لمدة عام تقريبا، نعم كان «فريجه» قد أدى بالفعل كثيرا مما عملناه، ولكننا في البداية لم يكن لنا بذلك علم، وقد كان نصيبي الذي أديته في كتاب «أسس الرياضة» (البرنكبيا ماثماتكا) نتيجة عرضت لي بادئ الأمر عرضا، وذلك حين كنت ماضيا في دحض «كانت».
في شهر يونيو من سنة 1901م انتهت هذه الفترة التي امتلأت بنشوة أشبهت النشوة في شهر العسل؛ فقد كان «كانتور» أقام برهانا على أن الأعداد الأصلية لا تنتهي عند عدد يكون بمثابة «العدد الأكبر»، الذي ليس بعده عدد أكبر منه، فطبقت هذا البرهان نفسه على أي مدرك كلي، فانتهيت إلى تناقض قائم في المدرك الكلي، حين لا يكون هو نفسه أحد الأفراد الجزئية المنطوية تحت معناه، وسرعان ما تبين لي أن هذا التناقض إن هو إلا واحد من مجموعة متناقضات ليس لها نهاية ... جاهدت في إزالة هذه المتناقضات، وكنت أظن بادئ ذي بدء أن الأمر لا يستعصي على الحل، لكن سرابا ضللني بعد سراب، فلم أتقدم نحو هدفي خطوة واحدة خلال عامين كاملين (1903-1904م)، حتى إذا ما كان الربيع من سنة 1905م قامت في وجهي مشكلة جديدة ألفيتها ممكنة الحل، فكان حلها بمثابة بصيص من نور، نحو أمل في التغلب على المشكلات الأولى، أما هذه المشكلة الجديدة التي أنارت لي الطريق، فهي مشكلة العبارات الوصفية؛ إذ أوحت إلي الطريقة التي حللتها بها بمنهج جديد.
لقد كنت أول أمري من أتباع المذهب الواقعي، وأنا أستعمل كلمة «الواقعية» هنا بالمعنى الذي قصد إليه المدرسيون في العصور الوسطى بالنسبة إلى المذهب الأفلاطوني؛ إذ «الواقعية» بهذا المعنى تذهب إلى أن الكلمة الكلية لها مسمى قائم بذاته إلى جانب الأفراد الجزئية التي تنطوي تحت ذلك الكلي، أقول إني كنت أول أمري واقعيا بهذا المعنى، فظننت - مثلا - أن الأعداد الأصلية (1، 2، 3 ... إلخ) أشياء موجودة وجودا قائما بذاته، وكل الفرق بين وجودها ووجود سائر الأشياء التي نصادفها هو أن الأعداد وجودها غير مشروط بزمن، فلا يكون لها ماض وحاضر ومستقبل، بل هي ثابتة الحقائق لا يتعاورها تغير الزمن، فلما هدانا التحليل إلى رد الأعداد إلى فئات من فئات، لم تعد كائنات موجودة وجودا مستقلا كما حسبتها أول الأمر، بل أصبح الموجود هو فئات من أشياء، أي إن الموجود فعلا هو المعدود لا العدد نفسه، وبينما كنت في شغل من تحليل الأعداد، كان الفيلسوف النمساوي «مينونج» - الذي تابعت إنتاجه باهتمام - يطبق براهين المذهب الواقعي (وكلمة الواقعية هنا أيضا مستخدمة بمعناها الأفلاطوني الذي شاع بين مدرسيي العصور الوسطى) على كل عبارة وصفية، بحيث انتهى إلى القول بأن أي عبارة فيها وصف لشيء، فلا بد أن نفترض لذلك الشيء وجودا مهما يكن نوع ذلك الوجود؛ لأنه لو لم يكن موضوع الحديث موجودا لما أمكن التحدث عنه حديثا مفهوما، خذ مثلا عبارة مثل «جبل الذهب غير موجود»، فهذه لا شك قضية صحيحة، وأساس صدقها هو أنه لا وجود لجبل من ذهب، لكن النقطة الهامة هنا هي: كيف استطعنا أن نصف هذه العبارة بالصدق ما لم يكن موضوعها دالا على شيء؟ إنه إذا لم يكن ذا دلالة لأصبحت عبارتنا غير ذات معنى، ولاستحال بالتالي أن نحكم عليها بالصدق، من ذلك يستنتج «مينونج» أن «جبل الذهب» موجود، وإن لم يكن وجوده واقعا في عالم الأشياء المحسوسة، وجوده ضمني، لكنه على كل حال وجود حقيقي، وهكذا قل في سائر العبارات التي تتحدث عن موضوعات خيالية، فلم يقنعني هذا القول من «مينونج»، واشتدت بي الرغبة في التخلص من هذا العالم الوهمي الذي خلقه «مينونج»، وملأه بصنوف الموجودات، فلما تناولت الأمر بالبحث انتهيت إلى نظريتي في العبارات الوصفية، والمهم فيها هو أنها كشفت عن حقيقة، وهي أننا إذا ما حللنا جملة ذات معنى، فلا يجوز لنا الافتراض بأنه ما دامت الجملة في مجملها ذات معنى، فلا بد كذلك أن يكون لكل جزء من أجزائها معناه القائم بذاته؛ فلفظتا «جبل الذهب» يمكن أن تكون جزءا من عبارة ذات معنى مفهوم، لكن اللفظتين وحدهما مستقلتين عن عبارتهما لا يتحتم أن تكونا دالتين على شيء، وما لبثت بعد ذلك أن تبينت أن الأسماء الكلية كلها، أعني الرموز الدالة على فئات، إن هي إلا عبارات وصفية، وحكمها حكم تلك العبارات، في أن الكلمة منها تكون ذات معنى، وهي جزء من جملة، لكنها لا تدل بذاتها على شيء إذا استقلت عن جملتها، وقامت بذاتها.
وأدت بي نظريتي في العبارة الوصفية إلى تناول مشكلة المدلول والمعنى - وهنا أريد أن تنصرف كلمة «المدلول» للألفاظ المفردة، وكلمة «المعنى» للعبارات - وإنها لمشكلة معقدة، فتناولتها بالبحث في كتابي «بحث في المدلول والصدق» (1940م)، وكان لا بد أن يسوقني البحث إلى علم النفس، بل إلى علم وظائف الأعضاء؛ فإنني كلما ازددت تفكيرا فيها قل اعتقادي بأن المنطق مستقل بذاته تمام الاستقلال، ولما كان المنطق - في رأيي - علما أبعد تقدما وأكثر دقة من علم النفس، كان خيرا لنا بالبداهة أن نلجأ إلى المنطق في حل مشكلاتنا ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، وما أمكن بحثه بطرائق المنطق لا ينبغي أن نلجأ فيه إلى علم النفس مثلا ... ها هنا أدركت أن «نصل أوكام» وسيلة منهجية مفيدة.
كان «نصل أوكام» في صورته الأولى ميتافيزيقيا؛ إذ كان مبدأ يراد به الاقتصاد في عدد الكائنات، بمعنى أن كل كائن يمكن الاستغناء عن افتراض وجوده، فلا بد من بتره كأنما نبتر الزائدة بنصل، كنت أنظر إلى «نصل أوكام» - وما زلت - أنظر إليه هذه النظرة أثناء اشتغالي بكتاب «أسس الرياضة» (البرنكبيا ماثماتكا)؛ فعند أفلاطون أن الأعداد الأصلية (1، 2، 3، 4، ...) كائنات قائمة بذواتها، غير أنها كائنات لازمنية، وهي هكذا في كتاب «فريجه»؛ «أصول الحساب»، فلما انتهى بي تحليل العدد إلى اعتباره فئة من فئات، ثم لما تبينت أن الرموز الدالة على فئات إنما هي «رموز ناقصة» - أي إنها ليست بذات معنى في ذاتها، ولا يكون لها مدلولها إلا إذا جاءت جزءا من عبارة - آمنت بأنه ليس ثمة ضرورة عقلية تحتم علينا أن نجعل الأعداد الأصلية كائنات مستقلة بذواتها، ولم يكن برهاني قائما على شيء من الميتافيزيقا، بل جعلت أساس البحث شيئا آخر، هو ما أسميه «بالألفاظ الأولية»، أعني الحد الأدنى من الكلمات التي يمكن جعلها أساسا لكل علم من العلوم، وهي الكلمات التي لا تغني فيها واحدة عن أخرى، ولا يمكن تعريف واحدة بواسطة أخرى، أضرب لذلك مثلا ما صنعه «بيانو» حين أرجع لغة علم الحساب كلها إلى ألفاظ أولية ثلاثة، فجاء بعده «فريجه» كما جاء كذلك كتابنا في أسس الرياضة (برنكبيا ماثماتكا)، وأوضحنا كيف أنه حتى هذه الألفاظ الثلاثة لا ضرورة لافتراضها أساسا نقيم عليه بناء العلوم الرياضية، إذ يمكن ردها وتحليلها إلى الألفاظ الأولية اللازمة لبناء علم المنطق، وبهذا تصبح الرياضة استمرارا للمنطق، ويكون كلاهما قائما على مجموعة واحدة معينة من الألفاظ الأولية، هي التي لا بد منها للسير في قضايا المنطق أولا، فقضايا الرياضة بعد ذلك، وهكذا ترى استغناءنا عن افتراض وجود الأعداد ككائنات قائمة بذواتها، وردها إلى ألفاظ أولية مستخدمة في علم المنطق، ترى كل ذلك قائما على تحليل منطقي لا شأن له بالميتافيزيقا ومجالها. •••
إنك لو استثنيت ما كتبته في المنطق الرياضي، جاز لك القول بصفة عامة بأن سائر كتبي لا تمثل وجهة نظري تمثيلا كاملا؛ فنظرية المعرفة - مثلا - التي عنيت بها عناية كبرى، فيها ما يدل على أساس ذاتي بدرجة لم يكن منها بد؛ لأن السؤال الذي طرحته لأجيب عنه هو: «كيف عرفت أنا ما أعرفه؟» وإذن فنظرية المعرفة لا مفر لها من أن تجعل نقطة ابتدائها هي الخبرة الذاتية، خبرتي أنا، ماذا أدرك من خبراتي الباطنية الذاتية، بل إن هذا الجانب الذاتي من نظرية المعرفة لا يقتصر على نقطة البداية وحدها، بل يجاوزها فيشمل الخطوات الأولى من طريق البحث في الموضوع؛ لأن تلك الخطوات الأولى هي أيضا منحصرة في الذات العارفة، ولما كنت فيما أخرجته من مؤلفات لم أجاوز حتى الآن ببحثي تلك المراحل الأولى من عملية المعرفة، فقد بدوت أمام القراء أكثر ذاتية من حقيقة موقفي، فلست أنا بالفيلسوف المثالي الذي يجعل الحقيقة محصورة كلها في الذات العارفة، ولا أنا بواحد ممن يذهبون مذهب انحصار الذات في نفسها، بحيث لا يكون أمام الإنسان سبيل إلى الخروج عن ذاته إلى حيث العالم الخارجي، بل إني مؤمن بعالم الفيزيقا إيماني بعالم النفس، ومن الأمور التي أراها واضحة بذاتها أن معرفتي تبدأ بخبرتي، والخبرة حالة ذاتية باطنية، وكل ما ليس في حدود خبرتي المباشرة لا سبيل إلى العلم به إلا عن طريق الاستدلال، ويظهر لي أن الفلاسفة - خشية منهم أن يقعوا في مأزق انحصار الذات في نفسها - لم يواجهوا مشكلة المعرفة الإنسانية مواجهة جادة، فتراهم إما تركوا المبادئ الضرورية لعملية الاستدلال، غامضة بحاجة إلى توضيح، أو أنكروا الفارق الذي يميز المعرفة المستمدة من الخبرة المباشرة من المعرفة المستمدة بالاستدلال، فإذا ما أتيح لي الفراغ الذي يمكنني من الاضطلاع ببحث جاد في مشكلة فلسفية، فسيكون موضوعي هو هذه المحاولة في سبيل تحليل العملية الاستدلالية التي تبدأ من طرف الخبرة الذاتية، وتخرج منها إلى عالم الفيزيقا، مفترضا الصدق في تلك الاستدلالات، ثم أبحث عن المبادئ التي بمقتضاها تكون استدلالاتنا من خبراتنا الذاتية إلى الطبيعة الخارجية صادقة، قد يكون الحكم بصدق المبادئ المتضمنة في عملية الاستدلال أمرا مرهونا بالهوى، لكن الذي لا شأن له بأهوائنا، والذي لا بد لنا من قبوله، هو ضرورة الأخذ بهذه المبادئ الاستدلالية إذا أردنا ألا ينحصر وجودنا في حدود ذواتنا وخبراتها المباشرة.
وأنتقل الآن إلى ذكر ما حاولت أداءه في المشكلات الاجتماعية، فلقد نشأت في محيط سياسي، وكان كبار أسرتي يريدون لي أن أسير في حياتي سيرة سياسية، غير أن الفلسفة استثارت من اهتمامي أكثر مما فعلت السياسة، ولما تبين لي في وضوح أن في نفسي استعدادا لها، قررت أن أجعلها مشغلتي الرئيسية في الحياة، وقد آلم جدي هذا الاتجاه مني، حتى لقد أشار وهو يحدثني ذات يوم إلى بحثي في أسس الهندسة بقوله في استخفاف: «هذه الحياة التي عشتها حتى الآن!» كأنما يريد أن يقول لي: هذه الحياة التي أضعتها سدى، ثم أضاف إلى ذلك قائلا في صوت المتحسر: «أوه يا «برتي»، أصحيح ما سمعته أنك تكتب كتابا آخر؟!» ومهما يكن من أمر انصرافي إلى الفلسفة ، فقد لبث في نفسي أثر قوي يميل إلى السياسة أيضا، فلما كنت في برلين عام 1895م درست الديمقراطية الاشتراكية الألمانية التي أحببتها لمناهضتها للقيصر، لكني كذلك كرهتها؛ لأنها - عندئذ - كانت تمثل الماركسية على أصولها، وظللت حينا متأثرا ب «سدني وب» في ميلي إلى النزعة الاستعمارية إلى الحد الذي جعلني أناصر حرب البوير، لكنني أقلعت عن هذه الاتجاه إقلاعا تاما سنة 1901م، ومنذ ذلك التاريخ لم أفتأ أحس كراهية شديدة نحو استخدام القوة في العلاقات البشرية، ولو أني كنت أسلم دائما بضرورة استخدام القوة أحيانا، وجدت في سنة 1903م أن انقلب «جوزف تشمبرلين» عدوا لحرية التجارة، فانطلقت أهاجمه بالكتابة والخطابة، واستندت في معارضتي إياه إلى ما يستند إليه كل داعية إلى التعاون الدولي، وكان لي نصيب فعال في الحركة التي أرادت للمرأة حق الانتخاب، ولما فرغت من كتابي «أسس الرياضة» سنة 1910م، رغبت في دخول البرلمان، وكنت وشيك تحقيق هذه الرغبة، لولا أن علمت لجنة الترشيح عني حرية التفكير فأعرضت.
Unknown page
وجاءت الحرب العالمية الأولى، فوجهت اهتمامي وجهة جديدة، إذ استغرقتني مشكلة الحروب، واجتنابها في المستقبل، فكتبت في ذلك وما أشبهه مؤلفات وسعت من نطاق شهرتي في جمهور القارئين، كان أملي والحرب ناشبة أن تجيء معاهدة السلم ضامنة لاجتناب حروب عظمى في المستقبل، لكن معاهدة فرساي خيبت أملي، وراح كثيرون من أصدقائي يعقدون آمالهم على روسيا السوفيتية، لكنني حين زرتها سنة 1920م لم أجد بها شيئا جديرا بحبي أو حقيقا بإعجابي.
ودعيت إلى الصين، فلبثت فيها نحو عام، وقد أحببت أهل الصين، ولو أني تبينت أن كثيرا من أفضل جوانب حضارتهم سيصيبه الفساد بسبب تأهبهم لمقاومة التيارات الحربية المعادية، فكأنما لم يعد أمامهم - فيما يظهر - إلا أحد أمرين؛ فإما أن يتركوا أنفسهم نهبا للغزاة، وإما أن يسلحوا أنفسهم بسيئات أعدائهم؛ ليتمكنوا من مقاومتهم بمثل أخلاقهم، وعلى كل حال فقد أفادتني الصين فائدة كبيرة، وهي فائدة لا بد أن يفيدها الشرق لكل من يدرسونه من الأوروبيين دراسة فيها عطف وحساسية، ذلك أن الصين قد علمتني كيف أفكر تفكيرا يمتد ليشمل مسافات بعيدة من الزمن، وألا أدع الحاضر بسيئاته باعثا على اليأس، ولولا هذا الدرس الذي تعلمته في الصين، لما احتملت العشرين عاما الماضية بما فيها من مآس على نحو ما احتملتها.
وخلال السنوات التي أعقبت عودتي من الصين، ولد لي الولدان الأولان، فكانا سببا في اهتمامي بالتربية في المراحل الأولى، ولبثت فترة أختص التربية بمعظم جهدي، وقد ظن الناس أني لا بد مناصر للحرية الكاملة في المدارس، لكن ذلك الظن - كظنهم بأني داع إلى الفوضى - خطأ في تصوير وجهة نظري؛ إذ إني أرى أنه لا غنى لنا عن قدر معين من القسر في تربية النشء، كما أنه لا غنى لنا عن مثل ذلك في الحكم، ولو أني أرى إلى جانب ذلك أن في مستطاعنا أن نهتدي إلى طرائق تربوية يكون من شأنها التقليل من ذلك القسر الضروري، ولهذه المشكلة نواحيها السياسية أيضا، فالقاعدة العامة بالنسبة للأطفال والراشدين على السواء، هي أن الناعمين في حياة سعيدة يغلب عليهم أن يكونوا أقل ميلا إلى النزعات الهدامة، ولهذا فهم أقل احتياجا إلى الضوابط عمن هم لا ينعمون بمثل تعمليهم، لكني مع ذلك لا أظن أن الأطفال يسعدون بحرمانهم من الهداية، كما أني لا أعتقد في إمكان ولاء الأفراد لمجتمعهم إذا نحن أرسلنا حبلهم على الغارب، إن تعويد الناشئ على النظام أمر لا نزاع فيه، لكن المشكلة هي إلى أي حد يجوز ذلك؛ لأن الإسراف في الشدة قد يأتي بعكس المطلوب؛ إذ إن إحباط الغرائز الطبيعية في الطفل لا بد منته به إلى تذمر من العالم وضيق به، وهذا بدوره كثيرا ما ينتهي إلى العنف والقسوة؛ فقد كان مما استرعى انتباهي إبان الحرب 1914-1918م أمر صعقت له، هو ما لاحظته أول الأمر من أن معظم الناس في نشوة نفسية بسبب قيام الحرب! وواضح أن ذلك نتيجة علل كثيرة بعضها تربوي، نعم إن في وسع الوالدين أن يؤديا شيئا كثيرا لوليدهما، لكن التربية على نطاق واسع ينبغي أن تكون من عمل الدولة، وبالتالي لا بد أن تسبقها إصلاحات في السياسة والاقتصاد، ومهما يكن من أمر، فقد رأيت العالم عندئذ يسير رويدا نحو الحرب ونحو الدكتاتورية، ووجدت أنني لا أملك أن أعمل عملا يفيد، فأسرعت الخطى عائدا إلى حظيرة الفلسفة وتاريخ الفكر.
فلسفته
(1) رسل في تيار عصره
التجريبية هي طابع الفلسفة الإنجليزية في شتى مراحلها، فهكذا كانت عند «بيكن» في القرن السادس عشر، وهكذا كانت عند «لك» في القرن السابع عشر، وهكذا كانت عند «هيوم» في القرن الثامن عشر، وهكذا كانت عند «مل» في القرن التاسع عشر، وهكذا هي اليوم عند «رسل» في القرن العشرين، فهؤلاء جميعا عمادهم الأول هو الخبرة المباشرة يدركونها في أنفسهم، وهو المعطيات الحسية تتلقاها حواسهم من ظواهر الطبيعة الخارجية مرئية ومسموعة وملموسة ... إلخ، فإن ركب الإنسان لنفسه بعد ذلك صورة عن العالم، جعل المعطيات الحسية قوامها والخبرة المباشرة لحمتها وسداها، والأمر بعد ذلك بحاجة إلى تحليل نرى به كيف يرتد علمنا بأنفسنا وبالعالم إلى خبراتنا وحاضراتنا الحسية، وفي هذا التحليل وضروبه يكون اختلاف السبل بين هؤلاء الفلاسفة التجريبيين الذين يلتقون عند نقطة الابتداء.
على أن في هذه الصورة إسرافا في التبسيط، فإنما أردت بها قبل كل شيء أن أبرز العلاقة التي تربط «برتراند رسل» بأسلافه من مواطنيه، وأن أبين في وضوح كيف جاء فيلسوفنا حلقة من سلسلة تتابعت حلقاتها على تشابه بينها في الصورة العامة، وإن اختلفت في تفصيلاتها اختلافا بعيدا، غير أن ظهور هؤلاء الأعلام متتابعين على مر القرون في مجرى الفكر التجريبي في إنجلترا لم يمنع ظهور موجات من الفلسفة المثالية حينا بعد حين، بل قد بلغت تلك الموجات المثالية أحيانا من الشدة في الفكر الإنجليزي، بحيث خيل للدارس أنها قد طغت على ما عداها، فأغرقته إلى غير رجعة، لكنها كانت لا تلبث طويلا، حتى يتصدى لها واحد من هؤلاء الفلاسفة التجريبيين، فما يزال بها مقاومة، حتى تنحسر ويعود للفكر الإنجليزي مجراه الأصيل.
ولنضرب لهذه الموجات من الفلسفة المثالية كيف تطغى على الفكر الإنجليزي حينا لتعود فتنحسر عنه ، موجتين طغتا على فترتين متواليتين إبان القرن التاسع عشر؛ أما أولاهما فقد جاءت أوائل القرن على أيدي نفر من الشعراء والكتاب الذين أعجبتهم المثالية الألمانية متمثلة في «كانت» و«هيجل» فراحوا ينقلونها تلخيصا وتعليقا في شعرهم ونثرهم، ومن هؤلاء «كولردج» و«كارلايل»، وإذا أردنا أن نضم الفكر الأمريكي الإنجليزي في حركة واحدة، قلنا إن «إمرسن» قام في أمريكا بنفس الدور الذي قام به «كولردج» و«كارلايل» في إنجلترا من حيث إشاعة المثالية الألمانية في المجال الفكري، لكن لم يلبث هذا الغزو الفكري أن تصدى له «جون ستيوارت مل» بفكره التجريبي، فأرجع التقاليد الإنجليزية إلى تيار الفلسفة كما كانت على يدي «لك» و«هيوم»، ومن أبرز أعماله في هذا السبيل كتابه في «المنطق»، وكتابه في المذهب المنفعي في الأخلاق.
لكن المثالية الألمانية عادت في أواخر القرن التاسع عشر إلى غزوة جديدة للفكر الإنجليزي، وكانت غزوتها هذه المرة أشد توفيقا وأرسخ جذورا؛ لأنها هذه المرة لم تجعل أداتها نفرا من الشعراء والكتاب غير المختصين بالدراسات الفلسفية، بل جعلت أداتها هذه المرة أساتذة الفلسفة في جامعة أكسفورد: «جرين» و«برادلي» و«كيرد» و«بوزانكت»؛ اتجه هؤلاء جميعا نحو المثالية المطلقة في فلسفاتهم، حتى لتسمى هذه الحركة الفكرية إلى يومنا هذا باسم «مدرسة أكسفورد» في التاريخ الفلسفي المعاصر، والذي يقرب من المعاصر، كما تسمى أحيانا باسم «الهيجلية الإنجليزية»؛ لأن فلسفة هيجل كانت أقوى سطوعا في مؤلفات هؤلاء الأساتذة من أن تخطئها العين العابرة، على أن «كانت» كان له كذلك في تلك الحركة أثره العميق، وما دمنا قد ضممنا الفكر الأمريكي إلى الفكر الإنجليزي في الغزوة الألمانية الأولى، وقلنا إن «إمرسن» كان وسيلتها، فكذلك اجتمعت أمريكا إلى إنجلترا في حركة فكرية واحدة هذه المرة أيضا، وكان من أبرز من عاونوا الفلسفة المثالية الألمانية على الانتشار في غزوتها الثانية هو «جوزيا رويس» الذي كان عندئذ أستاذا للفلسفة في جامعة هارفارد.
ولهاتين الغزوتين الفكريتين الألمانيتين اللتين تعاقبتا على الفلسفة الإنجليزية في القرن التاسع عشر؛ أما أولاهما فقد منيت بفشل سريع ذريع على يدي «مل»، وأما ثانيتهما فكانت فتحا إلى جانب كونها غزوا؛ لأنها دامت واستقرت واعتصمت بحصن فكري حصين هو جامعة أكسفورد، أقول إن لهاتين الغزوتين شبها في تاريخ إنجلترا، لفت الأنظار إليه الأستاذ «ه. ه. برايس» في محاضرة ألقاها في أكسفورد في شهر يوليو سنة 1947م،
Unknown page
1
فازدادت الفكرة بهذا التشابه وضوحا في الأذهان، إذ تعاقبت على إنجلترا غزوتان جرمانيتان بعد انحلال المدينة الرومانية في بريطانيا، وكان بين الغزوتين فترة مداها خمسون عاما أو ستون، أما أولاهما فقد أصابت البلاد بتلف سريع، لكنها لم تلبث أن تصدى لها بطل من أبطال الفرسان هو «آرثر» فصد عن البلاد تلك الغزوة قبل أن تثبت على الأرض أقدامها، لكن لم تمض بعد ذلك بضع عشرات من السنين، حتى جاءت غزوة جرمانية أخرى كانت أكثر نجاحا وأدوم بقاء ... و«مل» هو بمثابة «آثر» في صد الهجمة الألمانية الأولى، وأساتذة أكسفورد هم الذين مكنوا للهجمة الثانية من البقاء.
سادت الفلسفة المثالية المطلقة في إنجلترا (وأمريكا) حتى سنة 1920م، وكان لا بد لمنطق التاريخ أن يغير مجرى الحوادث ليعود إلى الفلسفة الإنجليزية طابعها التجريبي مرة أخرى، لم يكن مما يتفق وطبائع الأشياء أن يظهر في إنجلترا - معقل الفكر التجريبي - فيلسوف مثل «برادلي» ويخرج كتابيه المشهورين في «أصول المنطق» و«المظهر والحقيقة» ليقول - كما قال هيجل - إن العقل وحده مستعينا بمنطق فكره يستطيع أن ينبئنا عن العالم شيئا كثيرا دون حاجة منا إلى الحواس وإدراكها، بل يذهب في كتاب «المظهر والحقيقة» إلى أن الفاحص المدقق يرى ظواهر الكون كما تدركها الحواس متناقضة، وإذن فلا بد أن تكون وهما، وأما الكون على حقيقته - إذا كان حتما أن يتسق مع نفسه اتساقا منطقيا - فلا مندوحة لنا عن وصفه بخصائص أخرى غير الخصائص التي تدركها الحواس؛ فالكون على حقيقته يستحيل أن يكون محصورا في مكان أو محدودا بزمان، كما يستحيل أن يكون قوامه هذه الكثرة من الأشياء يرتبط بعضها ببعض بعلاقات، بل يستحيل أن يكون هنالك حتى هذه التثنية التي نزعمها بين الذات العارفة والشيء المعروف؛ فما الكون - في أيه - إلا حقيقة واحدة مطلقة لا تجزؤ فيها ولا فواصل ولا حدود.
أقول إنه لم يكن مما يتفق وطبائع الأشياء أن يظهر في إنجلترا فيلسوف مثالي مثل «برادلي» ليذهب هذا المذهب، وكان لا بد من رجعة للفكر الإنجليزي إلى سابق تياره التجريبي؛ لذلك أخذت بوادر القلق تبدو في كتابات مدرسة جديدة واقعية سيكتب لها الظهور والتفوق في الحلقة الثالثة من القرن العشرين، بعد أن تعمل عوامل الهدم عملها في الفلسفة المثالية التي رسخت بجذورها في الأرض منذ سنة 1880م، والتي كان قيامها على أرض إنجليزية نشازا يدعو إلى القلق، فنشر «جورج مور» سنة 1903م بحثه المشهور «دحض المذهب المثالي»،
2
وأخرج رسل سنة 1912م كتابه «مشكلات الفلسفة»،
3
وفي 1914م كتابه «علمنا بالعالم الخارجي»،
4
كما نشر آخرون هجمات أخرى على الفلسفة المثالية، مثل «برتشارد» في كتابه الذي ينقد فيه نظرية المعرفة عند «كانت»،
Unknown page
5
ولم نقل شيئا عن تيارات أخرى أخذت تحفر حفرا عميقا تحت الأسس التي يقوم عليها بناء المذهب المثالي، كالتحليلات الرياضية والمنطقية التي قام بها رسل في كتابه «أصول الرياضة»،
6
الذي أصدره سنة 1903م، وفي كتابه الذي اشترك معه فيه «هوايتهد» وهو «أسس الرياضة»،
7
الذي فرغ رسل من قسطه فيه سنة 1910م، وهي تحليلات كانت بعيدة المدى، عميقة الأثر، ولم تكن سريعة النتائج في هدم الفلسفة المثالية، وكذلك لم نقل شيئا عن الاتجاه البراجماتي في أمريكا، على أيدي «بيرس» و«وليم جيمس» كيف كان كالمعاول الهادمة للمثالية السائدة في العقدين الأولين من القرن العشرين.
هذه الثورة على الفلسفة المثالية قد جاءت إلى هؤلاء الثائرين على درجات؛ فليس منهم واحد لم يبدأ حياته الفلسفية مغمورا بالمثالية الكانتية أو الهيجلية، ثم أخذت تعمل في نفسه العوامل الدافعة إلى رفضها، فثار عليها جميعا أو على بعضها، حتى إذا ما جاء عام 1920م كان الاتجاه الغالب بشكل قاطع جازم نحو واقعية جديدة، هي التي تتمثل في برتراند رسل إلى حد كبير، ولما كان عدد كبير من أنصارها من أساتذة كيمبردج، سميت المدرسة أحيانا «بمدرسة كيمبردج» ليتم التقابل بينها وبين «مدرسة أكسفورد» في الفلسفة؛ إذ كانت أكسفورد - كما أسلفنا لك القول - مركزا للفلسفة المثالية، فقامت تناهضها كيمبردج مركزا للفلسفة الواقعية التحليلية، ولقد أسلفنا لك في الفصل الأول ما رواه «رسل» عن نفسه في خطوات تطوره الفكري؛ فمن ذلك قوله: «لقد حدثت لي خلال عام 1898م عدة أحداث جعلتني أنفض عن «كانت» وعن «هيجل» في آن معا ... ولولا «تأثير جورج مور» في تشكيل وجهة نظري لفعلت هذه العوامل فعلها بخطوات أبطأ؛ فقد اجتاز «مور» في حياته الفلسفية نفس المرحلة الهيجلية التي اجتزتها، ولكنها كانت عنده أقصر زمنا منها عندي، فكان هو الإمام الرائد في الثورة، وتبعته في ثورته وفي نفسي شعور بالتحرر؛ لقد قال «برادلي» عن كل شيء يؤمن به «الذوق الفطري» عند الناس إنه ليس سوى «ظواهر»، فجئنا نحن وعكسنا الوضع من طرف إلى طرف؛ إذ قلنا إن كل ما يفترض «الذوق الفطري» عندنا بأنه حق فهو حق، ما دام ذلك «الذوق الفطري» في إدراكه للشيء لم يتأثر بفلسفة أو لاهوت، وهكذا طفقنا - وفي أنفسنا شعور الهارب من السجن - نؤمن بصدق «الذوق الفطري» فيما يدركه، فاستبحنا لأنفسنا أن نصف الحشيش بأنه أخضر، وأن نقول عن الشمس والنجوم إنها موجودة، حتى لو لم يكن هناك العقل الذي يعي وجودها.»
وكتب للواقعية الجديدة أن تسود في إنجلترا سيادة مطلقة مدى عشرة أعوام - من 1920م إلى 1930م - وبعدئذ جاورتها حركة أخرى تولدت عنها، هي حركة «الوضعية المنطقية».
ونستطيع أن نجمل المعالم البارزة في اتجاهات الفلسفة الواقعية الجديدة في ثلاث نقط أو أربع؛ فهي أولا حركة تنصرف باهتمامها الأكبر إلى نظرية المعرفة بدل الميتافيزيقا، إلى الإنسان كيف يعرف ما يعرفه، فلئن كان الفلاسفة الميتافيزيقيون السابقون لهم يعنون بإقامة بناءات فلسفية متسقة يحاول البناء الواحد منها أن يشمل الكون كله بمن فيه وما فيه، كأنه حقيقة واحدة بغير تجزئة ولا فواصل؛ فقد جاء هؤلاء الواقعيون الجدد يفتتون المشكلات الفلسفية ليعالجوها واحدة بعد واحدة، دون أن يعنوا في كثير أو قليل بأن تكون هذه المشكلات أو لا تكون أجزاء من مسألة واحدة كبرى، ومن هذه المشكلات الجزئية، بل في مقدمتها وعلى رأسها، مشكلة المعرفة الإنسانية كيف تكون.
وأهم ما تتصف به نظرية المعرفة عندهم هو بعدها عن الذاتية بقدر المستطاع؛ فأنا حين أعرف شيئا عن العالم الخارجي، فإنما أكشف عن شيء موجود فعلا خارج ذاتي، كان موجودا قبل معرفتي إياه، وسيظل موجودا بعدها، ولم تغير معرفتي تلك من حقيقة الشيء المعروف؛ لأنه كائن مستقل عن العقل الذي يعرفه، وإن غيرت معرفتي لذلك الشيء شيئا، فإنما غيرت من نفسي أنا، لا من ذلك الشيء الخارجي الذي عرفته، وقد غيرت من نفسي حين نقلتها من حالة جهل إلى حالة علم، المعرفة كشف عما هناك، وليست هي بعملية من الخلق المنطقي الذي يتم تركيبه داخل عقلي بغض النظر عما هو كائن خارج العقل؛ كما يذهب المثاليون.
Unknown page
إنني لأكاد أوقن أن قارئ هذه الخلاصة سيبتسم لنفسه متسائلا: كيف يحتاج الأمر إلى مدرسة فكرية جديدة تنهض وتجاهد، وعلى رأسها أعلام مثل «جورج مور» و«برتراند رسل» وغيرهما، لتقول: إنني إذا أدركت وجود هذه الشجرة التي أمامي، فلأن هنالك خارج ذاتي شجرة، وأن تلك الشجرة في واقعها الخارجي لا تتأثر بإدراكي إياها، كيف يمكن أن يحتاج الأمر في ذلك إلى تحليل وتعليل وهجوم ودفاع، والأمر كله لا يتطلب أكثر من الإدراك الفطري لنقول فيه هذا القول؛ فرجل الشارع في سذاجته يعلم - ولا يتطرق إلى علمه في ذلك شك - بهذا الذي جاءت الواقعية الجديدة لتقرره بعد جهاد وثورة ... والقارئ المتعجب بمثل هذه الأسئلة إنما يضع إصبعه على محور المدرسة الواقعية الجديدة، وهو أن ما يدركه الإنسان بذوقه الفطري أساس للحق، فلو رأينا الذوق الفطري يقول شيئا، والفلسفة أو اللاهوت تقول شيئا آخر، فالصادق هو الذوق الفطري، ومن هنا جازت تسمية هذه الفلسفة الواقعية الجديدة بفلسفة «الذوق الفطري» (أو «الإدراك الفطري» أو «الفهم المشترك» أو «الحس المشترك» أو ما شئت من ترجمة للعبارة الإنجليزية
Common Sense ).
ولا بد لمثل هذا القارئ المستنكر المتعجب أن يذكر لنفسه أن هذا الذي يظنه إدراكا فطريا لا يجوز فيه الجدل، هو بعينه الذي يتصدى لإنكاره المثاليون على كافة مدارسهم؛ فالمدارس المثالية كلها مجمعة على أن الشيء المعروف ليس مستقلا عن العقل العارف، وفي رأيهم أن العالم في حقيقته هو هذا الذي يعرفه الإنسان عنه بعقله لا الذي يدركه من ظواهره بحسه، حتى «كانت» الذي هو من أكثر المثاليين اعتدالا وبعدا عن التطرف في مثاليته، يجعل العالم صنيعة العقل ومقولاته إلى حد كبير.
إذن فنظرية المعرفة والرأي فيها والاهتمام بها هي من أهم ما يميز المدرسة الواقعية الجديدة، لكن هذا الطابع فيها يستلزم مميزا آخر، هو رأيها في معيار الصدق، فمتى يجوز لنا أن نقول عن عبارة إنها صادقة، سواء كان ذلك في العلم أو في الحياة اليومية؟
كان المثاليون يأخذون بمعيار «الاتساق» أساسا لصدق العبارة، أعني أن تكون العبارة على «اتساق» مع غيرها مما يقال، بحيث لا يكون ثمة تناقض فيما نقوله عن الكون؛ خذ الهندسة - مثلا - لتوضح لك فكرة المثاليين، فعلى أي أساس نحكم على نظرية هندسية من نظريات إقليدس بأنها صواب؟ الجواب هو: تكون النظرية صوابا لو اتسقت مع سائر النظريات، ومع سائر الفروض والتعريفات والمسلمات، بحيث تجيء نتيجة محتومة لما سبقها ومقدمة ضرورية لما بعدها، وإذا كان بين أجزاء البناء الهندسي مثل هذا «الاتساق» كان بناء صحيحا، وكان كل جزء منه صادقا، وهكذا قل في مجموعة العبارات التي نصف بها الكون؛ فهي صادقة إذا تكاملت في بناء بين أجزائه اتساق لا يسمح للواحدة أن تناقض الأخرى ... وإذا نحن أخذنا بهذا المعيار في صدق العلم والفلسفة، وشتى ما ننطق به عن أنفسنا وعن العالم الخارجي، نتج إمكان أن يوصد الإنسان دون نفسه أبواب غرفته ، ويظل ينسج من فكره أقوالا مختلفة عن العالم، لا يتحرى فيها شيئا سوى أن يتسق بعضها مع بعض، حتى إذا ما تكامل له منها بناء شامل، تقدم به على أنه وصف للكون ... هذا ما يعمله الرياضيون حين ينشئون نظرياتهم في الرياضة، وهذا ما يعمله الميتافيزيقيون حين يقيمون بناءاتهم الفلسفية، وهذا ما يريدنا المثاليون على اصطناعه كلما أردنا تفكيرا سليما.
أما المدرسة الواقعية الجديدة، فترى في معيار الصدق رأيا آخر يتفق ورأيها في عملية اكتساب المعرفة، فما دام الشيء الذي أعرفه موجودا خارج ذاتي، وكل ما أفعله إزاءه هو أن أكشف عنه، ثم أضع ما عرفته عنه في عبارة أو عبارات فلا بد - لكي تكون تلك العبارة أو العبارات صادقة - أن يكون ثمة «تطابق» بين الوصف والموصوف؛ معيارهم في الصدق هو «التطابق» بين القول والموضوع الذي قيل فيه ذلك القول، وليس حتما أن تكون مجموعة الأقوال التي أقولها عن العالم مما يكمل بعضه بعضا في بناء واحد؛ إذ قد لا يكون في العالم هذه «الواحدية»، بل قد يكون - كما هو رأي الواقعيين فيه - قوامه كثرة متجاورة، أو متعاقبة من أشياء أو من حوادث.
وصفة ثالثة يتميز بها المذهب الواقعي الجديد هي اهتمام أصحابه بالعلوم، وبصفة خاصة اهتمامهم بعلم الطبيعة والرياضة؛ فكثيرون منهم أولئك الذين اشتغلوا بالفلسفة بعد دراستهم لعلم الطبيعة أو للرياضة دراسة تخصص، وعلى كل حال فليس المقصود باهتمام الفلسفة المعاصرة بالعلوم وبالرياضة أنها تسعى إلى ما يسعى إليه العلم من جمع الحقائق واستدلال القوانين، بل المقصود هو أنها تأخذ من العلم مبادئه وطرائقه ومدركاته الكلية، فلئن كان العلم يسعى إلى تصنيف الحقائق في مجموعات مستعينا في ذلك بالقوانين العلمية، فهذه القوانين العلمية نفسها هي بمثابة المادة الخامة للفلسفة، ولكن بأي معنى؟ بمعنى أن الفيلسوف المعاصر يجعل فلسفته تحليلا للعلوم في مبادئها وقوانينها، فإذا كان المبدأ الذي منه يبتدئ علم ما طريق سيره هو «س»، فمهمة الفيلسوف هي أن يحفر الأرض تحت «س» هذه ليرى على أي العناصر الأولية ترتكز ، خذ لذلك مثلا تحليل برتراند رسل للعدد؛ فعلم الحساب يبدأ سيره من سلسلة الأعداد: صفر، واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة ... إلخ، من هذه الأعداد يجري عملياته جمعا وطرحا وضربا وقسمة ... إلخ، لكن ليس من شأن علم الحساب أن يحلل هذه الأعداد ذواتها، ترى هل تكون سلسلة الأعداد مفروضة علينا فرضا كنقطة ابتداء أم ترانا إذا ما حللناها ألفيناها ترتد إلى أوليات سابقة عليها في عملية التفكير؟ لكي يجيب «رسل» عن هذا السؤال، غاص في تحليلات (ستكون موضوع الفصل التالي من هذا الكتاب)، وانتهى إلى نتيجة هي أن العدد فكرة مركبة، عناصرها هي الفئات من الأشياء التي يمثلها كل عدد على حدة؛ فمثلا في العالم مجموعات من أشياء قوام كل مجموعة منها سبعة أعضاء، كأيام الأسبوع، والسماوات السبع، وهذه المقاعد السبعة التي في غرفتي إلى آخر هذه المجموعات المسبعة الأعضاء في أنحاء العالم كله، ونريد أن نرمز إلى هذه الفئات المسبعة باسم واحد؛ لنضمها كلها في مجموعة واحدة، أو في فئة واحدة؛ لما بينها من شبه يجمعها، وهو كون كل واحدة منها متطابقة في عدد أفرادها مع سائرها، فإذا أطلقت عليها رمز «7» كان تحليل هذا الرمز في حقيقيته هو أنه رمز دال على فئة من فئات، أي مجموعة من مجموعات أشياء بينها تشابه في وجه من الوجوه ... إذن فالعدد الذي يبدأ عنده علم الحساب ليس في ذاته فكرة أولية بسيطة، بل سبقته فكرة «الفئة» التي يكون بين أفرادها تشابه يبرر وضعها في مجموعة واحدة، ولما كانت فكرة «الفئات» من بين الأفكار الرئيسية في علم المنطق، كان علم الحساب - وكانت الرياضة كلها - نابتة من جذور ضاربة فيما وراء الحساب والرياضة؛ إذ تمتد إلى أوليات المنطق.
هذه التحليلات وأشباهها في أصول الرياضة والعلم الطبيعي هي ما نعنيه حين نقول إن فلاسفة الواقعية الحديثة يهتمون بالعلوم والرياضة، وينصرفون بمجهودهم إلى تحليل أصولها، وبهذا المعنى ينبغي أن نفهم ما قلناه من أن مبادئ الرياضة وقوانين العلوم هي المادة الخامة للفلسفة وتحليلاتها، حتى لقد صح القول بأن الفلسفة لم تعد شيئا سوى المنطق التحليلي.
وهذا الاتجاه التحليلي في الفلسفة المعاصرة يسلمنا إلى صفة رابعة تتميز بها هذه الفلسفة، وهي وضوح الأسلوب والتخلص من الزخارف اللغوية التي هي من خصائص العقل المهوش، ولا أظنني أجاوز الصواب إذا زعمت بأن الفلاسفة المثاليين يجعلون غموض العبارة شرطا للعمق الفلسفي؛ إذ كيف تكون - في رأيهم - عميق الفكر دون أن تكون صعب الفهم معقد الأسلوب غامض العبارة؟ أما أصحاب الفلسفة التحليلية المعاصرة، فلا يسمحون لأنفسهم بذكر كلمة واحدة بغير تحديد معناها، ولا بذكر عبارة واحدة لا تتسم بالوضوح، بل بالنصوع الذي لا يدع عند القارئ مجالا للتخبط والضلال في تلمس المعنى المراد، كان محالا عليهم أن يجعلوا مهمة الفلسفة الأساسية تحليلا وتوضيحا لقضايا العلوم دون أن يبدءوا بأنفسهم، فلا يكتبون إلا ما هو بين واضح، وليس أدل على وضوح الكتابة الفلسفية في كل ما أنتجه الفلاسفة على مر القرون، من فيلسوفنا «برتراند رسل».
هذا المنهج التحليلي نفسه، وهذه الكتابة التحليلية الواضحة التي تحدد معانيها تحديدا لا يدع سبيلا إلى غموض أو التواء، هما نقطة الابتداء التي تفرعت عندها مدرسة جديدة تولدت عن الفلسفة الواقعية، وقد جعلت تلك المدرسة الجديدة التحليل والتحديد والتوضيح غايتها الأولى والأخيرة التي لم تعد - في رأيها - للفلسفة غاية سواها، وإنما أعني بها مدرسة الوضعية المنطقية، فهي «وضعية»؛ لأنها ترفض الميتافيزيقا، وهي «منطقية»؛ لأن رفضها للميتافيزيقا قائم على تحليل العبارات الميتافيزيقية نفسها لبيان خلوها من المعنى، فهي - إذن - لا ترفض «ما وراء الطبيعة» على أساس مذهبي، بمعنى إحلال مذهب محل مذهب، بل ترفضها على أساس منطقي، ما دامت عباراتها لا تتوافر فيها شروط الكلام المقبول التي من أهمها أن تكون العبارة مما يمكن تحقيقه للتثبت من صوابه أو خطئه.
Unknown page
وليس هذا مكان الاستطراد في تفصيلات «الوضعية المنطقية»، وحسبنا منها في هذا الموضع أن نقول إن رجالها الأولين كانوا من تلاميذ برتراند رسل في كيمبردج، والحركة كلها نتيجة متأخرة لما كان رسل قد قام به منذ ثلاثين عاما من تحليلات منطقية، و«رسل» هو الذي قدم بمقدمة طويلة لكتاب لدفج فتجنشتين «رسالة في الفلسفة والمنطق»،
8
وهو كتاب يعد بمثابة الإنجيل للوضعية المنطقية، ولما مات «فتجنشتين» (29 أبريل 1951م في كيمبردج) كتب عنه برتراند رسل
9
يقول: «لما التقيت لقاء التعارف بفتجنشتين أخبرني أنه معتزم أن يكون مهندسا، وذهب إلى مانشستر، وهذا الهدف نصب عينيه، غير أنه خلال دراسته للهندسة أغرم بالرياضة، ثم خلال دراسته للرياضة أغرم بأصول الرياضة، وسأل الناس في مانشستر - كما أنبأني - إن كان ثمة موضوع كهذا، وإذا كان قد تناوله بالدرس واحد من العلماء، فأجابوه بأن مثل هذا الموضوع قائم، وأنه يستطيع أن يزداد بالأمر علما إذا هو زارني في كيمبردج، وهكذا فعل ... (وأخذ في الدراسة معي) وسرعان ما تقدم في المنطق الرياضي بخطى واسعة، ولم يلبث أن ألم بكل ما كان عندي من علم أستطيع تعليمه إياه، وأظنه لم يكن حينئذ يعرف «فريجه» معرفة شخصية، لكنه قرأه وأعجب به إعجابا شديدا، ولم أعد أراه بطبيعة الحال خلال حرب 1914-1918م، لكنني تلقيت منه خطابا بعد الهدنة بقليل، كتبه من «مونت كاسينو» أخبرني فيه أنه وقع في الأسر، وكان معه - لحسن الحظ - مخطوطه (الذي هو كتابه «رسالة في الفلسفة والمنطق») فاستخدمت كل ما أملك من قوة لأحمل الحكومة الإيطالية على إطلاق سراحه من الأسر، ثم التقيت به في لاهاي، حيث ناقشنا كتابه «رسالة ...» سطرا سطرا ...»
هذه «الوضعية المنطقية» التي جاءت فرعا عن «الواقعية الجديدة»، ونتيجة متأخرة للتحليلات المنطقية التي قام بها رسل في كتابيه «أصول الرياضة» و«أسس الرياضة»، هي في الحقيقة مزيج من تجريبية ومنطق رياضي، فأهم ما أنتجته هذه المدرسة الجديدة هو - في اعتقادي - هذا الكشف التحليلي الرائع الذي ثبت أساس الفلسفة التجريبية إلى الأبد، وأعني به الكشف عن طبيعة الرياضة والمنطق بواسطة تحليل قضاياهما؛ ذلك أن أكبر مشكلة كانت تقف في وجه التجريبيين هي هذه: إذا قلنا إن العلم أساسه التجربة الحسية، فبماذا نعلل يقين الرياضة والمنطق مع أن قضايا هذين العلمين لا تأتي عن طريق الحواس ؟ فالنتيجة التي انتهت إليها «الوضعية المنطقية» في ذلك هي أنه بتحليل قضايا هذين العلمين تبين أنها جميعا تحصيل حاصل، ولا تقول شيئا جديدا، فالقضية في الرياضة - مثل قولنا 2 + 2 = 4 هي قضية «تكرارية»، وليست قضية «إخبارية»، إنها تكرر شيئا واحدا في لفظين، وإنما اتفقنا على أن يكون اللفظان أو الرمزان بمعنى واحد بحكم تعريفنا لهما، كقولك مثلا إستانبول هي القسطنطينية، والصديق هو أبو بكر، فمصدر اليقين في الرياضة هو أنها لا «تخبرنا» بجديد، وإذن فلم يعد هنالك ما يبرر الاحتجاج بالرياضة، ويقينها على الفيلسوف التجريبي الذي يقول إن مصدر كل علم جديد هو الحواس، وبالخبرة الحسية وحدها يكون حكمنا على الكلام الذي ينطق به الناس بالصدق أو بالكذب، والنتيجة النهائية التي ينتهي إليها «الوضعيون المنطقيون» هي أنه إذا لم تكن العبارة التي أمامك «إخبارية» تعتمد في خبرها على الحواس، ولم تكن «تكرارية» - كما في الرياضة - تحصل حاصلا، ولا تضيف علما جديدا، إذن فهي كلام فارغ من المعنى، وهذا هو ما قصد إليه هيوم في عبارته التي ذكرها، في ختام كتابه «بحث في العقل البشري»: «إذا تناولنا بأيدينا كتابا كائنا ما كان، في اللاهوت أو في الميتافيزيقا المدرسية مثلا، فلنسأل أنفسنا: هل يحتوي هذا الكتاب على شيء من التدليل المجرد فيما يختص بالكمية والعدد؟ كلا، هل يحتوي على شيء من التدليل التجريبي فيما يختص بأمور الواقع والوجود؟ كلا! إذن فألق به في النار؛ لأنه عندئذ يستحيل أن يحتوي على شيء سوى سفسطة ووهم.»
تيار الفكر الفلسفي المعاصر - إذن - يمكن تلخيصه في هذه العبارة الآتية: موجة مثالية من فلسفة «كانت» وفلسفة «هيجل» سيطرت على إنجلترا (وأمريكا) منذ سنة 1880م إلى 1920م، فثورة واقعية أخذت تفعل فعلها في مقاومة تلك الموجة المثالية منذ بداية القرن العشرين، حتى إذا ما كان عام 1920م كانت لها السيادة، وعلى رأس هذه الثورة «رسل» و«مور»، وأضرابهما من فلاسفة «مدرسة كيمبردج»، وعن هذه «الواقعية الجديدة»، ومنهجها التحليلي تفرعت شعبة أطلقت على نفسها اسم «الوضعية المنطقية»، استمدت بدايتها وهدايتها من المنهج التحليلي الذي استخدمه فلاسفة «الواقعية الجديدة»، وإن تكن قد استقلت وحدها بنتائج - كإنكار الميتافيزيقا - قد لا يوافقها عليها رجال «الواقعية الجديدة»، ومنهم «رسل».
على أن هاتين الجماعتين: جماعة الواقعية وجماعة الوضعية المنطقية - ومنهما يتألف تيار الفكر المعاصر في إنجلترا وأمريكا بوجه عام - إن اختلفتا في بعض النواحي، فلا شك أنهما متفقان على روح واحدة في البحث، هي التي يمكن أن نصف بها الفلسفة المعاصرة، وهي التحليل المنطقي لكثير جدا مما كان يسمى فيما مضى «بالمشكلات الفلسفية»، بحيث تبين أن تلك «المشكلات» الكبرى لم تكن في حقيقة أمرها إلا غموضا في العبارات اللغوية التي صيغت فيها تلك «المشكلات»، ويكفي أن تصب ضوءا تحليليا على التركيب اللغوي لتلك العبارات لتنحل «المشكلات»، أو قل لتتبخر في الهواء، نعم إن رجال الفلسفة التحليلية المعاصرة لا ينتهون بتحليلاتهم هذه إلى «بناءات» فلسفية شامخة تبهر العيون، وتفتن الألباب كبناءات الفلاسفة الميتافزيقيين من أمثال أفلاطون وسبينوزا وهيجل، لكنهم في نتائجهم «المتواضعة» أقرب جدا إلى العلماء من حيث الصلابة والتعاون الذي يجعل الواحد منهم مكملا للآخر ومضيفا إليه، هذا إلى النتيجة البالغة الخطورة التي انتهوا إليها في تحليل الرياضة مما أزال المشكلة الكبرى في المعرفة الإنسانية: لماذا تكون تلك المعرفة يقينا في الرياضة، واحتمالا في العلوم الطبيعية؛ فلقد شهد تاريخ الفلسفة اتجاهين رئيسيين قسما الفلاسفة مجموعتين مختلفتين: أما أولهما فاتجاه رياضي بمعنى الرياضة عند فيثاغورس، وهو المعنى الذي تكون فيه الرياضة ضربا من المعرفة قريبا من التصوف، يبلغ اليقين، ولا يستخدم الحواس في سبيله إلى ذلك اليقين، وتلك هي الفلسفة المثالية التي تنسج من العقل فلسفاتها متسقة الأجزاء في بناءات متكاملة على نحو ما يخرج الرياضي - كإقليدس مثلا - بناء نظرياته الرياضية، وأما ثاني الاتجاهين فهو طبيعي تجريبي، يلتفت إلى الطبيعة الخارجية، ويجعل تجربة الحواس وسيلة العلم، وأما الفلسفة التحليلية المعاصرة، فقد أفلحت في استخراج العنصر الفيثاغوري من أصول الرياضة، وفي بيان أن الرياضة تحصيلات حاصل، وبذلك يزول الألغاز في يقين نتائجها بالنسبة إلى العلوم الطبيعية، وما تنتهي إليه من نتائج تتفاوت في درجات احتمالها وقربها من اليقين دون أن تبلغ قط ذلك اليقين الكامل، وبهذه التفرقة الواضحة بين «القضية التكرارية» في الرياضة و«القضية الإخبارية» في العلوم الطبيعية استقامت نظرية المعرفة على أيدي رجال التحليل المعاصرين «فالمدرسة التجريبية التحليلية الحديثة ... تختلف عن تجريبية «لك» و«باركلي» و«هيوم» بكونها أولا أدمجت الرياضة (مع العلوم الطبيعية) في بناء واحد، وبأنها ثانيا طورت في منهج البحث أداة منطقية قوية، وبهذا استطاعت أن تعالج عددا معينا من المشكلات، فتقدم لها حلولا محدودة عليها من طابع العلم أكثر مما عليها من طابع الفلسفة، ومن مميزاتها إذا قارناها بالفلسفات التي أقام بها أصحابها «بناءات» متسقة الأجزاء، أنها استطاعت أن تتناول مشكلاتها واحدة بعد واحدة، بدل أن تخلق بجرة واحدة من القلم نظرية شاهقة عن الكون بأسره، إنني لا أشك أبدا في أنه إذا كانت المعرفة الفلسفية في حدود المستطاع، فلا يكون ذلك إلا بأمثال هذه المناهج، كذلك لا شك عندي في أنه بفضل هذه المناهج قد اهتدينا إلى حل كثير من المشكلات القديمة حلا نهائيا».
10 (2) الفلسفة الرياضية
11
Unknown page
سنقوق إلى القارئ في هذا الفصل شرحا لتحليل «العدد» عند «رسل» لنضع به أمامه نموذجا مصغرا لما يقوم به فيلسوفنا من تحليلات في فلسفة الرياضة؛ إذ يتعذر أن نجعل فصلا واحدا من كتاب صغير شاملا لكل ما قام به الفيلسوف في هذا الباب.
على أننا لا بد أن نقدم للموضوع بمقدمة موجزة نشرح بها للقارئ المعنى المقصود «بفلسفة العلم» رياضة كان ذلك العلم، أو أي فرع شئت من سائر العلوم، فالكتاب العلمي - كائنا ما كان موضوعه - إنما يتألف من عبارات كلامية وصيغ رمزية، أكثرها مما نطلق عليه اسم «اللغة الشيئية»،
12
ونحن نعني بهذا الاسم مجموعة الرموز - من الألفاظ وغيرها - التي نصف بها الأشياء الواقعة وصفا مباشرا، كأن أقول عن شعاع معين من الضوء إنه ساقط على مرآة معينة، وإن زاوية السقوط تساوي زاوية الانعكاس.
ونقول إن الكثرة الغالبة من العبارات والصيغ الرمزية في كتاب علمي مؤلفة من «لغة شيئية»؛ لأن رجال العلوم يستخدمون الألفاظ وما إليها من رموز ليقرروا بها أحكاما عن الأشياء الواقعة، لكنك مع ذلك قد تجد في الكتاب العلمي - إلى جانب العبارات الشيئية - طائفة أخرى من العبارات لا يراد بها أن تصف الأشياء وصفا مباشرا، بل يراد بها أن تتحدث عن غيرها من ألفاظ وعبارات مما ورد في الكتاب العلمي نفسه أو في غيره؛ مثال ذلك أن يبين المؤلف بأن العبارة «س» والعبارة «ص» متناقضتان، أو أن الواحدة منهما نتيجة تلزم عن الأخرى أو ما أشبه ذلك، فها هنا لا يحدثنا المؤلف عن «الأشياء» نفسها التي هي موضوع العلم الذي نكون بصدده، بل يحصر حديثه في «مدركات» ذلك العلم، أو إن شئت فقل إنه ها هنا يتحدث عن «اللفظ» المستخدم في وصف الأشياء ليبين مضموناته، أو ما يقوم بين أجزائه من علاقات وهكذا، وأمثال هذه العبارات التي تتحدث عن سواها - لا عن الأشياء الخارجية مباشرة - تسمى «باللغة الشارحة»
13 - أو اللغة التي تتحدث عن لغة - تمييزا لها من «اللغة الشيئية» التي سبقت الإشارة إليها؛ فالعبارات الشيئية في الكتاب العلمي هي التي تعبر عن النظرية العلمية التي يريد العالم أن يتقدم بها، وأما العبارات الشارحة للعبارات الشيئية، فليست جزءا من تلك النظرية العلمية ذاتها، بل هي تنتمي إلى ميدان آخر غير ميدان العلم نفسه؛ إذ تنتمي إلى ما نسميه بفلسفة ذلك العلم، وبالطبع لا تكون أي عبارة تقال عن عبارة أخرى فلسفة علمية، لكن العكس صحيح، أي إن كل جزء من فلسفة العلم هو جملة شارحة لجملة أخرى.
14
وبتطبيق ذلك على الرياضة يكون الفرق بين الرياضة وفلسفتها هو أن الرياضة تستخدم رموزا وعلامات، مثل الأعداد وأحرف الهجاء والعلامات الدالة على الجمع والطرح والضرب والقسمة والتساوي وما إلى ذلك، ثم تركب من تلك الرموز والعلامات صيغات ومعادلات دون أن تقف عند هذه الرموز والعلامات نفسها بالتحليل؛ بعبارة أخرى هي التي تستخدم الرموز والعلامات المعروفة مادة لحديثها، لكنها لا تصب الحديث على الرموز والعلامات ذواتها، فتقول الرياضة - مثلا - إن «1 + 0 = 1»، لكنها تستبعد من مجالها تحليل معاني الواحد والصفر والزيادة والتساوي، فإذا ما تناول باحث هذه الرموز ببحثه، وجعلها هي نفسها موضوع حديثه، كان قوله «فلسفة رياضية».
ونضع هذا المعنى في عبارة أخرى، فنقول إننا إذا ما بدأنا السير من رموز الرياضة المألوفة كان أمامنا أحد اتجاهين للسير، فإما أن نتجه من نقطة البداية إلى أعلى، أو أن نتجه منها إلى أسفل، أو إن شئت فقل إننا إما أن نجعل سيرنا إلى أمام، أو أن نجعله إلى وراء، أما ما نسميه عادة «بالرياضة»، فهو سير إلى أمام، أو هو بناء إلى أعلى، أي إننا نمضي من الأعداد وغيرها من العلامات نحو عمليات تركيبية من جمع وطرح إلخ، ثم نظل نمضي في عمليات تزداد تعقيدا وتركيبا كلما علونا في سلم الدراسة الرياضية، وأما الاتجاه الثاني فهو سير من الأعداد وغيرها من العلامات إلى ما وراءها؛ إذ نحللها إلى عناصر أبسط منها، فنجد أنها رغم كونها نقطة ابتداء في الرياضة إلا أنها هي نفسها نتيجة لعمليات فكرية سابقة لها، فهذا الاتجاه الثاني هو بمثابة الحفر تحت تلك البدايات لنهتدي إلى أسسها الأولى، وهذا هو ما نسميه بفلسفة الرياضة.
15
Unknown page
والأعداد هي نقطة الابتداء في دراسة الرياضة، عندها يبدأ الطفل دراسته، حتى ليخيل إلينا أنها - كما تبدو في ظاهر أمرها - أبسط المدركات الرياضية، بمعنى أنها الأساس الأول الذي لا تسبقه خطوة أخرى، مع أنها في الحقيقة على درجة بعيدة من التركيب، ولا يظهر ذلك فيها إلا بعد تحليل طويل دقيق، كالذي قام به كثيرون من علماء الرياضة والمنطق المحدثين، وعلى رأسهم «رسل»، الذين أظهروا بتحليلاتهم أن فكرة العدد لا تأتي إلا بعد أن تسبقها خطوات عقلية أبسط منها، ثم بينوا أن هذه الخطوات العقلية السابقة إنما تقع كلها في مجال المنطق، وإذن فالخطوة الأولى من التفكير الرياضي إن هي إلا مرحلة متقدمة من شوط فكري يبدأ مع الأصول الأولى للمنطق، وبهذا تكون الرياضة في حقيقة أمرها استمرارا للمنطق.
فإذا لم يكن العدد بهذه البساطة التي تبدو، وإذا كان في حقيقة أمره مركبا من عناصر كثيرة أبسط تأتي في الفكر سابقة عليه، فلماذا - إذن - نتخذه في تعليم الناشئ نقطة ابتداء؟ يجيب عن ذلك «رسل» في فاتحة كتابه «مدخل إلى الفلسفة الرياضية»
16
بقوله إنه كما أن أيسر الأجسام إدراكا هي تلك التي لا تكون شديدة القرب، ولا تكون شديدة البعد، وهي أيضا تلك التي لا تكون شديدة الصغر ولا شديدة الكبر، فكذلك أيسر الأفكار العقلية إدراكا هي التي لا تكون شديدة التركيب ولا شديدة التبسيط، وهذه الشروط متوافرة في العدد؛ فلا هو شديد البساطة، ولا هو شديد التركيب، بحيث يتعذر إدراكه على الناشئ الصغير، ولذلك يسهل عليه فهمه كنقطة ابتداء يمضي بعدها إلى دراسة التركيبات الرياضية، ثم إذا أراد بعد اكتمال نضجه الرياضي أن يفلسف الرياضة، مضى في سيره وراء العدد ليكشف عن العناصر البسيطة التي منها يتألف ويتركب.
إننا قد ألفنا العدد في دراستنا وفي حياتنا اليومية إلفا يخدعنا، بحيث نظن أنه كان بهذه السهولة من الفهم والإدراك عند الإنسان الأول كما هو عندنا اليوم، لكن الإنسان الأول لا بد أن يكون قد سلخ من التاريخ دهرا طويلا قبل أن يدرك أن هنالك تشابها بين عصفورتين ويومين، بحيث يستخدم رمزا واحدا هو العدد «2» ليرمز به إلى هذا الجانب الذي تتشابه فيه العصفورتان واليومان!
17
ولا بد كذلك أن يكون الإنسان الأول قد قضى شطرا كبيرا من دهره - حتى بعد إدراكه للأعداد التي يعد بها الأشياء - قبل أن يدرك أن «الواحد» عدد كسائر الأعداد ودع عنك هذا العسر الشديد الذي لا بد أن يكون الإنسان قد صادفه قبل أن يعلم أيضا أن «الصفر» هو الآخر حلقة من سلسلة الأعداد، ولعلك لا تدري أنه لا اليونان القدماء ولا الرومان قد عرفوه، فكانت الأعداد عندهم - كما هي عند كثير جدا من الناس في يومنا هذا - تبدأ من «1»، وذلك على اعتبار أن الصفر لا يعد شيئا، وجاء إدراك السفر متأخرا جدا في التاريخ، حتى لترجع نشأته إلى العرب .
فما هو العدد؟ يقول «رسل» إنه سؤال طالما ألقاه السائلون، ولكنه لم يجد الجواب الصحيح إلا في زماننا هذا، وكان أول من قدم الجواب الصحيح هو «فريجه»
Frege
سنة 1884م، غير أن تعريف «فريجه» للعدد ظل مجهولا حتى جاء «رسل»، فكشف للناس عنه سنة 1901م.
Unknown page
18
ويجمل بنا قبل أن نخوض في تعريف العدد، أن نقول كلمة مختصرة في المقصود «بالتعريف» في الرياضة.
يقول «رسل» في كتابه «أصول الرياضة»
19
إنه إذا كانت لدينا مجموعة معينة من مدركات، ثم كان لدينا حد معين يراد تعريفه بواسطة تلك المجموعة من المدركات، فإن ذلك التعريف يكون ممكنا في حالة واحدة فقط، وهي أن يكون ذلك الحد المراد تعريفه مرتبطا ببعض تلك المدركات ارتباطا يتفرد به دون أي حد آخر، ويمكن شرح هذا الذي يقوله «رسل» في تعريف الحدود الرياضية على الوجه الآتي: افرض أننا قد بدأنا فسلمنا بأننا نعرف معاني مجموعة من الألفاظ هي: «أ، ب، ج، د»، ثم افرض أننا قد أردنا أن نعرف رمزا مجهولا هو «س» بواسطة تلك الرموز المعلومة لنا، فإن تعريفنا للرمز «س» يكون كاملا من الوجهة المنطقية لو أننا حللنا «س» إلى بعض تلك العناصر، كأن نقول مثلا إن معنى «س» هو «أ ج» بشرط ألا يعني هذان العنصران (أعني أ ج) إلا هذا الحد وحده (أي الحد «س») فلا يكون هناك حد آخر غير «س» يقال عنه أيضا إنه مساو للعنصرين «أ ج».
هذا هو التعريف في الرياضة عند «رسل»،
20
فهو أن نبدأ بقائمة من الألفاظ الأولية التي نقبلها بغير حاجة منا إلى تعريفها، وبواسطتها نعرف ما شئنا من الألفاظ الرياضية الهامة على النحو الذي ذكرناه، فحين يهم الرياضي بتعريف حد من حدوده، فلا يكفيه أن يحلل ذلك الحد إلى ما شاء من عناصر، بل لا بد له أن يتقيد في هذا التحليل بقائمة أمامه وضعت قبل أن يهم بتعريف ما يراد تعريفه، وتشتمل هذه القائمة على المدركات الأولية التي قبلناها بغير تعريف، أعني المدركات اللامعرفات، ولا بد بطبيعة الحال أن تكون هذه اللامعرفات الأولية منحصرة في أقل عدد ممكن، فكما يبتغي الرياضي أن يستدل أكبر عدد ممكن من النظريات من أقل عدد ممكن من الفروض، فكذلك تراه في مرحلة تعريفه لألفاظه الرياضية يحاول أن يحدد معاني أكبر عدد ممكن من الألفاظ بواسطة أقل عدد ممكن من اللامعرفات.
ها هنا نستطيع أن نضع أصابعنا على المهمة التي اضطلع بها المناطقة الرياضيون المحدثون أمثال «فريجه» و«رسل» و«وايتهد» وغيرهم، فقد كان الرأي الغالب - وإلى هذا الرأي ذهب «بيانو»
- وأتباعه
Unknown page
21 - هو أن لكل فرع من فروع الرياضة - كالحساب مثلا أو - الهندسة - ألفاظا أولية خاصة، أعني ألفاظا يقبلها المشتغلون بذلك الفرع من فروع الرياضة على أنها لا تحتاج إلى تعريف، وأنها هي التي بواسطتها يتم تعريف ما عداها من ألفاظ في ذلك الفرع، فتكون تلك الألفاظ الأولية اللامعرفة بمثابة نقطة الابتداء التي لا تسبقها خطوة وراءها، فكان الرأي إلى زمن قريب هو أن بعض المدركات الأولية في علم الحساب - وكان العدد من بين تلك المدركات الأولية - لا مناص من قبولها على أنها من البساطة في تكوينها والابتدائية في أسبقيتها، بحيث لا نحتاج في تعريفها إلى سواها، وبناء على ذلك لم ير الرياضيون ضرورة لتعريف العدد.
أما المناطقة الرياضيون فقد ذهبوا إلى غير ذلك في تحليلهم؛ إذ رأوا أن الرياضة البحتة بكافة فروعها تشترك في مجموعة واحدة من اللامعرفات الأولية، وأن هذه اللامعرفات الأولية إن هي إلا المدركات الرئيسية في علم المنطق، مثل: «فئة»، «استدلال»، «صادق» (أعني الصدق في القضايا) إلخ، فإذا رأيت في قضية رياضية ألفاظا لم تعرف غير هذه المدركات المنطقية، كان ذلك دليلا على أنها ليست من قضايا الرياضة البحتة،
22
فإذا وفق المناطقة الرياضيون في بيان أن الرياضة البحتة بكافة فروعها، يمكن رد قضاياها جميعا إلى عبارات لا تشتمل على غير الثوابت المنطقية مضافا إليها متغيرات، حققوا بذلك ما يبتغون، وهو أن يبينوا أن الرياضة البحتة استمرار للمنطقية وجزء منه.
وننظر الآن في تعريف العدد؛ لنرى كيف أمكن رده إلى مدركات منطقية:
ينبغي أولا أن نلاحظ الفرق بين ثلاثة أشياء: (1)
المجموعة التي نعدها. (2)
العدد نفسه الذي نعد به تلك المجموعة. (3)
فكرة العدد بصفة عامة.
ولتوضيح هذه الأشياء الثلاثة التي لا بد من التمييز بينها؛ أقول: افرض أن أمامك ثلاثة رجال، فهذا الثالوث من الرجال هو المجموعة المعدودة، وهو شيء غير العدد «3» الذي نعد به تلك المجموعة، بدليل أن هذا العدد «3» نفسه يمكن تطبيقه على ثالوثات أخرى غير الرجال الثلاثة الذين تراهم أمامك الآن، فتطلقه على ثلاثة طيور وثلاثة أحجار وثلاثة مصابيح وغير ذلك، وما دمنا نطلق رمزا واحدا هو «3» على هذه المجموعات المختلفة من أشياء، فلا بد أن يكون بين تلك المجموعات صفة مشتركة هي التي نقصد إليها حين نستخدم الرمز «3»، ثم نعود فنفرق بين عدد معين مثل «3» أو «صفر» أو «9» وبين فكرة العدد بصفة عامة، فهذه الأعداد المختلفة إن هي إلا أفراد من فئة تجمعها، وما كانت لتجتمع في فئة واحدة لولا أن بينها صفة مشتركة هي التي نقصد إليها إذا ما تحدثنا عن «العدد» بصفة عامة، فالعدد «3» والعدد «صفر» والعدد «9» أفراد مختلفة الدلالات بعضها عن بعض، لكنها على اختلافها تنطوي تحت فئة واحدة هي «العدد»؛ لأن بينها جانبا مشتركا، وهذا الجانب المشترك في سلسلة الأعداد كلها هو المعنى المراد «بالعدد» إذا استعملنا الكلمة بصفة عامة، كما أن «طه» و«الحكيم» و«العقاد» أسماء لأفراد ينطوون - على ما بينهم من اختلاف - تحت فئة واحدة؛ هي مجموعة الأدباء، وإذن فلا بد أن يكون بينهم صفة مشتركة هي التي نقصد إليها حين نستعمل كلمة «أديب» بصفة عامة.
Unknown page
و«العدد» الذي سنتناول تحليله ورده إلى مدركات منطقية، هو «العدد» بالمعنى الثاني من المعاني الثلاثة السابقة، أو «العدد» الذي يكون متعينا محدد القيمة مثل «1» أو «3» أو «صفر»، كان الرياضيون إلى عهد غير بعيد، إذا أرادوا العدد استثنوا من الأعداد العدد «1»، وجعلوه غير قابل للتعريف ليعرفوا به سائر الأعداد، فيكون العدد «2» مثلا هو «1 + 1»، والعدد «3» هو «2 + 1» وهكذا، لكنها طريقة معيبة من عدة وجوه ؛ فهي فضلا عن أنها تفرق بين العدد «1» وبين بقية الأعداد، كأنه ليس واحدا منها، وفضلا عن أنها تستخدم فكرة الجمع المرموز لها بالعلامة + دون تعريف وتحديد، كأنها لا تحتاج إلى شيء من ذلك، أقول إنها فضلا عن هذين العيبين فيها، فإنها لا تنطبق إلا على الأعداد النهائية دون الأعداد اللانهائية، فلئن صح أن أي عدد نهائي من سلسلة الأعداد الطبيعية مثل «7» أو «532» يمكن تعريفه بتكرار العدد «1» كذا من المرات، فذلك لا يصح على العدد اللانهائي مثل مجموعة النقط في الخط المستقيم.
وقد أصبح اليوم في مستطاعنا التغلب على هذه الصعاب؛ فأولا قد بلغنا بفضل «كانتور»
Cantor
23
حدا من القدرة على تحليل الأعداد اللانهائية وفهمها يمكننا ونحن نعالج البحث في الأعداد وطبيعتها، من تعريفها تعريفا ينطبق عليها جميعا، النهائية واللانهائية على حد سواء. وثانيا قد مكنتنا الدراسات الحديثة في المنطق الرياضي من تحليل فكرة الجمع التي ترمز لها بالعلامة +، ولم نعد نلقي بهذا الرمز إلقاء كأنه شيء لا يتطلب التعريف، أو كأنه شيء يتعذر تحليله وتعريفه. وثالثا أصبح في مستطاعنا أن نعرف الصفر والواحد بنفس الطريقة التي نعرف بها سائر الأعداد، ولم يعد بنا حاجة إلى استثناء الواحد، وجعله شيئا قائما بذاته يستخدم في تعريف غيره من الأعداد بغير أن يتناوله هو نفسه التعريف.
24
وللسير في محاولة تعريف الأعداد طريقان؛ كلاهما يتخلص من عيوب الطريقة التي أسلفناها: طريق سلكه «كانتور» و«بيانو»، وطريق آخر سلكه «رسل» لعله أقرب إلى الكمال في تلافي كل ما يمكن تلافيه من أوجه النقص.
أما الطريق الأول فهو محاولة تعريف العدد بالتجريد، ومعنى ذلك أن تفحص مجموعة أو أكثر من المجموعات التي تنطوي تحت عدد معين، كالعدد «3» مثلا، فتتناول بالبحث ثلاثة رجال وثلاثة طيور وثلاثة أشجار إلخ، ثم تجرد هذه المجموعات الثلاثية من الصفات الخاصة المميزة لكل منها صفة بعد صفة، حتى يتبقى لديك بقية لا تكون صفة خاصة بمجموعة الرجال الثلاثة أو بمجموعة الأشجار الثلاثة، فتكون هذه الصفة الباقية بعد عمليات التجريد، هي التي نسميها بالعدد «3».
غير أن «رسل» يوجه إلى هذه الطريقة نقده، فيقول: إنه قد يتبقى لدينا بعد عمليات التجريد صفات لا حصر لعددها؛ إحداها فقط هي الصفة التي تصف طبيعة العدد، وعندئذ لا نجد بين أيدينا ما نميز به هذه الصفة الواحدة المطلوبة من سائر الصفات التي بقيت معها بعد عمليات التجريد.
فبدل أن نحاول تعيين الصفة المشتركة للفئات المتشابهة عددا - والتشابه بين فئتين يحدده أن تكون بينهما علاقة واحد بواحد
Unknown page
25 - فخير من ذلك أن ننظر إلى الفئة التي تضم تلك الفئات المتشابهة؛ فأمامك الآن - مثلا - ثلاثة رجال وثلاثة طيور وثلاثة أشجار وثلاثة مصابيح وثلاثة كتب إلخ، فبدل أن تحاول استخراج الصفة المشتركة بينها، لتكون هي معنى العدد «3»، ضمها جميعا في حزمة واحدة، وتصور أنك قد ضممت معها في هذه الحزمة عينها كل الثلاثات الممكنة في هذا العالم، يتكون لك فئة كبيرة تحتوي على فئات صغيرة، كل واحدة منها تشبه الأخرى، هذه الفئة الكبيرة من الفئات الصغيرة، هي معنى العدد «3». والفرق بين هذه الطريقة في تعريف العدد، وبين طريقة التجريد السابقة، هو - بلغة المنطق - الفرق بين تعريف الشيء بماصدقاته وتعريفه بمفهومه؛ طريقة التجريد تعرف العدد بالمفهوم، وطريقة الفئات المتشابهة في فئة واحدة تضمها، تعرف العدد بالماصدقات.
26
وتعريف العدد بأنه فئة من فئات متشابهة، ينطبق على كل عدد من سلسلة الأعداد بغير استثناء، فهو ينطبق على الصفر كما ينطبق على العدد «1»،
27
فالصفر هو الفئة التي تضم مجموعة الفئات الفارغة، والفئة الفارغة هي التي ليس لها أفراد، كفئة العنقاوات مثلا، فاجمع أمثال هذه الفئة الفارغة جميعا في فئة واحدة، تكن هذه الفئة الواحدة هي معنى الصفر، وكذلك قل في العدد «1» فهو فئة كبيرة تضم بين جنباتها مجموعة الفئات ذوات العضو الواحد، والفئة التي تكون ذات عضو واحد هي تلك التي لا يكون لها إلا مسمى واحد في عالم الأشياء، مع إمكان أن يوجد غيره إذا توافرت الصفات المميزة له في فرد آخر
28
مثل قولنا: «جرم يدور حول الأرض»، ونقصد بذلك «القمر»، فليس هنالك سوى القمر جرما يدور حول الأرض، لكننا على استعداد أن نطلق العبارة الوصفية نفسها «جرم يدور حول الأرض» على أي جسم آخر يتبين لنا أن هذه هي صفته، فاجمع كل الفئات ذات العضو الواحد في حزمة واحدة بخيالك يكن لك بذلك معنى العدد «1».
فتعريف «رسل» للعدد على هذا النحو، هو في الحقيقة بمثابة تعريف الاسم بالإشارة إلى مسماه، ولشرح ذلك أقول: افرض أنك تريد أن تشرح كلمة «أخضر» لطفل صغير، فلو حاولت أن تحدد له معنى الكلمة بصفات مجردة، كنت تتبع الطريقة التي اتبعها «كانتور» و«بيانو» في تعريف العدد، وهي طريقة التجريد، أما إذا أخذته إلى بقعة خضراء، وقلت له: انظر إلى هذه البقعة، فاللون «الأخضر» معناه هو الفئة التي تشتمل على جميع الأشياء الملونة بلون شبيه بهذا اللون الذي تراه أمامك، فهذا بعينه ما يريده «رسل» في تعريفه للعدد، إذ هو يعرف أي عدد بأنه الفئة التي تشمل جميع الفئات التي تكون شبيهة بفئة معينة، فإذا أردت أن تعرف معنى العدد «3» فانظر إلى ثالوث من الرجال مجتمعين معا، وقل إن العدد «3» معناه هو الفئة التي تشمل كل الفئات التي تكون كل منها شبيهة بهذه الفئة من الرجال التي أراها أمامي.
قد يسأل سائل: ألسنا حين نضم الفئات ذوات العدد الواحد في فئة كبيرة تشملها، فتكون هذه هي معنى ذلك العدد؟ ألسنا بذلك نفرض أسبقية علمنا بمعنى العدد قبل محاولة تحديد معناه؟ فنحن نقول - مثلا - إن العدد «3» معناه هو الفئة الكبيرة التي تحتوي على فئات صغيرة كل منها ثالوث معين، فتصور أننا حزمنا ثلاثة رجال في حزمة، وثلاثة طيور في حزمة، وثلاثة كتب في حزمة إلخ، ثم تناولنا هذه الحزمات جميعا فربطناها في حزمة واحدة كبيرة، فإن هذه الحزمة الكبيرة تكون هي مدلول العدد «3»، والاعتراض الذي نقدمه الآن هو هذا: كيف أتيح لنا أن نجمع هذه الثالوثات في حزمة واحدة ما لم يكن لدينا علم سابق بمعنى العدد «3»؟ وإذا كان لدينا هذا العلم السابق به، فما فائدة تعريفه بعد ذلك ما دمنا قد فرضنا معرفة سابقة به؟ والرد على هذا الاعتراض هو أننا لا نضم هذه الحزمات الصغيرة معا على أساس عددها، بل على أساس التشابه الذي بينها، وليس التشابه هو نفسه العدد، إنما تكون الفئتان متشابهتين إذا كان بين أفراد الواحدة منهما وأفراد الأخرى علاقة واحد بواحد، أعني أن يكون كل حد من حدود إحدى المجموعتين مقابلا لحد واحد لا أكثر من حدود المجموعة الأخرى، فمثلا إذا فرضنا في مجتمع ما أن كل رجاله وكل نسائه متزوجون، وأنه لا يباح في هذا المجتمع إلا زوجة واحدة لكل زوج، وإلا زوج واحد لكل زوجة، فعندئذ نحكم بأن عدد الرجال مساو لعدد النساء دون أن يكون بنا حاجة إلى عد الأفراد في كل من المجموعتين؛ إننا نحكم على هاتين المجموعتين بالتشابه، أي بأن بينهما علاقة واحد بواحد، ولا يقتضي ذلك منا أن يكون لنا سابق علم بعدد كل منهما.
وقد يعود الاعتراض من جديد بأنه إذا كنا سنبدأ الشوط في تعريفنا للعدد بجمع الفئات المتشابهة، وإذا كان التشابه معناه المنطقي هو أن تكون بين أفراد الفئتين المتشابهتين علاقة واحد بواحد، فإن إدراك هذه العلاقة نفسها بين الفئات المتشابهة يفترض إدراكنا للعدد «1»، لكن هذا الاعتراض لا يقوم على أساس قويم؛ لأن كل ما نطلبه لكي نحكم بوجود علاقة واحد بواحد بين مجموعتين هو أن تكون لدينا القدرة على تمييز الأفراد في كل من المجموعتين، وبعدئذ نستطيع أن نربط فردا من هذه بفرد من تلك، حتى إذا ما وجدنا أن كل فرد من هذه المجموعة قد ارتبط بفرد من تلك المجموعة، بحيث استنفدت الأفراد في كلتا المجموعتين، قلنا إن هاتين المجموعتين متشابهتان، دون أن نعلم عدد الأفراد هنا أو هناك، ودون أن يكون لدينا أي علم بفكرة العدد إطلاقا.
Unknown page
وواضح أننا إذ نعرف العدد بأنه فئة من فئات، فالعدد «صفر» هو رمز لمجموعة الفئات الفارغة، والعدد «1» رمز لمجموعة الفئات ذوات العضو الواحد، والعدد «2» رمز لمجموعة الفئات ذوات العضوين كالأزواج، والعدد «3» هو رمز لمجموعة الثالوثات وهلم جرا، أقول إننا إذ نعرف العدد بأنه فئة من فئات، فإننا بذلك نكون قد حللنا هذا المدرك الرياضي الأساسي إلى مدركات ليست من الرياضة، بل هي مدركات من علم آخر هو المنطق؛ لأن «فئة» مدرك من مدركات المنطق لا الرياضة.
هذا هو المقصود حين نقول إن المناطقة الرياضيين المحدثين يحاولون رد الرياضة إلى منطق، أي إنهم يحاولون تحليل المدركات الرياضية إلى مدركات منطقية، فليس المقصود بقولنا إن المناطقة المحدثين يحاولون أن يبينوا أن الرياضة استمرار للمنطق، ليس المقصود بهذا أننا داخل حدود الرياضة نستخدم مبادئ المنطق في استدلال نظرية من نظرية، أو معادلة من معادلة، مع بقاء الرياضة علما قائما بذاته مستندا إلى مصطلحات خاصة به تكون منه بمثابة نقطة الابتداء، ولا تكون قابلة للتعريف أو التحليل؛ لأنه إذا كان هذا هو المقصود كان المراد هو أن الرياضة مثل من أمثلة كثيرة يمكن فيها تطبيق المبادئ المنطقية في عمليات الاستدلال، لكن المعنى المقصود بقولنا إن الرياضة استمرار للمنطق هو أننا نريد أن نبين إمكان تحويلها إلى بناء منطقي خالص كأي جزء آخر من أجزاء المنطق الخالص؛ وذلك بأن نبين إمكان استغنائنا عن المصطلحات الرياضية، وحلها إلى مدركات منطقية.
29 ،
30 •••
كان حديثنا فيما مضى يتناول الأعداد النهائية المحددة المعلومة القيمة، وها نحن أولاء نتناول الآن نوعا آخر من الأعداد، هو العدد اللانهائي؛ لنرى ماذا يكون من أمره في ضوء التحليل الحديث.
ومشكلة اللانهاية قد تعد المشكلة الرئيسية في الفلسفة الرياضية؛
31
ذلك أن الفئة من الأشياء حين تكون نهائية - أي ذات عدد محدد - كان أي جزء منها أقل عددا من عدد الفئة في مجموعها، وأما الفئة اللانهائية - كمجموعة النقط في الخط المستقيم - فلا يكون الأمر فيها كذلك؛ لأن أي جزء من الخط فيه من النقط عدد يساوي عدد النقط في مجموعة الخط كله؛ لأن عدد النقط في كل من الحالتين لا نهائي، واللانهائي بالطبع متساو في جميع حالاته، فمتى تكون الفئة لا نهائية؟
افرض أن «ف» رمز لفئة ما لا نهائية، وأن «ف » رمز لفئة أخرى لا نهائية تكونت بحذف أحد حدود «ف»، وليكن هذا الحد المحذوف هو «س»، فعندئذ قد يحدث أو لا يحدث أن تكون الفئة الجديدة «ف » شبيهة بالفئة الأصلية «ف»، فمثلا إذا كانت «ف» هي فئة الأعداد النهائية
32
Unknown page
كلها، وإذا كانت «ف » هي فئة الأعداد النهائية محذوفا منها الصفر، فإننا نجد أن «ف » و«ف» متشابهتان، بمعنى أننا نستطيع أن نجد لكل عدد من أعداد الفئة الأولى عددا مقابلا له من أعداد الفئة الثانية، أي إنه سيكون بين الفئتين علاقة واحد بواحد - ووجود هذه العلاقة بين فئتين هو معنى كونهما متشابهتين - إذ ستجري الفئتان هكذا:
0
1
2
3
4 ...
إلى ما لا نهاية
1
2
3
Unknown page
4
5 ...
إلى ما لا نهاية
نقول إن هاتين الفئتين سترتبطان إحداهما بالأخرى بعلاقة واحد بواحد، أي إن كل عضو من الفئة الأولى سيقابله عضو من الفئة الثانية، دون أن نضطر إلى حذف حد من حدود الأخرى، ومعنى ذلك أن الفئتين متساويتان، رغم كون الأولى بادئة بحلقة سابقة على الحلقة التي تبدأ منها الثانية.
لكن افرض أن «ف» هي سلسلة الأعداد النهائية حتى عدد «ن» - حين يكون «ن» نفسه عددا نهائيا - وأن «ف » مؤلفة من نفس أعداد «ف» ما عدا الصفر، فعندئذ «ف» و«ف » لا تكونان متشابهتين؛ لأن الثانية ستنقص حدا عن الأولى، حتى إذا ما حاولنا وصلهما بعلاقة واحد بواحد، بقي من حدود السلسلة الأولى حد لا نجد ما نربطه به من حدود السلسلة الثانية.
ففي الحالة التي يمكن أن نحذف من «ف» حدا، بحيث تتكون لدينا بعد هذا الحذف فئة جديدة هي «ف »، ثم نجد أنه - رغم هذا الحذف - لا تزال الفئتان متشابهتين، قلنا عن «ف» إنها فئة لا نهاية، وأما الحالة التي لا يمكن فيها ذلك، فإن «ف» تكون فئة نهائية محدودة بعدد معلوم.
33
وكذلك تكون الحال بالإضافة كما هي بالحذف، أعني أننا إذا أضفنا إلى «ف» حدا جديدا، فتكونت بذلك فئة هي «ف »، ثم وجدنا أننا رغم هذه الإضافة ما زلنا نجد الفئتين متشابهتين أي مرتبطتين بعلاقة واحد بواحد كانت «ف» فئة لا نهائية، أما إذا أجرينا هذه الإضافة إلى «ف» فتكونت فئة جديدة هي «ف »، بحيث يحدث بين الفئتين اختلاف يتعذر معه الربط بعلاقة واحد بواحد، كانت «ف» فئة نهائية.
والخلاصة هي أن الفئة اللانهائية هي التي لا تتغير بحذف أحد حدودها ولا بإضافة حد جديد إليها.
ومن هنا تنشأ المشكلات والنقائض في نظر الفلاسفة؛ ذلك لأنهم لا يعلمون عن طبيعة العدد ما قد كشف عنه الرياضيون في عصرنا الحديث، فيحسب الفيلسوف من هؤلاء أن الأعداد كلها سواء، فإن كان العدد النهائي - كالعدد 9 مثلا - يتغير بإضافة واحد إليه كما يتغير بحذف واحد منه، فكذلك يتغير العدد اللانهائي - في ظن أولئك الفلاسفة - بالإضافة إليه أو بالحذف منه، ومن ثم تبدأ المشكلة عندهم.
Unknown page