وغادرا الملهى وعشرات النظرات تصفعه بازدراء، ولكنه شد على ذراعها بمرح وسعادة، وداخله إحساس قوي بالزهو والفخار، فقال لها: لا تغتمي يا عزيزتي، هذه متاعب يسيرة، وكثيرا ما تحدث.
واستقلا ترام الرمل مع الجمهور المنصرف من السينما. ومد ذراعيه حولها كالسياج ليدفع عنها غائلة الزحام، ولكن رغم ذلك ضايقها رجل عن قصد أو عن غير قصد، ورماه بنظرة وعيد ولكن الآخر كان في واد آخر فواصل مضايقاته. وانفجر فيه غاضبا من رأس دارت به الخمر. وتبادلا كلمات غاية في القسوة، ثم تبادلا لطمات ولكمات بعنف قبل أن يفصل الناس بينهما. وتدخل أولاد الحلال لمنع المضاعفات. ووجد في وجنته اليسرى ألما، وسال الدم من زاوية شفته السفلى، وجعل يجفف الدم بمنديله طيلة الطريق، ولكن الدم الغزير الذي خضب شارب خصمه عند أسفل أنفه الملتهب خفف من شدة انفعاله. وعند مغادرة الترام لفحه هواء منعش ثمل بعبير المطر، فارتفعت روحه، وقال: جرحي بسيط لكنه خسر أنفه فيما أعتقد.
فتمتمت في ملق: كدت تقتله، الله يجازيك.
وندت عنه ضحكة، ثم قص عليها نوادر من معاركه في الزمان الأول قبل أن تشكمه الوظيفة. وكان يروي ذلك بفخار واضح، ثم عاوده مرحه كأن شيئا لم يكن، وهكذا رجعا إلى حجرتهما. ووجد الشراب والشواء على الخوان حيث تركهما البواب، فقال: جميل جدا. ولكن ينقصنا الزهور، كان يلزمنا باقة ورد ويا للأسف!
وغسلت له جرحه ودلكت وجنته وهو يغني: «ما تبطل الشقاوة وتيجي عندنا»، وقالت له ضاحكة إن صوته لم يخلق للغناء؛ فقال إن المهم هو السعادة فعند ذلك يغني أي شيء. ثم تحدث ببلاغة رقيقة عن الحب حتى قال لها: ليس كمثله شيء.
ثم قال أيضا بعد أن قبلها بامتنان: لا بد من الرجوع إلى الإسكندرية، سنلتقي كثيرا بالرغم من الرحيل.
وعندما ساد الصمت ارتفع زئير الهواء خارج النافذة، فقهقه بركات قائلا: جو بلادك قلب ولكنه جو سعيد.
وعندما اختفى كل شيء في الظلمة اشتد زئير الهواء، وأكثر من مرة نضح شيش النافذة بوميض البرق في موجات قصيرة متتابعة كالدغدغة، كشفت عن معالم الحجرة الكاسية والعارية، ثم استكن الظلام كأكثف مما كان؛ فتضاعف حنان الشاب واستمتاعه بالدفء والأمان. ووجد نفسه يتذكر جو الساحل عندما يكفهر وتنتشر في تضاعيفه تحركات غامضة متوترة تنذر بوشيك المطر. وما لبثت الأمطار أن انهلت فوق النافذة في عربدة صاخبة، فقال لنفسه وهو يستزيد من متعة الأمان والهناء إن قيام الساعة نفسها يطيب في أحضان الحب.
واستيقظ عند الضحى.
وفتح النافذة فدخل هواء بارد وتراءت السماء ملبدة بغيوم في لون المغيب جامدة غير موحية.
Unknown page