فمضى عباس في تناول الزبادي، كأنه غير المقصود بالكلام، فتساءل بيومي: ألا تحب من يحب الناس ويعمر الخرابات؟
وأعاد عباس سلطانية الزبادي فارغة، ثم نظر في عيني بيومي قائلا: الوحش .. ألم تره وهو يقطع اللحم في دكانه؟
ووضح فيما تلا ذلك من زمن أن عبده بار كذلك بأهله؛ فكان كلما خلت شقة في العمارة أسكنها أحد أقاربه. وكان يخفض الإيجار للفقراء منهم بإذن من زوجته. وفي ذلك كله لم يجد أحد ما يؤاخذه عليه حتى جاء بأمه وأختين له؛ ليقمن معه في شقته، فعند ذلك ردد البعض المثل القائل: «إن كان حبيبك عسل ما تلحسوش كله». والحق أن أم عباس لم ترتح لذلك، وهي قد فوجئت بالأمر الواقع مفاجأة لم تستطع معها منعه، ولكنها أدركت أن الزمام قد أفلت من يديها، وأنها لم تعد سيدة بيتها بحال بعد أن اضطلعت حماتها بالمسئولية فشعرت بالضياع.
وإذا به يوما يخلي دكانين من دكاكين العمارة الثلاثة، ويهدم الجدار القائم بينهما ليقيم دكانا كبيرا فخما، ثم انتقل إليه من محله الصغير بالحي المجاور، وعلقت الخراف والعجول، وصار أكبر قصاب في الحي كله. وافتتح المحل الجديد بتلاوة من مقرئ حسن الصوت، وحمد عبده الله بصوت سمعه الكثيرون على ما فتح به عليه من مال حلال!
ولأول مرة اختلف الناس فيه، فمن قائل إنه مثال للأمانة والبر، ومن قائل إنه حسنين آخر حريري الملمس. وشك أناس في ذمته وعض الحسد قلوب الكثيرين. وتغير عبده بعض الشيء؛ فاختفت نظرته الوديعة وحلت محلها نظرة جديدة مليئة بالثقة، وطعم دماثته المألوفة بقدر من الحزم والعزم اقتضاهما مركزه المالي ومسئوليته كرجل أعمال. ولم يكتف باستعمال حزمه وعزمه في التجارة فاستعملها في البيت أيضا كلما نشب نزاع بين أم عباس وأهله، واستعملهما خاصة مع أم عباس. ولما كانت المرأة لم تعهده إلا لطيفا مؤانسا، فقد كبر الأمر عليها وحزنت حزنا شديدا. وساءت الحال بينها وبين أهله، وأصرت على استرداد ما ضاع من حقوقها في بيتها، حتى قالت له يوما: أنا لا أريد أن يشاركني أحد في بيتي.
وإذا بالرجل يقول لها بصوت رهيب: لك ما تشائين فتفضلي بالذهاب!
ولم تصدق المرأة أذنيها. ثم صاحت: هذا بيتي .. وعلى الآخرين أن يتركوه.
ووقع اشتباك بالأيدي بين النساء، فهاله أن يعتدى على أمه، وانهال على أم عباس ضربا، ثم دفعها خارج البيت. وجدت نفسها وحيدة في الطريق، حتى آوتها أسرة فقيرة تمت بقربى بعيدة إلى زوجها الأول. وهز الحادث النفوس هزا، وهرع عباس إلى ما تحت مأواها الجديد، وصاح بأعلى صوته: يا أم عباس .. الله يسامحك.
ولم يدر الجيران ماذا يفعلون، فلم يكن من اليسير إغضاب الرجل بعد أن كبر نفوذه وتعلقت به مصالح الكثيرين. وفكر البعض في رفع الخلاف إلى ساحة القضاء، ولكنهم كانوا يتهامسون بذلك سرا خوفا على أنفسهم. ولم يجهر بالسخرية منه إلا عباس حتى غضب عليه الرجل؛ فمنع عنه مصروفه، وهو يقول بأعلى صوته: عبث السفهاء لا يجوز أن يمتد إلى المال.
والتفت إلى كثيرين من أهل الحي الذين وقفوا يشاهدون النزاع، وقال لهم: أي واحد منكم أحق بالنقود التي يعبث بها هذا الغلام المعتوه.
Unknown page