وسارع إليه بيومي اللبان ليهدئ من ثائرته، وتودد إليه بمعسول الألفاظ حتى مضى به بعيدا، وحسنين يقول بلسان ملتو، ونثار ريقه يرش وجه بيومي رشا: معتوه وبلطجي.
وعند المساء انطلق عباس إلى جولته الليلية، يجود حيثما ذهب ببسمات رائقة وتحيات حارة في سعادة ملائكية. ودبر حسنين حملة إرهابية جديدة ليحمل أم عباس على أن تبيع له العمارة بيعا صوريا. واشتد الخلاف بينهما فضجت الحارة بصراخه وتهديداته. وشكت المرأة إلى الجارات كربها. وتشاور بعض الطيبين في السعي لدى حسنين ليعدل عن مطالبه، ولكن أحدا منهم لم يجرؤ على اتخاذ خطوة إيجابية خوفا من بطش الرجل، وبخاصة أنه اعتدى في ذلك الوقت اعتداء وحشيا على رجل يدعى «كرمللة» عندما ضبطه يوصل نقودا من أم عباس إلى ابنها. وارتفع نحيب المرأة ذات ليلة عقب تعنيف شديد من الرجل، ثم علم أهل الحي أنه ضربها ضربا شديدا، وأنها لن تطول مقاومتها.
وعند الفجر تعالى صراخ فمزق السكون تمزيقا. واستيقظ الناس فزعين، وفتحت النوافذ، وهرع كثيرون إلى مصدر الصراخ، إلى القبو. وعلى ضوء فانوس رأوا بيومي اللبان وهو واقف يرتجف. هو أول من يستيقظ في الحي ليسرح بصفيحة اللبن، ولكن ماذا دهاه؟ ووجدوه يشير إلى مكان في الأرض، فنظروا حيث يشير فرأوا حسنين سابحا في دمه، وقد تكومت جثته أسفل جدار القبو.
واضطرب الحي اضطرابة عنيفة، وسرعان ما احتلته الشرطة والنيابة، ثم اندفع التحقيق في جميع الجهات متعقبا كافة الشبهات. استدعي كرمللة وهو آخر ضحية للقتيل، وأم عباس، وبعض سكان العمارة، وبيومي اللبان نفسه. وعشرات وعشرات من خصوم الرجل الذين لا يحصيهم عد، ولكن ثبتت براءتهم جميعا بصورة قاطعة. حتى عباس استدعوه للتحقيق، ولما سئل عن المكان الذي كان فيه وقت ارتكاب الجريمة أجاب ببساطة: كنت مع الخضر.
ولما أراد المحقق أن يعرف من هو الخضر، أجاب عباس بدهشة: ألا تعرف سيدنا الخضر؟
ولكن كثيرين كانوا يعرفون تجوال عباس خطوة فخطوة، وقد شهدوا نيابة عنه. وهكذا بدت الجريمة لغزا لا يريد أن يحل. وعرف من التحقيق أن حسنين قتل بآلة حادة هشمت مؤخر رأسه. والحق أن أحدا لم يأسف عليه، ولكنهم تساءلوا كثيرا عن القاتل، وظلت الجريمة حكاية الحارة المثيرة زمنا طويلا.
وظن أول الأمر أن عباس سيرجع إلى مسكن أمه، ولكنه رفض ذلك بإباء. واعتصرت المحنة الأم فغرقت في الحزن، ولكن جمالها قاوم المأساة، وخرج منها في النهاية متألقا كماضيه. وعادت تتبختر بين السكة الجديدة والتربيعة، وعاد الإعجاب يحوطها كالهالة.
وإذا برجل يتقدم طالبا يدها. كان في الحقيقة شابا دون الثلاثين، قصابا، أقرب ما يكون إلى الفقر ومن أهل الحي المجاور، جميل الصورة، دمث الأخلاق، نظيف الذمة، وتساءل الناس هل تجازف المرأة بقبول التجربة مرة أخرى؟ وقبلته المرأة بأسرع مما تخيل أحد. ومع أن بعض الطيبين قالوا: إن الله قد عوضها خيرا إلا أن كثيرين تهامسوا متسائلين: ترى ألهذا الرجل علاقة بالجريمة الغامضة؟ أما عباس فقال كعادته: لا يصح أن يحل محل الأب رجل آخر.
وخرج وسط الطريق، ثم رفع رأسه إلى عش العروسين صائحا: يا أم عباس .. الله يسامحك.
وبلغ التهامس المريب مسامع الحكومة فأجرت تحرياتها عن العريس - وكان يدعى عبده - واستدعي لسؤاله هو وأم عباس، ولكن لم يثبت عليهما شيء، وظل اللغز أخرس كما كان. وتجلت بالمعاشرة مزايا عبده القيمة؛ فقد وهب المرأة حبا وعطفا ومعاملة كريمة. وعرض من بادئ الأمر صداقته على عباس، ومع أن الشاب نهره قائلا دعني وشأني، إلا أنه حباه بعطفه ورعايته، وحث أمه على مده بما هو في حاجة إليه من نقود. وأثبت في الوقت نفسه أنه ذو عقل راجح، فقد اقترح على أم عباس أن تبيع حوشا خلفيا للعمارة قائما على ناصيتين لتجدد العمارة بثمنه، وتبني دورا جديدا. وأولته المرأة الثقة التي يستحقها فتجددت العمارة وارتفعت، وازداد دخل أم عباس زيادة محسوسة، حتى أعجب به الناس، وقالوا رجل ولا كل الرجال. وقال بيومي اللبان لعباس، وهذا يتناول عشاءه في دكانه قبل الانطلاق إلى جولته الليلية: أنت لك قلب ملاك، فكيف تنفر من رجل طيب كعم عبده؟
Unknown page