وصف لبنان المسمى الجبل الدرزي - تقسيمه إلى مقاطعات - ارتقاء بيت شهاب كرسي الحكم - الميثاق. ***
من مقدمة كتابي هذا يعرف القارئ طريقة السياحة في سوريا. فليتصور إذن مؤلف هذه المشاهدات حاملا عدة السفر وعتاده، متسلقا الجبال، هابطا الأودية، باحثا عن كل مكان خرب ذي أهمية أثرية ... قمت بعدة رحلات في لبنان، وفي جهات جد مختلفة، ولو شئت أن أصف جميع ما رأيت وشاهدت لأهلكت نفسي بتكليفها ما لا تستطيع؛ فها أنا ذا أعفيها ولا أحملها فوق طاقتها من قص حوادث ذهابي وإيابي، وأكلي ونومي، وما اعترضني من شئون وشجون؛ إذ يستحيل الطواف في هذه البلاد دون مقاساة آلام الأخطار التي تواجهنا كل يوم تقريبا، فلا يستغرب إذن تهافت عدد كبير من الزائرين على كل قادم من سفر ليهنئوه بالعودة منه سالما معافى.
تعرضت لأخطار لا تحصى عندما اقتدت بين اللجج وسرت في معابر المعزى لأبلغ خرائب زعموا لي أنها موجودة، أو أدرك آثارا أصبحت عافية، وكم من مرة عدت أتعثر بأذيال خيبة مرة! ألزمت نفسي معرفة ما في الجبل اللبناني من آثار هامة، وكنت مضطرا - قبل أن أغادر المكان الذي أكون فيه - أن أطرح عدة أسئلة على نفسي وعلى السكان لأتيقن من أني لم أخلف شيئا ورائي فيه بعض الفائدة. إنه يمكنني أن أطنب في مديح نفسي لأني لم أدخر خطوة في سبيل السعي ركضا وراء الآثار، وإذا كنت قد وفقت إلى بعض الاكتشافات فيحق لي القول إني قد دفعت ثمنها كثيرا من التعب والمشقة.
إني أرجع إلى ما قاله من تقدموني عن طبيعة هذه الجبال الخشنة الغليظة، القلقة المجاز، الصعبة المرتقى، ذات الطرقات الرديئة، هذا إذا كان يمكننا أن نطلق اسم الطرقات على المعابر والمضايق القليلة أو الكثيرة الاتساع، والتي كثيرا ما تكون معوجة صخرية، غير ممهدة، يمشي عليها الناس بقوة العادة والاستمرار، بل الاضطرار لأن لا طرق غيرها. شغل وصف هذه الطرقات ومتاعبها من تقدموني؛ فكتبوا كثيرا من الملاحظات. أما أنا فسوف أدعها ولا أهتم إلا بوصف سيماء هذا الجبل الأخلاقية. عرفت هذا الجبل في مختلف وجوهه ونواحيه أثناء إقامتي فيه خمس عشرة سنة.
ولكي أحسن درسه على أتم وجه - كما وعدت في مطلع هذه المشاهدات - أراني مضطرا لحصر موضوع كتابي في نطاق محدود. سوف لا أتناول بالوصف إلا الناحية الواقعة بين نهر المعاملتين من جهة الشمال، ونهر الدامور لجهة الجنوب. أما في الجهة الشرقية فسأقف عند الحدود الطبيعية؛ أي بكليك ولاية دمشق وولاية صيدا، تلك التخوم التي تخترق سهل البقاع طولا. إن نهر الليطاني الذي يسمونه أيضا نهر القاسمية هو الذي يرسم تلك الحدود.
يقسم هذا الجزء من البلاد إلى ثماني مقاطعات، تمتد سلطة الأمير على 24 إقطاعة منها؛ فحدود إمارته تبتدئ من جبة بشري فوق طرابلس وتنتهي في جزين قرب صيدا بطول 14 ميريامتر (الميريامتر عشرة كيلومترات) وعرض ستة في المكان الأكثر اتساعا.
إننا لا ندري كم كان عدد سكان لبنان قبل عهدنا الحاضر، فلا شك في أن ذلك العدد كان ضئيلا. ولسنا نعرف شيئا صحيحا عن هذا؛ لأن التاريخ العربي ينبئنا فقط أن اثنتي عشرة عائلة نزحت من معرة النعمان عندما كانت حكومة دمشق خاضعة لإمبراطورية الروم - أي قبل ظهور الإسلام - واستقرت في الجبل وشيدت فيه القرى. أما زعيم هؤلاء النازحين فهو الأمير تنوخ ابن الملك النعمان؛ ملك الحيرة.
وأول مكان استقر به كان يدعى تيروخ
Tirouch
في مقاطعة المتن. ثم انتقل إلى الجهة الغربية، فاضطره ازدياد عدد عائلته لبناء قرية عبيه التي عرفت آنذاك باسم دار تنوخ. وقد فصل المؤرخون تاريخ هذه الأسرة العريقة تفصيلا مسهبا حتى اعتناقها الإسلام.
Unknown page