1
إن هذه المدينة تقع في وسط سوريا، وهي كما نعلم عاصمتها. وبوصفي طبيبا ونظرا للعلاقات التجارية التي ربطتني بالإفرنسيين ومواطني في هذه النواحي على اختلافها؛ توصلت إلى معرفة هذا البلد معرفة جيدة؛ عرفت منتوجاته وأعمال تجارته وشعبه وأخلاق أهليه، وأخيرا المنافع التي يمكن فرنسا أن تجنيها؛ فدمشق تستورد الأقمشة والطرابيش والقرمز والنيل والسكر والبهار والورق والحديد وما أشبه، وكلها تباع بأسعار مرتفعة، ويمكنها أن تورد المواد التي لا يستغنى عنها كالحبوب والزيت والحرير والقطن التي يزخر بها هذا البلد الخصب.
نستطيع القول إن كل شيء في هذه المنطقة - حتى صحراؤها - يكاد يكون مادة تصلح للتجارة. فمن تلك البقعة المترامية الأطراف نحصل على أصواف من نوع ممتاز، وفيها نجد الكثير من الأملاح والعروق الحمراء، وكل هذه يحتاج إليها في عمل الصابون والصباغ. وهناك اكتشافات هامة يستطيع أن يقوم بها تاجر دقيق الملاحظة. إن تجارة الشرق - بوجه عام - لا تدر كسبا إلا مما تستورده من بضائع. أما أعمال التصدير فإنها - أينما كانت - تكلف الشيء الكثير. إن سوريا وحدها يمكنها أن توفق دائما - على الأقل - بين هاتين المنفعتين.
إن الفائدة التي يمكن تجارتنا أن تجنيها في سوريا مسلم بها بصورة لا تقبل الجدل. فما علي إلا أن أتكلم عن الوسائل الآيلة لتحسينها. فإذا ما سمحت الظروف للفرنسيين بأن ينشئوا في دمشق مؤسسات تجارية، فبوسعي التأكيد أنها ستكون الأكثر مغنما في الشرق. إن هذه المدينة هي - بلا منازع، إذا استثنينا إستانبول والقاهرة - أهم مدن هذه السلطنة الشاسعة. إن مركزها الموافق، وعدد سكانها الضخم، وذكاء أهليها المتجه بكليته إلى التجارة، وتهافت الأجانب عليها في جميع الأوقات، وعلى الأخص على أثر عودة القوافل الكبيرة من بغداد ومكة، ووفرة بضائعها المشتملة على جميع الأصناف؛ إن كل ذلك يبشر بازدهار تام.
لست أنكر أن هذا المشروع تعترضه لأول وهلة صعوبات جمة. بيد أني أجرؤ على التأكيد أنه ليس مستحيلا. لاحظت أن الباب العالي يرفض بكراهية متناهية منح الأجانب حق إنشاء مؤسسات تجارية جديدة. إني أعلم أن كل تجديد يستلزم نفقات باهظة، كما أني عرفت أكثر من سواي أخلاق أهالي دمشق؛ فهم بوجه عام مداجون، جسورون، متعصبون، إلا أنهم في حقيقة أمرهم مرنون هلعون، وهم يتمدنون يوما بعد يوم، أما فيما يتعلق بالصعوبات التي تنتج عن الباب العالي فعلى فرنسا - إذا شاءت - أن تقوم بتذليلها.
ولولا أني لم أشاهد بنفسي - خلال سنوات - تلاقي الحجاج الذي يجتمعون هنا للذهاب إلى مكة، لأن دمشق هي ملتقى جميع مسلمي أوروبا وآسيا، ما عدا مسلمي أفريقيا الذين يذهبون إلى القاهرة؛ لكنت شعرت بصعوبة كبيرة في تصديق ذلك. وقد قفز عددهم في بعض السنوات إلى ما يقارب الأربعين ألفا.
إن أسواق دمشق في أثناء إقامة الحجاج فيها - وهذه الإقامة تكون عادة حوالي شهر واحد في ذهابهم وعند إيابهم - تشبه أسواق ليبسيك، وفرانكفورت وبوكير إلخ ... إلخ. إننا نجد فيها جميع المواد والأدوات التي يمكن أن تقدمها تجارة واسعة جدا. إن الجميع يعرفون غاية المسلم من هذه الرحلة الدينية؛ إنها عبادة وتجارة، فقلما نجد حاجا واحدا لا يتعاطى هذه الأعمال، كل يعمل جهده. وإننا نفهم - دون أن نقيم الأدلة على ذلك هنا - أن هذه الفرص المؤاتية فريدة في نوعها للتاجر الغني برأس ماله.
إن الحاج الذي يذهب إلى مكة لا يحجم عن التزود بالحاجيات الهامة التي يمكنه بيعها ليسد بها نفقات رحلته. ولدى ذهاب القافلة نجد ما لا يقل عن ألفي جمل تحمل بضائع لتباع أو ليقايض بها. وإذا ما عادت القافلة فإنها تأتينا بالبن العدني، والسنا، والصموغ، والأبازير، والأنسجة، والأواني الصينية، وعيدان الند، والعنبر، وكل منتوجات البحر الجنوبي التي تعرض آنذاك بكثرة في مكة واردة إليها عن طريق البحر الأحمر. كنا نستقبل كل عام من بغداد قافلتين أو ثلاث قوافل كبيرة يراوح عدد الصغيرة منها بين ألف وألف ومائتي جمل. كانت تنقل من الجزيرة البارود الأبيض، والغدد النباتية، وجلد المعزى، والقطن المغزول المصبوغ جيدا بالقرمز، وأقمشة بغداد وضواحيها.
وتأتينا هذه القوافل أيضا من بلاد العجم بجلود الخرفان والسجاجيد على اختلاف أنواعها، والكوفيات وبكل المنتوجات الجميلة التي تنتجها بكثرة هذه المملكة الشاسعة الأطراف.
وهذه القوافل نفسها تحمل إلينا أيضا منتوجات البنغال وشواطئ كورماندل ومالايار منقولة إلى البصرة وبغداد عن طريق خليج فارس. إن أهم المنتوجات التي تأتينا من هذه البلدان الغنية هي: الحرائر الجميلة، والقطن المغزول الناعم، والشاش على اختلاف أصنافه، والكرمسوت الزاهي، والكوفيات الفاخرة، والأواني الصينية المدهشة التي تفد من الصين واليابان، والجواهر، والحجارة الكريمة، وأخيرا كل مادة تتجر بها الهند.
Unknown page