لكنه غادر السجن بعد أسبوع واحد فقط، بينما بقيت أنا به حتى صدور العفو العام سنة 1964. ووجدت عملا بعد فترة في إحدى الصحف، فألفيته يعمل بها. كان قد صار عضوا بارزا في التنظيم السياسي الحكومي، الاتحاد الاشتراكي العربي، لكن الكل كانوا يسعون إلى عضويته؛ ولهذا لم يكن من الصعب أن تتفق أفكارنا وآراؤنا. وكانت صدمتنا واحدة عندما أسفر العدوان الإسرائيلي عام 1967 عن هزيمتنا.
وفي العام التالي عين في مكتب الجريدة ببيروت. وكان السفر وقتها حلمنا جميعا، والأسهل منه الخروج من ثقب الإبرة. ولم أتمكن منه إلا بعد أن استقلت من الجريدة، واستعنت بوساطات عدة. وذهبت إلى بيروت فاستضافني بضعة أسابيع. ثم غادرت لبنان ولم أره لسنوات طويلة. لكني عرفت أنه تزوج من قريبة له، وأصبح مديرا لمكتب الجريدة في العاصمة اللبنانية، ولم يدهشني ذلك؛ لأنه كان قديرا في عمله، يقيم أوثق العلاقات بالشخصيات الهامة من مختلف الأحزاب والاتجاهات، ويحتفظ بأرشيف دقيق لكافة المعلومات.
ونقلته الجريدة إلى مقرها الرئيسي في القاهرة بعد حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973. لكنه ظل يسعى حتى استعاد منصبه ببيروت في منتصف 1976. وعندما استدعي إلى القاهرة بعد سنة رفض العودة، واستقال من الجريدة، ثم التحق بصحيفة يمولها العراقيون، وانتقل منها أخيرا إلى وكالة خاصة للخدمات الصحفية، يديرها صحفي لبناني نشط يدعى نزار بعلبكي.
لم أجد صعوبة في الحصول على رقم تليفون مسكنه من مقر الوكالة. وانتظرته في بهو الفندق حتى جاءني بعد ربع ساعة. تعانقنا بحرارة وكل منا يدرس التغيرات التي طرأت على الآخر. وعلق على لون شعري، بينما نددت بامتلاء جسده والنظارة الطبية التي غطت نصف وجهه، ثم قادني إلى الخارج متجاهلا إشارتي إلى التحذيرات التي وجهت إلي عن أخطار الطريق، قائلا: معي عدة هويات للمواقف المختلفة، ثم إننا لن نذهب بعيدا.
ولجنا بارا في شارع قريب، خلا تماما من الزبائن. وسألني ونحن نجلس: هل ستبقى طويلا؟
قلت: بضعة أيام. على قد فلوسي. - ستنشر شيئا؟ - أجل، كتاب عند عدنان الصباغ. - لكنه ليس الآن في بيروت على ما أظن.
تطلعت إليه في قلق وقلت: لقد تواعدنا على اللقاء هنا يوم الإثنين. هل تظن أن الأحداث الأخيرة يمكن أن تفسد هذا اللقاء؟ - ما حدث شيء عادي يتكرر كل يومين. وقد تعود اللبنانيون على ذلك، وأصبحت الحياة تسير بصورة طبيعية مهما حدث، بل هناك شركة لطائرات الهليكوبتر تنقل الناس عبر المناطق المتحاربة حتى لا تتعطل أعمالهم.
أحضر لنا النادل كأسين من الويسكي. وتطلعت حولي فوجدت أننا ما زلنا الزبائن الوحيدين أسفل الأضواء الخافتة. وكان عامل البار يتبادل حديثا هامسا مع اثنين من زملائه وهم يلتفتون إلى الباب بين الفينة والأخرى.
جاءنا فجأة صوت رصاص متقطع في الخارج. وتوقف الحديث الهامس عند البار. أنصتنا جميعا في رهبة. ومضت بضع دقائق دون أن يتكرر الصوت، فعاد الهمس من جديد في تردد.
سألني وديع: أين تعمل الآن؟
Unknown page