Bayna Jazr Wa Madd
بين الجزر والمد: صفحات في اللغة والآداب والفن والحضارة
Genres
فلماذا نعطيهم ما لا يعطوننا؟ ولماذا نجرد أبناء الشرق من نصيبهم الطبيعي؟
نعم، إن شوارع كثيرة تدعى بأسماء الحوادث التي طرأت على المدينة وبأسماء نفر من المصريين، ولكن آخرين يستحقون الذكر ولا يذكرون، بينا كثير من أسماء الشوارع تدهش وتضحك، وتحمل على التساؤل ما إذا كان رؤساء مصلحة التنظيم من الاستغراق في التأملات الفلسفية بحيث لا يدركون، مثلنا نحن عامة الناس، ما تكنه وتبديه تلك الأسماء من النكتة والمهزلة!
في عالم الألحان
1
لقد أخذ المعهد الموسيقي المصري على عاتقه حملا ليس بالخفيف ، ووضع نصب عينيه غاية محمودة، فلا يسعنا إلا التمني أن «يأخذ الله بناصره» والدعاء له بالعمر الطويل.
قالت صحف الأمس: إن إدارة هذا المعهد ضمت إلى أعضائها حضرة الأب كولانجت وغيره من الملمين بهذا الفن إلماما نظريا أو عمليا، وذلك عين الصواب؛ إذ لا شيء يفيد موسيقانا والولوعين بدرسها مثل احتكاكهم بالموسيقى الغربية والاطلاع على أفكار فناني الإفرنج وأسلوب تمرينهم العقلي واليدوي والاقتباس عنهم.
يعيرنا الغربيون أن ليس في الموسيقى الشرقية أفكار، ولا وصف، ولا تصوير، ولا تصور، ولا أوبرا. سبحان الله! وما حاجتنا يا ترى، نحن ذوي الأعصاب الطروبة الذين يشجينا شدو القصب وتنهد النهر ونوح الحمام، ما حاجتنا إلى اشتباك الألحان وضوضائها؟ نحن نتمنى لموسيقانا أن تظل شرقية محضة، تعبر بأنغامها العميقة الحزينة عن خفايا القلب الشرقي وحنينه ولوعته، وتلمس نفوسنا بترجيعها البسيط فتهتدي فيها إلى مستودع العواطف الشجية وينبوع العبرات السخينة.
إن الموسيقى الغربية رغم كونها «علمية» في طورها الحاضر تحدث مختلف التأثيرات، شرط أن يكون السامع عليما بها أو فاهما ببداهته أنغامها، وإلا كانت جلبة وضجيجا لا يناله منهما غير الصداع الأليم.
على أن أكثر الشرقيين يفهمون موسيقى بلادهم بلا درس ولا استعداد؛ لأن مقاطع ألحانها ساذجة متشابهة، باستثناء المتفرنجين الذين يدعون أن الموسيقى العربية لا معنى لها. وسبب هذا الحكم في الغالب هو تمكنهم من التوقيع - سواء كان ما يوقعون من جيد الموسيقى الإفرنجية أم من رديئها - على البيانو، مع أن تقدير الموسيقى الغربية لا يؤدي إلى إنكار الشرقية، وأصدق برهان على ذلك أن جماعة من كبار الموسيقيين الإفرنج حاولوا اقتباس الألحان الشرقية، وإدخال شيء منها في ما يؤلفون؛ منهم كميل سان سانس الذي ألف لحنا ممزوجا من جملة ألحان مصرية باسم «تذكارات الإسماعيلية»، فضلا عن قطعه الفارسية الكثيرة.
يشعر الإفرنج الذين لم يألفوا ألحاننا بشيء من الغرابة إذ يسمعونها لأول مرة، وقد يتألمون لجدة الأوزان وتنافر الاهتزازات منها وتباطؤ الآهات؛ ذلك لأن السلم في الموسيقى الإفرنجية ينقسم فقط إلى مقامات كاملة وإلى أنصافها، في حين قسم الشرقيون المسافات بين المقامات الأصلية، فكانت عندهم «المسافة الكبيرة» المحتوية على ثلاثة مقامات سموها أرباعا، و«المسافة الصغيرة» المحتوية على ربعين فقط؛ ومن ثم الاهتزازات الدقيقة التي تزعج السمع الغريب في بادئ الأمر. زد على ذلك أن الأصوات الشاذة عندنا كثيرة، وهي لا تندر بين أكبر ملحنينا. وأقول بصراحة: إني لا أعرف بين الذين سمعتهم من الأموات أو الأحياء إلا اثنين أو ثلاثة من ذوي الأصوات الصحيحة، أما الأموات فأشهد فيهم، بهذه الثقة؛ لأني سمعت صوتهم في الفونغراف.
Unknown page