Bayna Jazr Wa Madd
بين الجزر والمد: صفحات في اللغة والآداب والفن والحضارة
Genres
نعم، لم يهتم العرب في ذلك الدور بعلم من العلوم إلا لأن آيات القرآن قضت بمعرفته لاجتلاء معنى غامض، أو شرح قول مستغلق. ومذاهب علماء الكلام هي التي نبهت أبحاث الفلاسفة ومناظراتهم؛ فكانوا بما نقلوا وما أوجدوا أساتذة الفلسفة الحديثة.
سبق القول أن قد اشترك مع العربية لغتان أخريان بكونهما قوميتين نشرتا عقيدة دينية ومذهبا سياسيا بين شعوب مختلفة أي: اليونانية واللاتينية، فقد كانت اللاتينية مستعملة من كمبانيا في إيطاليا الجنوبية إلى الجزر البريطانية، ومن نهر الرين إلى جبل الأطلس. واستعملت اليونانية من أقاصي صقلية إلى شاطئ دجلة والفرات، ومن البحر الأسود إلى تخوم الحبشة. لكن ما أضيقه انتشارا إذا ما قوبل بانتشار العربية التي امتدت إلى إسبانيا وأفريقيا حتى خط الاستواء، وجنوب آسيا وشمالها إلى ما وراء بلاد التتر! أما اللغة الفصحى فقد استولت على جميع أنحاء الشرق الإسلامي، وإن لم تكن لها الغلبة كلغة كلامية على بعض اللغات في الشرق والشمال، فقد أوجدت تبديلا محسوسا في الفارسية، والهندية، والهندستانية، والتركية، ولغات أفريقيا، ولهجات التتر. كذلك في اللغات الحديثة المشتقة من اللاتينية أو المقتبسات منها، كلمات كثيرة ذات أصل عربي .
لقد عدت اليونانية واللاتينية في صف اللغات الميتة منذ سقوط مدنيتيهما، فما الذي حفظ العربية حية بعد زوال مدنية العرب بقرون سبعة؟
إن الذي كان باعثا على تكوين المدنية العربية هو هو الذي ما زال حافظها إلى اليوم: هو القرآن.
لذلك ستظل اللغة العربية حية ما دام الإسلام حيا، وما دام في أنحاء المسكونة ثلاثمائة مليون من البشر يضعون يدهم على القرآن حين يقسمون.
والمجمع اللغوي؟
نعلم أن المجمع اللغوي كان يلتئم كل أسبوعين اثنين في دار الكتب المصرية بدعوة من المدير السابق، وأن هذه الجلسات ظلت تنعقد في الشتاء الماضي حتى جاء الصيف ولفحت لوافحه؛ فانحل المجمع وانطلق «يصطاف» في أشخاص أعضائه الموقرين، على الشاطئ ذي النسيمات العليلات.
ولما انكسرت شوكة الحر ورجع الناس من مصايفهم عاد المجمع إلى الالتئام في دار الكتب، وكل من لجانه تشتغل على حدة لعرض خلاصة أبحاثها على هيئة المجمع. لكن ما كان أن استقال الأستاذ لطفي بك من إدارة المكتبة، وقد مر على هذه الاستقالة شهر دون أن يلتئم المجمع، ودون أن نقرأ عنه في الصحف شيئا.
فأي خطب دهاه؟
يتحمس الناس عندنا لمسألة في بادئ الأمر تحمسا أحسن ما يقال في تعريفه أن الفرنجة ينعتونه «بالشرقي»، حتى إذا ابتعد موجد الفكرة وواضع أسها عن ميدان العمل لسبب من الأسباب، هبط المشروع وتفككت أجزاؤه، كأن لا قيمة للفكرة نفسها ولا أهمية لها إلا بأهمية مروجها ودوام حضوره، في حين ينبغي أن تكون قيمة الرجل من قيمة مشروعه، وأن يكون حضوره وغيابه سيان من حيث التأثير في العمل؛ لأنه يظل في اطراد على كل حال.
Unknown page