Bayna Asad Ifriqi Wa Namir Itali
بين الأسد الأفريقي والنمر الإيطالي: بحث تحليلي تاريخي ونفساني واجتماعي في المشكلة الحبشية الإيطالية
Genres
وكثيرا ما يحدث أن تتخذ الجماعات أو الأمم رجلا عاديا ضئيلا ثم ينسبون إليه من العظمة والجبروت ما هو مستعار من أحوال عصره، وظروف وقته، فيكون الوقت هو الذي أحدثه وشهره، فهو ابن الوقت، وكل ما جرى على يديه هو من فعل الوقت لا من فعله.
وأكثر ما تكون هذه الظاهرة عقيب الفواجع الكبرى في التاريخ كالحروب العظمى، وحلول الحيرة في أذهان الأمم محل الهدوء وحسن النظر، ولا سيما إذا كانت الأمم التي يظهر فيها أمثال هؤلاء الزعماء أو الأبطال خارجة مهزومة من حرب، ومكتومة الأنفاس بفعل أرباب رءوس الأموال، الذين يخشون تفوق المذاهب الاجتماعية الحديثة كالاشتراكية، فهم يموتون في جلودهم خشية توزيع الثروات، أو ضياع أماكنهم الدافئة المطمئنة، فيتشبثون بأهداب أضأل المخلوقات وأضعفها، إذا كان أحد هؤلاء الضعفاء مصبوغا بصبغة المغامرة والمجازفة، أو مطمورا في حفرة اليأس، ويريد هو الآخر أن ينجو بجلده من الفاقة.
وأكثر ما يوجد هذا الصنف من الرجال بين أدعياء السياسة، والمتهالكين على درجات سلم الوصول إلى المال والمنصب، ويكونون عادة من ذوي الأعصاب المنهوكة، والقوى المتداعية، فيدفعهم اليأس والضعف والمرض إلى الاستهتار بالحياة، فيلعبون بالورقة الأخيرة، ويطلقون الخرطوشة الأخيرة، وينزعون القميص الأخير، ويخرجون بالجملة من جلودهم كما تخرج الثعابين والأفاعي ، فيقلبون لذويهم وأصدقائهم بالأمس ظهر المجن، ويتخلون عن المبادئ التي كانوا يقدسونها بالأمس، ليجدوا سندا وعضدا من خصوم اليوم الغابر.
وهؤلاء يجدون فيهم أدوات صالحة لتنفيذ غاياتهم، وما عليهم إلا أن يظهروا لأهل الأمس بالمعاداة والمقارفة والمعاكسة والمشاكسة، ويبادروا أول ما يبادرون إلى إلقاء أصدقاء أمس الدابر في المهالك تحبيسا، وقتلا، واغتيالا، وتحقيرا، ونفيا؛ لأنهم هم الواقفون على أسرارهم، والملمون بأخبارهم، والعالمون بما ظهر وخفي من أمورهم، وفي الأغلب يكون ما خفي هو الأعظم!
ومهما يظهر من الخير على أيدي هؤلاء فإنه وقتي وزائل، كالزرع الذي يختلقه «الحاوي» ينمو لساعته وتحت أبصار النظارة، ويزكو في أرض غير خصبة بغير بذور ولا «تقاو»، ولكنه لا يلبث أن يذوي، ويذبل، ويتلاشى، ويختفي، ويغيب عن أعين المعجبين به، ويتلوه القحط - والعياذ بالله - والخراب!
والحقيقة أنه ما كان عصر من العصور ليخرب ويتلف لو أن أتيح له رجل كبير يجمع بين العقل والتقوى، بين عقل يعرف به حاجة العصر، وعزم يمضي به في إبلاغ العصر حاجته، وفي هذين صلاح العصر وفلاحه، ولكن العصور الحديثة، ولا سيما بعد الحرب الكبرى من 1914 إلى 1935 ظهر أنها عصور ضعيفة واهنة، مصابة بالبلاء والحيرة والشرور والخبائث؛ بسبب علة أذهانها الشاكة المرتابة العاجزة، وأحوالها المختلطة المضطربة، يحدوها سائق الشقاء إلى غاية التلف ... نشبه كل هذا بحطب يابس ميت ينتظر من السماء شهابا يشعله، فإذا ما ظهر نيزك من النيازك الخلابة، التي تخترق الأفق وتنحدر منحرفة، ظنوه ذلك الشهاب الثاقب! وسرعان ما يترامون على وهمه وخياله وصورته، فتضيع عليهم الحياة بآمالها، ويهلكون في أثر هذا الشعاع الكاذب أو سراب النور الخادع.
تأثير الخطب الرنانة والكلام الطنان في مصائب الشعوب
ونحن بلا ريب في جيل قحط وبؤس وجفاف، وحطب يابس، وجحود وكفر وضلال، وهو جيل تسبقه، وتلحقه، وتحدوه، وتعقبه الفتن والثورات التي تكون مملوءة بدلائل الاضمحلال والبلى والخراب، وسقوط الدول في مهاوي الاستبداد، وتدهور الشعوب في مغاور اليأس، وكهوف القنوط؛ ولذا تراهم يتمسكون بأضعف المذاهب، وأوهاها، وأذلها، وأقلها، ويجرون وراء كل صاخب .
فداء الضعف في الجيل ، وفي ضآلته، ومرضه، واعتلاله، واختلاله، واضمحلاله، وانحلاله. هذا هو ما نراه سر الوثنية الإنسانية التي أدت إلى عبادة بعض الأشخاص الذين ألهاهم الجهل وقصر النظر، فأفرطوا في العجب والاندهاش من الشيء أو الشخص حتى يصيرا تقديسا وعبادة.
ويكون اعتماد جميع هؤلاء الزعماء والأبطال على الخطابة للتأثير في أذهان الجماهير، التي يستغويها زخرف القول، وتستهويها عذوبة الألفاظ، وتغرر بها الوعود الخلابة.
Unknown page