Bayna Asad Ifriqi Wa Namir Itali
بين الأسد الأفريقي والنمر الإيطالي: بحث تحليلي تاريخي ونفساني واجتماعي في المشكلة الحبشية الإيطالية
Genres
وإذن لا تكون الهتلرية وليدة الفاشية ولا شقيقتها الصغرى؛ لأن الهتلرية ثمرة التاريخ الحربي والسياسي لألمانيا في القرن التاسع عشر، والربع الأول من القرن العشرين. أما الفاشية فهي فكرة مبتكرة قامت في ذهن رجل واحد ظن أنه يصلح شعبه بتنفيذها، ووجد من نفسه شجاعة وإقداما وعزما، فأثر في نفوس معاصريه من مواطنيه، ولا سيما الشبان منهم، والطامحون إلى الأعمال، والمتلهفون على المجد، والمنتظرون لمنقذ يظهر فجأة في أفق الوطن الذي كان خاليا في تلك الفترة من رجال عظماء، أو ممن لديهم قدرة كافية على التقدم للزعامة.
1
ولما كانت أوروبا بعد الحرب العظمى قد أصبحت نهبا بين الديكتاتوريين (ولا أحب أن أصفهم بالطغاة)، فظهر بريمو دي رفيرا في أسبانيا، وبانجالوس في اليونان، وبلودوسكي في بولونيا، وتحدثوا عن ديكتاتورية مزمعة في فرنسا. وفي ظلال هذه الديكتاتوريات قامت الفاشية، وأضافت إلى قميصها الأسود درع الديكتاتورية الفولاذي.
وقد يجد الباحث في نشأة الفاشية ما يدل على أن الزعيم الإيطالي لم يكن يرمي إلى امتداد النفوذ الفاشي إلى ما وراء الإصلاح الداخلي، الذي كانت إيطاليا في أشد الحاجة إليه عقيب الحرب الكبرى، وابتداء عهد الاشتراكية في شمال إيطاليا.
وقد تمكن الزعيم الإيطالي في مدى عشر سنين من تنفيذ النصيب الأوفر من الإصلاح الداخلي، فأنهض الشعب، وأوجد له مثلا عليا جديدة، وأدخل في روعه أنه سليل أمة مجيدة كانت لها إمبراطورية مترامية الأطراف.
وتضافرت بعض الظروف التي لم تكن في الحسبان، وهي نتيجة الحالة السياسية العامة في أوروبا التي أعقبت الحرب العظمى، فجعلت لإيطاليا مكانة أوشكت أن تضع في يدها ميزان السياسة الدولية، ولا سيما عند ظهور النازي وانتصار الهتلرية. وبعد أن كانت شهرة الفاشية مقصورة على مناهج الإصلاح الداخلي تعدت إلى السياسة الخارجية.
ويظهر أن بعض دول أوروبا تراخت في تأييد نفوذها لانشغالها بالمسائل الخارجية، وجدت مشاكل في الشرق والغرب، مثل: حرب منشوريا، وتفوق اليابان، ورجوع أوروبا في غير وعي إلى سياسة الاتفاقات السرية، ونسي ساستها أنهم عندما أنشئوا عهد عصبة الأمم قضوا على سياسة المعاهدات السرية، وفشل مؤتمر نزع السلاح، وفشل المؤتمر الاقتصادي، وأمست لوكارنو حلما لذيذا، وقضى الموت على سترسمان وبريان - وكانا ضمانا قويا ضد الحرب - وتسلحت ألمانيا، وتزعزعت ثقة عصبة الأمم في نفسها، وانسحبت منها بعض الدول العظمى، وهددت أخرى بالانسحاب، وتلبد جو أوروبا، وظهرت بروق ورعود، وأوشك الميزان أن يختل، واغتال الفوضويون بعض الملوك، وحدثت ثورة اليونان، ومالت النمسا نحو الملكية.
فاشتم العالمون ببواطن الأمور رائحة البارود بعد ثورة النمسا، وأعدت بعض الدول أساطيل هوائية قوية، وكان العالم يتخيل أن مستقبله في السلم والحرب سيكون في الجو لا في البر والبحر،
2
وشعر الزعيم الإيطالي أن هناك فرصة سانحة للحملة الحبشية في خفاء وهدوء؛ لأن العالم مشغول بأمور أخرى غير أفريقيا الشرقية.
Unknown page