أثيرة؟! لو قيلت هذه الكلمة في غير هذا الجو المشبع بالحساسية المكهرب بالشك والحيرة، لمرت دون أن تترك أثرا، أما الآن؟! وعاود النظر في غير قليل من الحرج، فقرأ في عينيها بعض المعاني التي عابثت ظنونه، هل صدق إحساسه؟ وهل يمكن هذا حال استشفاعها لزوجه؟ ولكن كيف يعجب من كان في مثل خبرته بالنساء؟ سيدة لعوب ذات بعل مشلول. وسرت في وجدانه وثبات بهيجة ملأته حرارة وزهوا، ولكن متى نشأت هذه العاطفة؟ أهي قديمة وكانت تتحين الفرص؟ ألم تزر دكانه مرة فلم يند عنها ما يريب ... ولكن الدكان ليس بالمكان الذي تطمئن مثلها إليه في بث هوى مكتم غير مسبوق بتمهيد، كما فعلت زبيدة العالمة، أم هي عاطفة بنت ساعتها وجدت مع الفرصة السانحة في الغرفة الخالية؟ لو صح هذا فهي «زبيدة» أخرى في لباس سيدة مصونة، وليس غريبا أن يجهل أمرها - وهو العليم ببنات الهوى - ما دام يحرص الحرص كله على احترام الجيران احتراما مثاليا، وأيا كان الأمر فكيف يجيبها؟ «أنت آثر عندي مما تظنين؟» قول جميل ولكنها حرية بأن ترى فيه تحية استجابة لدعائها، كلا إنه لا يريد هذا، إنه يأباه كل الإباء، لا لأنه لم يشبع بعد من زبيدة، ولكن لأنه لا يقبل بحال أن يحيد عن مبادئه في تقديس الأعراض عامة، وما يمس الأصدقاء والجيران منها خاصة. لهذا لم تسود صفحته نقطة واحدة يمكن أن يخزى بها أمام صديق أو جار أو أحد من الأطهار على إفراطه في العشق والصبوات، ولم يزل دأبه أن يخاف الله في لهوه كما يخافه في جده فلا يبيح لنفسه إلا ما يراه مباحا أو في حدود الهفوات. لا يعني هذا أنه أوتي إرادة خارقة تعصمه من الأهواء، ولكنه لهج بالهوى المبذول، وصان طرفه عن الحرمات، حتى إنه لم يتعمد النظر إلى وجه امرأة من حيه طوال عمره، على أنه مما يذكر له أنه صد مرة عن هوى متاح رحمة بأحد معارفه؛ إذ جاءه يوما رسول يدعوه إلى لقاء أخت ذاك الرجل - أرملة نصف - في ليلة سماها، فتلقى السيد الدعوة صامتا، وصرف الرسول متلطفا كعادته ثم قاطع الطريق الذي يوجد به البيت أعواما متواصلة. ولعل أم مريم كانت أول تجربة - عرضت لمبادئه - يكابدها بعينيه، ومع أنها أعجبته إلا أنه لم يستجب لنوازع الهوى، وغلب صوت الحكمة والوقار، صائنا سمعته التي يتحدث بها الناس عن موطن المؤاخذة، كأن هذه السمعة الطيبة آثر عنده من اقتناص لذة مواتية، متعزيا في نفس الوقت بما يتاح له من حين لآخر من غراميات مأمونة العواقب. وهذه الروح الراعية للعهد المخلصة للإخوان، لا تزايله حتى في مغاني اللهو والشهوات، فلم يؤخذ عليه أبدا أنه سطا على محظية صاحب أو طمح بطرف إلى خليلة صديق، مؤثرا الصداقة على الأهواء؛ لأنه كما اعتاد أن يقول: «الصديق ود دائم والعشيقة هوى عابر.» ولهذا قنع بانتقاء خليلاته ممن يجدهن بلا خليل، أو ينتظر حتى تنقطع علاقة فينهض لانتهاز فرصته، وأحيانا يستأذن الخليل القديم قبل أن يتودد إلى من كانت خليلته، مواصلا العشق في سرور لا يشوبه الندم، ولا تكدر صفوه إحن النفوس. بمعنى آخر أنه نجح في التوفيق بين «الحيوان» المتهالك على اللذات وبين «الإنسان» المتطلع إلى المبادئ العالية توفيقا ائتلافيا يجمعهما في وحدة منسجمة لا يطغى أحد طرفيها على الآخر، ويستقل كل منهما بحياته الخاصة في يسر وارتياح، كما وفق من قبل في الجمع بين التدين والغواية في وحدة خالية من الإحساس بالذنب والكبت معا، غير أنه لم يكن يصدر في وفائه عن إخلاص مجرد للأخلاق، ولكن - إلى هذا أو قبل هذا - عن رغبته التليدة في أن يظل حائزا للحب متمتعا بالسمعة العطرة، إلى أن غزواته المظفرة في العشق هونت عليه الإعراض عن الحب الموسوم بالخيانة أو النذالة، وفضلا عن هذا وذاك، فإنه لم يعرف الحب الحقيقي الذي كان خليقا بأن يدفعه إلى إحدى اثنتين؛ فإما الإذعان للعاطفة القوية دون مبالاة بالمبادئ، وإما الوقوع في أزمة عاطفية خلقية حادة لم يقدر عليه الاكتواء بنارها. فلم يكن يرى في أم مريم إلا صنفا لذيذا من الطعام لن يضيره - إذا هدده تناوله بسوء الهضم - أن يعدل عنه إلى غيره من الأصناف المأمونة الشهية التي تحفل بها المائدة؛ لذلك أجابها برقة قائلا: شفاعتك مقبولة إن شاء الله وستسمعين ما يسرك عما قريب.
فقامت المرأة وهي تقول: ربنا يكرمك يا سي السيد.
ومدت له يدا بضة فمد لها يده وهو يغض بصره، فخيل إليه - وهي تسلم - أنها ضغطت قليلا على يده، وجعل يتساءل أهذه طريقتها المعتادة في التسليم أم أنها تعمدت الضغط على يده، وحاول أن يتذكر كيفية تسليمها عند استقبالها، ولكن الذاكرة لم تسعفه، وقضى أكثر الوقت الذي سبق عودته إلى الدكان، وهو يفكر في المرأة؛ حديثها، ولينها، وتسليمها.
36 - تيزة حرم المرحوم شوكت تريد مقابلة حضرتك.
رمى السيد خديجة بنظرة حمراء، وصاح بها: لماذا؟!
ولكن أعلنت نبراته الغاضبة ونظراته الثائرة على أنه لم يقصد الوقوف عند مدلول «لماذا»، وكأنه أراد أن يقول لها: «لم أكد أفرغ من وسيط الأمس، حتى جئتني بوسيط جديد اليوم، من قال لك إن هذه الحيل تجوز علي؟ ... كيف تجسرين أنت وإخوتك على المكر بي؟»
واصفر وجه خديجة وهي تقول بصوت متهدج: لا أدري والله.
فحرك رأسه حركة كأنها تقول لها: «بل تدرين وأدري أنا أيضا، ولن يجرك مكرك إلا إلى أوخم العواقب» ثم قال ساخطا: خليها تتفضل، لن أشرب قهوتي براحة بال بعد الآن، أصل حجرتي محكمة وقضاة وشهود، وهذه هي الراحة التي أجدها في بيتي، لعنة الله عليكم أجمعين!
اختفت خديجة قبل أن يتم كلامه كما يختفي الفأر إذا قرعت سمعه قرقعة، وظل السيد لحظات متجهما حانقا، حتى خطرت على ذهنه صورة خديجة، وهي تنسحب خائفة، فعثرت قدمها بقبقابه وكاد رأسها يصطدم بالباب، فارتسمت على شفتيه ابتسامة إشفاق مسحت غضبته المتعسفة، وقطرت على صدره عطفا، يا لهم من أطفال يأبون أن ينسوا أمهم ولو دقيقة واحدة، واتجه بصره إلى الباب وهو يتهيأ لاستقبال الزائرة بوجه انبسطت أساريره كأنه لم يصب غضبه منذ ثوان على فكرة زيارتها، ولكن لم يكن له حيلة فيما يركبه من غضب - وهو في بيته - لأتفه الأسباب، أو بلا سبب على الإطلاق، وفضلا عن هذا كله كان للقادمة منزلة خاصة، لا يرتقي إليها أحد من النساء اللاتي يترددن على البيت من حين لآخر، حرم المرحوم شوكت، والمرحوم شوكت من قبل، أسرة ارتبطت مع أسرته بآصرة الود الخالص من عهد الجدود، كان للراحل منزلة الأب من نفسه، ولم تزل أرملته عنده - وعند أسرته بالتبعية - بمنزلة الأم، هي التي خطبت له أمينة بنفسها، وتلقت أبناءه بيديها وهم يستقبلون نور الدنيا، وإلى هذا كله فآل شوكت أناس صداقتهم شرف، لا لأصلهم التركي فحسب، ولكن لمرتبتهم الاجتماعية وعقاراتهم الكثيرة ما بين الحمزاوي وبين الصورين، فإذا كان السيد من أوساط الطبقة الوسطى فهم من أهل القمة فيها بلا جدال. ولعل الأمومة التي تشعر بها المرأة له، ويشعر بها لها هي التي جعلته يقف من شفاعتها المنتظرة موقف التهيب والحرج، فليست هي بالتي تلتزم الاحترام في مخاطبته، ولا بالتي تتعب في استعطافه، فضلا عما عرفت به من صراحة جارحة لها مبرراتها من شيخوختها ومكانتها معا، أجل ليست هي ...
وأمسك عن أفكاره لدى سماعه وقع خطواتها، ثم نهض وهو يقول بترحيب: أهلا وسهلا، زارنا النبي.
Unknown page