كانت هذه الساعة من أسعد أوقات الأم، بيد أن إشفاقها من شر الأعين على رجالها لم يقف عند حد، فلم تكن تمسك عن تلاوة:
ومن شر حاسد إذا حسد
حتى يغيبوا عن عينيها.
5
وغادرت الأم المشربية وتبعتها خديجة، على حين تلكأت عائشة حتى خلا لها الجو، فانتقلت إلى جانب المشربية المطل على بين القصرين ومدت بصرها من ثقوب الشباك في اهتمام ولهفة. بدا من لمعة عينيها وعضها على شفتيها أنها تنتظر. ولم يطل بها الانتظار فقد مرق من عطفة الخرنفش ضابط بوليس شاب، ومضى مقبلا متمهلا في طريقه إلى قسم الجمالية، عند ذلك غادرت الفتاة المشربية في عجلة إلى حجرة الاستقبال، واتجهت إلى نافذتها الجانبية، وأدارت أكرتها ففرجت مصراعيها عن زيق ووقفت وراءه وقلبها يبعث ضربات بالغة العنف من العاطفة والخوف معا. ولما اقترب الضابط من البيت رفع عينيه في حذر دون أن يرفع رأسه - فلم يكن أحد يرفع رأسه في مصر وقتذاك - فأضاءت أساريره بنور ابتسامة متوارية انعكست على وجه الفتاة إشراقة موردة بالحياء فتنهدت ... ثم أغلقت النافذة وهي تشد عليها بعصبية - كأنها تخفي آثار جريمة دامية - وتراجعت عنها مغمضة العينين من شدة الانفعال، فأسلمت نفسها إلى مقعد، وأسندت رأسها إلى يدها وساحت في جو مشاعرها اللانهائي. لم تكن سعادة خالصة ولم يكن خوفا خالصا، كان قلبها موزعا بين هذا وتلك فهما يتجاذبانه بلا رحمة، إذا استنامت إلى نشوة الفرح وسحره قرعت قلبها مطرقة الخوف محذرة موعدة، فلا تدري أيجمل بها أن تقلع عن مغامرتها أم تتمادى في مطاوعة قلبها، كلا الحب والخوف شديد، ولبثت في تهويمها كثيرا أو قليلا، فاستكنت هواتف الخوف والتأنيب، ومضت تنعم بسكرة الحلم في ظل سلام، وذكرت - كما يلذ لها أن تذكر دائما - كيف كانت تنفض الستارة المسدلة على النافذة يوما فلاحت منها نظرة إلى الطريق من النافذة التي فتحت نصف فتحة لطرد الغبار، فوقعت عليه وهو يتطلع إلى وجهها في دهشة مقرونة بالإعجاب، فتراجعت فيما يشبه الذعر، ولكنه لم يذهب قبل أن يترك في مخيلتها أثرا باقيا من منظر نجمته الذهبية وشريطه الأحمر، منظر يخلب اللب ويسرق الخيال، فظل يتخايل لعينيها طويلا، وفي نفس الساعة من اليوم التالي - والأيام التالية - راحت تقف وراء الخصاص دون أن يراها، ولمست في فرحة ظافرة كيف يتطلع بعينيه إلى النافذة المغلقة باهتمام وتشوق، ثم كيف أخذ يستبين شبحها وراء الخصاص فتشع أساريره ضياء البهجة، وقلبها المشبوب - الذي يتمطى مستيقظا لأول مرة - ينتظر هذه اللحظة في لهفة ويذوقها في سعادة ويودعها فيما يشبه الحلم، حتى دار الشهر وعاد يوم التنفيض مرة أخرى، فانبرت إلى الستارة تنفضها وراء النافذة المواربة متعمدة - هذه المرة - أن ترى، وهكذا يوما بعد يوم، وشهرا بعد شهر، حتى غلب التعطش للمزيد من الحب الخوف الجاثم، فخطت خطوة - جنونية - وفرجت مصراعي النافذة، ووقفت وراءها وقلبها يبعث ضربات بالغة العنف من العاطفة والخوف معا، كأنها تعلن حبها له، بل كانت كمن يقذف بنفسه من علو ساحق ليتقي نارا مستعرة تحيط به. •••
استكنت عواطف الخوف والتأنيب ومضت تنعم بسكرة الحلم في ظل سلام، ثم أفاقت من حلمها، وصممت على أن تتحامى الخوف الذي ينغص عليها صفوها فجعلت تقول لنفسها استدرارا للطمأنينة: «لم تزلزل الأرض ومر كل شيء بسلام، لم يرني أحد ولن يراني أحد، ثم إني لم أقترف إثما!» ونهضت قائمة، ولكي توهم نفسها يخلو البال ترنمت - وهي تغادر الحجرة - بصوت عذب: «يا أبو الشريط الأحمر يا للي أسرتني ارحم ذلي.» ورددتها مرة ومرة حتى جاءها صوت أختها خديجة من حجرة الطعام وهي تزعق في تهكم: يا ست منيرة يا مهدية، تفضلي، أعدت لك خادمتك السفرة.
وأثابها صوت أختها إلى نفسها تماما فيما يشبه الرجة، فهوت من عالم المثال إلى عالم الواقع مرتعبة بعض الشيء لسبب غير ظاهر - ما دام كل شيء قد مر بسلام كما قالت لنفسها - ولكن اعتراض صوت أختها - بالذات - لغنائها وخواطرها أرعبها، ربما لأن خديجة كانت تقف منها موقف المنتقد، بيد أنها طاردت هذا القلق الطارئ وأجابتها بضحكة مقتضبة، ثم جرت إلى حجرة الطعام فوجدت السماط معدا حقا وأمها مقبلة بالصينية. وقالت لها خديجة بحدة حال دخولها: تتلكئين بعيدا حتى أعد كل شيء وحدي ... كفاية لنا الغناء.
ومع أنها كانت تتلطف معها في الحديث تفاديا من حدة لسانها، إلا أن إصرار الأخرى على قرصها بلسانها كلما سنحت فرصة جعلها تتعلق أحيانا بإغاظتها، فقالت مصطنعة الجد: ألم نتفق على تقسيم العمل بيننا في البيت؟ فعليك هذا الواجب وعلي الغناء.
فنظرت خديجة إلى أمها وقالت متهكمة وهي تعني الأخرى: يمكن ناوية تكون عالمة!
ولم تغضب عائشة، وبالعكس قالت باهتمام مصطنع أيضا: وما له! ... أنا صوتي كالكروان.
Unknown page