ورأى ساعدها قريبا من فيه، فزهد في النقاش وقرب منه شفتيه رويدا، حتى غاصتا في لحمه الطري، فتطاير منه إلى أنفه رائحة قرنفلية ذات طعم حلو، ثم تنهد مغمغما: إلى الغد؟!
فتخلصت من يده مقاومة من ناحيته هذه المرة، وحدقت إليه طويلا ثم ابتسمت وتمتمت:
عصفوري يا امه عصفوري
لألعب وأوري له أموري
وجعلت تردد: «عصفوري يا امه» مرات وهي تودعه، وغادر السيد الحجرة وهو يردد مطلع الأغنية بصوت منخفض ملؤه الوقار والرزانة كأنما يستخبر الألفاظ عما وراءها من معان.
16
كان ما يطلق عليه بهو الحفلات ببيت العالمة زبيدة يتوسط الدار كالصالة، أو كأن الصالة بالفعل استجدت لها أغراض أخرى. ولعل أهم أغراضه أنها كانت تقوم فيه - هي وجوقتها - بالتجارب الغنائية وحفظ الأغاني الجديدة، وقد اختارته لبعده عن الطريق العام بما يفصل بينهما من حجرات النوم والاستقبال. وجعله اتساعه - إلى هذا - صالحا لإحياء الحفلات الخاصة التي تتراوح عادة بين الزار والغناء، والتي تدعو إليها الخاصة من أصدقائها ومعارفهم المقربين. ولم يكن الباعث على هذه الحفلات أريحية كرم فحسب - إن كان ثمة كرم على الإطلاق فإنه غالبا ما ينهض بأعبائها الأصدقاء أنفسهم - ولكنها رمت من ورائها إلى الإكثار من الأصدقاء الممتازين الخليقين بأن يدعوها لإحياء الحفلات أو يقوموا لها بالدعاية النافعة في الأوساط التي يتقلبون فيها، ومن بينهم - إلى هذا كله - تنتقي الخليل بعد الخليل. وجاء دور السيد أحمد عبد الجواد ليشرف البهو السعيد محاطا بالخاصة من معارفه. والحق أنه تبدى عن نشاط جم عقب المقابلة الجريئة التي تمت بينه وبين زبيدة في بيتها، فسرعان ما حمل رسله كريم الهدايا من النقل والحلوى والهدايا ... إلى مدفأة أوصى على صنعها ونقشها وطليها بالفضة لتكون - جميعا - عربونا للمودة المقبلة، ففي لقاء هذا دعته السلطانة، تاركة له الخيار في دعوة من يشاء من أصدقائه، إلى حفلة تعارف تكريما للحب الجديد - ولشد ما كان البهو موسوما بطابع بلدي جذاب بكنباته المتلاصقة المزركشة الناعمة الموحية بالنفاسة والخلاعة، الممتدة على الجانبين حتى الصدر، حيث يقوم ديوان الست تكتنفه الشلت والوسائد المعدة للجوقة، أما أرضه المستطيلة فمفروشة بسجاد متعدد الألوان والشكول، وعلى كنصول يتوسط الجناح الأيمن - كالشامة رواء وصفاء - أوقدت الشموع منغرسة في الفنايير، غير مصباح ضخم يتدلى من قمة منور يتوسط سقف الحجرة ذي منافذ على سطح الدار تفتح في الليالي الدافئة وتغلق بأضلاف زجاجية في ليالي البرد.
جلست زبيدة متربعة على الديوان وإلى يمينها زنوبة العوادة ربيبتها، وإلى يسارها عبده عازف القانون الضرير، واستوت النسوة جلوسا عن يمين وشمال ما بين ممسكة بالدف، أو ماسحة على الدربكة أو عابثة بالصنج. وآثرت السلطانة السيد أحمد بأول مجلس في الجناح الأيمن، واتخذ الباقون من صحبه مجالسهم بلا كلفة كأنهم أصحاب الدار، ولا عجب فلم يكن الجو بالجديد عليهم، ولا السلطانة بالتي يرونها لأول مرة، وقدم السيد أحمد أصحابه إلى العالمة مبتدئا بالسيد علي بائع الدقيق، فضحكت زبيدة قائلة: ليس السيد علي بالغريب فقد أحييت فرح كريمته في العام الماضي ...
ثم ثنى بالسيد تاجر النحاس، ولما رماه أحدهم بأنه من رواد بمبة كشر بادر الرجل قائلا: وجئت تائبا يا ست.
وتتابع التعارف حتى تم، ثم جاءت الجارية جلجل بأقداح الشراب ودارت على المدعوين، ومضت النفوس تستشعر حيوية مشبعة بالأريحية والمرح، وبدا السيد عريس الحفلة بلا منازع، بهذا دعاه الأصدقاء، وبهذا شعر في أعماقه، وقد وجد لذلك بادئ الأمر لونا من الارتباك قل أن يلم به، فداراه بالإسراف في الضحك والمرح، حتى إذا أخذ في الشراب زايله بلا عناء، فاستعاد طمأنينته واندمج في الطرب بكل قلبه. وجعل كلما لج به الشوق - والأشواق في مغاني الطرب تثار - يمد بصره إلى سلطانة المجلس بنهم فيتلكأ ناظره عند طيات جسمها المكتنز، فطاب قلبا بما أفاء عليه الحظ من نعمة، وهنأ نفسه على ما يترقبها من لذيذ المسرات، هذه الليلة والليالي الأخريات: «عند الامتحان يكرم المرء أو يهان. هذا التصريح الذي تحديتها به، يجب أن أكون عند كلمتي، أية امرأة هي يا ترى، وأي مدى مداها، سأعرف الحقيقة في الساعة المناسبة ثم ألبس لكل حال لبوسها؛ لكي تضمن الانتصار على غريم ينبغي أن تفترض فيه الغاية من المناعة والبأس. لن أحيد عن شعاري القديم وهو أن أجعل من لذتي أنا مطلبا ثانويا، ومن لذتها هي الهدف والنهاية، وبذلك تتحقق لذتي على أكمل وجه.» ومع أن السيد لم يخبر من ألوان الحب - على وفرة مغامراته - إلا الحب العضوي وحب اللحم والدم، إلا أنه تدرج في اعتناقه إلى أرق صوره وأنقاها، فلم يكن حيوانا بحتا ولكنه إلى حيوانيته وهب لطافة إحساس ورهافة شعور وولع مغلغل بالغناء والطرب، فسما بالشهوة إلى أسمى ما يمكن أن تسمو إليه في مجالها العضوي. بهذه البواعث العضوية وحدها تزوج أول مرة ثم ثاني مرة، أجل أثرت عاطفته الزوجية - بكرور الأيام - بعناصر جديدة هادئة من المودة والألفة، ولكنها ظلت في جوهرها جسدية شهوانية، ولما كانت عاطفة من هذا النوع - خاصة إذا أوتيت قوة متجددة وحيوية دافقة - لا يمكن أن تستنيم إلى لون واحد، فقد انطلق في مذاهب العشق والهوى كالثور الهائج، كلما دعته صبوة استجاب لها في نشوة وحماس. لم ير في أية امرأة إلا جسدا، ولكنه لم يكن يحني هامته لهذا الجسد حتى يجده خليقا حقا بأن يرى ويلمس ويشم ويذاق ويسمع، شهوة نعم ولكنها ليست وحشية ولا عمياء، بل هذبتها صنعة، ووجهها فن فاتخذت لها من الطرب والفكاهة والبشاشة جوا وإطارا. فلم يكن أشبه بشهوته من جسمه، فهو مثلها في الضخامة والقوة اللتين توحيان بالقسوة والوحشية، ولكنه - مثلها أيضا - فيما ينطوي عليه في أعماقه من لطف ورقة ومودة على ما يتسربل به أحيانا متعمدا من الصرامة والشدة؛ ولذلك فلم يتركز خياله النشيط - وهو يلتهم السلطانة بنظراته - في المضاجعة ونحوها، ولكنه تاه - إلى هذا - في أفانين من أحلام اللهو واللعب والغناء والسمر. وأحست زبيدة بحرارة عينيه فقالت تخاطبه وهي تقلب عينيها في وجوه المدعوين بعجب ودلال: حسبك يا عريس، هلا استحييت حيال رفاقك!
Unknown page