الفصل الثاني
إن القادم لباريس يدهش لكثرة ما يرى من المناظر البهيجة، وكأنه حين يأتي هذه العاصمة ينتقل من عالم إلى عالم أسمى، فيقف عند كل شيء وقفة المفتتن، وينظر لكل منظر نظرة المعجب على أن نظره لا يلبث أن يألف رؤية الغرائب، فيود لو يكون عاشقا يتهادى مع معشوقته في غابة بولونيا.
نبض دمي نبضا لم أشعر بمثله حين لمست ريتا يدي، وحسبت أني أحبها وأنها تحبني.
وفي اليوم الثالث لوصولي استأجرت غرفة في شارع لافييت، وجعلت دراهمي قسمين: قسما للغرفة والملابس، وقسما للنفقة.
وفي اليوم الثاني لدخولي البنك بدأت في العمل الذي في عهدتي على أحسن ما يرام، وكان الجميع مسرورين من اجتهادي، ولا سيما لامبون رئيس القسم الذي كنت فيه.
لما توفى الله لامبون بكيت عليه؛ لأنه كان يحبني، ولامبون هذا كان أقدم مستخدمي البنك، وكان البارون يعتمد عليه في معضلات الأمور، ويثق به تمام الثقة، وحين كانت الظروف تدعوه إلى التغيب عن البنك كان يقيمه مقامه، فيدبر شئونه على أحسن ما يكون.
وكان في مدة حياته يميل إلي فولعت به، وكنت أمازحه بقدر ما يسمح الأدب، ويجيزه تفاوت العمر، وقد طالما أكلنا معا، وتنزهنا في الغابات على مجاري المياه.
وبينما كنا ذات يوم نتناول الطعام في بيته قال: ما قولك في أكلة شهية في غابات جوانفيل؟ فقلت: خير ما يشتهى على بخيل.
فقال للسائق سر بنا إلى محطة فنسين، ومن هناك إلى نوجان، ثم نقطع المرن ماشين؛ لأن بالمشي تزداد شهوتنا للطعام، فسارت بنا العربة على ميسرة نهر المرن، حتى بلغت نوجان، ومنها سرنا ماشين إلى جوانفيل، فمن يعلم كم تحدثنا على الطريق وكم أنشدنا؟
وكانت سماء ذاك اليوم صافية، ونسيمه عطرا، وفي الرقيع غيوم رقيقة مفوفة كالقطن المندوف، تطوف فيه متئدة من فوق أشجار البساتين وأزهار الرياض، وكنا في تلك الآجام المظلة نسمع الأنغام والأغاني الغرامية، وأصوات القبل التي كان الشبان يختلسونها على غفلة من الغادات، والقبل التي كانت الغادات تستردها من الشبان كذلك، ونسمع صوت الرقص والضحك، ووقع أقدام العشاق ... فهناك الحياة الحقيقية وهناك السعادة الحية.
Unknown page