أنا لم أقابل حكماء كثيرين في حياتي، ولكني رأيت بعضهم. وأغرب شيء أنهم كانوا دائما أناسا سذجا لا خبرة لهم بالحياة، ولا يعرفون عن البشر إلا أنهم كائنات عليا سامية، وإن لم تكن كذلك فيجب أن تكون كذلك. وأنا لم أقابل في حياتي مجرمين كثيرين، ولكني قابلت بعضهم، قابلت قتلة ولصوصا وتجار مخدرات ونساء ليل، وكان الواحد منهم أو الواحدة منهن أكثر فهما للحياة والأحياء من كل من قابلت من فلاسفة وحكماء؛ فهؤلاء العصاة يحبون الحياة ويرون الناس رأي العين، ويحتكون بهم احتكاك الرجل بالرجل والإنسان بالإنسان، أما هؤلاء الفلاسفة والحكماء فقد وجدتهم لا يرون إلا ما في رءوسهم، وإذا حدث وقابل أحدهم إنسانا لا يراه، ولكنه يرى ما يتخيله هو عنه.
إنها مشكلة! فإذا كانت البشرية قد عانت الأمرين من العصاة أنبياء الرذيلة، فهي قد عانت - وربما بدرجة أكبر - من أنبياء الفضيلة، وإذا كانت جريمة الأولين أنهم يبشرون بحيوانية الإنسان، فجريمة الآخرين لا تقل عنها بشاعة؛ إذ هم يبشرون بما هو أسخف من الحيوان، بالإنسان السامي الكامل، باللاإنسان. وإذا كانت حكمة الأولين مدمرة؛ لأنها قريبة إلى الغرائز سهلة التنفيذ، فحكمة الآخرين لا تقل عنها دمارا؛ لأنها خيالية مستحيلة التنفيذ، تترك الإنسان حائرا تائها عاجزا ناقما على نفسه، وكلتا الحكمتين مدمر؛ لأنه ما من شيء يغل الإنسان ويوقفه ويجعله يدور حول نفسه قدر إحساسه بالذنب. وكلتا الحكمتين تولدان إحساسا عظيما بالذنب، الأولى لأنه نفذها، والثانية لأنه يفشل في تنفيذها.
وطوال جلستي مع لورا كنت نبيا من أنبياء الفضيلة. أسمعها تتحدث عن مضايقات أبيها وأمها لها، فأقول: يجب عليك أن تفعلي كذا وكيت. وأراها تتحرق رغبة في أن أنهي جلستي المستريحة وأبدأ معها حديثا آخر، فأزجرها بيني وبين نفسي وأؤنبها على تلك الرغبة غير المشروعة بين زميلين، وأزداد تأنيبا لها بأن أحدثها حديثا طويلا عن كفاحنا ونجاحاتنا، ووجوب مضاعفة الجهود وقيادة الشعب في معركة حريته الفاصلة.
وكانت تستمع لكلامي وتهز رأسها علامة الموافقة السريعة المتحمسة على كل كلمة أقولها، وتبتلع ريقها في خجل كالمؤمنة التي انساقت وراء أهوائها حين يذكرها أحدهم بوجود الله.
وفجأة أحس بوضعها ومشكلتها والرغبة التي تؤرقها، ويغلبني شعوري كإنسان فأغافل نفسي وأحاول أن أنظر إليها كفتاة ذات قامة فارعة وسيقان كأنها من صنع مثال، ولحظتها فقط أدرك مدى خطورة حالتي وموقفي، لحظتها أدرك أني أحب سانتي، أحبها حبا هائلا يملأ علي كل نفسي ولا يدع مجالا حتى لنظرة غير محبة للاستطلاع ألقيها على فتاة جميلة كلورا، وأنا معها وحيدا في مكان مغلق خال.
ومضى وقت، وشعرت أن الموقف قد تجمد، ولم يعد هناك جديد يضاف، فقمت وانصرفنا.
وفي اليوم التالي جاءت سانتي، قابلتها بابتسامة اعتذار ضخمة، وسبقتها وقلت إني آسف أنها جاءت بالأمس ولم تجدني.
فقالت: لا يهم.
قالتها وواضح عليها أنها غير مهتمة، ولم أستطع رغم كل محاولاتي أن أعرف إن كان عدم اهتمامها هذا تمثيلا، أم إنه عدم اهتمام حقيقي. وقالت لي إن هناك حفلة موسيقية في قاعة «أيوارت» لعازف البيانو المشهور جورج تملي، وأرتني تذكرتين، وقالت بابتسامة وبلا اهتمام كبير: أتأتي؟
وكأنما خافت أن أرفض، فلم تلبث أن قالت وقد استعادت طريقتها المتحمسة الماكرة المملوءة بالروعة: معي تذكرة زيادة كما ترى.
Unknown page