ولكني لست أذكر بالضبط متى أو لماذا بدأ ينتابني ذلك الشعور، ولكني وأنا في قمة سعادتي معها بدأت أحس وكأني أفقت لثوان قليلة من حلم، فوجدتها زميلة معركة ووجدت أني أرتكب حماقة، لا لأني كنت أخطئ أو لأن ما أفعله أشياء تتنافى مع الزمالة أو المعركة، ولكن لأن الطريق التي كنت أسمح لنفسي بالسير فيه كان طريقا ممكن أن يؤدي إلى الانحراف والضلال، وإن بدا أوله بريئا ليس فيه ما يخجل، وأظنني وجمت أو كنت أضحك وآبت ضحكتي إلى سكوت مفاجئ؛ فقد نظرت إلي بعينيها الواسعتين السوداوين وفيهما حيرة وقلق وقالت: ما بك؟
قلت: لا شيء.
وأكملت الضحكة.
وحين كنت أغادرها في ذلك اليوم كانت نقط سوداء دقيقة كرءوس الدبابيس تغزو إحساسي الواسع بالنشوة والسعادة. •••
وكان اللقاء الثالث مهما؛ فقد كان اللقاء الذي يجب علينا أن نفترق فيه؛ إذ كنت قد ناقشت موضوعها مع شوقي رئيس التحرير، واقترحت عليه أن باستطاعتنا أن نجعلها تعمل في الترجمة وتشارك في الإشراف على قسم المرأة والطفل، وهز شوقي رأسه بطريقة أدركت معها أنه لا يقيم وزنا كبيرا لاقتراحاتي وإن بدا موافقا عليها كل الموافقة، وأدركت أيضا أنه قد يكون لديه خططه الخاصة للاستفادة بمجهودها ومجهود زميلتها، كل ما قاله لي أن طلب مني أن أحدد لهما موعدا يلتقيان فيه به، وأترك التصرف له.
ولأمر ما لم أكن أعتقد - حتى قبل أن ألقاها - أن لقاءنا هذا سيكون اللقاء الأخير. لماذا؟ لأني كنت متأكدا من هذا، هي التي أكدته لي، لم تؤكد لي بكلامها؛ فكلامنا - كما قلت - لم يكن قد تعدى حدود المعرفة التي تزداد متانتها يوما بعد يوم، ولكنها قطعا لن تتعدى الحدود، معرفة كانت تضطرني لأن أناديها بلقبها وتناديني بلقبي، وأسلم عليها وأمشي بجوارها أو أجلس معها وأنا مؤدب جدا، أعاملها وكأني في حضرة مجتمع كامل يحصي علي حركاتي وسكناتي.
ولكن تلك كانت معاملتنا الظاهرة وحديثنا الظاهر، وأهم من ذلك الحديث وأوقع، أهم من اللسان كان الإحساس، الترمومتر الدقيق الذي لا يخطئ أبدا؛ فقد تقول لك المرأة نعم، وتحس أنها تقول لا، وحينئذ لا تعاملها أنت على أنها تقول نعم. إنك هكذا وبطريقة تلقائية محضة تعاملها بهذا الإحساس الذي يخامرك تجاهها.
كنت قد أحسست أنها تقترب مني مثلما أقترب منها، وأنها معجبة بي مثلما أنا معجب بها، ولم يكن إحساسي يستند على غير أساس، ولكنه أساس لا يمكن قوله أو حكايته أو التعبير عنه، التصرفات والكلمات الكبيرة الواضحة المحددة المعالم هي فقط التي يمكن أن تحكيها أو تقولها، ولكن كيف تستطيع أن تحكي ما يصاحب تلك التصرفات والكلمات، الأشياء الدقيقة التي لا تظهر إلا لتتلاشى، وإذا تلاشت فلا تستطيع مهما حاولت أن تعيدها إلى الوجود بمسميات أو ألفاظ؟ كلمة أشكرك مثلا كلمة محددة تعبر عن تصرف محدد ممكن التعبير عنه وتصوره، ولكن الطريقة التي تقال بها ... لمعة العين التي قالتها ومقدارها ووجهتها. مكان خروجها وهل جاءت من طرف اللسان أم صدرت عن الأعماق، نوع الصوت الذي تقال به ورنينه ومداه، السرعة التي قيلت بها والوقفات التي جاءت أثناء حروفها، وتسبيلة الجفن التي نتبعها أو قد تسبقها أو قد لا تحدث أبدا، تلك الأشياء الدقيقة التي لا تكفي كل الحواس لاستقبالها، وليس الذكاء وحده هو الذي يترقبها ويدركها.
تلك الأشياء كانت قد أكدت لي أنها هي الأخرى لن تقبل أن تنقطع علاقتنا.
ولهذا كان اللقاء الثالث مهما.
Unknown page