وقد يحاول البعض أن يفسر هذا على ضوء علم النفس المضحك ويقول إني كنت معقدا، وإني كنت أعاني من عقدة القبيح الذي يحاول أن يثبت لنفسه أنه وسيم بإيقاع أكبر عدد من النساء، وأي تفسيرات أخرى تقال - وقد تكون صحيحة - ولكن هل تلغي تفسيرات كهذه الحقيقة البسيطة التي تقول إن الرجل بعد أن يقول لنفسه: هذه هي فعلا من أريد، لا بد أن يعود ويقول لنفسه: ما دام الأمر كذلك فعليك بها، أوقعها؟
4
ولم يكن إيقاع سانتي بالأمر السهل.
لم يكن سهلا أبدا أن أتخطى بقفزة واحدة حواجز منيعة تكاد تعادل تلك التي تقوم بين الإنسان وأخته، حواجز الزمالة والعمل المشترك. ولكني كنت أعتمد على الزمن ونمو العلاقة والتأكد بشكل قاطع أنها على الأقل راضية؛ ولهذا حين وجدتها تنتظرني تلك الساعات الطوال وتتلهف على قدومي اعتبرت ذلك الانتظار برهانا أكيدا على اهتمامها الشديد بي وقربها مني. وما يكاد الإنسان يعثر على برهان أكيد أو أرض صلبة مثل تلك حتى تتوالى الشواهد. وهكذا وجدت في مجيئها كل يوم رغبة، وفي قطعها كل تلك المسافات بين بيتها وبيتي واقتحامها ذلك الحي الشعبي الذي أقطن فيه، واحتمالها لنظرات الممرضة وأصحاب الدكاكين المتراصة على الناصيتين، رأيت في هذه كلها شواهد جديدة تثبت لي على الأقل أن رغبتها في لا تقل عن رغبتي فيها.
وزادني هذا ثقة بنفسي، وبالأرض التي أقف عليها.
ثم إن كلام الممرضة كان قد جعلني أبدأ أتأمل سانتي، وأجد أنها كفتاة وكأنثى تكاد، لولا مبالغتي في تقديرها، أن تكون عادية لا يحق لي أن أستكثرها على نفسي، بل حتى من الممكن أن أعتبر أن لي أنا الآخر مزايا يمكن أن تكون غير عادية، وتضاعف رصيد الثقة في نفسي.
وكان هذا مهما؛ فمجرد سؤالنا لأنفسنا: ترى هل نستطيع؟ مجرد السؤال بداية شك في قدرتنا وثقتنا بأنفسنا، وما لم تتدعم تلك الثقة فلن نستطيع الاقتراب خطوة. وهكذا أصبحت سانتي بكل أحاديثها ووجهها المعبر المسمسم وروحها شيئا آخر ما لم تعد ندا أخافه وأخشاه وأعمل حسابا كبيرا لكل خطوة أخطوها ناحيته. أصبحت فريسة جمدتها في مكاني وما علي سوى أن أمد يدي وأتناولها.
وأنا لا أزعم أني كنت أفكر في هذا وأحلله وأتصرف على أساسه. إننا في أمثال تلك المواقف نسمع ونرى ونحس ونقدر، ثم يهدينا تفكيرنا إلى أنسب التصرفات دون تحليل أو تمحيص.
وقالت لي سانتي يوما في أواخر جلسة لنا: رأيت فرقة الأوبرا الإيطالية؟ ولم أكن قد رأيتها أبدا. وحدثتني كثيرا عنها، وأخبرتني أنها تذهب مساء كل يوم لرؤيتها، وأن لديها «أبونيه» لمؤخر الصالة، ورقم كرسيها الدائم 71. وطبعا أبديت حماسا كبيرا لأن أذهب معها في مساء نفس اليوم، واتفقنا على أن نلتقي هناك، وأن علي أن أحاول العثور على كرسي بجوارها.
وأغرب شيء أني بذلت جهود المستميت للحصول على التذكرة، وحصلت عليها ودخلت وأنا لا أعرف «الأوبرا» التي كانت ستعرض في مساء ذلك اليوم، ولا أدري إن كانت «ريجوليتو» أم «عايدة». ودخلت، ومن بين مئات الوجوه المزدحمة في مؤخر الصالة لمحت وجهها الأبيض المحمر النحيف الدقيق الملامح، وأهم من هذا لمحتها تبحث بعينيها في لهفة، وكان من المؤكد أنها تبحث عني وقد قرب موعد رفع الستار. وحين رأتني احتلت وجهها كله ابتسامة رضا وفرح، كادت تكون أعذب وأمتع ابتسامة رضاء لمحتها في حياتي.
Unknown page