وحقيقة صغيرة أخرى كان لها دور في عودتي؛ فأن أمتنع أنا عن التدخين شيء، أما أن تمنعني أنت بالقوة الغاشمة عنه فمسألة أخرى، وإغلاق المجلة والقبض على فتحي سالم واستمرار عمليات القبض والاعتقال. هذا المنع بالقوة والإرغام فيه امتهان لقدرتنا على الإرادة والاختيار، وأي امتهان للتفكير والإرادة لا يمكن إلا أن يقابل بالتحدي ويفرض للإرادة. إنك لا يمكن أن تحرم النملة، أصغر الكائنات، من إرادتها، كما لا يمكنك أن تمنعها من روح الحياة التي تدفعها للحركة والتناسل والبحث عن الطعام، فكيف باستطاعتك أن تمنع الإنسان، أعظم الكائنات وأقواها، من روح حياته، من إرادته، إنك مهما فعلت وخيل إليك أنك انتصرت، فأقصى ما يمكن أن تكون قد فعلته هو أن تكون قد أجبرت الكائن الحي الإنسان على أن يسلك طريقا قد لا يحب هو سلوكه، ولكنه يفعل هذا فقط ليثبت إرادته ووجوده، لكيلا يحس أن إرادة أخرى قد سيطرت عليه؛ فالموت عنده أهون من إحساس كهذا.
إلى أن فوجئت في يوم بأعجب خبر! ولا أذكر من قاله لي، هل هو شوقي؟ هل هو عطوة؟ هل سمعته همسات تتردد على ألسنة بعض الصحفيين؟
كان البارودي قد أفرج عنه.
أية مفاجأة مذهلة؟
مفاجأة دفعتني لأن أصغي رغما عني إلى الهمسات التي راحت تدور على ألسنة بعض الأفراد في ذلك العالم الخافت الأضواء، ولم تكن هذه أول همسات أسمعها عن البارودي؛ فمنذ عرفته واسمه يقرن على الدوام بقائمة طويلة من الألقاب والتهم: الانتهازي، عميل الرجعية، الخائن، الذي يعمل لحساب أقلام المخابرات الاستعمارية ... إلخ، إلخ.
وكانت اتهامات كهذه تتساقط كأوراق المهملات قبل أن تصل إلى أذني؛ إذ كنت أعزو معظمها إلى حقد شخصي على البارودي باعتباره أذكى العاملين تحت الأرض وأكثرهم قدرة على استعمال عقله ووعيه، بل كنت آخذها على أنها نوع من التقدير المعكوس، ولكن بعد ذلك الصراع غير المنظور الذي دار بيني وبينه حول رئاسة التحرير، وإصراره بطريقة غير معقولة على أن يظل هو الرئيس، وبعد ردنا عليه ورده علينا بدأ تقديري له يقل؛ فأن نضبط العبقري في موقف لا يقفه إلا الأغبياء أو غير المخلصين مسألة لا تدفعك للاعتقاد بأنه «أخطأ» كما يخطئ غيره من الناس، ولكنها تفسر على أنه يفعل هذا عن عمد، وأن وراء «خطئه» الظاهر هدفا ذكيا خبيثا. وهكذا لم تتساقط الهمسات التي رحت أسمعها تعليقا على خبر إطلاق سراحه في ذلك الوقت بالذات تساقط الأورق المهملة، بدأت أصغي لها وأفكر فيها. همسات منها أن البارودي خارج من السجن لأن وزير الداخلية في ذلك الوقت ساومه، ومنها أنه أخرج ليكون أداة في يد الوزارة تستعملها للقضاء على التيار الثوري الجديد الذي أصبح يسيطر على المجلة بعده، وعشرات غيرها من الاحتمالات والتأويلات. وكنت أستمع إليها غير مستغرب؛ فلدى اعتقال أي فرد من أفراد ذلك العالم أو الإفراج عنه دائما ما كانت تصاحب أيا من العمليتين إشاعات وأقاويل واتهامات يثبت في معظم الأحيان بطلانها، وفي أحيان قليلة جدا تثبت صحتها، ولكن أحدا لا يسلم منها.
وحين كنت في المطبعة أصحح العمود الأسبوعي، ودق التليفون وقالوا لي إن شوقي يطلبني؛ كان الخبر لا يزال طازجا وما زلت أقلبه على وجوهه، وأهم من هذا أني كنت في شوق شديد للقاء البارودي مهما تكن الحالة التي خرج عليها. كان خبر الإفراج قد دفعني دفعا لمراجعة تلك الفترات الباهرة من حياتي التي عملت معه فيها، وعلاقتنا الطويلة الغريبة التي بدأت ذات مساء في منزل شوقي، والأيام التي كنت أحمل عنه فيها كل ما معه من أوراق سرية خطيرة وأمشي بجواره أو بعيدا عنه، حتى إذا دهمه البوليس في الطريق لم يجد معه شيئا، وأفعل هذا غير مكترث أبدا لخطورة ما أفعله؛ كنت مستعدا أيامها أن أفقد رأسي إذا طلب مني هذا. وحتى فترة خلافنا والصراع الذي نشب بيننا وبينه بدت لي باهتة شديدة البهوت وكأنها لم تحدث أبدا؛ فقد كنت حقيقة أعارضه وأختلف معه ولكني أفعل هذا بروح غير المتأكد تماما من صحة رأيه، وحتى لو كنت متأكدا من صحة رأيي فلو كنت قد خيرت بين رأيي الصحيح ورأيه الخطأ لاخترت رأيه؛ لاعتقادي أن خطأه قد يكون وراءه حكمة تخفى علي.
أمسكت بالسماعة وأنا على يقين أن شوقي سيخبرني عن شيء خاص بالبارودي، وفعلا أخبرني شوقي أن أملي قد أصبح قاب قوسين أو أدنى من التحقيق، وأنه سيقيم احتفالا صغيرا بمناسبة خروج البارودي من السجن، وأن علي أن أذهب إلى المنزل الجديد الذي انتقل إليه في الساعة الثامنة، وقلت له: والبارودي سيكون هناك؟
قال: طبعا طبعا.
وفي ذلك المساء، في السابعة والنصف كنت آخذ طريقي إلى بيت شوقي الذي اختاره في تلك البقعة شبه المهجورة الكائنة في نهاية حدائق شبرا.
Unknown page