وعدت إلى البيت في التاسعة مساء متعبا منهكا حزينا، غير أني فوجئت بأعجب شيء؛ فقد وجدت النور مضاء في شقتي، والشقة كنت أقطنها وحدي ولها مفتاحان: واحد معي والآخر مع أم الطلبة، وأم الطلبة تعبير لا أدري من أطلقه على أم عمر، فذهب مثلا. والواقع أنه كان لا يخلو من حق؛ فأم عمر أرملة صعيدية خشنة المظهر والصوت والسواعد ، عمرها تاه فيه الحاسبون، ولكنه لا يمكن أن يقل عن الخمسين، ومع هذا فقد كان لها عنفوان رجال الصعيد وأمانتهم. كان أكبر غسيل لا يأخذ من يديها القويتين أكثر من ربع ساعة، وأضخم شقة تنظفها وتمسحها إذا احتاج الأمر تلحسها في دقائق؛ ولهذا فقد كان من الطبيعي جدا أن توزع طاقتها الجهنمية؛ فكانت تعمل في وقت واحد عند أكثر من عشرة من الطلبة الأغراب الذين يسكنون بمفردهم، كل واحد منهم أو كل اثنين في حجرة، بل قيل إن عدد من تعمل لديهم غير معروف؛ فهي تحتفظ به سرا حتى لا يطلع أحد على إيرادها، ذلك الإيراد الذي زعم البعض أنه يكفي لشراء عمارة أو عدة فدادين، وبعد أن تخرجت وسكنت في تلك الشقة في بولاق، وتخيلت أني انتهيت من أم الطلبة وحياتهم وشظفها، فوجئت بها ذات يوم تطرق على الباب كالقدر المحتوم وتعاتبني بشدة على أني هربت منها، وهكذا وضعتني أمام الأمر الواقع، واضطررت أن أعود لاستخدامها.
عدت كما قلت فوجدت الشقة مضاءة، وفتحت باحتراس فوجدت أم الطلبة جالسة على كرسي في الصالة جلسة كادت تميتني من الضحك - فتلك أول مرة كنت أراها فيها جالسة على كرسي - وكانت جلسة غريبة ما في ذلك شك؛ فقد كانت جالسة وكأنها غير مطمئنة أبدا إلى هذا الشيء ذي الأرجل الأربع الذي من المحتمل جدا أن يسقط قاعه، جالسة وكأنها تعاني من أزمة أو من إمساك. وقبل أن أفتح فمي وجدتها تنتصب واقفة وتقول بصراخها الطبيعي: تعملها فينا يا بوي وتسيب المزمازيه إكديه!
ولم تكن «المزمازيه» غير سانتي التي ما كادت تراني حتى هبت واقفة منزعجة تسألني عما حدث، وعن سبب غيابي الطويل.
وردت إلي الروح.
وبينما كنت أحكي لها بكلمات مشتتة مختصرة كل ما حدث، كانت فرحة غامرة تجتاحني؛ إذ أدركت لحظتها أني أستطيع أن أقف في مكاني ثابتا ممتلئا بالاطمئنان والثقة، وأنها سائرة بخطى واسعة في طريقها إلي، ويوم وصولها قريب.
وقد تبدو حادثة بسيطة كهذه شيئا تافها، ولكن معناها ظل يضطرم في نفسي طوال ليلتها، وأنا راقد في الفراش محموم تلك الحمى النفسية التي لا تعتري الإنسان إلا في لحظات خاطفة من حياته، اللحظات التي يحس فيها بالسعادة شيئا ماديا ملموسا يمور في جسده ويؤججه ويتقلب على دفئه.
وكان اليوم التالي يوما من الأيام التي لا تأتي سانتي فيها، ولكني لم أفاجأ كثيرا حين وجدت الباب يدق في الثالثة والنصف، ووجدتها هي الطارقة، بل لم أفاجأ أيضا حين أصبحت تأتي كل يوم تقريبا، لم أعد أفاجأ أو أضطرب أو أتكلف، بل أصبحت مستمتعا غاية المتعة بذلك الموقف الذي كنت أقفه، الموقف الذي لم يكن علي فيه إلا أن أثبت في مكاني ولا أتحرك، وأنتظر تاركا نفسي على سجيتها وأنا ضامن أن كل تصرف من تصرفاتي حيالها سيكون مقبولا ومحبوبا ومرادا، وأني قد أصبحت السيد.
غير أنه يبدو أن مفاجآت من نوع آخر هي التي كانت تنتظرني؛ إذ بدأت ممرضة المستوصف المجاور لشقتي تغير من كثرة تردد سانتي، قالت لي وأنا صاعد في السلم ذات يوم وهي هابطة عندما حاولت مداعبتها: اوعى كده.
ولم أتراجع، ووقفنا نتحدث وأنا أتحين الفرصة المناسبة وأعود لمداعبتها، ولكنها في النهاية قالت وفي ملامحها اشمئزاز مصطنع: ما تروح أحسن لحتة الخوجاية بتاعتك اللي بتجيلك كل يوم، أنا عارفة بتحبوهم على إيه؟ دي مشيتها حتى زي مشية شيتا.
وأكملت صعود السلم وأنا في كلام البنت التي لا أذكر اسمها، والذي كل ما أذكره عنها أنني ما كدت أعرف أن مستوصفا سيفتح في الشقة التي خلت بجوار شقتي حتى بدأت أفكر في التعزيل فورا، ولكن كسلي ومشقة التعزيل حالتا دون تنفيذ رغبتي، وأصبح كل همي أن أتحايل على نفسي لإقناعها بفوائد وجود مستوصف بجواري، فوائد ليس أقلها وجود ممرضة جميلة فيه، ولكني حين رأيتها خاب أملي؛ فلم تكن أكثر أو أقل من مصرية قصيرة القامة، قمحية، وجهها مشرب بحمرة وبحب شباب، وكانت أحيانا تأتي إلى المستوصف مرتدية ملاءة لف وحينئذ كانت تبدو أحلى وأجمل، وفي أحيان أخرى كانت تأتي وهي مرتدية «جونلة وجيب» لم يكن من المستبعد أبدا أن تكون هي التي صنعتهما لنفسها.
Unknown page