وما لبثت الحجرة أن احتوتنا نحن الثلاثة، سانتي التي أحبها، ولورا التي تحبني. سانتي التي أريدها ولورا التي تريدني. سانتي التي لا أعرف ماذا يدور في عقلها، ولورا التي كان يلفحني لهيب الغيرة البدائية الذي تشعه نظراتها. أنا أراقب كل همسة من حركات سانتي وأقوالها، ولورا تراقب كل همسة من حركاتي أو حركات سانتي، وأنا الحائر المتسائل بحق عمره وحياته لأعرف ما هو رأي سانتي في هذا كله.
بل لكي أعرفه تعمدت أن أنكش لورا، والواقع لا أستطيع أن أحدد أنني كنت السبب أم أن لورا تعمدت أن تثبت ملكيتها لي أمام سانتي وبالمرة تغيظها حين جرى الحديث إلى قصة والديها ومصر الجديدة، ولمحت لورا بما يفهم منه أنها قضت ليلة الأمس، وليلة الأمس بالذات عندي، وأنها لهذا وقعت في ورطة وتطلب مني إنقاذها.
وبمثل ما يغفر الحب إساءة للحبيب، بمثل ما نكره أي شيء من اللاحبيب. قد كرهت لورا وورطتها ووالديها والساعة التي عرفتها فيها ودللتها على بيتي، خاصة وكل ما حدث لسانتي حين أدركت الورطة وما تعنيه أنها هزت رأسها في جمود وتخابث، وهمهمت همهمات لم أعرف إن كانت همهمات غيرة أم همهمات اشمئزاز.
ولم أنقذ لورا ولا حتى أبديت أي استعداد لإنقاذها، ولم أتبين أية غيرة جدية في عيني سانتي. وحرصت لورا على أن تنتحل المعاذير لتبقى، وجاء وقت انصرافهما، وقامت لورا فلحقتها سانتي ومضيا معا، وأغلقت الباب وعدت إلى الحجرة.
عدت وأنا أقول لنفسي: لماذا لا تترك هذا كله وتثوب إلى رشدك؟ لماذا لا تضرب عرض الحائط بسانتي ولورا والمجلة وكل هذا العمل الذي لا طائل من ورائه؟ لماذا لا تقوم بأي عمل آخر ترضى عنه أنت وتحس أنه أكثر جدية وفاعلية؟ لماذا تغرق نفسك إلى أذنك في تلك الدوامة التي تختنق فيها بإرادتك بكل إرادتك، لماذا؟
16
والإجابة على ثورتي لم تأتني لحظتها. كانت الإجابة تأتي أحيانا في شكل خوف شديد من الفشل، وكأني غامرت بكل حياتي على علاقتي بسانتي، وكأنها إن لم تحبني أو إن لم تكن تحبني فمعنى هذا ألا فائدة مني ومن رجولتي بل من وجودي نفسه، وكنت شديد الثقة بنفسي أومن إيمانا كاملا بأن لا بد لي أن أنجح مثلما لا بد لي أن أعيش أو أتنفس. إذا لم تكن الحياة نجاحا فلا كانت الحياة. حتى وأنا أخوض أية تجربة فاشلة لا بد أن أنجح فيها، وإذا لم يكن بد من الفشل فليكن الفشل بإرادتي أنا. أما أن أفشل رغما عني، أما أن تهزمني الحياة أو تهزمني سانتي، فما فائدة حياتي وأنا مهزوم؟ شاب قوي ممتلئ بالثقة في العالم وفي نفسه يكتسح الدنيا بناظريه ويقول الحياة هي النجاح والفشل هو الموت. سني خمسة وعشرون عاما، ومعركتي الجدية مع العالم لم تكد تبدأ، بالكاد بدأت أحس أني أخوضها حين عرفت سانتي. وحبي لها لم يكن في الواقع حبا خالصا لها، كان أيضا وقبل كل شيء حبا لحياتي أنا نفسها وتعلقا بحياتي أنا نفسها، وإصرارا على أن أحيا وأن أنجح.
حتى وأنا أعلم أن الإصرار والعناد قد يصلح في أي شيء إلا في الحب، كنت مصرا أيضا على نجاحي في هذا الميدان الذي لا يصلح له الإصرار، مصرا على نجاحي وكأن النجاح عمري؛ فالموت عندي كان أهون من الفشل. أعظم فشل يصيبني كان في نظري فشلي مع سانتي.
ولم يمض سوى يومين، وجاء الأحد، وجاء الصباح وظهرت الأهرام والمصري والأخبار والإثنين ولم تظهر مجلتنا، لأول مرة منذ شهور كان يحدث هذا. وأنا ذاهب في الصباح إلى الورش كنت أتطلع وأسأل فلا أجدها معلقة فوق الأكشاك، ويهز الباعة رءوسهم نفيا وأسفا، وبالكاد مكثت في المكتب ساعة، وحوالي العاشرة كنت في بيت شوقي أتعاون أنا وزوجته على إعادة الحياة إلى جسده النائم؛ فلم يكن نومه نوما، كان وفاة مؤكدة تحدث له بين الثالثة والرابعة من صباح كل يوم ولا تعود إليه الروح إلا هناك قرب الظهر أو أحيانا بعده، وأكثر من ساعة لا بد أن يمضيها في مواء ورفس وتحديق أجوف في السقف والوجوه التي حوله قبل أن يعود الوعي إلى رأسه، وكان أول سؤال وجهته له عن المجلة، وأجابني بمواء وإشاحة وكأني أطلب منه أن يعيد على مسامعي قصة أبو زيد وقد رواها ألف مرة، ولم أهدأ إلا حين عرفت منه بالضبط ما حدث، ولم يكن قد حدث شيء كثير، كانت موارد المجلة قد نضبت والخوف قد تولى إنقاص عدد القراء إلى درجة لم يكن مستغربا أن تتوقف معها عن الصدور يوما ما، وجاء ذلك الأحد ومنعهم صاحب المطبعة من دخولها وانتشروا في القاهرة كلها ليجمعوا الثمن، ولكنهم عادوا بوفاض خال، ومتى حدث هذا كله؟ في الوقت الذي كنت جالسا فيه بين سانتي ولورا.
وقلت لشوقي: وبعد؟
Unknown page