الجزء الاول
مقدمة عامة
كتاب البيان والتبيين من أضخم مؤلفات الجاحظ، وهو يلي كتاب الحيوان من حيث الحجم ويربو على سائر كتبه. وإذا كان كتاب الحيوان يعالج موضوعا علميا فإن كتاب البيان والتبيين ينصب على معالجة موضوع أدبي. ولكن الجاحظ في هذين الكتابين، شأنه في جميع كتبه، ينحو منحى فلسفيا. فهو لا يقتصر في كتاب الحيوان على أخبار الحيوانات وخصالها وطباعها، بل يتطرق إلى موضوعات فلسفية كالكمون والتولد، والجواهر والأعراض، والجزء الذي لا يتجزأ، والمجوسية والدهرية الخ. وفي كتاب البيان والتبيين لا يكتفي بعرض منتخبات أدبية من خطب ورسائل وأحاديث وأشعار، بل يحاول وضع أسس علم البيان وفلسفة اللغة.
إن إبراز هذه الناحية الفلسفية في آثار الجاحظ هو الذي حداني على تأليف كتاب «المناحي الفلسفية عند الجاحظ»، وإعادة النظر في رسائله العديدة وإخراجها في طبعة جديدة تضمها جميعا، وتمتاز بتبويب دقيق ومقدمات وشروحات وافية. وهو الذي يحفزني الآن على إعادة طبع كتاب البيان والتبيين. لقد طبع هذا الأثر الثمين مرارا، وخير تلك الطبعات تم على يدي
1 / 5
حسن السندوبي، وعبد السلام هارون. وقد بذلا مشكورين جهدا في التحقيق والشرح والفهرسة. ولكنهما أغفلا ناحيتين هما المنحى الفلسفي والتبويب. أما المنحى الفلسفي فسأعالجه في المقدمة والشرح. وأما التبويب فأعني به تجزئة الكتاب ووضع عناوين لموضوعاته وفقره. إن العناوين التي نلفيها في الطبعات السابقة قاصرة، ولا تنطبق في معظمها على الموضوعات التي يدور حولها الكلام، وهي على الأرجح من وضع النساخ الذين قبسوها من بداية الفقر.
وأما تجزئة الكتاب فلم يقطع بها بشكل نهائي ومنطقي. لقد قسمه السندوبي ثلاثة أجزاء، وقسمه عبد السلام هارون أربعة وترجح بين تقسيم المؤلف، وتقسيم المصنف، ويعنى به الناسخ أحمد بن سلامة بن سالم المعري، الذي فرغ من عمله سنة ثلاث وثمانين وستماية هجرية، فأثبت الاثنين معا: فالجزء الثاني ذو بدايتين، بداية أولى حسب تجزئة المؤلف أي الجاحظ، وبداية ثانية حسب تجزئة المصنف، وبينهما ٢٠٧ صفحات فقط. أما الجزء الثالث فقد اتفق المؤلف والمصنف والمحقق في بدايته ولكن المحقق انفرد عنهما بأن اجتزأ نحو مائة صفحة من آخره وجعلها جزءا رابعا مع الفهارس.
والواقع أن الجاحظ جعل الكتاب في ثلاثة أجزاء، والدليل على ذلك أنه ابتدأ كلا من الجزء الثاني والثالث بعبارة تعلن بدايته وانتهاء سابقه. فالجزء الثاني يبدأ بالعبارة التالية: «أردنا أبقاك الله أن نبتدئ صدر هذا الجزء الثاني من البيان والتبيين بالرد على الشعوبية في طعنهم على خطباء العرب وملوكهم ...» .
وفي مطلع الجزء الثالث نلفي العبارة التالية المماثلة: «هذا أبقاك الله الجزء الثالث من القول في البيان والتبيين ...» . ولقد اعتمدنا على هذا الدليل الواضح والتزمنا بتجزئة المؤلف وقسمنا الكتاب ثلاثة أجزاء.
ويعني الجاحظ بالبيان الدلالة على المعنى، وبالتبيين الإيضاح. وقد عرف الكتاب خير تعريف بقوله الوارد في مطلع الجزء الثالث: «هذا أبقاك الله
1 / 6
الجزء الثالث من القول في البيان والتبيين، وما شابه ذلك من غرر الأحاديث، وشاكله من عيون الخطب، ومن الفقر المستحسنة، والنتف المستخرجة، والمقطعات المتخيرة، وبعض ما يجوز في ذلك من أشعار المذاكرة والجوابات المنتخبة» .
وهكذا نلفي في كل جزء من أجزاء الكتاب الثلاثة بحثا في البيان والتبيين، ومجموعات من الأحاديث والخطب والمقطعات والجوابات والأشعار.
ولقد التزم الجاحظ هذا التصميم وقصد إليه قصدا ليجنب القارىء الملل أو السأم بتنويع الموضوعات. وقد عبّر عن ذلك بقوله: «وجه التدبير في الكتاب إذا طال أن يداوي مؤلفه نشاط القارىء له، ويسوقه إلى حظه بالاحتيال له، فمن ذلك أن يخرجه من شيء إلى شيء ومن باب إلى باب، بعد أن لا يخرجه من ذلك الفن، ومن جمهور ذلك العلم» «١» .
بهذا برر الجاحظ طرقه الموضوعات ذاتها في كل جزء من أجزاء الكتاب. فموضوع علم البيان وفلسفة اللغة توزع على الأجزاء الثلاثة: في الجزء الأول تحدث عن مفهوم البيان وأنواعه، وآفات اللسان، والبلاغة والفصاحة. وفي الجزء الثاني تحدث عن الخطابة وطبقات الشعراء. وفي الجزء الثالث تكلم على أصل اللغة وقيمة الشعر. وفي كل جزء من الأجزاء الثلاثة أورد أبو عثمان منتخبات من كلام الأبيناء، خطبا ومقطعات وأحاديث ورسائل وأشعارا، نسبها إلى مختلف طبقات الناس: عقلاء وحمقى، نساك ومتهتكين، أعراب ومتحضرين، رؤساء وسوقة. وإذا سئل الجاحظ: لم لم تجمع كلامك على البيان وفلسفة اللغة في مكان واحد من الكتاب؟ ولم لم تضم أخبار الزهاد والنساك وأقوالهم في باب واحد ولم وزعت أخبار النوكى وأقوالهم على الأجزاء الثلاثة، ولم عدت إلى الكلام على الخطابة والخطباء مرارا وبعثرت خطبهم هنا وهناك الخ ردد صاحبنا الجواب ذاته واعتل بالعلة ذاتها.
1 / 7
ألّف الجاحظ كتاب البيان والتبيين (القسم الأول منه) في الفترة التي اتصل فيها بالقاضي أحمد بن أبي دؤاد المعتزلي النزعة (بعد ٢٣٢ هـ) ونال عليه جائزة سنية تبلغ خمسة آلاف دينار، وأتمه بعد انتقاله إلى البصرة عند ما طعن في السن «١» . وقد شرع بتأليفه بعد كتاب الحيوان كما يتضح من كلام الجاحظ ذاته حيث يقول: «كانت العادة في كتاب الحيوان أن أجعل في كل مصحف من مصاحفه عشر ورقات من مقطعات الأعراب ونوادر الأشعار لما ذكرت عجبك بذلك فأحببت أن يكون حظ هذا الكتاب من ذلك أوفر إن شاء الله» «٢» .
ويلاحظ أن الجاحظ تناول موضوع البيان في مقدمة الحيوان والجزء الأول من البيان والتبيين مرددا الأفكار ذاتها، وإذا كانت مقدمة «الحيوان» كتبت بعد الفراغ من تأليفه فهل يعني ذلك أنه طرق الموضوع على عجل في مقدمة «الحيوان» ثم استأنف التوسع فيه في «البيان والتبيين»؟.
مهما كان من أمر فقد جاء كتاب البيان والتبيين استجابة لاهتمام العرب في ذلك العصر بصناعة الكلام لأن الكلام هو الوسيلة المثلى لنشر المبادىء السياسية والعقائد الدينية في زمن كثرت المذاهب واشتد الصراع بين زعمائها واحتدم الجدل بين أنصارها. فمست الحاجة إلى التمرس بالخطابة والمناظرة وإلى وضع أصول لها تتعلم أو يرجع إليها. وقد أشار الجاحظ إلى النشاط الذي بدأ يبذل في تعليم أسس الخطابة حيث يقول: «مرّ بشر بن المعتمر بإبراهيم بن جبلة بن مخرمة السكوني الخطيب، وهو يعلم فتيانهم الخطابة، فوقف بشر، فظن إبراهيم أنه إنما وقف ليستفيد أو ليكون رجلا في النظارة، فقال بشر:
اضربوا عما قال صفحا واطووا عنه كشحا، ثم دفع إليهم صحيفة من تحبيره وتنميقه» «٣» . كما أشار إلى حاجة المتكلم الماسة إلى البيان لأنه مضطر
1 / 8
للاحتجاج على أرباب النحل وزعماء الملل وأنه لا بد له من مقارعة الأبطال ومن الخطب الطوال «١» .
وقد يخطر على الذهن افتراض آخر وهو محاكاة الجاحظ أرسطو في معالجة هذا الموضوع. لقد بحث أرسطو في الحيوان فجاء الجاحظ يطرق الموضوع ذاته، وبحث أرسطو في الخطابة وفي الشعر، فهل أراد الجاحظ معارضته في هذا المضمار أيضا؟ من الثابت أن كلا الرجلين بحثا الموضوع ذاته، ولكن الخلاف بينهما في الآراء والمنهج كبير. ولم يكن الجاحظ من المعجبين بأرسطو، وقد انتقده مرارا في كتاب الحيوان وفي كتاب الحيوان وفي كتاب البيان والتبيين. لنسمعه يقول عن أرسطو: «ولليونان فلسفة وصناعة منطق، وكان صاحب المنطق نفسه بكيء اللسان غير موصوف بالبيان مع علمه بتمييز الكلام وتفصيله ومعانيه وبخصائصه ...» . أضف إلى ذلك أنه لم يذكر أنه اطلع على كتاب الخطابة لأرسطو أو على كتاب الشعر، بينما ذكر كتاب الحيوان لأرسطو مرارا عديدة.
لقد تكلم الجاحظ على صفات الخطيب مثل أرسطو ولكنه اهتم على عكس أرسطو بظاهره ولم يحفل بباطنه وأخلاقه. ورأى أن أهم صفات الخطيب جهارة الصوت وسعة الفم ورباطة الجأش وسكون الجوارح وقلة اللحظ، وأبشع عيوبه العي أو الحصر ثم اللثغة واللحن واللكنة والتشديق والتقعيب والتزيد.
وتحدث على غرار أرسطو عن أنواع الخطب ولكنه لم يتعمق في ذلك كأرسطو واكتفى بذكر بعضها دون توقف مثل خطبة المحافل، وخطبة النكاح، وخطبة الوعظ.
وبحث في بناء الخطبة كأرسطو، ولكنه اقتصر على الناحية الفنية ولم يحفل بالناحية الفكرية. فلاحظ أن الخطبة تكون طويلة أو قصيرة، وتبدأ بالتحميد والتمجيد وإلا عدت بتراء، وتوشح بآي القرآن وإلا سميت شوهاء.
1 / 9
وأسهب في الكلام على شرط البلاغة في الخطبة وهي تعني إبلاغ المعنى إلى السامع بكلام واضح فصيح موافق لمقتضى الحال.
بيد أن الجاحظ طرق ناحية لم يحفل بها أرسطو هي الموازنة بين الموهبة الخطابية عند مختلف الأمم. وقد رأى أن العرب أخطب الأمم قاطبة لحضور بديهتهم وزرابة لسانهم وفطرتهم المطبوعة.
وتنبه إلى مكانة الخطيب الخطيرة التي بدأت ترتفع منذ العصر الأموي بينما أخذت مكانة الشاعر تنحط. وعزا سبب ذلك إلى اتخاذ الشعر مطية للتكسب وإلى تعاظم شأن الخطابة للحاجة إليها ولمعالجتها أمورا سياسية ودينية خطيرة. وأوضح رأيه بقوله: «كان الشاعر في الجاهلية يقدم على الخطيب لفرط حاجتهم إلى الشعر الذي يقيد عليهم مآثرهم ويضخم شأنهم ويهول على عدوهم ومن غزاهم، ويهيب في فرسانهم ويخوف من كثرة عددهم ويهابهم شاعر غيرهم فيراقب شاعرهم. فلما كثر الشعر والشعراء واتخذوا الشعر مكسبة ورحلوا إلى السوقة وتسرعوا إلى أعراض الناس صار الخطيب عندهم فوق الشاعر ...» «١» .
وثمة سبب آخر دعا المتكلمين إلى الاهتمام بعلم البيان واللغة العربية لأن اللغة العربية لغة القرآن الذي ينطوي على الوحي والشريعه وعليه مدار أبحاثهم، وعلى قدر تضلعهم منها يكون إدراكهم لمعاني القرآن وتمكنهم من تأويل آياته وقد عبر الجاحظ عن هذه الناحية بقوله: «فللعرب أمثال وانتقادات وأبنية، وموضع كلام يدل عندهم على معانيهم وإرادتهم. ولتلك الألفاظ مواضع أخر ولها حينئذ دلالات أخر. فمن لم يعرفها جهل تأويل الكتاب والسنة والشاهد والمثل، فإذا نظر في الكلام وفي ضروب من العلم وليس هو من أهل هذا الشأن هلك وأهلك» «٢» .
1 / 10
ونستطيع إضافة سبب آخر حمل الجاحظ على وضع «البيان والتبيين» هو الرد على الشعوبية التي طعنت في بلاغة العرب وموهبتهم الخطابية. وقد كرس لهذه الغاية قسما لا بأس به من الكتاب (باب العصا في الجزء الثالث) .
ويمكننا القول إن كتاب البيان والتبيين أقدم وأهم محاولة لدراسة علم البيان وفلسفة اللغة. ويعتبر الجاحظ رائدا في هذا المضمار لمن جاء بعده أمثال ابن فارس وابن جني والسيوطي. وقد سبق فرديناد دي سوسر إلى القول بأن فقه اللغة يجب أن يكون فرعا من علم أوسع يشتمل على مختلف أنواع الدلالات سماه الجاحظ علم البيان حيث يقول: «والبيان اسم جامع لكل شيء كشف لك قناع المعنى، وهتك الحجاب دون الضمير، حتى يفضي السامع إلى حقيقته ويهجم على محصوله، كائنا ما كان ذلك البيان، ومن أي جنس كان الدليل، لأن مدار الأمر والغاية التي يجري القائل والسامع إنما هو الفهم والإفهام. فبأي شيء بلغت الأفهام وأوضحت عن المعنى، فذلك هو البيان في ذلك الموضع» «١» .
وقد حصر الجاحظ أنواع البيان بخمسة لا تزيد ولا تنقص هي اللفظ والإشارة والعقد والخط والحال.
وهو يعتبر الإشارة بالجوارح كاليد والطرف والحاجب مرفقا كبيرا يعين الناس في أمور يحاولون سترها عن البعض دون البعض. ولولاها لم يستطيعوا التفاهم في معنى خاص الخاص «٢» .
أما الخط أو الكتابة فهو وسيلة التبيين في الكتب، ونقل المعرفة عبر الزمان والمكان، ولولاه لا ندثر العلم. ومن ثم كانت أهمية الكتب وأفضليتها لأن الكتاب يدرس في كل زمان ومكان بينما لا يعدو اللسان سامعه «٣» .
1 / 11
ولا يقل الحساب أهمية عن الخط، وبه تعرف منازل القمر والشمس والنجوم وعدد السنين والأيام الخ.
أما النصبة فهي الحال الناطقة بغير اللفظ والمشيرة بغير اليد. وذلك ظاهر في خلق السماوات والأرض، وفي كل صامت وناطق وجامد ونام ومقيم وظاعن وزائد وناقص. فالدلالة التي في الموات الجامد كالدلالة التي في الحيوان الناطق، فالصامت ناطق من جهة الدلالة، والعجماء معربة من جهة البرهان» «١» .
بقي اللفظ، أهم وسائل البيان، وقد تحدث عنه الجاحظ بإسهاب ودرسه دراسة عميقة شاملة.
وقوام اللفظ الصوت، فكل لفظة تتألف من مجموعة مقاطع، وكل مقطع يتألف من مجموعة حروف، وكل حرف عبارة عن صوت. والصوت ينتج عن حركات اللسان في الفم. يقول الجاحظ موضحا ذلك: «والصوت هو آلة اللفظ والجوهر الذي يقوم به التقطيع وبه يوجد التأليف، ولن تكون حركات اللسان لفظا ولا كلاما موزونا أو منشورا إلا بظهور الصوت، ولا تكون الحروف كلاما إلا بالتقطيع والتأليف» «٢» .
ويعتني الجاحظ بملاحظة العلل التي تعتري البيان وأهمها الحبسة واللثغة واللكنة واللحن.
والحبسة عقدة تصيب اللسان فلا يستطيع المرء النطق بسهولة، ويثقل عليه الكلام، فينتج عن ذلك عدم القدرة على التعبير جيدا عن أفكاره وإفهام الآخرين. وكان موسى يعاني من هذه العقدة فسأل الله حين بعثه إلى فرعون بإبلاغ رسالته أن يحل تلك العقدة التي كانت في لسانه أو الحبسة التي كانت في بيانه «٣» .
1 / 12
أما اللثغة فأكثر شيوعا وأقبح مظهرا، وتقوم بإبدال حرف بحرف آخر، وقد أحصى الجاحظ الحروف التي تدخلها اللثغة فوجدها أربعة هي القاف والسين واللام والراء. فاللثغة التي تعرض للقاف يجعل صاحبها القاف طاء فيقول طلت بدل قلت. واللثغة التي تعرض للسين يجعل صاحبها السين ثاء، فيقول: أبو يكثوم بدل أبي يكسوم، ويقول بثم الله بدل باسم الله. أما اللثغة التي تقع في اللام، فيجعل بعض أصحابها اللام ياء ويقول اعتييت بدل اعتللت، وجمي بدل جمل. ويجعل بعضهم الآخر اللام كافا فيقول مكعكة في هذا بدل ما العلة في هذا. وأما اللثغة التي تقع في الراء فتتم بأربعة أحرف هي الياء والغين والذال والطاء. ويقول أصحابها عمي بدل عمرو، أو يقول عمغ بدل عمرو، أو يقول مذة بدل مرة، أو يقول مظة بدل مرة «١» .
واللكنة هي إدخال حروف العجم في حروف العرب. وهي علة تقع للأعاجم الذين يتكلمون العربية. فالنبطي الذي نشأ في سواد الكوفة مثلا قد يتكلم العربية المعروفة ويتخير ألفاظه وتجود معانيه، ومع ذلك يعلم السامع لكلامه ومخارج حروفه أنه نبطي، وكذلك الخراساني والأهوازي. والسندي الذي تعلم العربية كبيرا يجعل الجيم زايا، والنبطي يجعل الزاي سينا فيقول سورق بدل زورق، ويجعل العين همزة. وهذه اللثغة التي تعتري الأعاجم تختلف عن اللثغة التي تعتري الصبيان أو الشيوخ ومن ينشأ من العرب مع العجم. وأهم مظاهر هذه اللكنة أبدل السين شيئا والطاء تاء والحاء هاء. «قال فيل مولى زياد لسيده مرة «اهدوا لنا همار وهش» يريد حمار وحش، فقال زياد: ما تقول ويلك! قال: اهدوا إلينا أيرا، يريد عيرا، فقال زياد: الأول أهون، وفهم ما أراد» «٢» .
ومن علل اللسان التمتمة والفأفأة واللفف واللجلجة والحكلة. والتمتام هو الذي يتعتع في التاء، والفأفاء هو الذي يتعتع في الفاء، والألف هو الذي
1 / 13
يدخل بعض كلامه في بعض، واللجلاج هو الذي يبطىء في كلامه وينقص منه. وذو الحكلة هو الذي لا يبين كلامه ويعجز عن اللفظ حتى لا تعرف معانيه إلا بالاستدلال «١» .
أما اللحن فهو الخطأ في تحريك حروف الكلمة من ضم وكسر وفتح وسكون. وقد شاع اللحن في العصر العباسي بسبب اختلاط العرب بغيرهم من الشعوب الأعجمية التي أرادت أن تتكلم العربية فلم تستطع المحافظة على سلامتها من الخطأ في اللفظ والحركات. وقد أورد الجاحظ أمثلة كثيرة على هذه الظاهرة اللغوية. يقول: «قال بشر بن مروان، وعنده عمر بن عبد العزيز لغلام له: ادع لي صالحا. فقال الغلام: يا صالحا. فقال له بشر: الق منها ألف. قال له عمر: وأنت فزد في الفك ألفا» «٢» .
ولم يقتصر اللحن على الأعاجم الذين تكلموا العربية ولا على المدن التي كثر فيها الاختلاط بين العرب والأعاجم، بل فشا بين العرب الأقحاح وبين أهل الأمصار التي تعتبر معقل العربية مثل المدينة «ثم اعلم أن أقبح اللحن لحن أصحاب التقعير والتقعيب والتشديق والتمطيط والجهورة والتفخيم، وأقبح من ذلك لحن الأعاريب النازلين على طرق السابلة، وبقرب مجامع الأسواق.
ولأهل المدينة ألسن ذلقة، وألفاظ حسنة وعبارة جيدة، واللحن في عوامهم فاش، وعلى من لم ينظر في النحو منهم غالب» «٣» .
لم يكتف الجاحظ بملاحظة وجوه الخطأ التي تقع في اللفظ بل راح يبحث، بفضوله العلمي، عن علاقتها باللسان والأسنان والتنفس والشفاه التي تشترك في إخراج الحروف معتمدا على السماع والملاحظة والتجربة.
فالشفة الفلحاء أو العلماء تؤثر في حسن التلفظ، يقول الجاحظ مشيرا إلى ذلك «وقال عمر بن الخطاب ﵀ في سهيل بن عمرو الخطيب: يا
1 / 14
رسول الله، انزع ثنيتيه السفليين حتى يدلع لسانه، فلا يقوم عليك خطيبا أبدا، وإنما قال ذلك لأن سهيلا كان أعلم من شفته السفلى» «١» .
وأثر الأسنان في البيان أوضح وأقوى، فسقوط بعض الثنايا يشوه اللفظ وخير من سقوطها جميعا إذا استحال وجودها جميعا. وتدل الملاحظة والتجربة «على أن سقوط جميع الأسنان أصلح في الإبانة عن الحروف، منه إذا سقط أكثرها، وخالف أحد شطريها الشطر الآخر، وقد رأينا تصديق ذلك في أفواه قوم شاهدهم الناس بعد أن سقطت جميع أسنانهم وبعد أن بقي منها الثلث أو الربع» «٢» .
أما اللسان فهو آلة الكلام الرئيسية، وكلما كان سليما جاء اللفظ صحيحا، وكلما ازداد حجمه بحيث يصك جوانب الفم ويملأه لم يترك خلاء لمرور الهواء كان أوفى بالغاية. وفي هذا الرأي يوافق الجاحظ الفيلسوف اليوناني أرسطو، ويطبق ذلك على الإنسان والحيوان. يقول الجاحظ: «وقال أهل التجربة، إذا كانت في اللحم الذي في مغارز الأسنان تشمير وقصر سمك ذهبت الحروف وفسد البيان، وإذا وجد اللسان من جميع جهاته شيئا يقرعه ويصكه، ولم يمر في هواء واسع المجال وكان لسانه يملأ جوبه فمه، لم يضره سقوط أسنانه إلا بالمقدار المغتفر، والجزء المحتمل. ويؤكد ذلك قول صاحب المنطق، فإنه زعم في كتاب الحيوان أن الطائر والسبع والبهيمة كلما كان لسان الواحد منها أعرض كان أفصح وأبين وأحكى لما يلقن ولما يسمع كنحو الببغاء والغداف وغراب البين وما أشبه ذلك ...» «٣» .
ويقسم الجاحظ اللفظ إلى طبقات كما ينقسم الناس أنفسهم إلى طبقات فمنه الجذل والسخيف، ومنه المليح والحسن، ومنه القبيح والسمج،
1 / 15
والخفيف والثقيل. ومن حيث الفصاحة يوجد ثلاث مراتب: الغريب الوحشي، والفصيح، والسوقي المبتذل. وخيرها اللفظ الفصيح الذي يقع وسطا بين الغريب الوحشي والسوقي المبتذل «وكما لا ينبغي أن يكون اللفظ عاميا وساقطا سوقيا، فكذلك لا ينبغي أن يكون غريبا وحشيا إلا أن يكون المتكلم بدويا أعرابيا، فإن الوحشي من المتكلم يفهمه الوحشي من الناس كما يفهم السوقي رطانة السوقي ...» «١» .
ومن صفات اللفظ الفصيح توافق الحروف ضمن الكلمة الواحدة. وقد لاحظ أبو عثمان أن في العربية حروفا لا تجتمع، فالجيم لا تقارن الطاء ولا القاف ولا الغين في تقديم أو تأخير، والزاي لا تقارن الطاء أو السين أو الضاد أو الدال بتقديم أو تأخير «٢» .
وتقتضي الفصاحة أيضا عدم تنافر الكلمات ضمن الجملة الواحدة. وإذا تنافرت الألفاظ صعب النطق بها وبدت غير متلائمة وغير متوافقة. من ذلك قول الشاعر:
وقبر حرب بمكان قفر ... وليس قرب قبر حرب قبر
وقد ظن البعض لجهلهم بعلم البلاغة أن هذا البيت من أشعار الجن لأن المرء لا يستطيع إنشاده ثلاث مرات في نسق واحد دون أن يتعتع أو يتلجلج «٣» .
ومقياس الفصاحة في نظر الجاحظ القرآن وكلام الأعراب، إذ فيهما تحققت الفصاحة بأعلى مستوياتها، فاعتبرا المثال الأعلى للكلام الفصيح.
فكل كلام أشبههما عدّ فصيحا، وكل كلام اختلف عنهما نأى عن الفصاحة.
يقول الجاحظ مشيرا إلى ذلك: «قال أهل مكة لمحمد بن مناذر الشاعر:
1 / 16
ليست الفصاحة لكم معاشر أهل البصرة لغة فصيحة، إنما الفصاحة لنا أهل مكة. قال ابن مناذر: أما ألفاظنا فأحكى الألفاظ للقرآن وأكثرها له موافقة، فضعوا القرآن بعد هذا حيث شئتم» «١» ويفهم من هذا أن الحكم في الخلاف بين فصاحة لغة أهل مكة والبصرة إنما هو القرآن. وكذلك الحال بالنسبة إلى لغة أهل البادية التي اعتبرت مرجعا في الفصاحة «وشأن عبد قيس عجب، وذلك أنهم بعد محاربة إياد تفرقوا فرقتين: ففرقة وقعت في عثمان وشق عمان، وهم خطباء العرب، وفرقة وقعت إلى البحرين وشق البحرين وهم أشعر قبيل العرب، ولم يكونوا كذلك حين كانوا في سرة البادية وفي معدن الفصاحة.
وهذا عجب» «٢» .
بعد دراسة اللفظ المفرد نصل مع الجاحظ إلى اللفظ المركب، ونلج باب البلاغة وقد استعرض صاحبنا مختلف التعريفات التي أعطيت للبلاغة، وقارن بين مفاهيمها عند الفرس والهنود واليونان والعرب. وفي ذلك دليل على شمول ثقافته وبعد نظرته. وقد استقى مفهوم البلاغة عند الفرس من معاصره الفارسي الأصل سهل بن هارون، واستقى مفهومها عند الهند من صحيفة بهلة الهندي معاصره أيضا، وأخذ مفهومها عند العرب عن صحار بن عباش العبدي في كلام له مع معاوية الذي سأله عن البلاغة فقال: الإيجاز. والإيجاز يعني الإجابة دون خطأ أو إبطاء. كما استشهد عليها بقول بعض الأعراب الذي سئل عن البلاغة فقال: الإيجاز في غير عجز والإطناب في غير خطل «٣» . ويفضل الجاحظ التعريف التالي للبلاغة: «وقال بعضهم- وهو أحسن ما اجتبيناه ودوناه- لا يكون الكلام يستحق اسم البلاغة حتى يسابق معناه لفظه ولفظه معناه، فلا يكون لفظه إلى سمعك أسبق من معناه إلى قلبك» «٤» . ومعنى ذلك أن الكلام
1 / 17
البليغ هو الكلام الذي يبلغ المعاني التي في رأس المتكلم إلى عقل السامع.
ولا يتأتى له ذلك إلا إذا كان واضحا وعلى أقدار المعاني. وبذا يخالف الجاحظ مفهوم البلاغة السائد أي الإيجاز. إن الكلام البليغ ليس هو الكلام الموجز وليس الكلام المسهب بل الكلام المساوي للمعاني «وإنما الألفاظ على أقدار المعاني، فكثيرها لكثيرها، وقليلها لقليلها، وشريفها لشريفها، وسخيفها لسخيفها، والمعاني المصغرة البائنة بصورها وجهاتها تحتاج من الألفاظ إلى أقل ما تحتاج إليه المعاني المشتركة والجهات الملتبسة» «١» .
ومن شروط البلاغة موافقة الكلام لمقتضى الحال أو للموضوع الذي يجري فيه الكلام. «ويجب على المتكلم أن يوازن بين المعاني وأقدار المستمعين وأقدار الحالات فيجعل لكل طبقة من ذلك كلاما ولكل حالة من ذلك مقاما» «٢» .
ومن شروط البلاغة متانة العبارة التي تعني ربط ألفاظ الجملة ببعضها ربطا محكما لا هلهلة فيه ولا خلل «فأجود الشعر ما رأيته متلاحم الأجزاء سهل المخارج، فتعلم بذلك أنه قد أفرغ إفراغا وسبك سبكا واحدا، فهو يجري على اللسان كما يجري الدهان» «٣» .
ومن شروط البلاغة الطبع، وهو يعني الموهبة وعدم التكلف. وإذا كان الكلام صحيح الطبع بعيدا عن الاستكراه ومنزها عن الاختلال، مصونا عن التكلف صنع في القلوب صنيع الغيث في التربة الكريمة..» «٤» وقد ركز الجاحظ على شرط الطبع عملا بفلسفته الطبيعية التي تفسر الفن كما تفسر المعرفة والأخلاق بالطباع كما صدر في جميع آرائه عن مذهبه الاعتزالي الوسطي المنزلة بين المنزلتين- وطبق ذلك على البلاغة والفصاحة، فاعتبر خير الكلام ما وقع وسطا بين الوحشي والسوقي، وما وقع وسطا بين الإيجاز والإطناب.
1 / 18
وأوضح مذهبه هذا بقوله: «فالقصد في ذلك تجنب السوقي والوحشي، ولا تجعل همك في تهذيب الألفاظ وشغلك في التخلص إلى غرائب المعاني. وفي الاقتصاد بلاغ وفي التوسط مجانبة للوعورة وخروج من سبيل من لا يحاسب نفسه» «١» .
وينظر الجاحظ في أصل اللغة، ويذهب إلى أنها توقيف، أو وحي من الله. فجد العرب إسماعيل بن إبراهيم ألهم العربية على غير التلقين والتمرين وهو في الرابعة عشرة من عمره. ويقدم عدة أدلة على أنها توقيف: منها كلام عيسى في المهد، وإنطاق الله يحيى بالحكمة صبيا، وكلام حواء وآدم. ومعنى ذلك أن الإنسان يحتاج ليتفاهم مع بني جلدته إلى اللغة، وحواء وآدم لم يعلمهما أحد اللغة، فكان لا بد من أن يلهمهما الله إياها. وإذا لم يكن إسماعيل أول عربي تكلم العربية فينبغي أن يكون ثمة أب آخر للعرب كان أول عربي من جميع بني آدم تكلم العربية. ومنها ما تفوّه به ذئب اهبان بن أوس، وغراب نوح وهدهد سليمان، والنملة وحمار عزيز وقد أنطق الله هذه الحيوانات بقدرته وسخرها لمعرفته، فلم لا يكون الإنسان مثلها قد أنطقه الله بمشيئته؟
ويربط الجاحظ تعلم اللغة بالمعرفة، ويذهب إلى أن الإنسان يعرف الأمور طباعا بواسطة ما منحه الله من ذكاء، ولا يحول دونه والمعرفة سوى موانع كالأخلاط الأربعة وسوء العادة والشواغل العارضة وخرق المعلم وإذا أزال الله تلك الموانع وصفى ذهن الإنسان وقعت المعرفة «٢» .
وثمة دليل آخر على أن الله مصدر اللغة، هو وجود ألفاظ في القرآن لم يعرفها عرب الجاهلية، إنها من اختراع الله الذي أوحى بها إلى النبي. يقول مشيرا إلى ذلك: «وقد علمنا أن قولهم لمن لم يحج صرورة، ولمن أدرك
1 / 19
الجاهلية والإسلام مخضرم، وقولهم لكتاب الله قرانا، وتسميتهم للتمسح بالتراب التيمم، وتسميتهم للقاذف بفاسق. إن ذلك لم يكن في الجاهلية.
وإذا كان للنابغة أن يبتدئ الأسماء على الاشتقاق من أصل اللغة كقوله «والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد» وحتى اجتمعت العرب على تصويبه وعلى اتباع أثره، وعلى أنها لغة عربية، فالله الذي هو أصل اللغة أحق بذلك» «١» .
ويبدو أن الجاحظ استند في مذهبه إلى القرآن والسماع ونظريته القائلة أن المعرفة تحدث طباعا. وقد اقتفى أثره ابن فارس في كتابه «الصاحبي في فقه اللغة» ولكن خالفه ابن جني الذي قال إن اللغة اصطلاح، والسيوطي الذي قال إنها تقليد.
ولكن أبا عثمان لم يستطع أن ينكر ما طرأ على اللغة العربية من تطور.
فقد دخلت عليها ألفاظ أعجمية بسبب اختلاط العرب بغيرهم من الشعوب.
فأهل المدينة لما نزل فيهم ناس من الفرس، علقوا بألفاظ فارسية فسموا البطيخ الخربز، والسميط الرزدق، والمصوص المزوز. وكذلك أهل الكوفة تأثروا بلغة الفرس الذين احتكوا بهم فسموا المسحاة البال وسموا الحوك الباذروج، وسموا القثاء خيارا الخ ... «٢» .
وهناك ألفاظ جديدة أوجدها المتكلمون وعلماء اللغة في العصر العباسي عن طريق الاشتقاق أو النحت أو الاصطلاح للتعبير عن المعاني الفلسفية والعلمية الجديدة مثل الجوهر والعرض والهوية والهذية الخ. يقول الجاحظ موضحا هذه الناحية: «... وهم المتكلمون تخيروا تلك الألفاظ لتلك المعاني، وهم اشتقوا لها من كلام العرب تلك الأسماء، وهم اصطلحوا على تسمية ما لم يكن له في لغة العرب اسم، فصاروا في ذلك سلفا لكل خلف، وقدوة لكل تابع. ولذلك قالوا العرض والجوهر وأيس وليس، وفرقوا بين البطلان والتلاشي، وذكروا الهذية والهوية والماهية وأشباه ذلك. وكما وضع
1 / 20
الخليل بن أحمد لأوزان القصيد وقصار الأرجاز ألقابا لم تكن العرب تتعارف على تلك الأعاريض بتلك الألقاب، وتلك الأوزان بتلك الأسماء، كما ذكر الطويل والبسيط والمديد والوافر والكامل وأشباه ذلك، وكما ذكر الأوتاد والأسباب والخرم والزحاف. وقد ذكرت العرب في أشعارها السناد والاقواء والاكفاء، ولم أسمع بالايطاء. وقالوا في القصيد والرجز والسجع والخطب، وذكروا حروف الروي والقوافي، وقالوا: هذا بيت وهذا مصراع ... وكما سمى النحويون فذكروا الحال والظروف وما أشبه ذلك؛ لأنهم لو لم يضعوا هذه العلامات لم يستطيعوا تعريف القرويين وأبناء البلديين علم العروض والنحو.
وكذلك أصحاب الحساب قد اجتلبوا أسماء جعلوها علامات للتفاهم» «١» .
وقد شعر الجاحظ بثقل الحمل الذي حملته اللغة العربية عند ما نقلت إليها مختلف العلوم المعروفة في اللغات اليونانية والفارسية والهندية، ودعا إلى عدم تكليف اللغة ما ليس في طاقتها، وقد عبر عن ذلك بقوله: «وليس ينبغي أن نسوم اللغات ما ليس في طاقتها ونسوم النفوس ما ليس في جبلتها، ولذلك يحتاج صاحب المنطق إلى أن يفسره لمن طلب من قبله علم المنطق» «٢» .
ويشير الجاحظ إلى حركة الترجمة التي نشطت في عصره ويرى أن الترجمان يجب أن يكون عالما باللغة المنقولة والمنقول إليها «٣» . ويرى أن الشعر لا يترجم وإذا ترجم ذهب سحره وتقطع نظمه وبطل وزنه وذهب حسنه «٤» .
وثمة ناحية أخيرة عالجها الجاحظ هي تعلم اللغة. وقد رأى أن ثمة صعوبات تعترض المتعلم ترجع إلى طبيعة اللغة ذاتها وكثرة مفرداتها وثقل مخارجها، كما ترجع إلى جهل المتكلم بمدلولاتها. ولكن أعون الأسباب على تعلمها فرط الحاجة إليها «٥» .
1 / 21
وقد سبق علماء التربية في العصر الحديث إلى دراسة تعددية اللغة وأدرك قبل جان جاك روسو ودكرولي أن اجتماع لغتين أو أكثر على لسان واحد يسيء إليهما معا فلا يستطيع المتكلم بهما أن يتضلع منهما أو يأمن تنازعهما إياه «١» .
ومعنى ذلك أن اللغة الأم تشكل طريقة التفكير لدى الطفل الذي يكتسب اللغة، وليس للفكر سوى طريقة واحدة. وإذا حاولنا تعليمه لغتين أو أكثر تنازعت هذه اللغات السيطرة على تفكيره ونافست اللغات الأخرى في أن تكون هي طريقة التفكير عنده. ولذا نصح دكرولي بأن لا نعلم الطفل قبل العاشرة سوى لغته الأم خشية أن تحل محلها لغة أجنبية أخرى.
عدا البيان وفلسفة اللغة عالج الجاحظ في كتابه موضوعين آخرين هما الزهد والشعوبية.
وقد استأثرت حركة الزهد باهتمام الجاحظ فتكلم عليها في أجزاء الكتاب الثلاثة. في الجزء الأول أورد مجموعة من مواعظ النساك، وفي الجزء الثاني ذكر أسماء الزهاد الذين عرفوا بالبيان أمثال عامر بن عبد القيس، وصلة ابن أشيم، وعثمان بن أوحم، ومؤرق العجلي، ومالك بن دينار، ويزيد الرقاشي، ورابعة القيسية، ومعاذة العدوية، وأم الدرداء الخ. كما أتى على ذكر بعض المتصوفة أمثال هاشم الأوقص، وأبي هاشم الصوفي، وصالح بن عبد الجليل. وفي الجزء الثالث كرس للزهد بابا واسعا أثبت فيه قدرا كبيرا من أقوالهم ومواعظهم؛ وأهم هؤلاء الزهاد الحسن البصري الذي أكثر من ذكر أقواله ومواعظه؛ ثم أبو حازم الأعرج، وأبو عبد الحميد، وعمر بن عبد العزيز، وعمرو بن عبيد أحد مؤسسي الاعتزال، وعلي بن أبي طالب، ومحمد الباقر. ولا ينسى الشعراء الذين نظموا أشعارا في الزهد أمثال أبي العتاهية وأبي نواس والطرماح بن حكيم.
1 / 22
واهتمام الجاحظ بالزهاد لا يدل على رضاه عنهم أو تأييد مذهبهم فلقد كان ينتقدهم نقدا لاذعا ويرميهم بالهروب من العمل واللجوء إلى التواكل والكسل. ويعتبر تصرفاتهم لا تمت إلى الإيمان بصلة ولا تزيد فيه شيئا. ويعكس رأيه فيهم قول أعرابي ذكر عنده رجل «بشدة الاجتهاد وكثرة الصوم وطول الصلاة فقال: هذا رجل سوء، أو ما يظن هذا أن الله يرحمه حتى يعذب نفسه هذا التعذيب؟» «١» .
أما الشعوبية فتعني تعصب كل شعب لقوميته وحضارته، وبغض العرب، وقد اشتدت هذه الحركة في العصر العباسي ولا سيما الزمن الذي عاش فيه الجاحظ، ونجمت عن تعدد الشعوب التي ضمها المجتمع العباسي من فرس وزنج وروم وهنود إلى جانب العرب الذين يمثلون الأمة الحاكمة. فكانت محاولة هذه الشعوب إثبات وجودها والادلال بمآثرها وحضاراتها والبرهنة أن العرب ليسوا أفضل من سائر الأمم بل هم دونها شأنا.
وقد أعار الجاحظ الحركة الشعوبية اهتماما كبيرا فتحدث عنها في كتب عديدة: الحيوان، رسالة النابتة، رسالة فضل السودان على البيضان، رسالة الترك وعامة جند الخلافة، وكتاب البيان والتبيين. ولا يهمنا في هذه المقدمة سوى ما ورد حولها في كتاب البيان والتبيين.
خصّص الجاحظ للشعوبية قسما من الجزء الثالث عنوانه كتاب العصا، أورد فيه مطاعن الشعوبية على العرب والرد عليها. لقد طعنت الشعوبية على العرب أخذهم المخصرة عند إلقاء الخطب. واحتجت بقولها إنه لا يوجد بين العصا والخطبة سبب، وأن العصا لم توجد للخطابة بل للقتال أو الهش على المواشي. وأنها لا تنفع الخطيب في شيء، وهي تلهي السامع. والعرب قوم رعاة اعتادوا على حمل العصا في رعي مواشيهم فنقلوا تلك العادة إلى خطابتهم.
وطعنت الشعوبية على العرب ضعف ملكتهم الخطابية، وقالت إنهم لا يضاهون الفرس واليونان والهنود في مضمار الخطابة والبلاغة. والدليل على
1 / 23
ذلك أن للفرس كتبا ورسائل محبرة مثل كتاب كاروند وسير الملوك، ولليونان كتبا في المنطق والحكمة، وللهنود كتبا في الحكمة والاسرار وليس للعرب مثل تلك الرسائل والكتب.
وفيما يتعلق بالحرب رمت الشعوبية العرب بجهلهم فنون الحرب والأسلحة. فهم لا يتقنون تنظيم الجيوش ولا يعرفون الكمين والميمنة والميسرة والقلب والجناح، والقتال في الليل. ولا يحسنون استعمال الأسلحة التي يحسنها الفرس كالنفاضة والدراجة والرتيلة والعرادة، والمنجنيق والدبابة. ثم إن رماح العرب رديئة النوع لا تضارع رماح الفرس الجيدة «١» .
وقد رد الجاحظ على مطاعن الشعوبية فقال إن الرماح العربية أجود من الرماح الفارسية وهي متنوعة منها النيزك والمربوع والمخموس والتام. وليس صحيحا أن العرب لا يحسنون القتال في الليل، إنهم يقاتلون في الليل كما يقاتلون في النهار.
أما الرسائل المنسوبة إلى الفرس فليست صحيحة، وهي منحولة ولدها أمثال ابن المقفع وسهل بن هارون وعبد الحميد وغيلان ونسبوها إلى قومهم الفرس.
أما ملكة العرب الخطابية فأمر ظاهر جلي لا يحتاج إلى برهان. ويكفي أن نأخذ بيد الشعوبي وندخله بلاد العرب الخلص، معدن الفصاحة، ونوقفه على خطيب مصقع أو شاعر مفلق ليعلم الحق ويبصر الشاهد عيانا. صحيح أن للهند كتبا مخلدة ولكنها لا تضاف إلى رجل معروف، وأن لليونان فلسفة وصناعة منطق ولكن صاحب المنطق كان بكيء اللسان، وأن للفرس خطباء ولكن كل كلام للفرس إنما هو ثمرة التفكير والدراسة وكد الخاطر. أما العرب فكلامهم وليد البديهة والإلهام، لا يعانون فيه جهدا ولا يجيلون فكرا. ولذلك يقطع الجاحظ بأن العرب أخطب الأمم «٢» .
1 / 24