وكل ما حكي من أقاويل من حكى عنه هو داخل عندي في معاني قول أصحابنا ولأنه يتقارب المعنى فيه بعضه بعضا.
وأحسب أنه يخرج في معنى قوله في الحرفة من لم يكن له مال وله حرفة في صنعته ومعالجته، وهو يجهد نفسه في العمل، والحرفة يقع منه موقعا كأنه لا يعمل ولا يجتهد. هكذا كان عندي في بعض معاني قولهم؛ لأن الصانع الذي يرزق من صناعته ويدر عليه كسبه، ولا يقع عليه الحرفة لشبه معاني الغنى بماله ونحو ذلك، يوجد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (لا تحل الصدقة لنبي ولا لآل نبي ولا لغني ولا لذي مرة سوي).
/66/فيخرج معنا (ذي مرة سوي) ذي صنعة قوي عليها بجسده، ويخرج منها ما يعنيه كما يغنيه ماله فيما يتعارف من أحواله وهو غني ولو لم يكن في يده مال إلا قوت يومه؛ وهو وصنعته بمنزلة الغني.
ومنه ذكر حد الفقر من حد الغنى، قال أبو بكر: كان سفيان الثوري وعبد الله بن المبارك والحسن بن صالح وعبيد الله بن الحسن وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه يقولون: لا يعطى من الزكاة من له خمسون درهما أو قيمتها من الذهب.
قال أبو عبيد: لا يعطى من له أوقية (والأوقية أربعون درهما). وكان البصري يقول: ومن له أربعون درهما فهو غني. وكان الشافعي يقول: قد يكون للرجل مال ولا يغنيه الألف مع ضعفه في نفقته وكثرة عياله. وقال النعمان: لا بأس أن يأخذ من له أقل من مائتي درهم، ولا تحل الزكاة لمن له درهم فصاعدا.
قال أبو سعيد: معي أنه تخرج هذه المعاني كلها من هذه الأقاويل على معنى ما وصفت لك فيما تقدم من الكتاب، وأشبه هذه الأقاويل عند أصحابنا قول الشافعي: إنه إنما ينتظر لكل واحد بقدر ما يكون غنيا به فيثبت له اسم الغنى ولو لم يكن مثله به غنيا من مال أو احتيال، وفي حقه مؤونته وقلة عولته ومعاني ما يستظهر له به في مصلحته. /67/وليس كل الناس بسواء في معاني الفقر والغنى، وأرجو أن في ذلك كفاية عن إعادته. [بيان، 19/67]
Page 49