في الكلام على الوطن وما في الترحل عنه أو السكن
قد تقدم معنا في الباب الأول أن الإنسان قد خلق مفطورا على الألفة التأنيسية التي تنشأ عنها الاجتماعات البشرية. ولما كان لا بد لكل هيئة اجتماعية من مكان يجمعها ويضم شملها، سمي ذلك المكان بالوطن؛ أي مسقط رأس الإنسان وبلده الذي ربي فيه وانتمى إليه. وهو على ثلاثة أقسام باعتبار النسبة إلى خصوص البلد أو القطر شخصيا كان أو نوعيا، فيقال: فلان دمشقي نسبة إلى بلده دمشق الذي تأصل فيه، ويقال: سوري إلى سورية «بلاد الشام» مجمع الأمة السورية، ويقال أهلي تنسبه إلى الأهل أو نسبة لكونه من أهالي الوطن.
وقد اقتضت الطبيعة البشرية أن كل وطني بعد عن وطنه لا يزال يتشوق إليه ويحن لرؤياه، ولو نال في غيره ما نال من سعادة أو نعيم وترف. والحر لا يؤثر على بلده بلدا ولا يصبر عنه أبدا. وفي الحديث: «حب الوطن من الإيمان.» وقال بعضهم: من علامة الرشد أن تكون النفس إلى بلدها تواقة وإلى مسقط رأسها مشتاقة. وقيل: «ميلك إلى مولدك من كرم محتدك.» لكن قد يضطر الإنسان أحيانا لمفارقة وطنه ومبارحة عطنه إما لضيق المعيشة ووقوف حال الأسباب، وإما لظلم يناله من قبل الحكام ويضطره لارتياد محل ينتصف فيه ويأمن على ماله ونفسه وينال حرية عمله. ولعمر الحق أن البلاد التي تكون هكذا غير مأمونة السكنى بها ولا الإقامة فيها من الاضطهادات وعدم أمان الرعية على حالهم ومالهم وضيق أسباب التجارة والأشغال، قد يطيب للمرء أحيانا مفارقتها، وإن تكن وطنه العزيز ومسقط رأسه الذي تربى فيه وتغذى بمائه وهوائه؛ لأن الإنسان ميال بالطبع لحب الراحة وارتياد الرزق والتوسع ما أمكنه بالمعيشة أبيا للذل والاضطهاد.
ومع ذلك، فالتنقل في طلب العلم وارتياد الرزق أو العز والشرف حيث وجد، محمود عند أغلب الناس، والبعض يحث على التجول والتنقل كما في قول المرحوم والدي من قصيدة طويلة:
وإن وجدت بدار ذلة عظمت
عليك فاصبر لها أو شئت فارتحل
إن تختر السير عنها تلتقي بدلا
وإن أقمت فعند الذل لم يزل
أما ترى الماء إن يجري يطيب وإن
طال المكوث به أدى إلى الخلل
Unknown page