Batal Nahda Misriyya Kubra Sacd Zaghlul Basha
بطل النهضة المصرية الكبرى سعد زغلول باشا
Genres
إنني اشتغلت بالمحاماة متنكرا عن أهلي وأصحابي وكلما سألني سائل هل صرت محاميا أقول: معاذ الله أن أكون كقوم خاسرين.
وجملة القول إني كنت أجتهد أن لا يعرفني إلا أرباب القضايا وإن كنت أجهل ماذا تكون العاقبة، وقدر لي أني حبست في أول اشتغالي بهذه الحرفة ظلما وعدوانا فنفعني مشروعي فيها وقد كنت أدافع عن الخصوم بالكتابة عن التقارير التي كانت تقدم إلي للإجابة على ما فيها من المسائل، فانظروا يا إخواني في أمر محام كان يناضل عن الحق وهو منه سليب، وبعد أن انقضت مدة سجني عدت إلى مزاولة هذه الصناعة لا أبغي بها غير الحقائق مطلبا - وكنت أحب أبدا أن يحترمني القاضي فأحذر كل ما يؤدي إلى غير ذلك - ولعل سعادة الرئيس يذكر أنه لما كان بين أعضاء لجنة الامتحان التي طلبتني أمامها وسألتني ما هي واجبات المحامي كان جوابي درس القضية جيدا - والمدافعة عن الحق واحترام القضاء.
سادتي، تعلمون أن الحق صعب الاكتشاف، وأن الحقيقة إذ تكون ضالة تتشعب طرق نشدانها على الباحث ويعلم الله كم من ليال مضت ما كان أمرها عندي لا لأني كنت في عيش ضنك ولا لأني قليل الميسرة، ولكن لأن الحقيقة ضائعة لا أجدها في طريق نشداني لها بين أناس عهدت إليهم أمانة ولا من يؤديها منهم لأهلها - كنت أرى القانون يكرهني على احترام القضاة وضميري يأبى الامتثال لاحترام كثير منهم فكنت أجمع بين الاحترام والتحقير ولا أستطيع التوفيق بين الظاهر والباطن - فاعجبوا أيها الأفاضل من مطيع غير مطيع - ولا جناح علي لأن القوانين لا حكم لها على السرائر والضمائر - أقول الحق إني كنت أسأل من القاضي حقا ومن النيابة واجبا فلا أجد هذا ولا ذاك - أما الآن فكلنا يعترف في سره وعلنه بأن القضاء ارتقى والحق عنه مسؤول، وما زلت إخواني أعد نفسي محاميا عن الحقيقة التي أردنا المحاماة عنها جميعا.
وإني شاكر فضلكم منشرح الصدر من كونكم عددتموني جوهرا شفافا سطعت عليه أشعة العدل وأنوار الحق - فادعوا الله معي أن يؤيد روح الحق في بلادنا ويزيد في نشر الفضيلة والعدل. ا.ه. (2) القاضي سعد
بلغنا بالقارئ من ترجمة رجل مصر العظيم، سعد زغلول باشا، منطيق الأمة ومقولها، والمحامي عنها ومذودها، إلى تلك الحفلة الكبرى التي أقامها المحامون لتكريمه على أثر انتخابه نائب قاض بمحكمة الاستئناف، وكان ذلك في اليوم الثامن عشر من شهر يوليه عام 1892 أي منذ اثنين وعشرين حولا، وجئنا بالخطبة المؤثرة الرقيقة التي ألقاها المترجم به بين جماعة المحتفلين، وفيها تلك الاعترافات البليغة التي فاض بها قلب من تلك القلوب الخفاقة النباضة، وجاشت بها نفس من تلك النفوس العبقرية الغياضة، وإن للنفوس لعبقرية هي في أغلب الأحيان أشد من عبقرية الأذهان، وما عبقرية النفوس إلا قوة الشعور بالواجب، الإيمان بالحق، ومنابذة الباطل، وهي الوحي الإلهي الذي يتنزل على النفوس الخصيبة، فيملؤها روحانية، ويرسل في نواحيها مادة الإحساس الشفاف، وإذا كانت القوة الإلهية لا تكثر في الإنسانية من عداد العبقريين عقولا وأذهانا، فما أقل خلقها للعبقريين نفوسا ووجدانا لأن القوة الإلهية تدأب في عملها، وتجد في إخراج قوالبها، على أنك لتهز إليك جذع الشجرة المثمرة ، فلا تستطيب من متساقط ثمارها، ولا تستعذب من متناثر بواكرها إلا ثمرة أو ثمرتين، وأنت فتجد أنواع الزهر الذي لا رائحة له ولا عرف، أكثر بأضعاف من أنواع الأزاهر ذات الشذى والأريج إذ كانت لذة الجميل أن لا يكون شائعا، ولا يروح فاشيا ذائعا، ولعل أكبر الدلائل على العظمة الإلهية أن تخلق عظيما واحدا، بين ألوف كلهم صغار، وأن تصور امرأة حسناء وسيمة، في أسرة كل نسائها قباح دميمات، وما أجمل مظهر الخير، وما أروع موقفه، إذا اكتنفه الشر من كل مكان.
كذاك كان نصيب سعد باشا زغلول من عبقرية الذهن، وكذاك كان قسطه من عبقرية النفس، وهما لم يجتمعا في قالب إنساني إلا أحدثا توازنا في جميع عواطفه، فإنك ترى أكثر العبقريين أذهانا، أقرب إلى الحيوانية من غيرهم، وأشد إسفافا إلى البهيمية من سواهم، ولو كان أمثال الفردده موسيه وبيرون ونابوليون، عبقريي النفوس، لما هام الأول بحب البغايا، ووصل الفاجرات، وما استرسل الثاني في هوى الغادات الفاتنات، ولا ركب الثالث رأسه، فطاح بملايين النفوس والمهجات.
ونحن اليوم عائدون فآخذون في ذلك التاريخ العظيم ونحن له أشد روحا وأخف نشاطا؛ لأنا نرى في خلاله دروس الحكمة تلقى من فم التاريخ، ونشهد في تضاعيفه مزايا العظمة تطل من الماضي إلى الحاضر، واثبة إلى المستقبل فدافعة إلى الأبدية. •••
دخل المترجم به في سلك القضاء، بتلك الشخصية القوية التي ما أسند إليها عمل عظيم، إلا استكان لها، وتشكل بشكلها، واصطبغ بصبغتها، وتضاءل إزاء قوتها، وما كان أكبر الأعمال، وأرفع المناصب، إلا ليضيق بصاحب الشخصية القوية، وإن اتسع لألوف الناس، ورحب بعديد ضعاف النفوس واحترام النفس من أسمى معالم العظمة النفسية، ونحن لشد ما نروح معجبين مكبرين، إذا وقفنا على رجل من عرض العامة، في قهوة أو منتدى، يستمسك برأيه، ويستند إلى حجته، لا ينزل عنهما ولا ينكص، وقد اجتمع الجلوس كلهم على نقيض رأيه، واتفقوا جميعا على دحض حجته، بل إنك لتمتلئ إعجابا وإكبارا لشأن الرجل العامي الحقير، يجيئك بكيس نقود فقدته، ويأبى أن يقبل منك على ما أحسن أجرا ولا عطاء، ويرفض أن ينال منك على ما صنع مكافأة ولا جزاء.
وما أروع الشخصية القوية في منصة القضاء، وما أشد جلال القاضي المهيب، وإذا اجتمع جلاله بجلال مقعده، والتقت روعة شخصيته، بروعة سدته، وعلى قدر قوة الشخصية في القضاة، تكون قوة الإنكار في المجرمين والجناة، حتى إنك لتلقى المتهم إزاء القاضي القوي الشخصية، مضطربا مذهولا حائرا مذعورا إذ يخيل إليه أمام تلك القوة الخفية - قوة الجاذبية، القوي والضعيف أن قد انفتحت مغاليق نفسه، وانكشفت حيالها مجاهل ضميره وبدت أعماق سريرته، وأنه قد أصبح بين يدي القاضي، وكله ثغور تطل منها ذنوبه، وتشرف من خلالها جرائمه، حتى إذا بلغ منه تأثير تلك القوة السحرية كما يبلغ من المنوم تأثير مغناطيسية المنوم، أدلى إلى القاضي باعترافه وهو هادئ ساكن وأشهده على جريمته، ليتخلص من ذلك التأثير الشخصي الذي يصدمه به القاضي ويهدم فيه كل عزيمة للإنكار، وكل إصرار على التنصل والتكذيب.
وكم من جرائم ما كان ليجدي في اكتشاف جناتها دقة التحقيق، وما كانت لتفنى في الاهتداء إلى مرتكبيها شدة التحري والاستقصاء، وقوة البحث والاستهداء، ولا ذكاء الشرطة وحيلهم، ولا مهارة المحققين وخدعاتهم لو لم تقع في يد قاض قوي الشخصية، اهتدت قوة شخصيته إلى المجرم من الجلسة الأولى. •••
Unknown page