الوشم الأخير1
صح ..
ه... هي لعبة؟!
البطل
الجرح
الوشم الأخير1
صح ..
ه... هي لعبة؟!
البطل
الجرح
البطل
البطل
تأليف
يوسف إدريس
الوشم الأخير1
طريق المعاهدة. الطريق الموصل إلى التل الكبير وفايد والإسماعيلية، هو نفس الطريق إلى بلدنا. ولم تكن تلك أول مرة أقطعه فيها. كنت أيام الحرب وما بعدها كلما ذهبت أو عدت أتأمل ما حولي وأجتر الذكريات، من يوم أن وضع الإنجليز أقدامهم في بلادنا ونحن نقول: لا .. قلناها مسلحة، وقلناها مقاطعة وقلناها ثائرة، وأيضا والعربة تقطع بي الطريق كنت أقول: لا.. هذه الوجوه الحمر والعيون الزرق والشعور الصفراء لا تمت إلى صحرائنا أبدا. إنها شيء غريب نشاز، إنهم أغراب، إنهم معتدون .. كنت أشاهد العساكر يروحون ويجيئون داخل الأسوار كالمعتقلين، والعرق يكسوهم، والنظرات المريضة تطل من عيونهم، وكنت أقول: إنهم يخطرون في أرضنا، هذه صحراؤنا، وهؤلاء الناس الملونون يأتون من بلاد بعيدة يحرسون أرضنا، يحرسونها منا! وكنت أغلي وأقول: لا.
طريق المعاهدة هو نفس الطريق إلى بلدنا، هو نفس الطريق الذي كنا نقطعه ونحن طلبة، ونحن في اللجنة الوطنية، ونحن نتستر بالليل والظلام ونأتي من القاهرة، ونزود الكتائب بأدوات العلاج والإسعاف، هو نفس ذلك الطريق الذي كنت أقطعه يوم الإثنين الماضي، وقد كدت أنسى، ونحن في القاهرة كثيرا ما ننسى. وتمر علينا أوقات لا نذكر فيها الاحتلال والإنجليز. وكنت لا أنسى، إذ كنت دائما مرغما على تذكر كل شيء. ويكفي أن ترى معسكرات الإنجليز في منطقة القنال مرة لكيلا تنساها أبدا. المنطقة صحراء قفر لا تنبت فيها حتى الحشائش؛ ومع هذا يدهشك ازدحامها. فليس فيها موضع واحد خال من سلك شائك أو ثكنة أو مخزن أو صهريج مياه. كلها مبنية بطريقة غريبة لا عهد للمصريين بها، تحس إذا ما رأيتها أن ساحرا جبارا لا بد قد نقلها من مكان لا نعرفه ووضعها فوق أرضنا. منطقة لا تجد المصريين فيها إلا حفاة عراة يطلبون الخبز ولو من يد الإنجليز، ولا تجد الإنجليز إلا سادة، يدبون فوق الصحراء، ويدافعون عن الإمبراطورية ، وكل هذا يحدث فوق بقعة من أرضنا .. من أرضنا.
كنت ما أكاد أرى المعسكرات ومن فيها، حتى أحس أننا نلهو ونعبث، وأننا نسينا في القاهرة أس البلاء، وأن هنا يكمن الداء، وأن هذا الجيش العارم من الميكروبات الكاكية المدمرة هو مشكلتنا وهؤلاء أعداؤنا، وصانعو أزمتنا، وقاتلو شهدائنا، وألا حياة لنا، ولا طعام، ما لم نجتث هذا الداء ونطرد الغاصبين.
كنت أقول لنفسي هذا والحقد يملؤني، وأكاد أنفجر وأنا أراهم داخل المعسكرات مطمئنين، باردي الأعصاب، يتصرفون وكأنهم ليسوا في بلاد أعداء، بل وكأنها أرضهم ونحن غزاتها.
ومهما كان غيظي وغيظ الآخرين، فقد كنا أفرادا، وكنا متفرقين، وكنا مشغولين بأزمات داخلية تطحننا، ولعل هذا كان السر في هدوء بال الإنجليز.
ويوم الإثنين الماضي والعربة تمضي بنا على طريق المعاهدة، الطريق الذي أنشئ تنفيذا لمعاهدة 36 ليسهل «جلاء» قوات الاحتلال، فاستعمله الإنجليز أثناء الحرب ليسهل «دخول» قوات جديدة، والعربة تمضي بنا كالريح، فالطريق ممهد وجميل، صنع خصوصا لجلاء جيوش، فما بالك بعربة أومنيبوس، وترعة الإسماعيلية تتلوى كخيط طويل من الصبر، كطول بال المصريين، والحدائق على جانبيها، موز ومنجة، وبساتين بركات، وسجن أبي زعبل، ومحطة إذاعة لها عواميد هوائية طويلة طويلة تصل إلى عنان السماء لتذيع: نورا يا نورا يا نورا يا وردة حلوة في بنورة، والإنسان ما إن يتسلمه طريق المعاهدة حتى يحن إلى الصحراء ويحلم بالبحر الأصفر الهائل، وما يكاد يرى الرمال حتى يفاجأ بما فوقها من معسكرات فيركبه الغم.
أما المفاجأة هذه المرة فهي أني لمحت، في نفس المكان الذي اعتدت رؤية العساكر الإنجليز فيه، عسكريا مصريا أسمر، سمرته جميلة، كالعسل النحل حين يقطف في الشتاء ..
وقلت في نفسي هذا شيء جديد.
وتوالت المعسكرات. وتوالى ظهور العساكر المصريين، يرتدون نفس الرداء الإنجليزي، ولكن وجوههم سمراء، وضحكاتهم أعلى، ولا يلهثون من حرارة الشمس.
الأرض التي نمر عليها ملغمة بالتاريخ، في كل خطوة حادث جلل، على مرمى البصر دارت معركة التل الكبير، من نفس هذا الطريق عبر الجيش المصري سنة 1882، هنا خان خنفس بك ، في تلك البقعة وقف زعيم الشعب عرابي يتسلم هدايا الأهالي من الرز والطيور والسلاح.
هذه الأرض، لم يكن مصرحا لنا بالمرور فيها، كانت أقدام الإنجليز فقط هي صاحبة الحق في وطئها، لها أن تمضي عليها وتدوس تاريخنا، وأيامنا، ومفاخر قومنا، هذه الأكوام من الرمال قد تكون أجداث أجدادنا الذين ماتوا وهم يقولون: اللهم انصرنا على القوم الكافرين. وهم يقولون: الخديوي خائن. وهم يقولون نريد الدستور، نريد البرلمان. ماتوا وعرابي يقول: باسم أهالي الديار المصرية جئنا نطلب حقنا وحريتنا. هذه الأرض صارت معسكرات، وامتلأت بزجاجات الويسكي الفارغة، وأقام عليها أعداؤنا دورات مياههم وحظائر كلابهم.
والعربة لا تكف عن المضي سريعة كأسراب الأحداث، لا تتوقف كالزمن، والعساكر المصريون يظهرون، فجأة، في المعسكرات، ويتولون هم حراسة أرضنا ورمالنا وتاريخنا.
وتوقفت العربة في الإسماعيلية.
وللتاريخ هو الآخر وقفة في الإسماعيلية.
هذه البلدة النظيفة ذات البيوت المنخفضة. غريبة تلك البلدة، إنها ليست من مصر .. إنها معسكر مدني، أقيم للترفيه عن قوات الاحتلال، وموظفي القناة. فيلات رائعات يكسو اللبلاب جدرانها، ويتسلق حتى يغلفها، وشوارع لا تراب فيها .. ولا ذباب، وهدوء مأخوذ من هدوء بحيرة التمساح، وخواجات متمصرون، ومصريون كالخواجات، ولغة .. كملابس مجاذيب الحسين، من كل لسان كلمة، ومن كل بلد لكنة، حاول موظفو القناة الفرنسيون أن يجعلوا منها ضاحية من ضواحي باريس، ثم جاء الإنجليز، وحاولوا جعلها من ضواحي لندن، وكان هناك دائما مصريون، ولهذا بقيت مصرية، المصريون فيها أفقر الناس ولكنهم يدركون أنهم أصحابها، والأجانب أغنى الناس، ولكنهم يعلمون تماما أن مقامهم مهما طال موقوت.
وفي الإسماعيلية رأينا الأعاجيب.
البلدة كانت تعتمد في حياتها أساسا على ما تنفقه القوات البريطانية فيها، ومع هذا كان أهلها أعنف من حارب تلك القوات.
والبلدة هز الجلاء اقتصادها، ومع هذا، فأهلها أسعد المصريين بالجلاء، إن الوطنية لا تباع أو تشترى، إنها ليست شيئا يراد، إنها في دم كل منا وأعصابه، إنها أغلى من كل دمائنا وأعصابنا، إنها أقوى من لقمة العيش. هؤلاء الناس المتناثرون كسالى يغزلون من تثاؤبهم حبال ملل طويلة، ويصنعون من البطالة نكتا وتفانين، هم أنفسهم الذين كان يرتعش من ذكرهم أرسكين.
وعلى ربوة عالية، تتحدى بعلوها الإسماعيلية ومن فيها، رأيت نصبا هائلا، وسألت عما يعنيه، قالوا إنه نصب الشهداء. وقفت أقرأ ما كتب: هذه القطعة من الأرض قدمها الشعب المصري لهؤلاء الذين ماتوا دفاعا عن الشرف من قوات المملكة المتحدة.
أما هؤلاء الذين ماتوا «دفاعا عن الشرف» فهم قتلى معركة التل الكبير وقتلى الحرب العالمية الأولى والثانية.
ولا يذكر الشعب المصري أنه قدم يوما هذه الأرض ليقام عليها نصب كهذا، ولا يعلم الشعب المصري أن من ماتوا كانوا يدافعون حقيقة عن الشرف.
أما الذي يدهش حقا، فهو أنك لا تجد لا في الإسماعيلية، ولا في أي مكان نصبا واحدا يخلد ذكرى الشهداء الذين سقطوا في معركة التل الكبير ولا في غيرها، الشهداء الذين ماتوا وهم يدافعون عن الشرف والحق، وكأننا نعترف مع الإنجليز أننا حين قاومنا كنا متمردين عصاة، لا نستحق تكريما ولا تخليدا.
وكل ما يقع عليه بصرك في الإسماعيلية يذكرك بتاريخ ناصع قريب، هذا مبنى القيادة الإنجليزية في الشرق الأوسط، هذه العمارة كان يحتلها البوليس الحربي، هذا هو الميدان الذي صوبت منه الطلقات إلى جنازة الشهداء.
وهذه الشرفة قتلت منها الممرضة الأمريكية، وتلك المحافظة وهذا هو سورها المشهود خلف هذا السور الأبيض الفقير المنخفض ظل عساكر بلوكات النظام يحاربون إلى آخر رمق وآخر طلقة في تلك المسافة التي لا تتعدى الخمسين مترا استشهد أكثر من خمسين عسكريا مصريا في ريعان الشباب. هنا دارت معركة المحافظة، وعلى هذا التراب الذي لم يتغير لفظ الشهداء آخر الأنفاس، إن التراب لا يزال كما هو، أما السور فقد أعيد بناؤه لأن الدبابات البريطانية اكتسحت السور القديم حين داهمت مبنى المحافظة لتتم المجزرة، داست فوق جثث العساكر الشهداء، فالتصقت جثث ببعضها، وتفتتت جثث حتى إنهم كانوا يجدون العناء في انتزاع الجثة من الجثة، والشهيد من الشهيد.
وسمعنا في الإسماعيلية بقايا قصص البطولة، القصص التي كانت أخبارا فمضت تلف وتدور حتى أصبحت حواديت وملاحم كملحمة أدهم الشرقاوي.
وفي الإسماعيلية أيضا عرفنا آخر خبر: سيغادر بورسعيد الليلة آخر فوج من العساكر الإنجليز.
وانطلقت العربة ووجهتها بورسعيد. وكانت الساعة العاشرة مساء، والطريق مظلم، طريق معبد لامع تتهادى إليه أنوار السفن التي تعبر قنال السويس.
2
قنال السويس!
إن كل شيء هنا ينطق بأمجاد شعبنا وكل شيء يهتف بما لاقاه من ظلم هذه القناة، إن بلدنا وحدها مات منها عشرة وهم يحفرونها، هذه القناة الضخمة العريضة، هذا البحر المذهب الواصل بين بحرين حفره أجدادنا من مائة سنة، حفروه بكريكاتهم وفئوسهم وعظامهم واستطاعوا أن ينتزعوا ملايين الملايين من الأمتار المكعبة في غمضة شهور وكأنهم مردة أو جان. حفروا، وماتوا، واستهلكهم الكدح .. ولم يقبضوا شيئا. ذهب المال إلى الشركة، وذهب المجد إلى دليسبس، وذهبت الأسهم إلى إنجلترا وفرنسا، وبقيت القناة ممتدة واسعة زرقاء وتذكرنا أننا صانعوها ومنشئوها، وأن ماءها من دمنا، ودمنا تمخر عبابه السفن، ويغل في العام ملايين الجنيهات.
ووصلنا بورسعيد قبل منتصف الليل.
كانت البلدة نائمة أو تكاد، عمال الميناء فقط ساهرون، لا يزالون يتناولون عشاءهم الرخيص وطابورهم واقف أمام الباب ينتظر الإذن بالدخول، ووجدنا صيادا شيخا مسيناه بالخير وسألناه: الإنجليز ح يمشوا منين يا عم؟ ... - أهم طول النهار ماشيين. - هم مشيوا خلاص وآخر دفعة ح تمشي الليلة. تعرفشي منين؟ - هم خلاص ماشيين؟! - ماشيين. - بلا رجعة؟! - بلا رجعة. - الليلة؟! - الليلة. - في داهية. - تعرفشي ماشيين منين؟ - يمشوا من أي حتة .. الله يخرب بيتهم.
وتركنا الصياد الشيخ، وسألنا شيالا شابا وقال: من باب النافي. وذهبنا إلى باب النافي، ودخلنا، وركبنا لنشا، وبعد قليل ونحن في البحر .. قال البحار: هذا مبنى النافي.
ورأينا شيئين: باخرة سوداء كالحة راسية عند المبنى، وديدبانا واقفا. وغادرنا القارب إلى الرصيف، وقال الديدبان: إلى أين؟ .. قالها بإنجليزية ممطوطة وكان شابا لا يتجاوز العشرين، ومعه مدفع ستن، وكان هادئا، وعبيطا، وضيقا بنوبته في الحراسة، وكان أول إنجليزي نراه في منطقة القناة.
وكان في المبنى أربعة عساكر آخرون وضابط .. كانوا هم آخر قوات الاحتلال ، والباخرة السوداء واقفة اسمها إيفان جيب، تنتظر أن تحين اللحظة ليصعد العساكر وترحل، آخر رحيل.
كان الليل داكن السحنة، وكانت الأنوار لا تدع سحنته على حال، أنوار موزعة في المينا صفراء وبيضاء وحمراء تزخرف الليل وكأنه سبورة سوداء محلاة بطباشير مشع ملون. وكان البحر هو الآخر يأخذ لونه من لون الليل إذا ما اسود اسود، وإذا ما حفل بالأضواء حفلت صفحته بالأضواء. وكان الديدبان بكل مدفعه صغيرا جدا، وبناء النافي ضخما، أنواره مشتعلة كلها، وفيه صمت كصمت القبور.
كان المكان بأجمعه يشبه قلعة مهجورة، وكأننا ضارب الطبلة حين هبط القلعة الخاوية في رواية الفرق الأجنبية.
وحادثنا العساكر .. فلاحين إنجليزا وأبناء فلاحين وعمالا، كل ما يعرفونه أنهم ذاهبون إلى قبرص، وأنهم راحلون عن بورسعيد، وأن مصر جميلة وأهلها ظراف، وكشف واحد عن ساعديه ليرينا رحلته عبر الدنيا وكان على كل يد من يديه أكثر من وشم. هذا رسمه في هامبورج بألمانيا وآخر في الهند وثالث في سنغافورة والرابع في مصر.
ورأيت في الوشم علامات، وكان العسكري الشاب يعلم بها انحسار الشمس عن الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس.
وكان المساكين يعلمون أنهم آخر من سيرحل عن بورسعيد ولكنهم كانوا لا يدركون معنى أنهم آخر الراحلين.
كانوا يداعبون بعضهم بعضا ويكتبون أسماءهم على حائط الكشك ويستعجلون اللحظة التي ترحل فيها الباخرة إلى قبرص وكانوا يقولون قبرص ومن عيونهم يطل الأسى، وتطل أمنية: أن يكون الرحيل إلى إنجلترا، فالغيبة طالت والحنين إلى الوطن غريزة.
وجاء الضابط عصبيا ومنفعلا، وفي أعماقه ترقد أرستقراطية إنجليزية ابتلى بها العالم من قديم الزمان. لماذا جئتم وكيف جئتم وماذا تريدون؟ وحين حاولنا إفهامه استنكر أن نقتحم على حامية بورسعيد معسكرها في مبنى النافي.
وأحسست بشيء يغلي في صدري حين نطق كلمة «الحامية».
الحامية!
لقد كنا محتلين إذن! هؤلاء العساكر السذج، وهذا الضابط المتكبر كانوا حامية بورسعيد! بورسعيد، هذه المدينة المصرية التي كنا نردد دائما أنها مصرية كانت محتلة، وكان لها حامية!
حين نطق الرجل بالكلمة انبثقت في ذهني معان كثيرة كانت مختفية وكان الاختفاء قد طال عليها. جيش الاحتلال، والحامية، والإنجليز والوطن المستعمر المحتل، كانت معاني مؤلمة أفظع ما فيها أننا كنا نسيناها. وكان أعداؤنا فقط هم الذين لم ينسوا. كنت ذاهبا لمشاهدة رحيل آخر فوج وكأني ذاهب إلى نزهة، وكان الأمر جزءا من الرحلة، وإذا بضابط متعجرف يذكرني في آخر لحظة من لحظات الاحتلال، أننا كنا محتلين.
وحانت الساعة.
ومضى العساكر والضباط إلى الباخرة.
الهدوء مخيم، ومبنى النافي كبير صامت مشتعل بالأضواء، والسماء سوداء في لون الماء، والماء في لون السماء، والأنوار وحيدة متباعدة باردة، والبحر يوشوش ويدوي، والباخرة واقفة كالحوت الميت الطافي، والقبعات الحمر تروح وتجيء فوقها، والعساكر والضباط هادئون، سائرون إلى الباخرة في دقات أحذية رتيبة وظهورهم محملة، والبنادق في أيديهم، ولا أحد يشهد، ولا صوت يرتفع، ولا طلقة تدوي، ولا هزة تعتري الكون وتزلزل الأرض والسماء، والاحتلال ينتهي بهذه الخطوات الرتيبة التي تتلصص في سكون الليل، ينتهي ببساطة كما لو كان جيش الاحتلال رحلة مدرسية جاءت في إجازة وقضت في مصر ثمانين عاما، وها هم أعضاء الرحلة راجعون، والجو هادئ وجميل، والباخرة تنتظر، ولا تبقى سوى مناديل بيضاء تهفهف ليكمل المشهد، ويسدل الستار.
ولكم أحسست بالمرارة.
ما أردت أبدا أن يكون هكذا رحيل الأعداء.
كنت أود بعمري أن تودعهم رصاصات، وتهفهف فوقهم قنابل، وينتظرهم خضم البحر، إنهم أعداؤنا، استعمرونا وأذلونا وأذاقونا المر، وقتلونا ونهبونا وسلبونا وها هم يرحلون.
ليت رحيلهم كان بمعركة وانسحابهم تم بهجوم.
أعداؤنا يرحلون، بعد ثمانين عاما، ترى كيف صبرنا هذه الثمانين؟
ولماذا تأخر الرحيل؟
أعداؤنا ذاهبون إلى قبرص. ترى هل تنزلق شمس الإمبراطورية عن قبرص؟ ترى عن قريب؟ ترى هل يضيف العسكري الإنجليزي إلى صدره - وقد ازدحم ساعداه - وشما آخر يدقه في نيقوسيا، ويكون الوشم الأخير؟
أعداؤنا يرحلون، فلتتبعهم الهزيمة أنى يرحلون.
بورسعيد يونيو 1956
صح ..
كان واضحا أن الصبي لا يمت إلى جاردن سيتي أبدا!
فصبي حاف مثله، جلبابه قديم متآكل، ورأسه محلوق بالماكينة، ومضلع، وفيه نتوءات كحبة البطاطس، ووجهه رمادي أصفر، وفيه «قوب» ... صبي مثل هذا لا يمكن أن يمت أبدا إلى جاردن سيتي، حي القصور والفيلات والسفارات.
أما كيف وصل إلى شوارع جاردن سيتي، فيبدو أنه أفاق فوجد نفسه هناك، أو أنه ضل الطريق، والغريب أنه لم يكن حزينا ولا مبتئسا أو خائفا .. كان في الحقيقة يبدو منتعشا طروبا.
كانت الدنيا في ساعتها الأولى، والشمس تلون الأرض وحسب ولا تلهبها، والبنايات غارقة في صمت أرستقراطي مهيب، وكل ما يسمع من أصوات إنما كان يأتي من العصافير والبوابين الضخام السود، الطيبين الجالسين على الأرائك يحرسون القصور، ويرتدون الجلاليب البيضاء الواسعة والعمامات المضحكة الكبيرة.
كل ما في الجو كان يوحي بالبشر ويبعث على النشاط، والولد يمضي على غير هدى في الشوارع المشمسة الواسعة، وينظر في شغف إلى البنايات والأشجار والنحاس الكثير اللامع، ويصفر، ويدندن أحيانا ويتوقف، ثم يستأنف المشي بطريقة المقص فيمد كلا من قدميه مكان الأخرى، ويسير أحيانا بعرض الشارع، وأحيانا يرفع قدمه ويمسكها بيده من الخلف، ويحجل على قدم واحدة، ولسانه يلوك فمه من الداخل، فيصنع ضوضاء مكتومة كنقيق الضفادع، ويجري إلى الأمام وإلى الخلف، ويحتل وجهه كله تعبير خالي البال المستمتع بكل ما يراه ويفعله، بلا شيء وراءه يفسد المتعة .. لا عمل، ولا أب، ولا أسطى!
وتعثر فجأة في شيء، ووجعته قدمه، وانحنى فوجد أن ما تعثر فيه كان قطعة حجر بيضاء، فرماها بغيظ على الأرض، ولم يكتف بهذا، بل دفعها بقدمه، وطار الحجر إلى الأمام مسافة ثم توقف، وحين وصل إليه ضربه بقدمه ضربة قوية أخرى، فطار الحجر واعتلى الرصيف، وحين وصل إلى مكان الحجر، انحنى والتقطه وحدق فيه مليا؛ ليتأكد أنه ليس شيئا ذا قيمة، واستأنف المشي وهو يقذفه إلى أعلى ويلتقطه. وبعد قليل غير الحركة فأمسك الحجر في قبضته ومد سبابته لتلامس الحائط الذي كان يمشي بجواره، وظل هكذا فترة، ويبدو أن أصبعه آلمته؛ فقد استبدلها بالحجر وتلفت مرة فوجد أن الحجر يصنع باحتكاكه مع الحائط خطا أبيض .. وأعجبته اللعبة فاستأنف المشي وهو يمر بالحجر على الحائط ، فيرسم خطا أبيض يبدو واضحا فوق الجدران الأنيقة الملونة، ورسم خطا على طول سراية آل سليمان، ثم مده إلى أن وصل عمارة الفكهاني، ثم فيلا سمعان، وعبر الشارع واستأنف حك الحجر بسور حديقة السفارة الأمريكية.
وكأنما أعجبه سور السفارة حين وجده طويلا لا ينتهي، فمضى يجري فيجري الخط بجواره، ويتوقف فيتوقف، ويحرك يده إلى أعلى وأسفل، فيتموج الخط ويتعرج، ويسرع ويبطئ، فتتسع التعرجات وتضيق.
وقبل أن ينتهي السور كان قد انتهى شغفه بالخط فتوقف، وحرك يده بسرعة وعصبية فوق الحائط، فرسم الحجر خطا عصبيا متداخلا فيه نزق وغضب، ورفع يده عن السور ولعق فمه من الداخل، فصدر عنه نقيق الضفادع، وهز رأسه هزات كمن يراود نفسه، وهز جسده أيضا، ثم التصق بالحائط واختار بقعة ليس فيها خدوش، وتخير حافة بعينها من الحجر وأمسكه بحرص في يده، ثم انكب على الحائط وراح يعمل. وحين انتهى كان قد كتب كلمة: «محمد»، وحدق فيها، وتراجع إلى الوراء ولعق فمه وتأملها، كانت حروفها عجفاء ركيكة، وعقد يديه خلف رقبته وثنى جسده وركز انتباهه على «ميم» محمد، وكأنما أعجبته رأسها المستلقية إلى الوراء في عظمة؛ فقد عاد إلى الحائط بسرعة واندفاع، وكتب «ميما» أخرى، وضم شفتيه ونفخ أشداقه ونظر إليها، ويبدو أنها لم تعجبه فانكب على الحائط من جديد وكتب «ميما» ثانية جاءت أسفل الأولى بقليل، وقريبة منها حتى إنها اشتبكت مع ذيلها، وتراجع إلى الوراء ونظر إليها، وكأنما هي أيضا لم تعجبه، فقد رمى الحجر من يده، واستأنف المشي وهو يمط شفتيه ويلوي بوزه.
وفجأة استدار إلى الخلف بسرعة ونظر إلى الميمين من بعيد، ثم أقبل عليهما بلهفة، وبحث عن الحجر بعينيه حتى وجده، ومن جديد انكب على السور، ورسم خطا رأسيا بجوار الميمين، والتصق بالسور أكثر، وظل مدة طويلة يعمل وعرقه يسيل، ويده الصغيرة العصبية قد تشنجت أصابعها كالكماشة على الحجر، ولما انتهى كان قد كتب: «أممنا - الشعب - القنال.»
وتراجع إلى الوراء وراح ينظر إلى ما صنعه وهو يلهث منفعلا . وكأنما لم تعجبه الجملة فقد هز رأسه بشدة، والتصق بالحائط من جديد، وراح يعمل وهو يغمض عينا ويفتح الأخرى، ولما انتهى كان قد كتب نفس الجملة مرة أخرى ودون أن يتراجع إلى الوراء كثيرا، حدق في الخط برهة قصيرة ويبدو أنه لم يعجبه أيضا، ووجد اللام طويلة وشرطة النون غير واضحة، والقاف مغلقة، والحروف كلها مائلة كالنخل حين تعبث به الرياح، يبدو هذا لأنه راح ينفخ في يده الممسكة بالحجر، لينفض عنها ذرات الغبار، ثم تخير حافة من حواف الحجر لم يستعملها، والتصق بالحائط من جديد، وراح يعمل ويعرق، ويغمض عينا ويفتح الأخرى.
وحين انتهى فرك يده بشدة، كمن أتعبته الكتابة. وتراجع إلى الوراء ونظر إلى الجملة الأخيرة مليا، ثم علت وجهه ابتسامة رضاء، فعض شفته السفلى وأخرج من فمه نقيقا، ثم عاد إلى الحائط ورسم علامة «صح» أسفل الجملة الثالثة، وجعل للعلامة ذيلا مرحا طويلا؛ علامة الرضا الكامل.
وظل برهة يحدق في الجملة؛ كأنما ليتأكد أنها محفورة على حائط السور، بطريقة ليس من السهل محوها، وأنها ستظل هكذا فترة طويلة، وسيعرف كل من يقرؤها - بطريقة ما - أنه كاتبها. ظل برهة يحدق في الجملة، ثم ارتعش نصفه الأعلى كله، وأخرج من حلقه صوتا كصوت «العرسة»، ورفع قدمه اليسرى وأمسكها بيده من الخلف، وانطلق يحجل بقدم واحدة، ويمضي في الشارع المشمس الواسع.
ه... هي لعبة؟!
الردح، كالزغاريد، فن مصري أصيل. وكما أن الزغاريد لا تجيدها كل النساء، فكذلك الردح، هناك متخصصات فيه، يحفظن عددا لا نهاية له من الشتائم والأوصاف، بعضها عادي، وبعضها فيه تشبيهات واستعارات وكنايات، وبعضها أدب خالص. ولا يكفي الحفظ بل لا بد أن يكون في استطاعة الواحدة منهن أن تلضم الكلمة في الكلمة بلا تردد أو توقف، وتصنع من الشتائم سيالا متدفقا لا ينقطع، فإذا انقطع وقع المحال. ولا بد للشتمة المستعملة من وقع وموسيقى ولا بد أن يكون للصوت المستعمل مقام معين، يرتفع في الأماكن المهمة إلى «السوبرانو» وينخفض عند بعض الكلمات الماسة إلى «الألتو» فمع أن المسألة شتيمة في شتيمة، إلا أنه هناك على كل حال شتائم لا تصح، ونحن شعب مؤدب وخجول بطبعه. ثم لا بد للرداحة من موهبة فطرية تستطيع بها أن تخرج أرفع الأصوات وأعلاها بأقل مجهود، حتى لا تستنفد طاقتها وحتى تستطيع الصمود؛ فالردح مسابقة والفائزة هي من يعلو صوتها ويظل عاليا إلى النهاية.
والفنون كالغذاء لا بد من مزاولتها على الدوام، وكان طبيعيا إذن ألا ينقطع الردح عن الحارة ليلا أو نهارا، ولا يعرف عطلة أو راحة.
وفي ذلك اليوم وشعبان عائد من عمله بعد الظهر بقليل، والدنيا تسبح في أشباه السكون، في ذلك اليوم ما كاد يضع قدمه في أول الحارة حتى دق قلبه، فقد سمع ردحا عالي الوطيس يواتيه من آخرها. دق قلبه لأنه خاف أن تكون الخناقة مع امرأته، وامرأته غلبانة من الأرياف، وإذا كانت الخناقة معها فعوضه على الله، فهي مبتدئة لا تستطيع أن تجاري بطلات المدينة، صحيح أنها بدأت في الآونة الأخيرة تتعلم، ولكنها لا تزال «تطبش» كما يفعل الرجال حين يتعلمون السباحة على كبر. كل ما تستطيع أن تفعله هو أن تقف في النافذة، وتوارب الشيش، وتحاول الرد على غريمتها، وتخرج ردودها بعد جهد، فهي ريفية خجول لا تستطيع أن تحشو فمها بكلمة فارغة مثلما تحشو نساء المدينة أفواههن، ولذلك فمهما قالت، فكلماتها تتساقط كأوراق الخريف أمام التيار اللافح الذي يهب عليها من فم غريمتها.
وصدق ظن شعبان، فالخناقة فعلا كانت مع امرأته، وكانت واقفة لا حول لها ولا قوة كما توقع، وامرأة إبراهيم أفندي قد وقفت في بلكونتهم وصوتها يجيب التائهين، والناس تتفرج بكل قحة، وهي لا تترك شاردة ولا واردة إلا قالتها.
وقف الرجل يتسمع عله يعثر للخناقة على سبب، أو يرى إلى أي حد وصل النزاع، ولكنه ما كاد يتوقف حتى فار الدم في رأسه، كانت المسألة قد وصلته هو شخصيا وأتت على رجولته ثم تعدته إلى أبيه وأمه وذقون أجداده أجمعين.
ودق الباب كثيرا قبل أن تفتح فهيمة امرأته. وامرأته سمعها ثقيل، وبابهم أصم، ولهذا طال دقه. ثم انفتح الباب وما إن رأته فهيمة حتى شهقت وبكت وأمطرت في الحال دمعا. وكاد يرفع يده ويرنها قلما وهو حانق على خيبتها وقلة محصولها من طول اللسان، ولكنه تردد، فلا بد للخناقة من سبب، ولا بد أن يعرف السبب.
وزعق زعيقا هائلا يسأل عن السبب. واعتدلت امرأته واختفت دموعها فجأة كما بدأت وقالت: ابنك انقتل. وأشارت إلى الكنبة. وسقط قلب شعبان على الأرض أمامه وكاد يسقط هو مغشيا عليه لولا أنه حدق في الكنبة. كان ابنه جالسا القرفصاء فوقها ورأسه معصوب بمنديل، وعلى المنديل بقعة دم كبيرة، وفي وجهه خرابيش وفي عينيه نظرة فأر وقع في المصيدة، ولم يكن مقتولا على أية حال.
وما كاد الولد يرى أباه ينظر ناحيته حتى تولاه رعب هائل وبكى بصوت عال وقال: أنا مالي .. هه؟ .. هو اللي ضربني الأول .. هه؟
وملأ شعبان صدره بالهواء بقوة محاولا كتم غيظه، ولو لم يخرج الهواء في الحال ويتنهد لانفجر. القضية كانت قد بدأت تتجسد أمام عينيه فلا بد أن واحدا من أولاد إبراهيم أفندي هو الذي ضربه، وإبراهيم أفندي له ثمانية أولاد، لا بد أن الضارب هو الولد الرفيع مثل عود القصب الذي يجري طول النهار ببنطلون أصفر قصير، وسيقان جافة. وهو لن يستحمل منه خبطة ولا لكمة ولكن هل يمد يده على طفل؟ ثم كيف لم يغلبه ابنه الخائب مثل أمه. ابنه صحيح أصغر منه في السن وأدق منه في العود ولكن كيف يغلب أي ابن في الدنيا ابنه؟ وكيف يجرحه ويبطحه؟
وتقدم شعبان، كان لا بد من رؤية الجرح قبل كل شيء، وما إن رآه الولد يقترب حتى انكمش إلى طرف الكنبة، ولم يوقفه عن انكماشه إلا انتهاؤها، وغمغم شعبان وهو يسبه ويلعن أباه ويهدئ من روعه ويطمئنه إلى أنه فقط يود رؤية الإصابة. وامتثل الولد بعد تهديد. وظل يرتعش وأبوه يفك المنديل، وصرخ وهو يجذبه ولم تكن الإصابة قاتلة ولا ربع قاتلة، كانت جرحا صغيرا، نصفه في الجبهة ونصفه في الشعر، والدم الذي حوله كثير والبن أكثر، بن يكفي لصنع ثلاث كنكات من القهوة وتبقى منه بعدها تلقيمة.
ومع أن شعبان أحس بالجرح يمتد من جبهة ابنه إلى قلبه إلا أن وجهه لم يتغير، وغيظه كان لا يزال كما هو. وأعاد رباط الجرح، وزغر لابنه وقال وهو يجلده بملامحه: وما ضربتوش ليه يا ..؟
وبكى الولد وهو يقسم بالقرآن الشريف أنه أشبعه ضربا ولكما وعضا. ولكنه خانه وضربه بزلطة فجرحه.
وبدأت العاصفة. فهيمة تريد إبلاغ البوليس وعمل محضر وقتل ابن إبراهيم أفندي، وإن لم يفعله، فستأخذ هدومها وعليه أن يوصلها إلى باب الحديد لتركب القطار وتعود إلى البلد حيث للولد أخوال يستطيعون حمايته والانتقام له. وشعبان ساخط على ابنه المغلوب المضروب. ويهدده بعلقة نصفها الموت حالما يطيب. علقة تصنع منه رجلا يعرف كيف يذود عن نفسه ويجرح بدلا من أن يأتيه مجروحا. ولا يترك لابنه فرصة للنجاة من العلقة إلا بأن يذهب في الحال ويجرح ابن ابراهيم أفندي جرحا يمتد من أنفه إلى قفاه.
وتمضي ساعة.
وتهدأ العاصفة. ويستعيذ الزوج من الشيطان ومن ساعة الغضب. ويجد أن الناس للناس والطيب أحسن، وأنه لا بد أن يشتكي الولد لأبيه وهو يعرف أن إبراهيم أفندي رجل جد. لن يرضيه ما فعله ابنه. فإذا أدبه كان بها. وإلا فهناك ألف طريقة لتأديبه. وترفض الزوجة هذا الحل بدعوى أنها جرحت هي الأخرى .. جرحتها طويلة اللسان زوجة «سي» إبراهيم وفضحتها ولا بد من سن بسن وعين بعين والبادي أظلم. ويطمئنها الزوج ويعدها بأن حقها سيأتيها به كاملا غير منقوص وأن مقامها محفوظ وظفرها عنده بمليون واحدة كامرأة إبراهيم أفندي.
ويظل جو البيت مشحونا. وشعبان يخلع بنطلون الشغل وقميصه ويرتدي الجلباب ويريح يديه من نوبة السواقة التي بدأت في الخامسة وانتهت حين تصلب ظهره، وتورمت كفاه وزغللت عيناه. ويسأل عما طبخته الزوجة وهببته. ولا يجدها طبخت ولا هببت. ويلعن العيشة التي لا راحة فيها أبدا. الشغل أومنيبوس والبيت عربة كارو. وفي كل عودة لا بد أن يجد مصيبة. وكم مصيبة يتحملها العمر، والواحد له عمر واحد!
بعد قليل كان شعبان يمسك ابنه المرتجف المرتعش من يده ويدق باب إبراهيم أفندي.
دق مرة فسكتت الأصوات التي كان يسمعها في الداخل. وعاد يدق. فماتت الأصوات. وانطلق حينئذ يدق بلا توقف.
وفتح الباب أخيرا. فتح فجأة. وفجأة أيضا وجد الأسطى شعبان نفسه أمام صالة وفي نهايتها كومة بشرية هائلة. كان الوقت وقت غداء .. والعائلة كلها جالسة تتناوله. والمائدة صغيرة ضيقة لا تتسع لهذا العدد الهائل من أفراد العائلة.
كانت هناك الست شفاعات الزوجة. تخينة ومحنية على المائدة ككيس القطن المتني. وكانت هناك الحاجة تبارك والدة إبراهيم أفندي عجوز جدا وناحلة وشعرها مصبوغ بالحناء ولونه أصفر وأحمر وأبيض. ثم كان هناك ثمانية أطفال بدوا من كثرتهم وتجمعهم اثني عشر أو يزيدون، وكلهم باسم الله ما شاء الله، وبلا ضغينة أو حسد، أولاد إبراهيم أفندي، وفي الركن وفي مساحة لا تتعدى ورقة البوستة، كان يجلس رجل رفيع، لونه أصفر باهت ووجناته بارزة كالشرفات، كان هو بلا ريب إبراهيم أفندي، عميد العائلة والمسئول عن إنتاج هذا العدد الضخم من الكائنات الحية، والمسئول كذلك عن بقائها. وكان الجميع في معركة لا رحمة فيها ولا هوادة، فالطعام قليل، والمائدة ضيقة، والرغيف مهما كبر لا يحتوي إلا على عدد محدود من اللقم، والصراع دائر من أجل البقاء، أو نتش حتة أو الاعتداء على لقمة أو الحصول على غموس. صراع رهيب شمل العائلة كلها وشمل كذلك قططها. فالعائلة - من العز - تحيا معها أربع قطط، لها جيش من الأولاد، والقطط وأولادها لا بد أن تأكل، ولا بد لها من خوض صراع أمر وأدهى لتجد فرجة بين ساقين، أو ثقبا بين جسدين؛ لينالها من الوجبة على الأقل لحسة أو عظمة.
وكان كل شيء يدور في صمت شامل. ولا تسمع إلا أصوات الملاعق واحتكاك الأسنان بالأسنان وجعجعة المضغ، واللكزات التي يصوبها الأخ إلى أخيه والجار البشر إلى الجار القطة.
وما كاد الباب يفتح ويبدو الأسطى شعبان واقفا على عتبته حتى حدث هرج ومرج كثير. وقام إبراهيم أفندي يعزم، وتضايقت الست شفاعات من هذا القادم في وقت الغداء وأحس الأسطى شعبان بالخجل، وتبودلت عبارات مجاملة كثيرة وحلفت عشرات الأيمانات والأقسام، وتزحزحت مقاعد وماء ولد، وصرخت قطة.
وأخيرا جلس الأسطى على الكنبة، وهدأت الأصوات ثم التأم شمل الكومة البشرية مرة أخرى، وعاد السكون الذي لا تقطعه سوى أصوات الأشداق والأسنان وهي تمضغ اللقم وتمزقها، مضافا إليها أصوات ترحيبات كان يرددها إبراهيم أفندي وفمه ممتلئ بالخبز، وعقله ممتلئ بالتخمينات.
وكان واضحا أن عاصفة ستهب بعد قليل، وانتهز كل فرصة الهدوء الذي يسبقها وراح يعبئ نفسه ويستعد.
الأسطى شعبان جالس ومكسوف يرتب ما سوف يقوله وينتقيه، ويجرب بينه وبين نفسه كيف يقوله، وإبراهيم أفندي يدرك أن أحد أولاده لا بد هو الجاني وهو السبب في الدم الذي جف على منديل ابن شعبان، ولا بد أن امرأته كالعادة تولت علاج الأمر بطريقتها الفاسدة وأخفت عنه الحكاية ككل مرة، وتركته ليواجه المصيبة وحده، ومع هذا كان عليه أن يدفع أول الأمر ببراءة أولاده أجمعين، ويتحدث عن طيبتهم ويأتي بالبراهين على أنهم أولاد حلال مسالمون، فإن أفلتت البراءة كان عليه أن يتصيد الحجج ويقيم المعاذير، ويعد آخر الأمر بالعقاب الباتر.
والست شفاعات نسيت تماما أنها لم تترك أبا لهذا الرجل الجالس أمامها إلا ولعنته وطوقته بأبشع التهم منذ وقت قليل، واندفعت ترحب به، وفي نفس الوقت تعد ما سوف تقوله دفاعا عن ابنها، ثم ما سوف تقوله دفاعا عن نفسها أمام زوجها إن هو سألها كيف أخفت ما حدث، ولم تنس بطبيعة الحال أن تحسب حساب الضرورة القصوى وتعد نفسها لخناقة، وتعد لشعبان سربا طيبا من الشتائم يليق بوداعه. والأولاد قلوبهم كانت تدق؛ فالجاني لا بد منهم، وكل منهم فرح أنه ليس الجاني وأنه سيشهد لتوه محاكمة رائعة يلذ له حضورها كشاهد رؤية فقط وليس كمتهم.
غير أن أمل الأولاد خاب، فبعد قليل جلجل صوت أبيهم يأمرهم بالانسحاب، ويأمر زوجته بإزالة بقايا الطعام .
وجلجلة صوت أبيهم وإن كانت لا تحدث إلا نادرا، ولا تحدث إلا في حضرة أغراب إلا أنها أحيانا تخيف ويحسن طاعتها. ورفعت بقايا الطعام. ولم يكن قد تبقى سوى الصحون والملاعق، وللإنصاف بقيت أيضا حبات أرز قليلة دخلت في شقوق المائدة ولم تستطع أصابع الأطفال ولا حتى أظافر القطط أن تصل إليها.
وكان في نية إبراهيم أفندي أن يجلجل صوته مرة ثالثة، ويأمر زوجته بتركه مع الأسطى شعبان على انفراد لولا أنه شك في احتمال طاعته، فآثر السلامة، والاحتفاظ بكيانه سليما أمام الضيف، ولا تجرحه كلمة ولا زغرة ولا تعليق.
وهكذا وليبعدها، أمرها بلهجة رقيقة لطيفة، لا يقولها إلا زوج غارق في سعادة زوجية دائمة، أن تعد القهوة. وأصابته نظرة جانبية مدببة كطرف الإبرة أفهمته أن ليس لديهم بن.
وحينئذ افتعل إبراهيم أفندي ضحكة ما، وقال للأسطى شعبان وهو يخبطه فوق ركبته: والا تشرب شاي أحسن .. أنا عارف .. أنت تحب الشاي .. كل الأسطوات يحبوا الشاي .. خليه تقيل يا أم نعيمة.
وبينما كان الشاي يعد، كانت أم نعيمة لا تتركهما على انفراد أبدا، وكأن في الأمر مؤامرة، فهي غادية رائحة تنقل كرسيا من مكان إلى مكان، أو تسأل إبراهيم أفندي إن كان يريد شيئا وويله إن كان قد أراد شيئا.
وأخيرا آن الأوان وقال إبراهيم أفندي: خير؟
ولم يقل شعبان حرفا. أشار لابنه وسكت.
وقال إبراهيم أفندي وقد ارتسم أسى أكثر من اللازم على وجهه وكأنه فوجئ برؤية رأس الولد المجروح: خير؟ ما له؟ ما لك يا بابا؟ ما لك؟!
فقال شعبان: ابنك عوره. - ابني مين؟!
قالها إبراهيم أفندي باستنكار ثم أضاف: إنت متأكد .. يعني واحد من الأولاد اللي كانوا هنا دول هو اللي ضربه؟! - أيوه. - يا ولد، يا ولد انت وهوه!
قالها إبراهيم أفندي في شموخ وشهامة.
وجاء الأولاد يتدارون بعضهم في بعض. وكش فيهم الأب: اقف عدل يا ولد .. اقف عدل .. شيل إيدك من على كتف اخوك يا قليل الأدب.
ووقف الأولاد، وجاءت وقفتهم أقرب ما تكون إلى الطابور ، كانوا ثمانية وكانوا يصنعون مع الأرض مثلثا أصغرهم طوله أشبار وأكبرهم أطول من الوالد نفسه بقليل.
وحدق فيهم إبراهيم أفندي وهو يتفحصهم ليحزر من الجاني. ويحس بنوع من الثقة لأنه رئيس هذا الطابور كله يستطيع أن يحركه كيف يشاء. وقال لابن شعبان: مين، مين فيهم اللي ضربك يا بابا؟
وأشار الولد إلى فؤاد الذي يقف في الوسط وقال: ده.
وهنا ضاع زمام الموقف وهاج كل شيء، وارتفع صوت شعبان يحكي ويعنف وقد ذهب عنه خجله وحرجه، ويطالب أن يضرب الجاني علقة .. الآن .. أمام عينيه، وإلا كان ما كان.
ورد عليه إبراهيم أفندي بصوت لا يقل عنه علوا، واشتركت أم نعيمة بلسانها ويديها ورموشها وعينيها، وتناثر الأولاد في الصالة بعضهم يردد كلمات الأب، وبعضهم يعزز حركات الأم، وبعضهم يقلد الأسطى شعبان ويسخر من كلماته، وفي تلك الأثناء هاجت القطط وانطلقت تموء دون أن يزجرها أحد .. وسقطت أشياء في الحمام وقرقعت قباقيب على البلاط ورفع صاحب القهوة المجاورة مذياعه على الآخر، وأذن المغرب، وبدأت صيحات اللبن الزبادي.
وآب كل شيء فجأة إلى هدوء، حين ارتفع صوت إبراهيم أفندي يقول: ولزومه إيه كتر الكلام .. نحقق .. واللي عليه الحق ينضرب بالجزمة. •••
وهكذا بدأ التحقيق.
وبدأ الخلاف، فمن من الولدين يحكي أولا؟
واستقر الرأي أخيرا على أن يبدءوا برواية المجني عليه المجروح، وبدأ ابن شعبان يتكلم، وما إن فتح فمه حتى صمت الجميع وترقبوا، وعم السكون، وحينئذ تلجلج ولم يستطع إخراج الكلمات إلا بعد أن نظر إلى أبيه، وكش فيه أبوه، فانطلق يقول: كنا .. كنا بنلعب .. وبعدين قسمنا قسمنا نفسينا. أنا كنت بدا .. بدافع ودهه (وأشار إلى فؤاد دون أن ينظر إليه) وده كان الأسطول .. جه جه يزقني ماقدرشي علي.
واندفع فؤاد الرفيع يقاطعه: أنا ما اقدرتش عليك؟ مش احنا قايلين مفيش طوب .. ضربتني بالطوبة ليه؟
وهب فيه أبوه يقول: اخرس. فخرس فؤاد وخرس ابن شعبان أيضا وعم سكون.
وتنحنح شعبان وقال لابنه: يا ولد احكي كويس، كنتم بتلعبوا إيه؟
ورفع إبراهيم أفندي جذعه ورأسه وذراعيه محتجا على سؤال الأسطى شعبان، طالبا أن يترك الولد ليروي ما حدث دون أي تدخل أو مساعدة.
وقال شعبان وأمره إلى الله: يا خوانا دانا عايز بس نعرفوا إيه الموضوع.
ومضى الولد يقول: جه يزقني ماقدرش علي .. فراح جايب زلطة وحدفني بيها جت ف... ف... ف...
وبدأ الولد ينهنه لولا أن هب فيه أبوه: اكتم يا بن ال«...» إنت بنت؟! اكتم إوعى تتنفس.
وفعلت كلمات الأب فعل السحر.
ورفع الابن وجهه لأول مرة، وحدق في الموجودين بجرأة، وأشار إلى فؤاد وقال: علشان ما .. ماقدرتش علي .. رحت جبت زلطة يا جبان.
وهب فيه الجميع أن يخرس، فلم يخرس، ومضى كالوحش الصغير يهبهب ويعوي: عامللي أسطول .. والله لما تكون انت مليون أسطول .. علشان ماقدرتش علي .. حد حد كان قالك العب! حد حد قالك اعمل أسطول لما انت جبان؟!
وهنا جاءت زغدة «كده وكده» من أبيه فسكت، وعم السكون.
وكان لا بد أن يعم السكون، فإن أحدا لم يكن قد فهم شيئا، ثم إن ما تبادله الولدان زاد الأمر تعقيدا، وأصبح هم كل والد أن يعرف كنه تلك الخناقة بعد أن كان همه أن يعد نفسه للدفاع عن ابنه.
وكان واضحا أنهما لن يستطيعا أن يستخلصا السبب من المتخاصمين، والمجني عليه متحفز، والجاني ينكر، والحقيقة ضائعة بين التحفز والإنكار.
وكان لا بد من التدخل للعثور على الحقيقة، وإبراهيم أفندي الذي لم يرض بتدخل شعبان، بدأ هو الذي يتدخل ويسأل على اعتبار أنه والد الجاني فلن يحابي المجني عليه.
وأطال إبراهيم أفندي رقبته ومد رأسه وقال، كأي وكيل نيابة مدرب، موجها السؤال إلى ابن شعبان: اسمع يا شاطر .. قل لي كنتو بتلعبوا إيه؟
فأجاب ابنه بسرعة: كنا بنلعب لعبة الكنال.
وأسكت ابنه بلعنة، وعاد يوجه السؤال للمجني عليه فقال الأخير: كنا .. كنا بنلعب .. لعبة الكنال.
وسأله إبراهيم أفندي بعقل حائر فعلا: لعبة الكنال دي إيه .. كورة؟
فأجاب الولد: لأ لأ .. لعبة الكنال ..قسمنا قسمنا نفسينا.
وهز إبراهيم أفندي رأسه وعاد يسأل: يا بني إيه بس لعبة الكنال دي؟
فقال الولد بفروغ بال الصغير: مانا مانا بقول لك أهه .. قسمنا قسمنا نفسينا .. إحنا إحنا الجيش المصري وهم أسطول الإنجليز وحطينا حطينا خط كده وقلنا قلنا ده الكنال.
وفي نزق الأطفال، ترك الولد مكانه بجوار أبيه وقد ذهب عنه تحفظه وخوفه تماما، ومضى وسط الصالة يمثل: حطينا خط كده .. يعني يعني الكنال .. والجيش المصري يقف هنا .. وأسطول الإنجليز يجي يجي من هنا .. وإذا عدوا الخط يبقى اتغلبنا وياخدوا الكنال.
وهنا غمز إبراهيم أفندي بعينه لشعبان عله يضحك، ولكن شعبان لم يضحك، كان وجهه لا يزال جادا ولا يزال يريد أن يطمئن إن كان ابنه محقوقا ليضربه أو صاحب حق ليشهد ضرب خصمه، أما الست شفاعات فكانت ساكتة ترقب الولد اللمض في اشمئناط واحتقار، والأولاد كانوا مشغولين بالتفكير في لعبة الكنال، يقلبون الأمر على وجهه ليروا إلى أي الفرق ينضمون إذا لعبوها، وأحس ابن شعبان بالجو فيه هدوء مريب، فسكت، ولكن أباه استحثه وزغده وقال: هيه .. قول.
فأجاب الولد بفرحة وكأنه أخذ إذنا باللعب في الحارة إلى ساعة متأخرة: أنا أنا كنت في الجيش المصري .. على اليمة دي .. فأم سحلول جه يهجم علي.
وقاطعه إبراهيم أفندي بلهجته الممدودة: أم سحلول مين؟
فقال الولد على الفور: ده .. فؤاد.
ثم استدرك: أصل احنا مسميينه أم سحلول.
ونظر إبراهيم أفندي إلى ابنه شزرا واستدار إلى ابن شعبان وقال: اسمه فؤاد .. أم سحلول إيه دي.
وعاد ابن شعبان يحكي: وبعدين إذا إذا واحد.
والتفت إبراهيم أفندي فجأة إلى ابنه وهو يغلي: بقى كده يا وله يسموك أم سحلول! اتفرجي على ابنك يا ست هانم .. اتفرجي يا ست أم سح ...
وكاد يقولها ولكنه أنقذ لسانه في آخر لحظة والتفت لابن شعبان وقال: كمل .. كمل يا خويا .. كمل يا أم أربعة وأربعين إنت راخر.
وانطلق الولد: وبعدين إذا واحد من الأسطول قدر يعدي الخط تبقى فرقتنا اتغلبت. أنا كنت مع بندق وخشبة وحسام، وخشبة وحسام اتغلبوا، فاتلمت فرقة أم سحلول كلها علي .
وقاطعه إبراهيم أفندي : قلنا ميت مرة فؤاد .. قلنا فؤاد .. ده دي..
وتكلم شعبان: معلش يا إبراهيم أفندي .. عيال .. خليه براحته علشان يعرف يحكي كويس.
وزأر إبراهيم أفندي بصوت منخفض وعينين جاحظتين: يحكي يحكي إنما أم سحلول إيه؟ قلنا اسمه فؤاد .. هي قصة؟ .. ده دي.
وهنا أشار فؤاد الرفيع إشارة خفية بيده لابن شعبان معناها: طيب .. والله لأوريك.
ولكن ابن شعبان لم يتوقف ومضى يقول: فضلت أنا وده .. هو إكمنه أطول مني حب يديني هدر قمت أما شكيته مقص راح نازل على سنانه فالولاد ضحكوا عليه وفضلوا يضحكوا ويقولوا: إيدن أهه .. إيدن إهه .. العبيط أهه .. العبيط أهه .. فهو اتغاظ ومسك زلطة وراح خابطني في رأسي.
واندفع فؤاد يقول: أبدا والله .. إنت ستين كداب في أصل وشك .. والله يا بابا ما ضربته .. هو اللي وقع .. أنا مالي .. أنا ماضربتوش .. إحنا اتفقنا إن إذا غلبنا منهم اتنين يسلموا .. هو ما رضيش يسلم وقعد يزق فينا وإحنا نزق فيه فراح واقع على الأرض اتعور.
وكان إبراهيم أفندي يحاول إسكات ابنه طوال الوقت، ومع هذا فقد تغاضى عنه حتى عثر في كلامه على حجة وحينئذ أسكته ومط رقبته وسأل ابن شعبان: إنتوا اتفقتوا صحيح إن إذا اتنين اتغلبوا تسلموا؟
وانتظر الجميع الجواب بفارغ الصبر، كان كل من بالحجرة قد نسي من الجاني ومن المجني عليه واستحوذت اللعبة على تفكيره، الأولاد كفوا عن الدوشة، وأم نعيمة يدها في خصرها وأذنها متجهة إلى مصدر الصوت والمتاعب، وشعبان مائل إلى الأمام يراقب ابنه في حماس، والجدة كفت عن المواء، والقطط هي الأخرى كفت عن الأنين واختفت بين طيات ملابس الجالسين.
وقال إبراهيم أفندي وهو ماض كوكيل النيابة في دوره يستدرج الولد: إنتو اتفقتوا صحيح يا حبيبي؟
وتلجلج ابن شعبان ونظر إلى أبيه يستشف ما وراء نظرته ثم قال: إحنا إحنا أيوه اتفقنا .. بس بس.
وتنفس إبراهيم أفندي لأول مرة بارتياح وعوج رأسه وقال وهو يكيل السؤال القاضي: طيب .. ليه بقى سيادتك ما سلمتش زي ما اتفقتوا؟
وواجهه ابن شعبان في دهشة واستغراب وقال: أسلم ازاي؟!
فعوج إبراهيم أفندي رأسه إلى الناحية الأخرى وقال: زي ما اتفقتوا .. ليه بقى يا سيدي ما سملتش؟
فقال الولد على الفور: ما هو .. ما هو إذا سلمت يبقى اتغلبنا.
وأغلق ابراهيم أفندي عينه اليمنى وقال: تتغلبوا، تتغلبوا.
وزاد الاستنكار في وجه الولد وقال في دهشة: إذا اتغلبنا يكسبوا هم.
وأجاب إبراهيم أفندي وهو يغلق العين الأخرى: يكسبوا يكسبوا .. ليه ما سلمتش؟
وقال الولد بفروغ بال: مهم كانوا أخدوا الكنال.
فقال إبراهيم أفندي وهو يمط شفتيه: ياخدوه ياخدوه.
واندفع الولد بغضب حقيقي يقول: ياخدوه ازاي؟ ه... هي لعبة؟! ه... هي لعبة؟!
وكذلك اندفع أبوه يقول: وده اسمه كلام يا أبو فؤاد!
وكادت تحدث بوادر ضجة، لولا أن إبراهيم أفندي صرخ: هوس .. هوس .. يا اخوانا إيه اللي جرى؟ دي لعبة بيلعبوها .. قول يا بني ما سلمتش ليه؟ قول.
فقال الولد: أسلم ازاي؟!
وقال أبوه: يسلم ازاي؟
وقالت أم نعيمة: زي الناس يا دلعدي.
واندفع فؤاد النحيل يقول: شفت يا بابا .. هو اللي قلبها جد .. إحنا كنا بنلعب .. هو اللي قلبها جد .. قلنا له سلم، قام شتمنا وقعد يضرب فينا عشان ما نعديش الخط .. والله هو اللي وقعني وقعد يضرب في .. وعضني .. ثلاث عضات أهم .. دا كان زي المسروع .. دا مكانش بيلعب. دا قلبها جد .. وكل ده عشان مش عايز يتغلب .. وأنا مالي؟ هو اللي وقع .. ولما وقع اتعور .. أنا مالي؟ والله ما لمسته .. دا يدوب قربت عليه نزل في ضرب.
وانخرط الولد في البكاء.
وهنا استعاد إبراهيم أفندي الشخطة التي شخطها شعبان في ابنه وشخط شخطة أعلى منها وقال: اخرس .. انت بتعيط زي النسوان .. عمى في عينك.
وصرخت فيه زوجته: جرى إيه يا إبراهيم سرعت الواد .. هو قد الشخطة دي؟ وإيه حكاية النسوان دي رخرة؟ ما تقعد معووج يا إبراهيم وتتكلم عدل .. اتكلم عدل يا إبراهيم.
وقرأ إبراهيم أفندي في الجملة الأخيرة إنذارا خفيا، وفعل الإنذار فعله في الحال.
وهكذا ضاع زمام الموقف واختلطت الأصوات ، صوت الأسطى شعبان تخين وتصاحبه حشرجة كحشرجة الكلاكس حين يعلق، وصوت إبراهيم أفندي رفيع أخنف كأنما يصدر عن طاقة واحدة من طاقتي أنفه، وصوت أم نعيمة حياني نواعمي طويل متين كحبال الكتان، وصوت الجدة أم إبراهيم أفندي كصوت ابنها تماما وكأنها جد. وكلمات شعبان فيها احتجاج صارخ، وكلمات إبراهيم فيها دعوة للسلام والمحبة وما يصحش يعملها الصغار ويقع فيها الكبار، وكلمات شفاعات عزف منفرد لزمارة كمساري ترام، وكلمات تقال، وكلمات لا تقال ولم يسلم الأمر حتما من بضع دعوات خرجت من فم الجدة واستقرت على رأس العدو، أي عدو.
وآب كل شيء إلى هدوء .. حين قال الأسطى شعبان: زي بعضه .. إحنا ما لنا بركة إلا بعض .. نصطلح نصطلح.
وقبل الجاني رأس المجني عليه .. وقبل المجني عليه رأس الجاني وتبودلت بعض نكات تناسب المقام .. وتفضلت الست أم نعيمة وضحكت على نكتة، وتفرق الأولاد وقد انتهت الرواية، وجاء الشاي وشرب الأسطى شعبان، وشرب إبراهيم أفندي على حس الضيف وتكلم الرجلان في السياسة وقال إبراهيم أفندي: إن الله معنا وسينصرنا على القوم الكافرين .. وقال شعبان عن الإنجليز: دول عضمهم دايب من شرب الخمر .. يدوبك تزق الواحد يقع.
وأخيرا آن الأوان، وأخذت الجلسة حقها، واستأذن شعبان وعزم إبراهيم أفندي عليه بالعشاء. عزومة مراكبية ولكن الأسطى أصر ومضى آخذا ابنه في يده.
وقبل أن يهبط شعبان السلالم سمع أصواتا تأتيه من الداخل وتلكأ قليلا فعرف صوت إبراهيم أفندي الأخنف وهو يقول: تحرم يا كلب تلعب مع العيال؟
وسمع شعبان صرخة مبالغا فيها ثم صوت الولد وهو يقول: أحرم يا بابا.
وعاد إبراهيم أفندي يقول: تحرم تلعب لعبة الكنال ومش عارف إيه؟
وصرخ الولد وقال: أحرم يا بابا. - تحرم يعملوك أم سحلول يا خايب؟ - أحرم والنبي. - تحرم تعمللي إيدن وكلام فارغ من ده؟ - أحرم يا بابا أحرم، والنبي حرمت.
ولعلع صوت أم نعيمة: خلاص حرم يا إبراهيم .. خلاص .. ما عدشي حيعمله. قطيعة تقطع إيدل وشورته واللي جابوه .. قول تبت يا واد قول تبت. •••
وقبل أن يضع شعبان قدمه على أول درجة من درجات السلم التفت إلى ابنه وملس على رأسه وعلى المنديل الذي يخفي جرحه وقال: وله .. إوعى تكون سلمت في الآخر يا واد.
ونظر الولد إلى وجه أبيه المرتفع وأمسك يده الغليظة الضخمة بكلتا يديه ثم ألصقهما بوجهه الصغير، وضمها إليه وتعلق بها، وابتسم ولم يجب.
سبتمبر 1956
البطل
في ذلك اليوم، مضت ساعات الصباح الأولى، دون أن يجد جديد؛ فالمكتب هو المكتب، والحجرة هي الحجرة، والأوراق تملأ الأركان والأدراج، وتطل من الدواليب، وفناجين القهوة رائحة غادية، والسجائر تستخرج خلسة؛ حتى لا يعزم أحد على أحد. وخمسة موظفين في حجرة، والوجوه كالعادة مقطبة؛ مقطبة وهي تتصفح الجرائد وتغلقها، ومقطبة وهي تحدق في السقف، وعابسة وهي تطلب الشاي وتلعن طعمه، ومغمومة وهي تنحني على الأوراق وتعبث بها، وتقضي العمر تدقق وتؤجل وتكتب.
لم يجد جديد في ذلك الصباح، مع أن الحرب قامت، والطائرات بدأت تغير، وكل شيء .. كل إنسان يخوض تجربة الحياة والموت، والعالم لا ينام، صاحيا يرقب الشرق وهو يدمدم ويتحرر، والمكتب هو المكتب، والحجرة هي الحجرة، وصبحي جاد هو الذي على يميني، والغازي أبو بكر على يساري.
غير أنه قبل الظهر بقليل، جاءني الساعي وقال: تليفون.
وتليفون من أجلي كان يعني شيئا من اثنين: إما عبد الخالق فاضي في مكتبه في وزارة الشئون ويريد أن يصبح علي، وإما كارثة حدثت في بيتنا ورأت العائلة أن تتصل بي على عجل، وفي كل مرة يطلبني التليفون أقول: كارثة، وفي كل مرة أجد المتحدث هو عبد الخالق.
وهذه المرة أيضا قلت: عبد الخالق؟ صباح الخير.
وإذا بصوت غريب يقول: لأ، أنا أحمد. - أحمد مين؟
قلتها وأنا أخمن من عساه يكون، فالأحمدات الذين أعرفهم لا يتجاوزون ثلاثة، وإذا به يقول: أنا أحمد عمر.
ولم يكن هذا الأحمد من بين الثلاثة، فرن اسمه في أذني رنين الاسم الغريب، الذي لم تتعود على سماعه، وخجلت أن أستقصي أكثر؛ فلا بد أنه يعرفني ويتوقع مني أني لا بد أعرفه. ورحت أسأله كما يحدث في أمثال هذه الأحوال عن الصحة والمزاج والعائلة؛ حتى أظفر من ردوده بخيط يقودني إلى معرفته، دون أن أحرجه أو أحرج نفسي!
ورغم أنه مضى يجاوبني بنفس الكلمات، التي تعود الناس قولها ردا على أسئلة كأسئلتي، إلا أني دهشت؛ فصوته كان مملوءا بالانفعال يكاد يلهث، وكان يستعجل السؤال والإجابة، كأنما هناك شيء يؤرقه ويود الإفضاء به إلي، وسمعت منه كلمات عن «مصر الجديدة» و«كتيبتنا» و«المعسكر» ولكني لم أفهم. وسألني مرة إن كنت حقا أذكره، ومع ذلك لم أعرفه إلا حين سألني عن أخي محمد وصحته؛ إذ أيقنت أنه لا بد أحمد عمر، ابن جارنا عم عمر .. أحمد صديق أخي الأصغر الحميم.
واندفعت أرحب به وأحييه، وقد بدت صورته أمامي واضحة كل الوضوح، فرغم أن عم عمر كهل نحيف، إلا أن ابنه أحمد هذا شاب ضخم، وإذا عرف الإنسان أن سنه عشرون عاما فقد بدا له صخما جدا؛ فجسده عريض شاهق، وذقنه خصيب غزير شعره أسود متين كذقون الرجال الكبار، ومع هذا فقد كان من ذلك الصنف من الشبان، الذين يخجلون من مواجهة محدثهم، فلا ينظرون في وجهه أبدا، وتجده إذا تكلم يتعثر في كلماته؛ فلا تخرج من فمه جملة كاملة، وأحيانا يقول الكلمة ويظنها نكتة وينفجر ضاحكا، وحين يدرك أن أحدا لا يشاركه الضحك، يصطبغ وجهه بلون الدم، ورغم كل شيء فالناس لا بد أن تقول بعدما يذهب: والله باين عليه ابن حلال .. طيب.
وكانت صلتي به محدودة، وكل ما أعرفه عنه أنه كان في مدرسة التجارة المتوسطة، أو الصنايع لست أدري، وأخذ الدبلوم أو لم يأخذه، ثم دخل الجيش حسب قانون التجنيد الإجباري.
وأغرب شيء أنك تحس دائما أنه ملآن، ولديه آلاف الأشياء التي يود قولها، غير أنه نادرا ما يفصح عن نفسه. وإذا تكلم فلا يقول شيئا من عنده، إنما يعبث بكلمات غيره، فتقول له مثلا: إزيك انت؟ فيرد عليك ويقول: الزاكته! ويضحك ويخجل، ويحمر وجهه، كان لا يخاطبني إلا «بحضرتك»؛ على اعتبار أني الأخ الأكبر لصديقه، وأحيانا كانت تفلت من لسانه كلمة تستحق التأمل، وإذا تأملها الإنسان أدرك أنه ليس بسيطا كما يبدو، وأن له أعماقا.
وكان إذا جاء لزيارتنا وفتح له الباب، خفض رأسه، وسأل عن أخي، فإذا كان موجودا، دلف إلى حيث يكون مطرق الرأس، لا يرفع بصره ولا يتلفت. وكنت أحيانا ألقاه فأحادثه وأحس به شهما خدوما؛ لو قلت له: ارم نفسك في البحر مثلا، لذهب ورمى نفسه في البحر فعلا، ثم عاد إليك في ثاني يوم مبتل الملابس، يقطر الماء من شعره، ويقطر الخجل من وجهه ويتهته ويقول: أما المية كانت ساقعة بشكل!
يقولها قاصدا بها أن يلومك ويؤنبك، وهذا كل ما في استطاعة أحمد أن يؤنب به أحدا!
ولم نكن أصدقاء بالمعنى المفهوم؛ كنت أراه كل ستة أشهر أو كل سنة، وكنت لا أراه على حالة واحدة أبدا؛ ففي كل مرة لا بد أن يكون قد حدث له أو حدث فيه تغيير؛ فهو في لقاء طالب، وفي آخر متخرج، وفي ثالث ساخط يبحث عن عمل، ومرة أراه صغيرا لم تنبت له لحية، وأفاجأ به في المرة التالية وقد فرعني طولا! جاء مرة لزيارتنا بملابس الجيش، وفوجئنا به حقا، وأذكر أننا يومها سلخناه عبثا وتريقة، نقول له: يا دفعة، ونضحك على شعره القصير، الذي قصه كما تقضي التعليمات، ونسأله: لم ربى شاربه هكذا؟ فيقول: ح اعمل إيه؟ ما دام مفيش تعليمات تحدد طول الشنب، أربيه كده إياك يعوض عن شعري!
ويمضي يحدثنا بطريقته المتلعثمة، ويسخر من نفسه ومن زملائه، ومن «اليمك» والطوابير المبكرة والبروجي والنظافة، والشاويش الذي يدربهم، ولسانه الذي لا يكاد يرى متعلما من أمثال أحمد حتى ينهال عليه، والتكدير والتزويغ، وتصاريح الأربع والعشرين ساعة، وكيف «يبلف» الضابط حتى يأخذها، ويضحك، بجسده الضخم كله ومن قلبه، ثم يكف عن سخريته وضحكه فجأة، ويتنحنح ليشعرنا أنه ينوي قول شيء جاد، يتنحنح ويقول: إنما صحتي كويسة!
وأذكر أنه في زيارة أخرى، قال لي: إنه أخذ النمرة النهائية في التنشين، وسألته وأنا أسخر من العبقرية التي هبطت عليه فجأة عن السر في نبوغه، فمضى يشرح لي نظريته؛ فقد وجد أنهم يعلمون النيشان في الجيش على علامات ثابتة، ثم يمتحنونهم على علامات متحركة؛ ولهذا فمن أول لحظة كان ينشن على العلامة الثابتة كأنها ستتحرك فجأة، وبهذه الطريقة كان يضرب بسرعة ويصيب، وبلغ به الحماس مداه، وبلغت بي السخرية مداها، وهو يؤكد لي أن الطريقة التي يعلمون بها الجيش غير مجدية، وأن أهم شيء في الدنيا هو أن يتعود الإنسان أن ينشن على هدف متحرك.
هذا كله أمر معقول.
أما غير المعقول فهو ما حدث؛ فلماذا يكلمني أحمد في التليفون؟
صحيح أني فوجئت به، ولكني أقول الحق فرحت، وأحسست أني افتقدته طويلا؛ فهناك أناس يفتقدهم المرء .. يفتقد القيم .. الشرف في ذهن الواحد منا مرتبط بإنسان، والإخلاص بإنسان آخر، والحنان والمحبة بثالث، وأحمد عمر هذا كان يرتبط في ذهني - ولست أدري لماذا - بشيء يمس من قريب أو بعيد روح شعبنا .. الشعب الضخم الخجول، الذي لا يسعده شيء مثلما يسعده أن يسخر من نفسه وأخطائه.
ولم أسأله لماذا هو في مصر الجديدة؛ فقد خمنت أن كتيبته، لا بد معسكرة هناك، تحمي شمال القاهرة؛ إذ كان الجيش يستعد للدفاع عن العاصمة. أما الشيء الذي حيرني فعلا، فقد كان لهجته اللهجة المتدفقة المملوءة بالانفعال، وصوته المحشو بضحكات موفورة الصحة، لا كحة فيها ولا بلغم.
وعجبت.
وسألته كيف يكلمني، وهل عندهم في المعسكر تليفون؟
وأجابني: إحنا معسكرين قريب من هنا، وجنبي بقال. ياه! داحنا شفنا العجب؛ دي حرب بجد والله العظيم! والطيارات والمدافع؛ تك تم، تك تم .. تصور حضرتك ما غيرتش الشراب بقالي ست أيام لما بقى شربات!
سامع الطيارات؟
وكنت حقيقة أسمع ضجة خافتة بعيدة، وكنت أعرف أن طائرات العدو، تركز ضرباتها على تلك المنطقة «مصر الجديدة» ليل نهار!
وانتابني شيء يشبه الخزي، وأنا أدرك أن أحمد في الميدان، وأنا في المكتب، وسلك طويل يفصل بين القتال الرهيب الدائر هناك، والمصلحة التي أنا فيها وروتينها ودرجاتها وعلاواتها.
واندفعت أبثه كل حماسي وسخطي، وأشجعه.
وقلت له وأنا أدرك أنه لا يريد مني خدمة: كلنا معاك، عايز حاجة؟ أي خدمة؟ قول. محمد بيسلم عليك.
ولدهشتي أجابني: مش عايز حاجة أبدا، سلم لي عليه كثير، على فكرة أنا معايا مدفع أهه، أضرب لك طلقة؟
ولعلمي أنه خجول ومن الصعب عليه أن يطلب مني شيئا إن كان يريد، عدت ألح وأسأله عما يريد، وإذا به ينفي بشدة أنه في حاجة إلى شيء، وسألته إن كان يريد من عائلته ملابس فقال: سلم لي عليهم. - بس؟ - بس. - مش عايز فلوس، هدوم، أي حاجة؟ - أبدا أبدا.
وازداد عجبي، ومضى وهو يقول: اسكت! مش امبارح الله يخرب بيوتهم ضربوا المعسكر بتاعنا؟!
وكان يقولها ببساطة دفعتني لأن أسأله بنفس البساطة: وعملت إيه؟ مت؟
وضج التليفون بضحكته وقال: أبدا، خمناهم؛ قبل ما يضربوا المعسكر سيبناه، وعلى فكرة حصلت حاجة هايلة دلوقت.
وإذا كان لبعض الناس كلمات مختارة، ف «هايلة» كانت كلمة أحمد عمر المفضلة، كل شيء يحكي عنه لا بد أنه هايل! وعدت ألح وأستدرجه، وأنا متأكد أنه لا بد قد طلبني لأنه يريد شيئا، ولكنه قهقه وقال: أبدا، عاوز حضرتك كويس. كويسة دي؟ بس على فكرة حصلت حاجة هايلة خالص. - إيه؟ حصل إيه؟
فقال: مش وقعت طيارة؟
فقلت: إيه؟ طيارة ورق؟
فقال: لأ، بجد، طيارة فرنساوي، كانت فايتة قدامنا، قلت للقائد: أضرب يا فندم؟ رحت ضارب؛ قام جناحها انكسر ومالت ووطت، فالقائد زعق وقال لي: خلص عليها يا أحمد، خلص عليها! خلصت عليها وتصور .. تصور وقعت.
واستمر يضحك ويقول: سلم لي على محمد، لما ييجي قول له: إن أحمد وقع طيارة .. أنا عارف إن هو مش ح يصدق زي عوايده، إنما والله العظيم وقعتها أهه .. محروقة في الرملة هناك، أضرب لك طلقة؟
وأخذت أضحك أنا الآخر؛ فأيامها كانت مودة أن يقول كل واحد إنه أسقط طائرة، فما بالك وأحمد يخبرني بنفس اللهجة، التي كان يعلق بها أحيانا على أشكال بنات الجيران، يخبرني أنه أسقط طائرة!
وحتى وأنا أرى صورته في الجرائد في اليوم التالي أكذب نظري، وأعود أتمعن في صورته، وأسمع صبحي جاد وهو يحدق في الصفحة ويقول: أما ولد! دا شارب من لبن أمه صحيح! ده باين عليه زي الوحش يهد الدنيا، شوف بيبص ازاي؟ الواحد سنه 53 سنة وما يعرفش يوقع ناموسة! وده يوقع طيارة بحالها! ويوقعها لوحده!
حتى وأنا أسمع هذا كله وأراه، كنت أتأمل أحمد الذي في خيالي، ولا أكاد أصدق.
لحظة أن كنت أكلمه، كان كل همي أن أعرف الخدمة التي يريدها لأستطيع القيام بها، وأحس أني بهذا أساهم بنصيب ما في المعركة، فقلت: أمال ...
وترددت، فقد خجلت، ولكني استطردت: أمال بتكلمني ليه؟
وما كادت الجملة تغادر فمي، حتى أدركت أني قلت شيئا سخيفا.
وأسرعت أتكلم وأمسح أثرها من الحديث، كما يمسح الإنسان كلمة كتبها خطأ، أسرعت أقول: قول يا أحمد عايز إيه؟ صحيح عايز إيه؟ أنا أخوك مفيش داعي للكسوف، قول لي عايز إيه؟
وسمعت صمتا في التليفون، وأدركت مدى الخجل الذي كان يعتريه، وطرقت أذني كلمة: أصل .. وأعقبها صمت قصير، أدركت أن أحمد لا بد يعض شفته السفلى خجلا؛ فتلك كانت عادته، وخمنت أنه سينطلق بعدها كالمدفع ويتكلم؛ فكلما كان خجله يجعله يتعثر في أول الحديث، فكذلك كان يجعله ينطلق بسرعة في آخره، قال: إنت عارف؟ إدوني ساعة أجازة بعد الحكاية دي، وأنا معرفشي نمرة إلا نمرة حضرتك، قلت أكلم حضرتك، دي حاجة هايلة أوي، مش كده؟ تصور طيارة تقع، أنا أوقعها، أنا أوقعها؟ أنا مش مصدق، بيتهيأ لي إنها وقعت من نفسها، ولا يمكن حد تاني وقعها! سلم لي على محمد كتير.
ثم تلجلج كمن لا يعرف كيف ينهي الحديث، وسمعت نحنحة خفيفة، فعرفت حينئذ أنه ينوي أن يدخل في الجد .. وجاءني صوته: إنما صحتي كويسة، أنا متشكر قوي قوي قوي.
وكانت آخر مراحل خجله أن يضحك، وكأنه لا يطمئن إلى الغلافين السابقين، فيلف كلامه بغلاف ضاحك ثالث.
وحين وضعت السماعة كنت لا أزال غير مصدق، أن أحمد طلبني فقط من أجل أن يخبرني بهذا «الشيء الهايل». وكانت السماعة لا تزال تضحك .. ضحكة دسمة موفورة الصحة.
3 نوفمبر 1956
الجرح
فاجأنا الريس حين طلب منا أن ننتظر. قالها بلهجته البحراوية وكان كلامه من لحظة أن عرفناه قليلا، وكان من نوع لا يرحب بالجدل ومع أن كل شيء كان على أتم استعداد إلا أننا سكتنا كلنا ونحن متأكدون أن لا بد هناك ضرورة لهذا الانتظار غير أن حلمي لم يسكت. عوج وجهه. وأسبل جفنيه وقال للريس: إحنا مستعجلين ولزومه إيه الانتظار؟
يبدو أن كلامه تبدد. ولم يصل إلى آذان الرجل. فقد كان مشغولا بشيء ما يعدل من وضعه في (القلع)، وأحرج حلمي حين لم يتلق ردا على سؤاله فعاد يقول: مستنيين إيه يا ريس؟
ونطق الرجل كلمة، ولم نتبينها. فقد كان يمسك مسلة بشفتيه بينما يداه مشغولتان، والتفتنا جميعا نحوه، فرفع المسلة وقال: واحدة ست. ولا بد أن دهشة كبيرة انتابتنا، فقد تململنا. ونطق أكثر من واحد مرددين: إيه؟ ست؟ واحتج حلمي مخفيا غبطته قائلا: ست إيه، وده وقته؟ إنت مش فاهم ولا إيه يا ريس؟
وأجاب الريس والمسلة بين أسنانه هذه المرة. تقلب الزاي جيما. وتعطب الكلمات: لاجم ناكدها معانا.
وانهالت الأسئلة والاحتجاجات. وانتظر حتى فرغنا وقال: أنا حالف بالطلاق لازم آخدها.
وارتفعت أصوات احتجاجنا أكثر. فأكمل: دي ساقت علي الدنيا. وباتت مع مراتي عشان تضمن تيجي لغاية ما حلفت لها يمين الطلاق.
وأتبع كلامه بابتسامة يرضينا بها. كانت له سنة من بلاتين براق، وكان وجهه نحاسيا أسمر. ورموشه صفراء طويلة. واللاسة التي تعمم بها من حرير. وفانلته زرقاء من الصوف تنتهي بياقة مسدودة تحيط برقبته. وأكمام طويلة. وله سروال. - هه .. أنام أنا بقى.
قال حلمي هذا وتمدد. وأحدث تمدده انكماشات في الأرجل وثنيات هنا وهناك، وأصوات احتجاجات كان مبعثها أننا نعرف أنه لا يريد النوم بقدر ما يريد أن يرينا سخطه على الوقت الضائع.
وركز الريس عليه انتباهه لحظة. ثم ابتسم وقال: اسم الكريم إيه؟
فقال حلمي وهو يزفر: زفت.
وعاد الريس يسأله: ودستورك منين؟
واعتدل حلمي وقال: منين إيه يعني؟ اشمعنى يا ريس؟
فقال الريس وهو يجذب حبلا: بسأل.
وقال أحدنا: مصيبة تقيلة.
وأجاب آخر: ح تعطلنا .. ويمكن تودينا في داهية.
ولعب ثالث بيده في الماء ونثر قطرات على الباقين وقال: ودي عايزة تروح ليه؟
ونظر صاحب الصوت إلى الريس وأعاد نفس السؤال.
ولم يرد الريس. وكنا كلنا نتوقع هذا. كان لا يجيب إلا على ما يحلو له الإجابة عليه. وأحيانا يكتفي بالتحديق في سائله وهز رأسه.
كان ثمة هدوء على الشاطئ. هدوء متكاتف ثقيل. والهدوء حين يتكاتف ويستتب يصبح شيئا مروعا، وكانت الدنيا «ليل»، والبلد ساكنة هامدة بجوارنا. بيوتها أشد سوادا من الظلام. بيوت قديمة متراصة، حيطانها لا تحتمل البرد، وطوابقها متآكلة متساندة كجماعة من خفر الليل العواجيز.
وتجاهنا شارع واسع جدا لا يسمح ضيق البلدة باتساعه، وتلمع فيه برك ماء، وتتجمع على حوافه أكوام من قشر الأرز الذي تنفثه ماسورة طويلة تمتد عبر الشارع وتنتهي من مضرب الأرز، أعلى بناء في البلدة، والبناء الوحيد الصاحي؛ إذا كان يعمل رغم إطفاء الأنوار والأوامر. وتتصاعد دقات وابوره لب دب. لب دب .. لب دب. موحشة كئيبة في البلدة المظلمة، كأنها القلب لا يزال يدق في جثة ماتت وشبعت موتا.
وكان قاربنا واقفا على حافة البحيرة وظهر البلد إليه. وكنا إذا التفتنا إلى البحيرة ضاعت أبصارنا بين البحيرة الراكدة المظلمة في السماء، والسماء التي استقرت بنجومها في قاع البحيرة، وكان قلع المركب مطويا، نرى بدايته القريبة منا، ولا نرى نهايته المذابة في الظلام. وكنا أربعة، والقارب صغير، وحلمي مضطجع، والريس جالس القرفصاء مستندا إلى الصاري، والريح نائمة، ودق الوابور يصل إلينا بانتظام يضايقنا انتظامه، وأنفاسنا تتقارب وتتباعد، والأحداث كثيرة، وغريبة، ومتتابعة، وكلها تحدث في يوم واحد، ونتنفس بعمق فتمتلئ أنوفنا برائحة الزفارة. كل ما في البلدة يضج بها. الأرض والبيوت ورغبات الناس والقوارب .. فالبلدة أهلها صيادون، والسمك صناعتهم، وفي كل مكان تجد آثاره، والقارب يهتز اهتزازات خفيفة، يجذبه موج صغير إلى الداخل ، ثم يدفعه الموج الكبير ليصفع به الشاطئ، والريس كوعه فوق ركبته، ويد من يديه ممدودة إلى آخرها، واليد الأخرى فوق الدفة ورموشه الطويلة مسبلة، وفمه نصف مفتوح، ويكاد شخيره يتصاعد.
واهتز القارب، وتحرك واحد، وخرجت في الظلام علبة سجائر، وتناولناها كلنا، وأخذ الريس سيجارة .. وضعها بين أصبعي يده الممدودة ورفض أن يشعلها.
ومضى الدخان يتصاعد من أنوفنا وأفواهنا في صمت، والبقعة التي نحن فيها أصبحت صفحة سوداء. فيها لطع بيضاء، تحدد هيكل القارب، وولعة أربعة سجائر تتوهج، وفوانيس النجوم الصغيرة تتأرجح، وناب الريس البلاتيني يبرق.
وقال حلمي فجأة: دا مش كلام، ما نرجع أحسن.
قال هذا وهو ينتفض بشدة ويقوم. ومال القارب حتى كاد ينقلب، وارتطمت جبهته ارتطاما عنيفا بالصاري حتى إنه صرخ، وما كاد القارب يعتدل حتى كانت يده تتحسس جبهته، وحتى كان يقول: أنا اجرحت يا جماعة، والله اجرحت، ياه، ده فيه دم، إدوني منديل.
وحدثت ضجة، وتناثرت الشتائم من فم حلمي، وكثرت التعليقات، ثم خمد الكلام، وانقطع، ودلفنا إلى سكون لا يعكره إلا صرير الصراصير المتصل الدائم.
ورفع الريس رأسه، وحدق إلى بعيد، وتمايل القارب حين اندفعنا كلنا لنحدق.
كانت ثلاث كتل سوداء تتحرك مسرعة في اتجاهنا. كتلة قصيرة صغيرة في المقدمة، والكتلتان اللتان وراءها تحاولان اللحاق بها، وتخوضان برك الماء دون جدوى.
ولم يكن القارب قد تحرك، أو حتى كان في نيتنا أن نتحرك، ومع ذلك كانت من في المقدمة لا تكف عن الصياح: إوع تمشي .. إوع تمشي يا خويا .. أهه .. أنا جيت.
وفي غمضة عين كانت قد وصلت وألقت بنفسها إلى القارب، ولولا أننا قمنا جميعا وتلقفناها بأيدينا لكانت قد هوت إلى الماء، ومددنا إليها أيادي كثيرة تساعدها، وأمسكت بأيدينا في قوة وتحفز، وعصبية، وكانت أصابعها حادة صلبة ذات تجاعيد، والقبضة قبضة أم.
وأفسحنا لها مكانا، ولكنها لم تجلس .. ظلت تتلفت في قلق ولهفة، ولا تستكين، وتود أن تقول أي شيء وتسأل عن كل شيء، وحين وصلت الكتلتان قالت بسرعة وحسم: روحوا انتم بقى.
قالتها كمن يود رفع الهلب الذي يربطه بالشاطئ لينطلق. وتكلمت المرأتان .. في وقت واحد .. وكلام كثير. واحدة طويلة وعجوز. وكلامها أيضا طويل وعجوز .. والثانية فتاة، لا بد أنها جميلة فصوتها كانت فيه رنة من اعتادت الثقة في نفسها وجمالها .. وكانتا لا بد «أخت وبنت أخت» وكان رد الخالة واحدا حاسما لا يتغير: روحوا انتم بقى.
ولم ندر لإصغائنا للحوار سببا. وعقولنا بدت لنا كالصفحة البيضاء التي لم يخط فيها حرف .. وما نسمعه كأنه أول كلام عربي نسمعه.
وأفاق واحد وغمز لجاره: مصيبة وجت لنا على الآخر.
وقال له جاره: ح تخاف دلوقت وتبهدل الدنيا.
وقالت الخالة مرة: روحوا انتم بقى.
وخرجت الجملة دون أن يسبقها أو يعقبها رد من الشاطئ.
كنا قد ابتعدنا.
وبدت البحيرة لا نهاية لاتساعها، وأصبحنا بالقارب والريس والصاري نقطة تافهة في الوجود غير المحدود. وتلك هي البحيرة فقط، فما بالك ونحن من لحظة أن غادرنا القاهرة وطريق طويل يسلمنا إلى طريق أطول. والأرض الخضراء على الجانبين، أرض واسعة لا حد لاتساعها، أوسع من أي شيء رأيناه، أوسع من السماء، السماء تضيق بسطح الأرض فتنحني السماء وتصنع خط الأفق، والأرض لا ينهيها خط ولا أفق. فبعد كل أفق تجد آفاقا أوسع.
والقرى كثيرة لا حصر لها، بين كل قرية وقرية قرية. وفي كل قرية مئات البيوت، وكل بيت يعج بعشرات الناس، وكل هؤلاء مصريون، كلهم مصريون، لا يمكن أن يموتوا كلهم أبدا. ونترك إقليما وندخل إقليما والأرض لا تنتهي والناس لا ينتهون. أناس متشابهون، وجوه لها لون أرضنا السمراء، وذقون وشوارب كشوش الأذرة، ونفس السحنات، وكأنهم رجل واحد مصنوع من ملايين الرجال. ويقولون إن سيدنا نوحا كان طوله ألف ذراع، ترى كم طول هذا العملاق الذي لم نعثر له على بداية، وظلت السيارات والقطارات تقطع بنا الأميال والأميال ولا نعثر على نهاية. حتى حين وصلنا المطرية، وانتهت الأرض وبدأت البحيرة، لم ينته العملاق، بل تحول إلى يد ضخمة. يد ذات عشرات الآلاف من الأصابع، يطلقها في ماء البحيرة فتمتلك البحيرة، وتعتصر من مياهها خير ما فيها، وكما يحدث لليد إذا امتدت إلى الماء وطال امتدادها، فالناس تصفر شعورهم، وتبهت بشراتهم، ويصبح لعيونهم زرقة الماء. ويتغير شكل الجسد ولا ينتهي العملاق.
كنا قد ابتعدنا.
وكل شيء أصبح مستقرا ما عدا الريس. كان دائب الحركة، لا يهدأ. المذراة في يده يغرسها في قاع البحيرة ثم يدفعها بصدره، وأرجله تمرق من وراء ظهورنا، وتدور حول القارب، وأصابع أقدامه تتشبث بالحافة في حنكة ودراية وكأنها قد تحولت إلى مخالب صقر وحركته تبهرنا، وكأنه يقوم بمعجزة، يميل ليدفع القارب أكثر حتى لنعتبره ساقطا في الماء، وإذا به يرتد، والمذراة قد انتزعها وكأن ألف حبل خفي تصل بينه وبين الصاري، وتحميه من السقوط.
ولم تكن الراكبة الجديدة إنسانة، كانت كتلة قلق حية جعلتنا نحس أن روحا جديدة حلت بيننا وفينا. عيناها تنظران إلينا ولا تتفحصاننا، وأيديها على ركبها، وأيديها على يد الحافة، وأيديها تضرع لإله غير منظور، ورأسها يدور، ولا يستقر، وينثني فجأة إلى الشاطئ ثم يرتد ويعود يدور. وما كاد الريس يفرد القلع حتى التفتت إليه وقالت: مش على طول يا خويا.
وقال الرجل بلكنته البحراوية والمذراة لا تزال تحت إبطه: إيواه .. ربنا يسهل.
وردت الخالة: إن شاء الله .. إن شاء الله إلهي يخليك.
والتفتت إلى الجالس بجوارها وسألته: وانتوا كمان؟
فأجاب حلمي ويده تتسلل دون وعي وتتحسس مكان الجرح في جبهته: واحنا كمان ..
وعادت تسأل الريس: ونوصل إمتى ..؟
فقال حلمي: حد عارف.
وأعادت السؤال وابتهلت، فقال الريس: يا أمي ربنا يعدلها.
واستمرت: يعني بعد ساعة؟ .. إلهي يخليك لشبابك .. بعد ساعة؟
ولما لم يجب الريس، التفتت إلى حلمي وسألته: بعد ساعة يا بني .. إلهي يخليك .. بعد ساعة والا أكتر؟
وهنا زعق الريس وقال: دا شيء بتاع ربنا يا ستي. واللي منه لا بد عنه. هو مافيش صبر؟
والصبر هي الكلمة التي كان يبحث عنها كل منا ليسمي الرائحة التي أشاعتها الخالة من لحظة أن جاءت. كانت ترتدي كمعظم الخالات ثوبا أسود وطرحة سوداء . ولا يظهر من جسدها غير وجهها فقط، وثيابها كانت تبدو وكأنها لم تخلعها منذ أيام كما لو كانت أردية ميدان. وأشاع قدومها تلك الرائحة .. رائحة العواجيز التي لا يعرف أحد إن كان سببها هو رائحة الصناديق التي تحفظ فيها الثياب، أو هي رائحة نسيج الملابس نفسه. المهم أنها تذكرك لا بد بجدتك، وبالماضي، ومع أنها ليست عطرة، إلا أنك لا بد تحس بالألفة تجاهها، ولا تتأفف.
ولم تكف الخالة عن الكلام منذ أن جاءت، ولم نكن نتكلم والريس هو الآخر ساكت. كانت قد مضت ساعات ونحن نترقب، كل ما يهمنا هو اللحظة التالية وما يحدث فيها. والكلام لا يدور في جو الترقب. ولا يدور ساعة الضيق. وكل شيء قد حدث على حين بغتة، كنا في بيوتنا وأعمالنا وقال كل منا للآخر: تروح؟ وقال كل منا للآخر: ياللا. وإذا بنا في الطريق وكأن لا ينقصنا سوى الاحتكاك لنشتعل. وأصبح أهم شيء لدينا أن نرى ونسمع ونجهز أنفسنا للمشهد القادم والكلمة التالية .. ووصلنا المطرية في الضحى، وانتظرنا إلى أن يحل المساء لنعبر البحيرة إلى هناك، وقضينا اليوم بطوله نعيش في بلدة الإنسان والسمك .. والحياة تمضي من حولنا، كما اعتادت أن تمضي طوال آلاف من الأعوام .. الرجال ذوو الشعر الأصفر والبشرة الفاتحة والأفواه المفتوحة على الدوام كأفواه البلطي، يتزوجون البنات والبنات شقراوات، أجسادهن لها تناسق (المز) ورشاقة الطوبار، وطعمهن أشهى من السمك الطازج إذا شوي في الفرن وأضيف إليه الفلفل والملح والتوم وعصير الليمون، ولهذا فكل يوم زواج. والأطفال كل يوم يولدون. والأسماك هي الأخرى تتوالد، وتتكفل البحيرة بصغار الأطفال وصغار السمك. صغار الأطفال طول النهار في الماء يألفون الماء المالح ويألف الماء المالح أجسادهم، ولا أحد ينهرهم، ولا يخاف عليهم أب؛ فالبحيرة للصيادين غول مستأنس.
ويكبر الطفل فيكبر حب استطلاعه ويترك الشاطئ ويتعلم العوم، وصغار السمك أيضا تتعلم العوم. ويصبح طول الطفل مترا وطول السمك قراريط .. ويذوق الطفل طعم السمك، ويذوق السمك طعم الطعم، فلا ينسى الطفل حلاوة السمك، ولا ينسى السمك حلاوة الطعم. ويمسك الطفل بصنارة ويخرج سمكة، وتهزه الفرحة فقد هزم العالم المجهول الكائن وراء السطح البراق. ويهزمه مرة ذلك العالم المجهول. ويعود خاوي الوفاض. ويفهم الطفل أن الصنارة نصفها في يده يخضع لإرادته، ونصفها الآخر يعتمد على رغبات مجهولة في العالم المجهول.
ويسمع أباه يقول: الحظ. ويردد الكلمة لا يعرفها. ثم يرددها وهو يعرفها ويؤمن بها. يؤمن بقانون آخر يحكم العالم المجهول. قانون لا يخضع لقانون .. ولا يستسلم الإنسان حتى لو كان خصمه قانونا لا يخضع لقانون. ويبدأ الصراع الرهيب بين الصياد الصغير والبحر المجهول. ولا بد من أشياء تؤنس وحشة الإنسان في ذلك الصراع. لا بد من علامات تشاؤم وتفاؤل، لا بد من موال؛ لا بد من حدوتة؛ لا بد من أمل طويل لا ينقطع؛ لا بد من الصبر.
الصبر.
رائحة الصبر كنا نستنشقها ونتمثلها، والقارب قد اندفع وابتعد عن الشاطئ وأصبحنا في قلب البحيرة، وشعاعات خفيفة متباعدة تنتشر في الأفق وتبشر بطلوع القمر، وهدهدة، أصوات هدهدة هي كل ما يسمع والقارب يرفعه الموج الصغير ثم يرقده بحنان على سطح الماء، والموجات تهتز والنجوم تهتز، والريس عند المؤخرة يهتز، ويد على الدفة ويد ممسكة بحبل القلع توجهه ليعترض الريح، والريح شفافة خفيفة، والدنيا برد، والبرد يكاد يتحول إلى إبر، إبر طويلة ثاقبة، تخرق أجسادنا حتى تصل إلى النخاع، والخالة جالسة لا منكمشة على نفسها ولا منطوية، وكأنها نعسانة أو ميتة.
وقال لها حلمي: بردانة يا خالة؟
فأجابت: آ .. باقي كتير. ييجي ساعة يا خويا.
ونطق الريس: انوي المشيئة يا شيخة .. قولي إن شاء الله.
فقالت الخالة على الفور: إن شاء الله يا خويا إن شاء الله بإذن الله بعد ساعة؟
وكادت موجة الحديث تنتشر لولا أن الريس أسكتنا. فالهدوء مخيم، والكلام ينقله سطح الماء المستوي إلى مسافات بعيدة والبحر له آذان.
ورحنا نهمس. قالت الخالة: إنتم كمان رايحين؟
فقال حلمي: إيوه.
وسألتنا كلنا: ورايحين ليه؟ إنتم من هناك؟ - لا. - ليكو قرايب أمال؟ - أبدا.
وقال الريس وهو يبتسم: ما قلت لك دول فداوية يا ست.
وتململنا، وهممنا أن ننطق. ولكن الخالة تمعنت فينا وسألتنا: إنتو صحيح فدائية يا بني؟
فقلنا: أمال ح نكون إيه يا خالة.
وتركت الحديث ووضعت يدها برفق على كتف حلمي وقالت: ما تحطش إيدك ع الجرح يا ضنايا لحسن وحش.
وأنزل حلمي يده بعد تردد واختطف سيجارة من واحد منا وسألها: وانتي رايحة ليه يا ست؟
ولم تجب. ولمحنا دموعا تهطل على الفور من عينيها دون بكاء واستغربنا، وأعاد حلمي السؤال فقالت: رايحة أشوف ابني.
ولم تنطق «ابني» حروفا كانت دموعها أكثر من الحروف وهي تنطقها. - ابنك ما له؟
وأجابت: ابني يا خويا هناك. - بيعمل إيه؟ - مجروح .. مجروح يا ضنايا وما شفتوش بقالي شهر.
واندفعت تبكي. وشل بكاؤها ألسنتنا. ولكن حلمي ألح: مجروح ازاي؟
ومضت تتكلم وتبكي وتبكي وتتكلم: جتله رصاصتين في رجليه .. إلهي ينتقم منهم البعدا. - ليه؟ - كان بيحارب في الهوجة ساعة ما نزلوا. - كان بيحارب؟!
قلناها كلنا مبهورين. وكأننا نردد أمنية غالية، وكأننا نطلق دعوة. ولم تكن أمنيتنا وحدنا. كل من قابلناه كان يرددها. وقليلون هم من أتيحت لهم الفرصة. فالمعركة كانت حادة وباترة، نشبت فجأة، وانتهت فجأة، ولم تستمر سوى أسبوع، وكأنها طعنة خنجر، حتى أصبح في نظرنا البطل هو من كان هناك والمقدس هو من اشترك فيها، أصبح كل من اشترك فيها يحف به في نفوسنا نوع من التقديس وكأنه أسطورة، وكأنه كائن غير موجود، فإذا بالخالة ابنها قد حارب وجرح. وقلنا لها: وزعلانة ليه؟ ابنك بطل. - عايزة أشوفه. - دي إصابته بسيطة وما لك نازلة بكا عليه يا ستي؟ - بقا لي زمان ما شفتوش .. مشتاقاله وجيت مرة المطرية قبل كده. وركبت القارب ووصلنا هناك .. والإنجليز حاشونا ثلاثة أيام وكان الرصاص زي الناموس فوق رءوسنا. وبعدين رجعونا .. ودي تاني مرة .. ح نوصل امتى يا أخويا .. إلهي يخليك. عايزة أشوفه. مش قربنا؟
وتناهى السؤال إلى وعينا غريبا مدويا. وانطلقت عيوننا تستكشف البحيرة. وفقدنا الأبصار في المسطح اللانهائي من الماء. وغابات الحشائش المتناثرة، والسماء ذات الضوء الشاحب ، والقمر المكسور الذي بدأ يزحف صوب الأفق. ولا شيء سوى هذا. لا شيء سوى الماء الكثير الآسن. الماء الأسير الباقي بعد الصراع، صراع النيل والبحر الكبير، والنيل الهائل الذي أنشب أظافره في البحر وأسر الكثير من مائه وحاصره. وصنع البحيرة، لا شيء سوى سكون غامض مثير مليء بأسرار وألغاز، سكون الأسى ومعسكرات الاعتقال، وسكون مرعب مخيف، سكون البحيرة التي عبدها القدماء.
ولم نكن بعد قد عرفنا الكثير عن ابن الخالة. كنا نود أن نعرف كل شيء عنه من لون شعره إلى طريقته في المشي.
قالت: أبدا يا بني .. لما الضرب حصل قال لي لازم تسافري.
قلت ما أسافرش، قال لازم. قلت له يا بني أنا ماليش إلا أنت، وربنا هو حيلتي من دنيتي. أسيبك ازاي. قال لازم وركبني المركب. ورحت مصر. يقطعني أنا اللي ما استنيت وياه. يقطعني اللي سبته. - وحارب؟! - وحارب وجاتله رصاصتين في رجله. - وعرفتو ازاي؟ - هو في المشتشفى وبعت لنا جواب في الصليب الأحمر يا خويا وقال الخدمة زي الزفت ومفيش أكل ولا شرب يا بني يا حبيبي .. مين يجيب له يشرب إذا عطش؟ مين يسقيه؟ مين يسأل عنه؟
واعتدلنا جميعا.
كان الأمر يتأرجح في نفوسنا بين الشك واليقين، كن نعتقد أنها لا بد أم قد لسعها الشوق إلى ابنها المحجوز هناك وصممت على رؤيته. وقصص البطولة مودة «موضة»، كل قاطن هناك لا بد اشترك، وكل قاطن بطل، وكل واحد قتل من الأعداء مئات. وتبادر إلينا أن الخالة هي الأخرى تود تضخيم الأمر واختلاق المستحيل لتصل. ولكنا اعتدلنا. فغير الأم لا يستطيع أن يمثل أبدا دور الأم. وأم غير المجروح لا تستطيع أن تمثل أبدا دور أم ابنها مجروح، وكانت في جلستها التي لم تغيرها، والتي يخيل للإنسان إذا رآها أنها واقفة، وواقفة على أطراف أصابعها وليست جالسة، وعيونها وهي تنظر إلى بعيد ولا تطرف ولا تمل الرؤية والنظر وكأنها تتشوف إلى حبيب، وكلماتها، والطريقة التي تنطق بها كلماتها، ودموعها التي تغرق الكلمات وتغص الحلق. كانت بلا ذرة شك مجروحة وأم مجروح. اعتدلنا ونحن نحس بقشعريرة انهيار، وكأننا ونحن ننظر إليها نعبد الخالق أو نصلي للشرف.
وقال حلمي: خالة. - نعم يا خويا. - إنتي زعلانة إنه حارب؟ - أنا يا بني زعلانة إنه مجروح ودلوقت لوحده.
وقهقه حلمي كمن يود أن يغير طعم الحديث، وسألها في سخرية غير لاذعة: طيب .. افرضي يا خالة إنك كنت وياه ساعتها كنت ح تخليه يحارب؟
وانحدرت دموع كثيرة من عينيها، وقالت في لهجة روتينية: أيوه كنت أخليه.
وزام حلمي غير مصدق، فتابعت إجابتها بإخلاص هذه المرة: كنت أخليه أخليه .. إنما لازم كنت أحارب وياه .. رجلي على رجله.
وقال حلمي مستخفا: تشيلي البندقية؟ - أشيلها.
وتدخل واحد وقال: طب شيل إنت إيدك من ع الجرح يا حدق.
وتنبه حلمي إلى أن يده كانت قد عادت إلى مكانها فوق الجرح دون وعي منه، فأنزلها، وتوقف برهة، ثم تابع استخفافه ليداري خجله: وتضربي نار يا خالة؟ - أضرب .. ما اضربشي ليه. أهم بيقولوا إن الستات كانت بتضرب.
وتابع حلمي استخفافه: طيب افرضي إنه اتعور وانتي بتحاربي معاه، تعملي إيه؟
وبكت ولم تجب، وأسكتنا حلمي. ولكنه فعل هذا للحظة ثم عاد يسألها: يا ستي الحكاية بسيطة، وهو في المستشفى. زمانه طاب. وما لك ملهوفة عليه قوي كده ليه، هو انتي لوحدك؟ ما كل واحد اتعور له أم زيك كده، ما كنت تستني لما يخرجوا الإنجليز وتروحي في أمان بدال ما تعرضي نفسك للموت كده. إنت لازم ترجعي وتستني.
فأجابته بلهجة هادئة ولكنها حاسمة: ما أقدرشي أستنى. - ليه؟ - عايزة أشوفه. زمانه لوحده. عايزة أشوفه بعد اللي حصل. دا كان في الحرب يا بني. إلهي ما يحرق قلب أمك عليك.
وضحكنا لذكر أمه. ومع هذا لم يملك كل منا بينه وبين نفسه إلا أن يتذكر أمه، ثم ينفيها على عجل من ذاكرته.
وحلت لحظة صمت.
الريح بدأت تنتعش. ونور السماء قد خفف كثيرا من ظلام البحيرة، والقلع منفوخ، وفم الريس مفتوح، وعيونه لا تغفو، والجو مملوء بالصرير المتصل الذي لا ينضب ولا ينقطع.
وسألها حلمي بصوت شاعري ممدود يقارب لهجتها: هو كبير يا خالة؟
فقالت دون أن تنظر إليه. وعيناها هائمتان. معلقتان فوق نجمة بعيدة في قاع البحيرة: أهو اسم النبي حارسه ييجي قدك كده. - ومجوز؟ - خطباله.
وارتفع صوت حلمي في هزار مفاجئ: وزعلانه قوي كده ليه؟ تلقاه كان طول النهار نازل فيكي شتيمة. - أبدا والنبي يا اخويا .. دا لسانه مفيش أنضف منه. - وكان بيشتغل إيه يا خالة؟ - عندنا دكانتنا يا خويا .. أمال هو قعد ليه .. قال لي ما اسبش الدكانة للإنجليز ينهبوها أبدا. - وكان بيحب مصر يا خالة؟ - مصر مين يا خويا؟ - مصر بلدنا. - هو حد يا ضنايا يكره بلده .. إلهي يخليك.
وصنعت الدموع خطين رفيعين لامعين على وجنتيها واندفع حلمي يقول في حماس مفاجئ: يا ستي ابنك راجل واتعور في معركة رجالة. اتعور وهو بيدافع عن بلدنا وشرفنا، بكرة يكتبوا اسمه في الجرانين وينشروا صوره، فأجابت وهي تهز رأسها: بس عايزة أشوفه. عايزة أشوف إيه اللي جرا له .. إلهي يخليك يا ريس. لسه كتير؟
ولم يجب الريس.
وهز حلمي رأسه في يأس، ثم تنبه فجأة، وقال بالإنجليزي كأنه عثر على كنز كبير: أتعرفون لماذا هي مصرة على رؤية ابنها؟
وقال له واحد بالعربي: ليه؟
فقال: إنها تدرك بغريزتها أنه لا بد قد تغير بعد المعركة، تريد أن تتبين ما حدث له من تغيير وكيف أمكن لابنها الذي ربته ورأته طفلا. كيف أمكنه أن يحمل السلاح ويحارب. وتريد فوق هذا أن تطمئن إلى أنه لا يزال ابنها حتى بعد أن حارب كالرجال وحمل السلاح.
وضرب واحد يد حلمي التي كانت قد تسللت مرة أخرى إلى جبهته وقال بالإنجليزية أيضا: يا مغفل أهم شيء هو القوة الرهيبة التي تجذب الأم إلى ابنها، القوة التي لا يقف أمامها حائل.
ولم يظفر التعليقان بتعليق. كل ما حدث أن الخالة ظلت تنظر إليهما وهما يتكلمان، ثم التفتت إلينا وسألتنا: أمال انتم رايحين ليه يا اخويا؟
فأجابها حلمي: مش قلنا لك يا ست فدائية. مش مصدقة ولا إيه؟
وكدنا نضحك لولا أن سمعنا الريس يقول: اسمعوا. فسكتنا برهة .. وعاد يقول: سامعين!
وأصخنا أسماعنا، ومن بعد سحيق تلقفنا صوت هدير غريب على السكون المستتب.
وقال الريس: دا لنش.
فقال حلمي على الفور: لأ .. دي طيارة. - بقول لك لنش. - أقطع دراعي إن ما كانت طيارة.
وخيل إلينا أننا ظللنا ساعة ننتظر النتيجة. وكان الريس يتكلم: الإنجليز عملوا استعدادات جامدة. طيارة أم مروحة رايحة جاية على البحيرة. تشوف القوارب وتعرف إذا كان فيه صيادين ولا لأ. وبعدين قبل الشط بشوية لازم تقف وإلا تضرب بالنار وبعدين قارب ييجي يفتش. إنما دا صوت لنش ما فيش كلام.
وظل الصوت يهدر من بعيد ويقترب حتى رأينا في الضوء الشاحب نقطة فاتحة تتحرك وكانت تتحرك في نفس اتجاهنا.
وقال الريس بنبرة فيها انتصار قليل: مش قلت لكم. دا لنش. وجاي من ناحية المنزلة كمان. عارفنشي رايح فين؟
وابتسم حتى توهج نابه وأردف: على هناك برضك.
وسأله حلمي بسخرية: إيش عرفك؟
فأجاب: إيش عرفني؟! أنا عارف قوي .. وما تزعلش تلاقي فيه ناس مثلكو برضك.
وتغيرت لهجة حلمي واهتز طربا وقال: كده .. طيب تيجي ننادي عليهم يا جماعة؟
وانهالت الأصوات تعترض. وقال الريس: خليهم يا محترم في حالهم واحنا في حالنا. خلي كل حي في سكته. وكان اللنش أسرع منا، فسبقنا، وأوغل في التقدم حتى تبدد وقال الريس وهو يضرب ركبته المثنية بيده: يا خويا إيه الحكاية. دا المركب بطلت صيد. أنا واحد م الناس ليلة امبارح، وليلة أول، وكل ليلة عمال أحول في ناس زيكو كده، صفوف ورا صفوف عمالة تروح على هناك. هو هناك إيه؟ مولد؟
وقاطعته الخالة قائلة لحلمي: يا حبيبي شيل إيدك من على الجرح .. عمال تحسس عليه ليه، شيل إيدك يا خويا.
وجمدت يد حلمي وكأنما ضبط متلبسا .. ثم أنزل يده وهو يداري ابتسامة خجل ويتمتم: لأ .. دانا أصلي بس حاسس إني سخن.
وما لبث أن انثنى إلى جاره قائلا: والنبي تحط إيدك تشوفني سخن ولا لأ .. يا أخي شوف.
ولم يترك الجار إلا بعد أن أطاعه ووضع يده فوق جبهته.
وكنا قد دخلنا منطقة خالية من جزر الحشائش، والريح بدأت تقوى حتى إن الريس ربط حبل القلع في مؤخرة القارب، وأمسك بالدفة فقط، ولكنه ظل مقطب الملامح، عابس القسمات صامتا لا ينطق وكأن أمرا كبيرا يحيره، أو حزنا مفاجئا داهمه. وكان جالسا وظهره إلينا، وظل على هذا الوضع لا يغيره، وكنا قد تعبنا من التفكير والكلام وحتى من مجرد التحديق في السماء والماء، فسكتنا، وماتت الحركة على ظهر القارب تماما حتى لم نعد ندري أهو واقف أو يتحرك، وهل نحن نائمون أم مستيقظون.
وانثنى الريس ناحيتنا فجأة حتى تهدلت اللاسة التي كان يتعمم بها من عنف الحركة، وقال: قولولي يا سيادنا.
وقبل أن نسأل ماذا يريد أو نتحرك قال بنبرات حاسمة وكأنما يتخذ قرارا خطيرا: انتو مش فدائية؟
ولا ندري لماذا دقت قلوبنا بعنف، وكأنما كنا نسرق وباغتنا الريس. وظللنا وقتا طويلا صامتين، صمتا حائرا مضطربا، صمت العاجزين وكان حلمي أول من تكلم وقال: أمال احنا إيه؟ بنلعب؟
وحدق الريس فينا مرة أخرى وقال: علي الطلاق بالتلاتة إنتم ما انتم فداوية.
وقال حلمي ساخرا مرتبكا: أما حكاية .. أمال رايحين نعمل إيه يا بلدينا؟
فأشار الريس بكفه وقال: ما هو ده اللي محيرني. رايحين تعملوا إيه. رايحين ليه. هو أنا عيل .. دانا أفهمها وهي طايرة. والناس بتبان. الواحد ياما شاف فداوية وضباط وجن أحمر. إنما اللي محيرني انتو رايحين ليه؟
واستمر حلمي ساخرا مرتبكا: طيب رايحين ليه؟
فأجاب الرجل: إنت بتسألني أنا .. اسألوا نفوسكم!
ولم نكن، حتى تلك اللحظة، قد سألنا أنفسنا أبدا أو ناقشناها ولم يكن أحد قد سألنا. كل من علم أننا ذاهبون كان يتمنى لنا حظا سعيدا ولا يستغرب. بل إن كل من قابلناه أو رأيناه كان يتمنى أن يأتي معنا. وكنا نأخذ الأمنية على أنها شيء طبيعي لا غرابة فيه، كمن يقول: نفسي آكل، أو نفسي أشرب.
طوال صمتنا كانت الخالة ساكتة؛ ولكنها لما رأت الصمت طال قالت: يه .. أمال يا خويا رايحين ليه؟
وتكلمنا كلنا في وقت واحد: إنتي صدقتي الريس؟ إحنا فدائيين صحيح. - أهو رايحين كده .. نتفرج. - أصل يا ستي فيه مقاومة شعبية هناك .. و... - لينا قرايب يا خالة بس من بعيد رايحين نطمن عليهم.
ولم يدخل ما قاله كل منا في عقله؛ ولا في عقول الآخرين؛ ولا حتى في عقل الخالة.
ومضت تحقق مع حلمي وتسأل وتدقق عن الأسباب التي تدعونا للذهاب وحلمي يحاور ويداور؛ والريس يبتسم ابتسامة من فقس الفولة ونحن ساكتون.
أحيانا يفيق الإنسان فيجد نفسه متجها إلى مكان معين، هكذا، بلا وعي أو تفكير. وقد جعلنا سؤال الريس نفيق. وحين أفقنا كان كل شيء أمامنا له سبب. الخالة ذاهبة لترى ابنها. والقارب يتحرك لأن الريح تدفعه. وحلمي جرحت جبهته لأنه ارتطم بالصاري. أما نحن فلماذا نحن ذاهبون؟
رغما عنا رحنا نسأل أنفسنا لأول مرة.
ولم نجد جوابا معقولا أو مقبولا. كل ما وجدناه كان إحساسا كبيرا لا يترك لنا مجالا للتفكير أو السؤال. إحساسا أن شيئا هائلا مؤلما لا بد قد حدث هناك، وأننا يجب أن نكون بالقرب مما حدث.
ولكن حقيقة، لماذا نحن ذاهبون؟
وما تلك القوى الخفية التي تدفعنا وتحبب إلينا الذهاب؟!
وانتهى نقاش الخالة مع حلمي حين ارتفع صوتها وكله غضب: بقى تموتوا أرواحكو كدب في نصب. لا انتو فدائية ولا حرس ولا حاجة ورايحين تموتوا أرواحكو. انتو مالكوش أمهات؟ والنبي يا ريس اعمل معروف رجعهم. رجعهم اعمل معروف تكسب ثواب ما تخليهمش يهوبوا على البر. إلهي ما تحرق قلب أم على ولدها يا رب.
قال الريس: ما تتعبيش نفسك يا أمي .. اللي عقله في راسه يعرف خلاصه لازم في نيتهم حاجة. خليهم يا ستي كل حي في سكته.
وكان يقول الجزء الأخير وهو يقف ويتمغط ويتثاءب، ولكنه كف عن تثاؤبه وقال بإرهاب كثير: بصوا.
واتجهنا كلنا إلى حيث أشار، وهناك، عند نهاية الأفق، وفي ضوء الفجر المشبع بالبرودة، كانت توجد غمامة كثيفة داكنة فيها أضواء قليلة صفراء معطوبة تكاد تذبل.
وقال الريس: أهه .. خلاص .. وصلنا.
وتركت الخالة ما كانت تهمس به لحلمي وقالت بفرحة منفجرة: والنبي؟! والنبي يا اخويا. إلهي يخليك لشبابك، إلهي يسعدك.
وفي الحال انتفضت على وجناتنا عروق. وفي الحال مضت تدق، شيئا كدق الحرب، ورحنا ننظر وقد تركزت أرواحنا في أبصارنا وامتلأت صدورنا بدفء مفاجئ. ورغم احتجاجات الريس وصرخاته وتمايلات القارب وقفنا جميعا، وتكاتفنا لنتساند ونتأمل الغمامة الرمادية البعيدة ذات الأضواء. كانت رهيبة كئيبة كناموسية غامقة مسدلة على مجروح. مستحيل أن تكون ناموسية مسدلة على مجروح. لا بد هناك أناس مصريون. لا يمكن أن يكونوا قد ماتوا كلهم أبدا .. أبدا.
انفعالات تفور وتنسكب، والرمادية تختفي لتأخذ مكانها سمرة، أرض سمراء أوسع من السماء. والغمام ينقشع ويبدو وجه الشمس، أجمل شمس، على ضوئها تبدو ملايين السحنات التي رأيناها طوال الطريق وكأنها وجه عملاق كبير مصنوع من ملايين الوجوه، وعلى رأسه مليون طاقية، ومليون عمامة ولاسة وكوفية. والعدو أيضا هناك، وراء الغمام، عدو بشع كثير ونحن - القادمين - قبضة. لماذا لا يأتي كل الناس؟ لماذا لا يتحرك العملاق كله وينقض حتى يتحرك العملاق؟
وأقوى من أي انفعال وأعظم كان شغفنا الخارق أن تنتهي المسافة، ونصل إلى هناك، ونزيح لفافات الغمام لنرى ما تخفيه.
وفطنا بعد وقت إلى أن الريس يتكلم ويقول: لغاية هنا وما اقدرشي أتنقل ولا خطوة. الشط مليان مدافع ودواهي. إنتم بقى تتوكلوا على الله من الناحيادي. البحيرة مش غريقة. دي لحد الركبة بس. تخوضوا من هنا على طول حتطلعوا جنب التربة. الصراحة كويسة وبذمتي وديني لو كنت أقدر أوديكو هناك كنت وديتكو إنما العين بصيرة واليد زي ما انتوا عارفين .. اتوكلوا على الله.
ووقفنا برهة. تلك البرهة التي تسبق العمل الخطير. الشاطئ أمامنا هادئ هدوءا مريبا كهدوء البركان قبل اندلاعه. والغمام كثيف يحجب كل شيء .. والخط الممتد لا بد كله فوهات بنادق ومدافع. والسماء كأنها تدوي بأزيز العشرات من قاذفات القنابل. بل سمعنا بآذاننا طلقات الرصاص .. بعيدة ولها أنين.
وقفنا برهة وترددنا. تلك هي اللحظة الحاسمة. اللحظة التي ادخرها كل منا ليختبر نفسه وشجاعته. هناك حيث كنا نعيش لم يكن أحد يستطيع أن يميز بين الجبان وبين الشجاع. فكلاهما متاح له أن يعيش. حتى الشخص نفسه لا يستطيع أن يدرك معدنه. في لحظة كتلك يعرف الإنسان نفسه. واللحظة حادة وفاصلة، وقلوبنا تدق. والريس طوى القلع. وأرجلنا مثبتة على حافة القارب. وعيوننا ترقب الشاطئ. وأجسادنا متقاربة. ونظرات مختلسة يصوبها الواحد إلى نفسه والواحد إلى جاره. والبرد قد اشتد فجأة ولم نعد ندري أهو صادر من البحيرة، أم من أعماقنا، والسماء تبهت وتبهت. وطيور النورس تنقض على سطح الماء ثم تعود وترتفع وفي منقارها سمكة. وتكاكي وتتقاتل. والصوت الذي تحدثه هو الوحيد الذي يسمع.
وقطعت اللحظة تمتمة الريس: أما ولية غريبة. طب تقول كتر خيرك.
ثم ارتفع صوته أكثر: مش من هنا يا ست .. خدي يمينك شوية لحسن الحتة اللي قدامك غريقة.
وأدركنا أن الخالة غادرتنا ومضت دون أن تفتح فمها بكلمة. وكادت تصبح على مرمى البصر، تخوض الماء، وتتمايل، وتتوقف برهات، ولكنها لا تتلفت، ولا تكف.
وارتفعت أصواتنا: استني يا خالة. استني شوية.
وفوجئنا بها تقف وتستدير إلينا وتقول: لأ .. روحوا روحوا انتم بقى .. مع السلامة .. والنبي ينوبك ثواب ما تسيبهم يا ريس .. روحوا انتم بقى.
واستدارت على عجل. وأسرعت كالملهوفة الخائفة أن يفوتها قطار.
وأخذ سواد ثيابها يختلط بالضباب والشحوب ويقترب من رمادية الشاطئ.
ومرة أخرى دوت في آذاننا طلقات الرصاص البعيدة التي تصدر من مكان غامض.
ورغم كل ما كان يدور في رءوسنا من خواطر واحتمالات، فنحن لم ندر لماذا أسقطناها كلها فجأة. وركزنا انتباهنا وكأننا أطفال سذج على يد حلمي التي كانت قد عادت تتحسس مكان الجرح. وخبط الريس بكفه على خشبة الصاري وقال: هيه يا سيادنا.
وقال حلمي: أحسن طريقة نستنى لما النهار يطلع.
وسمعنا طرطشة الماء، وأيقنا أن واحدا لا بد قد هبط.
وقال حلمي بعصبية: أهم شيء إن إحنا ما نندفعش. قليل من العقل.
وطرطش الماء مرة أخرى وهبط واحد ثان. وقال حلمي بعصبية: هو أنا بكلم مجانين. ما تفهموا أنا بقول إيه.
وهبط الثالث.
وضرب حلمي الهواء بيده وقال: هي شطارة يعني .. طب هه.
ثم هبط.
وواحدا وراء الآخر رحنا نخوض في الماء وقد انتظمنا صفا متباعد الوحدات، وكأننا أصابع عملاق كبير تتحرك في اتجاه الشاطئ، وقد أصبح كل ما يهمنا أن ننتزع أرجلنا من الماء والطين وندفعها لتفرق الماء والطين، والبحيرة تشخشخ حولنا، والنورس ينقض ويستغيث، والماء يتغير لونه وترتسم على سطحه الدوائر، والجو يزخر بشعشعة ما قبل الشروق، والنجوم قد اختفت من السماء ومن البحيرة. ولم يعد هناك سوى نجمة الفجر، وقوى قاهرة تدفعنا إلى ستار الغمام المسدل لنتحسس الجرح الكبير.
يناير 1957
Unknown page