والمتتبع لبرنارد شو في سني الامتصاص الثقافي هذه - فيما بين سن العشرين والثلاثين - يجد أنه قرأ ألوانا من العلوم والآداب والتاريخ والأديان لا يكاد يتصورها العقل، ودراماته التي ألفها ونجحت بعد ذلك تعود إلى هذه الدراسات التطوعية التي قام بها فيما بين 1875 و1885، وحوالي هذه السنة الأخيرة نجد له اهتمامات بالسياسة والاجتماع يبتكر فيها الرأي الجديد ويدعو فيها بحماسة لا ينال عليها أجرا، فهو يخطب ويكتب ويؤلف دون أن يطلب مليما عن مجهوداته.
لقد صار، وهو في سن الثلاثين (1886) إنسانا مسئولا من البشر، يتحدث ويكتب «كما لو كان له سلطان»، وكأنه يحس أنه يحمل رسالة، ولهذا الإحساس وحده نجد أنه كان يتحمل توبيخ أمه وأخته وتعبيرهما له بأنه فاشل، يتحمله بنفس راضية صابرة واثقة بأنها على موعد من النجاح.
وفي هذه السنوات، فيما بين 1885 و1900، نجد له نشاطا مسرفا في منظمة كانت ولا تزال تسمى «الجمعية الفابية»، وكان هو روحها وخطيبها وكاتبها، وكانت غايتها متواضعة في ظاهرها مع اطمئنان إلى قوتها، فقد اتخذت خطة التسلل إلى الأحزاب بدلا من أن تنشئ حزبا، وكانت الاشتراكية مذهبها، ولكنها كانت اشتراكية التدرج وليست اشتراكية الثورة.
وقد عرفت أنا هذه الجمعية حوالي 1908 ولم أكن أسمع فيها اسم «كارل ماركس»، وإنما كنت أسمع عبارة مكررة هي «التدرج المحترم» بمعنى تجنب الثورة بشأن الارتقاء نحو النظام الاشتراكي، وبقيت الحال على ذلك إلى الأزمة العالمية في 1930 حين شرع اسم كارل ماركس يعلو ويسود، ولم يكن يمثل الشيوعية في لندن غير زعيم يدعى هيندمان، يخرج مجلة أسبوعية تسمى «جستس» ولا أظن أن الذين كانوا يقرأونها كانوا يتجاوزون ألفين.
وعرفت برنارد شو، وهو بين الخامسة والخمسين والستين، وأنا في لندن بين 1908 و1914 رجلا طوالا تجلل وجهه لحية صهباء كأنها لهب من نار، ولم يكن يطلقها عن مذهب، وإنما كان يهدف منها إلى ستر آثار الجدري الذي أصيب به وهو صغير وترك نقورا على وجهه، وكان حبيبا إلى قلوب الأعضاء، يلحون عليه في كل اجتماع حتى يقول «كلمة» تعليقا أو نقدا على المتكلمين، وكانت في صوته صحلة موسيقية تجعل الاستماع إليه متعة.
وتزوج برنارد شو بعد أن نجح في التأليف المسرحي، وعرف زوجته عن طريق الأعضاء في هذه الجمعية؛ فإنها كانت فتاة أرلندية ثرية، وكانت صديقة لأكبر عضوين بارزين في الجمعية هما المستر ويب وزوجته، وتوسط الزوجان في إيجاد التعارف، فالصداقة، فالزواج، بينها وبين برنارد شو، وعاشت معه نحو خمس وثلاثين سنة دون أن يتم بينهما أي اتصال جنسي، وكان لكل منهما غرفة خاصة، وكانا على حب عظيم أحدهما للآخر، فقد اعتادت ألا تأوى إلى فراشها إلا بعد أن يغني لها، وكانت تشير إليه بكلمة «العبقري».
ولما ماتت أحرق جثمانها في إحدى المرامد في لندن، وأوصى هو بأن يحرق جثمانه أيضا ويخلط الرمادان، ثم يذر المخلوط في حديقة مسكنهما الذي عاشا فيه طوال زواجهما، وتم ذلك.
وكان برنارد شو كبير العناية بصحته، وكان يقول إن الصحة من الحكمة؛ لأن الرجل الحكيم يتعود العادات التي تخدم صحته ويتجنب تلك التي تؤذيها، ولكن التزامه للطعام النباتي مدة 64 سنة لم يكن لبواعث الصحة وإنما كان للبواعث الإنسانية؛ إذ كان يعتقد أن الناس يستطيعون الاستغناء عن هذه الشدة التي يمارسونها في قتل الحيوانات كل يوم كي يأكلوها، وأن في الطعام النباتي غناء عن ذلك، وكراهته التدخين كان مرجعه الإحساس الفني في تجنب عادة قذرة بعيدة عن الجمال في ممارستها ومضايقتها لمن لا يدخنون، ولكن كيف نفسر امتناعه عن القهوة والشاي؟
لا أستطيع هنا أن أسلم بأن الهدف الذي قصد إليه شو، وهو شاب، حين التزم هذا النسك بالامتناع عن اللحم والخمر والتبغ والقهوة والشاي، لا أسلم بأن هذا الهدف كان للصحة فقط.
واعتقادي أنه نسك قصد منه إلى اعتصام نفسي بغية التوفر على مجهودات سامية، وكثيرا ما نجد أن اليقظة الذهنية، وإحساس الرسالة والقصد في الحياة يرافقها نوع من الاعتصام، يتخذ أسلوبا معينا من النسك الذي ينعكس أثره على النفس، في تحري الجد ورصد العمر لواجب مقدس، برفض الكثير مما نسميه ملذات أو مسرات.
Unknown page