المقدمة
دنيا الأحلام والأماني
شو في حياته الشخصية
هؤلاء علموا برنارد شو
الصداقة حب على مستوى عال
العبقري في زواجه
الاشتراكية مذهب شو
الاشتراكية الإنجليزية وحزب العمال
أسلوب شو
شو وويلز
شو وتولستوي وشكسبير
المسرح وسيلة للتربية
الزواج في درامات شو
الفقر . الفقر . الفقر
أولى درامات شو
التربية مهمة العمر
فكرة السبرمان عند شو
كتاب السبرمان
يجب أن نعيش ألف سنة
الدين كما يؤمن به شو
إصلاح الهجاء الإنجليزي
شو والطب والأطباء
شو في سنيه الأخيرة
سطور من الآنسة باتش
كلمات برنارد شو
سطور أخيرة
المقدمة
دنيا الأحلام والأماني
شو في حياته الشخصية
هؤلاء علموا برنارد شو
الصداقة حب على مستوى عال
العبقري في زواجه
الاشتراكية مذهب شو
الاشتراكية الإنجليزية وحزب العمال
أسلوب شو
شو وويلز
شو وتولستوي وشكسبير
المسرح وسيلة للتربية
الزواج في درامات شو
الفقر . الفقر . الفقر
أولى درامات شو
التربية مهمة العمر
فكرة السبرمان عند شو
كتاب السبرمان
يجب أن نعيش ألف سنة
الدين كما يؤمن به شو
إصلاح الهجاء الإنجليزي
شو والطب والأطباء
شو في سنيه الأخيرة
سطور من الآنسة باتش
كلمات برنارد شو
سطور أخيرة
برنارد شو
برنارد شو
تأليف
سلامة موسى
المقدمة
هذه تجربة أولى للترجمة بحياة برنارد شو وأعماله، رجوت أن أحقق فيها بعض ما أريد عن هذا الأديب الفيلسوف الذي حفل الصف الأول من هذا القرن بأفكاره وآرائه وتوجيهاته.
وكنت - منذ أكثر من ثلاثين سنة - على نية إخراج كتاب عنه، ولكن كان يمنعني ما أحسه من الجمود العام في الجمهور، وهو جمود كانت تؤيده قوات رجعية عديدة مثل القصر، والاستعمار، ودعاة التقاليد.
وقد كان كل هؤلاء في تحالف خفي غير واع، أو واع لأنهم كانوا يستغلون الشعب ويكرهون ارتقاءه الذي يحيف بامتيازاتهم وينتقص من قوة مراكزهم ومبلغ ثرائهم، ولكن الهواء الجديد الذي هبت نفحاته منذ قيام الثورة في 1952 قد أتاح لي التفكير في هذا الكتاب والتفريج عما اختمر واحتبس في نفسي طوال السنين الماضية.
وكتابي هذا للعقول المفتوحة التي ترحب بالأفكار، وتجترئ على تخطيط المستقبل، وتضع البرامج للحياة، وليس هو للعقول المقفلة التي تضع التقاليد فوق التطور، وتستسلم للغيبيات التي كان يؤمن بها الفراعنة قبل خمسة آلاف سنة، والتي تعتقد أن الفقر من سنن الطبيعة، وأنه خالد لا يمكن محوه من المجتمع البشري.
هؤلاء المستحيلون الذين ارتضوا لأنفسهم إغلاق عقولهم، ووضعوا العقيدة المريحة المرفهة فوق الشك المقلق، هم علة تأخرنا، وقد كافحتهم نحو نصف قرن، ولكني لا أستطيع أن أقول إني نجحت في تغييرهم؛ فإن قوات الظلام التي يتخبطون فيها ويعتمدون عليها أكبر من قوات النور، ثم أنا فرد وهم جماعة، ولا أكاد أجد أديبا آخر يحمل عبء المكافحة لهم غيري؛ لأن أدباءنا أو من يسمون «أدباء» قد فروا من معارك القرن العشرين إلى معارك نائية في أعماق التاريخ قبل خمسمائة أو ألف سنة؛ ولذلك بدلا من أن يؤلفوا عن الفقر في مصر، أو عن استبداد أسرة محمد علي، أو عن استعمار الإنجليز لوطننا وشعبنا، أو عن الجهل العام بالقيم الانفجارية في العلوم العنصرية، أو عن الاشتراكية الإنسانية التي تدعو إلى الإخاء البشري ... أقول قد فر أولئك الذين نسميهم «أدباء» إلى شغل أذهانهم بقضايا ومشكلات منفصلة من تاريخنا الحاضر؛ ولذلك رأينا من هؤلاء الأدباء الفارين من يكتب عن أبي نواس أو ابن الرومي أو الخوارج أو المأمون، أو أسلوب الجاحظ، أو أدب المتنبي، أو نحو ذلك، ويوهم الجمهور أنه يعالج بهذه المؤلفات صميم الأدب.
وكل هذا فرار من مشكلات مصر الحاضرة، وكلمة «فرار» هي آدب كلمة أصف بها مؤلفات هؤلاء الكتاب؛ لأني لا أحب أن أقول إنهم تعمدوا الكتابة عن هذه الموضوعات النائية كي يشغلوا شباب الشعب المصري ويغشوه بها بدلا من أن يوجهوه إلى مشكلاتنا الحاضرة ويخلصوا له.
والأدب يجب ألا ينفصل عن المشكلات الاجتماعية والسياسية، أي يجب أن يلصق بشئون المجتمع وارتقاء الشعب نحو القيم الإنسانية.
وفي آراء برنارد شو الأدبية ما يحل هذه المشكلات، وقد يجد فيها أصحاب العقول المقفلة ما يعد كفرا بالعقائد والأخلاق، وليست هذه العقائد والأخلاق سوى عادات اجتماعية أو عادات ذهنية، والتزامها فيه تجمد يعوق التطور، وحسبنا تجمدا مئات السنين الماضية، بل حسبنا هذا التجمد إزاء القوات الجديدة التي تهب علينا بنارها.
إن إسرائيل تصنع الهيدروجين النظير الذي يعد أساسا للقنبلة الهيدروجينية أو جزءا فيها، فهل نجمد بعد هذا أو نرفض التطور ونؤلف عن أبي نواس؟ أو هل يرضينا أن نؤلف عن الأساطير القديمة - مثل أهل الكهف - ونسمي هذا التأليف فنا راقيا؟
لقد منعنا التفكير اليساري منذ الحرب الكبرى الأولى - والتفكير اليساري هو التفكير العصري - فوجد «أدباؤنا» الطمأنينة والأمن والسلام في الفرار من كل ما يمس العصر الحاضر، وجعلوا يؤلفون عن القرون الماضية، وأحبتهم حكومات المستبدين لهذا السبب، كما كرهت أولئك الكتاب اليساريين الذين اشتبكوا في معارك الذهن السياسية والاجتماعية العصرية، لم تكرههم فقط، بل حبستهم وعذبتهم.
يجب أن نقول لأدباء مصر: العبوا كما تشاءون، ولكن اتركوا أولئك الذين يجدون أن عقولهم تبصر كما أن عيونهم تنظر، اتركوهم كي يعالجوا الشئون العصرية في مصر، اتركوا اليساريين واتركوا الاشتراكيين، اتركوا الأحرار كي ينبهوا الشعب إلى الأخطار التي تواجهه وأيضا إلى الفرص التي تنتظره.
إننا نحتاج إلى تجديدات لا إلى تقاليد، ونحتاج إلى استخدام العلوم لترقية اقتصادياتنا وأيضا كي نتعلم منها كيف نصنع الهيدروجين النظير.
ونحتاج إلى أدب يكتب لأبناء القرن العشرين عن شئون القرن العشرين، وليس عن شئون القرن الرابع أو العاشر.
نحتاج إلى أدب الأفكار، لا إلى أدب الألفاظ.
وسيشبع القارئ أفكارا من هذا الكتاب، ولكني أرجو أولئك الذين يجهلون الأدب الإنجليزي أن يقرأوا مع هذا الكتاب كتابي الآخر: «الأدب الإنجليزي الحديث»؛ إذ هو تمهيد وتقديم لدراسة شو.
دنيا الأحلام والأماني
قل أن نجد عظيما في شأن من الشئون البشرية إلا وله هوسة أو لوثة قد أصابته وهو في شبابه، وهذه الهوسة واللوثة على الرغم مما يبدو لأصدقائه أو عارفيه كما لو كانت غفلة أو سماجة أو وقاحة، إنما تدل على يقظة الوعي، وأنه قد شرع يستقل في تفكيره ويسأل: لماذا الحكومة؟ لماذا الدين؟ ما هي السعادة؟ ما هي الحضارة؟ ما هو الحب؟
وهو في شبابه يتحسس المبادئ ويقارن بين الأحلام والحقائق ويرفض التسليم بالقواعد، ويحاول أن يبتكر في نظم المجتمع أو نظام حياته، وقد يسخف في بداياته ومحاولاته، ولكنه ينتهي منها إلى الدرس الجاد وإلى الأفكار الناضجة التي يستقر بها على فلسفة ويقين.
وكلنا سواء في رؤية المساوئ التي تحفل بها الحضارة، بل الحضارات قديمها وحديثها، وليس منا من ينكر المظالم التي تقع بالملايين من البشر، والبؤس الذي عاناه ويعانيه الناس من الحرق قديما والاستعمار حديثا، وإرهاق العواطف بسوء العلاقات البشرية، والتكاليف الباهظة التي تطالبنا بها الحضارة.
وكثيرون من الشبان وقفوا فيما بين العشرين والثلاثين من أعمارهم يسألون: لماذا كل هذا العذاب؟ لماذا لا يكون هناك مجتمع عادل نعيش فيه في بساطة لا ترهق وحرية لا تستباح، وإخاء عام يشملنا بالحب؟
ونحن في هذه الفترة نحلم ونتمنى، وتزيد أحلامنا وأمانينا عندما يزيد الإرهاق وتكثر المظالم؛ ولذلك ننفجر بالثورة لتحقيق بعض من هذه الأحلام والأماني في تلك الأوقات.
ونحن نحلم لأنفسنا ونحلم للمجتمع.
والشاب حين يحلم لنفسه وشخصه - بشأن الحب والزواج والعمل والكسب - إنما يبني حياته أو بالأحرى يؤسسها، وهو يدرس ويكد كي يحقق ما يحلم به، بل كثيرا ما أجد الموظف الذي دخل في العقد السادس من عمره يحلم ببضعة الفدادين التي يشتريها عند بلوغه سن الإقالة، ويحيا فيها حياة السذاجة والقناعة ويتخلص بها من تكاليف الحضارة الباهظة التي يعانيها في إقامته بالمدينة، وكلنا نهفو في أي وقت من أعمارنا، إلى تمضية بضعة أسابيع في المصايف الساذجة حيث نستطيع التخلص من تكاليف الحضارة وحيث نسترخي دون أن نقيد بنظام أو ميعاد.
والريف بنضرته وسذاجته، وحيواناته وأشجاره، وقناعة سكانه، هو أقرب الحقائق إلى الأحلام، وريفنا في مصر يحفل بالبؤس والقذر والمرض وسائر مخلفات الإقطاعين المستكرشين، ومع ذلك نجد بيننا من الشيوخ المتعبين من يحلم ويبني أمانيه على تمضية سني العمر الأخيرة فيه، أما ريف أوربا فمن أجمل الأرياف في العالم؛ ولذلك يصح أن يكون من الأماني وأن يحلم به الحالمون، ولعل أعظم ما يفصل بين الريف الأوربي والريف المصري أن الأول عرضة لأن تغسله الأمطار ثلاث أو أربع مرات في الشهر؛ ولذلك تبنى قراه بالحجر ويبقى نظيفا، بل ناصعا، كما يخلو من الغبار، أما ريفنا الذي تبنى منازله بالطوب الأخضر، والذي يجف فيه الهواء، فيمتلئ بالغبار ويحفل بالقذر، ومع كل ذلك ما يزال موضع الأماني لما فيه من سذاجة العيش واسترخاء الحياة عند الذين تعبوا وتوتروا من حضارة المدن.
ولكن الحالمين الذين يمعنون في أحلامهم لا يقنعون أحيانا بالريف، فيتجاوزونه إلى البكر من الأقاليم النائية عند البدائيين أو المتوحشين، وهم ينزعون إليه بخيالهم بحسبان أنه يخلو تماما من تلك المركبات الحضارية التي تربك المتحضرين وتعقد حياتهم وترهقهم بالتكاليف والنظم.
وعندما تفسد الحضارة وتحفل بالمظالم يهفو الخيال إلى هذا الحلم.
وكانت الحضارة على أفسدها في فرنسا قبيل الثورة الفرنسية؛ ولذلك رأينا اثنين من أعظم الأدباء يدعوان إلى السذاجة والفرار من الحضارة، أولهما «جان جاك روسو» الذي عزا إلى الحضارة جميع الكوارث حتى كارثة زلزال لشبونة ودعا إلى العيش الساذج، وثانيهما «برناردان سان بيير» الذي نقلنا في «الكوخ الهندي» إلى مكان ناء في أقصى أفريقيا حيث يعيش المحبان في كوخ لا يزعجهما حسد من المجتمع أو ضرائب من الحكومة، أو ترف مزعج من اللباس والطعام، أو مواعيد مؤقتة بالساعة والدقيقة للعمل والكسب.
وقد قرأ نابليون هذه القصة ودعا المؤلف وطلب إليه أن يؤلف كوخا هنديا «آخر»، والعبرة هنا أن نابليون على الرغم من أنه كان على قمة الحضارة، يسعد بكل ما فيها من وسائل الإسعاد، كان ما يزال مثلنا جميعا يهفو إلى حياة السذاجة والقناعة التي رسمها المؤلف في «كوخ».
غاندي مع عنزته وفي شملته، وتولستوي في ريفه، وطعام النبات بدلا من طعام اللحم، والحياة الجديدة الخالصة من شوائب المجتمع، كل هذه أحلام حلم بها بعضنا، وهو وإن لم يستطع النزول على شروطها والعمل بقواعدها، قد انتفع بها؛ لأنها حفزته إلى التفكير والمراجعة، وما أسميه «يقظة الوعي » لأنه صحا وسأل وحاول.
والشاب الذي يستسلم للقواعد الاجتماعية، ولا يكابد قط مثل هذه الارتباكات، ولا يفكر في المشكلات التي يخلقها لنفسه، مثل هذا الشاب لن يصل إلى يقظة الوعي ولن يفلسف ولن يبتكر، وهو عجوز في سن الثلاثين يحيا بإيمان العجائز في سن الثمانين. •••
في سنة 1881 ظهر رجل أمريكي في لندن به لوثة أو هوسة (كما ذكرنا في أول هذا المقال) يدعى «دافيدسون» دعا إلى ما يسمى «الحياة الجديدة».
وكان لهاتين الكلمتين إغراء له قوة السحر في نفوس الشبان والفتيان والكهول والشيوخ، فما هو أن كان يعلن عن اجتماع يلقي فيه خطبة عن هذا الموضوع حتى كانت المئات تهرع إليه، وكل منهم في شوق لأن يسمع شيئا جديدا في وسط هذه الحياة اللندنية التي كانت تحفل وقتئذ بالمظالم الاجتماعية والتفاوت في الكسب وقلة الطمأنينة على العيش، بل كانت الحكومة البريطانية نفسها تعد العدوان تلو العدوان لضرب الشعوب وخطف أرزاقها كما فعلت بنا في السنة التالية (1882).
وكان الناس يسمعون من هذا الخطيب أننا يجب أن نحيا حياة جديدة، لها قيم جديدة، تلغي التقاليد والعادات القديمة، فلا ننشد الثراء بل نكتفي بقناعة العيش الرخيص الساذج الذي لا يكلفنا الثمن الباهظ، بل لا يرهقنا الحصول عليه، وعلينا أن نلبس اللباس الساذج، ولا نتزوج إلا عن حب، ولا نعامل إلا بالعدل، ولا نسكن إلا الأكواخ، ويجب ألا يستأثر حب الكسب بوقتنا؛ لأننا يجب أن نقنع من الكسب بما يكفينا، وأن نرصد معظم وقتنا للدرس الجاد والاستمتاع الناضج والتفكير الفلسفي.
حياة «الكوخ الهندي» من جديد، ولكن بلا رحلة إلى أفريقيا.
ولم ينجح دافيدسون في إقامة مجتمع على هذه القواعد، ولكنه نجح في إنشاء جمعية يرتبط أعضاؤها بالنية والعزم على أن يحيوا حياة جديدة، وكانت المحاضرات تلقى، والمناقشات تحتدم في هذه الجمعية عن الجديد والنافع والسامي في الحياة.
ثم يكون من المناقشات والمحاضرات انبعاثات جديدة في التفكير والفهم إلى رحاب واسعة من التجارب والاقتحامات في «يقظة الوعي»، فنجد عشرات من المطاعم النباتية تنشأ في لندن ويقصد إليها الإنسانيون الذين يأنفون من جعل بطونهم قبورا للحيوانات، ويبدأ برنارد شو حياته في مقاطعة اللحوم، ويعيش سبعين سنة لا يذوق اللحم، ويترك الأديب الإنجليزي «إدوارد كاربنتر» أعماله في لندن ويقصد إلى الريف الإنجليزي حيث يزرع بيده الكرنب والبطاطس ويأكل من عرق جبينه ويؤلف كتابا بعنوان: «مرض الحضارة وكيف نعالجه؟»، ونجد العالم الطبيب «هافلوك أليس» يؤلف ستة مجلدات عن الحب والزواج والعلاقات الجنسية، ويتزوج الآنسة لي، ويحيا كل من الزوجين في منزل منفصل عن الآخر، ويشرع «رمزي مكدونالد» في الدعوة إلى الاشتراكية ويرأس حزب العمال.
ويؤلف ثلاثة من الأدباء، هم: وليم موريس وتشسترون وبيلوك مؤلفاتهم عن ضرورة ترك الحضارة الحديثة والرجوع إلى حضارة القرون الوسطى، بل إنهم دعوا إلى العمل باليد بدلا من العمل بالآلة.
وتؤلف «الجمعية الفابية» لإيجاد سياسة جديدة غير سياسة المحافظين والأحرار تستهدف العدالة الاجتماعية.
وتنمحي جمعية الحياة الجديدة، ولكن تبقى الخمائر التي بعثتها في أعضائها والتي لا تقل في قيمتها عن الخمائر التي بعثها جان جاك روسو في دعوته السخيفة إلى ترك الحضارة والعودة إلى سذاجة الطبيعة، فقد نسينا هذه الدعوة ولكن بقي منها لنا بعد 150 سنة جملة مركبات سيكولوجية تمس أساليبنا في العيش مثل الاستحمام في البحر، والإقامة على الشواطئ، ودراسة الزهور وغرسها، والتجوال في الريف، إحساس ديني جديد نحو الطبيعة يحملنا على درسها بالميكرسكوب ورسمها بالألوان.
كان البحر موجودا منذ آلاف السنين، كما كانت الحقول موجودة، ولكننا كنا في غيبوبة لا نراهما، ففتح روسو عيوننا وأيقظ عقولنا فرأيناهما.
وكذلك الشأن في جمعية الحياة الجديدة التي ألفها دافيدسون الأمريكي، فقد ماتت هذه الجمعية ولكن خمائرها بقيت تنمو أفكارا حية، فكانت منها تلك المعاني الجديدة بشأن الاستعمار ومعاملة المجرمين وتربية الأطفال وحرية المرأة وضمان العيش للعمال وتعويض المعطلين وبناء الدولة للمساكن وإيجاد المستشفيات المجانية وحزب العمال ... إلخ.
اعتبارات جديدة في الحياة الاجتماعية كان يحلم بها دافيدسون في غموض الأحلام وظلالها، وكان يهتف بها قلب إدوارد كاربنتر وهو يزرع الكرنب، كما شرع برنارد شو يفكر فيها ويشرحها ويقلبها في دراماته الأربعين أو الخمسين.
أجل، إن مثل هذا الوسط الحي الذي يجيز تأليف الجمعيات التي تبعث الأحلام في الشبان هو الذي يربي الأدباء لأن يتيح لهم جوا يتحمل التفكير البكر المثمر والأحلام الجريئة الذكية، وهو جو ما زلنا في مصر نفتقده ولا نجده.
إننا نبدأ حالمين وننتهي محققين، فلا تعاكسوا أحلامنا لأنكم بهذه المعاكسة تمنعون تفكيرنا.
شو في حياته الشخصية
نستطيع أن نستخلص حياة الكاتب من مؤلفاته، ونعني هنا أخلاقه وأهواءه وفلسفته، وذلك لأن اهتمامات الكاتب في مؤلفاته هي أيضا اهتماماته في حياته الشخصية، وهو لا يستطيع أن يفصل بينها إلا عندما يكون مأجورا يؤدي خدمة لغيره، وحتى هنا لا يخلو الكاتب من الزج بشخصيته - بل بنفسه التي وراء الشخصية - فيما يؤدي من عمل يؤجر عليه وينافق فيه؛ لأنه لا يتمالك التعبير بكلمات وسطور تتسلل إليه من حيث لا يريد.
ولسنا في حاجة إلى أن نستخلص حياة شو من مؤلفاته؛ فإن سيرته منذ ميلاده تقريبا معروفة مكشوفة، وكثيرا ما عني هو بالكشف عنها في مؤلفاته في عبارات صريحة لا تحتاج إلى تأويل وتخريج.
مقدماته المسهبة لمؤلفاته، وكذلك بحوثه الاجتماعية، تحتوي الكثير من ترجمته الشخصية أيام طفولته وشبابه؛ ولذلك نحن لا نتعب في التعرف إلى العوامل التي تكونت بها شخصيته.
فقد ولد ونشأ في صباه في «دبلين» عاصمة أرلندا، وكانت عائلته من الأرلنديين البروتستانت الذين يعدون أنفسهم - بحق - أرقى من الأرلنديين الكاثوليك الذين تعزلهم تقاليد الكنيسة ويفسد نفوسهم التعصب الديني ويؤخرهم استمساكهم بالتقاليد، وكان أبوه سكيرا فاشلا في جميع ما تناول من أعمال، ولكن برنارد شو كان يحبه، وهو يذكره بالحنان والتقدير، أما أمه فكانت فنانه تحسن العزف على البيان كما تحسن الغناء، وكانت تحتقر زوجها لإدمانه على الشراب، وكان برنارد شو يكرهها؛ ولذلك لا يكاد يذكرها بكلمة طيبة في جميع ما كتب، بل إنه عندما ماتت كان يضحك في جنازتها حتى لامه بعض أصدقائه.
وظني أن أعظم ما جعله يكره أمه أنها كانت تحتقر والده وتعامله كما لو كانت تشمئز منه، وكان ذلك أيام طفولته حين لم يكن هو يقدر مسئولية هذا الأب أمام الزوجة والأطفال، بل لم يكن يدرك معاني الانهيار في شخص أبيه الذي يعود مساء كل يوم إلى البيت مخمورا، بل لعل الطفل برنارد شو كان يستظرف من أبيه هذا الموقف ويحبه من أجله.
ومما زاد برنارد شو كراهة لأمه أنها هجرت بيت الزوجية في دبلين وسافرت إلى لندن مع ابنتها بعد أن تركت الصبي شو مع أبيه، وهذا عمل قاس لا يستطيع الابن أن ينساه من أمه.
وهذا التفكك في العائلة ينطوي على احتمالين: أحدهما: أن يستهتر الصبي ويأخذ بالقيم الأخلاقية لأبيه وأمه وهما في هذا الانحلال، ثم ينشأ بلا أخلاق تتماسك بها شخصيته، وكثيرا ما يحدث هذا.
والاحتمال الثاني: أن يستيقظ وعيه، ويرى خطورة مركزه بين هذين الأبوين الناقصين، فيعتمد على نفسه، ويحس المسئولية، ويتبصر ويهدف؛ وعندئذ يشرع في تربية نفسه، وهذا هو ما حدث لبرنارد شو كما حدث من قبل لمكسيم جوركي الذي عانى مثل هذه الظروف، بل أسوأ، في عائلته.
وقد ولد برنارد شو في 1856، ونشأ في وسط أرلندي جامد تستولي الكنيسة الكاثوليكية على حياته الاجتماعية وتوجهها وجهة دينية أخرت أرلندا وجعلت الإنجليز يستغلونها ويستعمرونها، وبقي شو فيها إلى حوالي سن العشرين، أمضى منها بعض السنوات في مدرسة ابتدائية كانت كل ما كسب من التعليم المدرسي، ثم حين هجرت أمه البيت إلى لندن بقي هو مع أبيه وعمل «محصلا» يجمع إيجارات المباني التي تملكها إحدى المؤسسات، وكان يحصل على أجر متواضع، ولكنه كسب ما هو أكبر من الأجر، إذ درس أحوال السكان الفقراء في المساكن التي كان يجمع منها مبالغ الإيجارات، وعرف كيف يستغل المالكون العمال الأجراء.
وكان أول ما كتب في الصحف كلمة في جريدة يومية في دبلين قال فيها إنه لا يؤمن بالله، كتبها حين كان عمره لا يزيد على ثماني عشرة سنة، ودلالة هذه الكلمة ليست في انحرافه الديني وإنما في إيضاحها لنا كراهته لوسطه الاجتماعي، وما كان يحس من تعصب الكاثوليك نحوه وهو بروتستانتي.
وكان في ذلك الوقت يعيش مع أبيه، ويبدو أن التلاؤم كان تاما بينهما على الرغم من إدمان الأب للخمر، وكما يحدث كثيرا في مثل هذه الحالات، كره برنارد شو الخمور بل قاطعها طيلة عمره؛ لأن أعظم ما يكف الإنسان عن رذيلة ما أن يعاشر أبا يمارسها ويراه وهو يتمرغ فيها.
ولا نعرف أنه ذاق الخمور إلا في السنوات الأخيرة من عمره حين تجاوز التسعين أو قاربها؛ فإنه وجد في هذه السن أن زوجته وأصدقاءه، بل إن أبناء جيله الذين كان يعرفهم، قد ماتوا جميعهم، فكان إذا انفرد في الليل، وأحس الوحدة والوحشة، تناول شيئا من الويسكي للتخفيف من توترات الشيخوخة.
ولما وصل إلى لندن قصد إلى أمه حيث كانت تسكن مع ابنتها في مسكن متواضع وتكسب عيشها بتعليم الغناء، ولم يسعد برنارد شو بعشرة أمه وأخته؛ وذلك لأنه كان يجد توبيخا دائما لأن لا يعمل ويكسب، بل يعتمد على أمه كي تكسب وتعوله، وبقي على هذه الحال نحو سبع أو ثماني سنوات، كان يحاول في أثنائها أن يؤلف القصص وأن يجد في الأدب حرفة يعيش منها ولكنه لم يفلح، وكان إصراره على احتراف الأدب يحنق والدته وأخته، حتى إن هذه حرضت والدتها على جهاده، ولعل هذه السنوات قد تركت في نفسه مرارة نحو أمه.
ولكن الواقع أن الأم والبنت كانتا معذورتين في إحساسهما نحوه بأنه عاطل فاشل، ولم تكن واحدة منهما تتوقع القدرة الكاملة في هذا الإنتاج الضخم الذي ملأ به أوربا وجعل المسارح تتبارى في تمثيل دراماته.
وكانت هذه السنين العجاف، سني التضرع للأم بأن تعطيه «مصروف جيبه» هي أيضا سني التكمل لشخصيته وبنائها على أساس آخر يحتاج إلى عزيمة وإصرار؛ فإنه قاطع القهوة والشاي والتدخين (لم يدخن قط في حياته) والشراب، بل قاطع اللحوم في الطعام.
وكانت هذه السنين أيضا سني الامتصاص الثقافي، فقد كان يقصد كل صباح إلى «المتحف البريطاني» الذي يضم أكثر من أربعة ملايين كتاب، فكان يختار ويقرأ ويربي شخصيته الفنية الأدبية.
وظني أن الأديب الحق هو الذي «يصنع نفسه» بهذا الأسلوب؛ أي هو الذي يختار ويدرس وفق حاجاته النفسية، فيختار بذلك أصح الغذاء؛ أي يقرأ ويدرس كلما أحس الحاجة النفسية، ثم له حرية الرفض عندما لا يحب، فتنشأ نفسه وتنمو شخصيته وهي على استيفاء للغذاء دون إكراه.
ولذلك ليس من اليسير أن تعلم أحدا الأدب في جامعة؛ لأنك تفرض غذاء قد لا يسيغه، وتحرق غذاء يسيغه، وكان في مقدوره أن يختاره لو كان حرا، ولكنه حين تضع أمامه امتحانا، تقهره على سلوك معين لا يرضاه.
والمتتبع لبرنارد شو في سني الامتصاص الثقافي هذه - فيما بين سن العشرين والثلاثين - يجد أنه قرأ ألوانا من العلوم والآداب والتاريخ والأديان لا يكاد يتصورها العقل، ودراماته التي ألفها ونجحت بعد ذلك تعود إلى هذه الدراسات التطوعية التي قام بها فيما بين 1875 و1885، وحوالي هذه السنة الأخيرة نجد له اهتمامات بالسياسة والاجتماع يبتكر فيها الرأي الجديد ويدعو فيها بحماسة لا ينال عليها أجرا، فهو يخطب ويكتب ويؤلف دون أن يطلب مليما عن مجهوداته.
لقد صار، وهو في سن الثلاثين (1886) إنسانا مسئولا من البشر، يتحدث ويكتب «كما لو كان له سلطان»، وكأنه يحس أنه يحمل رسالة، ولهذا الإحساس وحده نجد أنه كان يتحمل توبيخ أمه وأخته وتعبيرهما له بأنه فاشل، يتحمله بنفس راضية صابرة واثقة بأنها على موعد من النجاح.
وفي هذه السنوات، فيما بين 1885 و1900، نجد له نشاطا مسرفا في منظمة كانت ولا تزال تسمى «الجمعية الفابية»، وكان هو روحها وخطيبها وكاتبها، وكانت غايتها متواضعة في ظاهرها مع اطمئنان إلى قوتها، فقد اتخذت خطة التسلل إلى الأحزاب بدلا من أن تنشئ حزبا، وكانت الاشتراكية مذهبها، ولكنها كانت اشتراكية التدرج وليست اشتراكية الثورة.
وقد عرفت أنا هذه الجمعية حوالي 1908 ولم أكن أسمع فيها اسم «كارل ماركس»، وإنما كنت أسمع عبارة مكررة هي «التدرج المحترم» بمعنى تجنب الثورة بشأن الارتقاء نحو النظام الاشتراكي، وبقيت الحال على ذلك إلى الأزمة العالمية في 1930 حين شرع اسم كارل ماركس يعلو ويسود، ولم يكن يمثل الشيوعية في لندن غير زعيم يدعى هيندمان، يخرج مجلة أسبوعية تسمى «جستس» ولا أظن أن الذين كانوا يقرأونها كانوا يتجاوزون ألفين.
وعرفت برنارد شو، وهو بين الخامسة والخمسين والستين، وأنا في لندن بين 1908 و1914 رجلا طوالا تجلل وجهه لحية صهباء كأنها لهب من نار، ولم يكن يطلقها عن مذهب، وإنما كان يهدف منها إلى ستر آثار الجدري الذي أصيب به وهو صغير وترك نقورا على وجهه، وكان حبيبا إلى قلوب الأعضاء، يلحون عليه في كل اجتماع حتى يقول «كلمة» تعليقا أو نقدا على المتكلمين، وكانت في صوته صحلة موسيقية تجعل الاستماع إليه متعة.
وتزوج برنارد شو بعد أن نجح في التأليف المسرحي، وعرف زوجته عن طريق الأعضاء في هذه الجمعية؛ فإنها كانت فتاة أرلندية ثرية، وكانت صديقة لأكبر عضوين بارزين في الجمعية هما المستر ويب وزوجته، وتوسط الزوجان في إيجاد التعارف، فالصداقة، فالزواج، بينها وبين برنارد شو، وعاشت معه نحو خمس وثلاثين سنة دون أن يتم بينهما أي اتصال جنسي، وكان لكل منهما غرفة خاصة، وكانا على حب عظيم أحدهما للآخر، فقد اعتادت ألا تأوى إلى فراشها إلا بعد أن يغني لها، وكانت تشير إليه بكلمة «العبقري».
ولما ماتت أحرق جثمانها في إحدى المرامد في لندن، وأوصى هو بأن يحرق جثمانه أيضا ويخلط الرمادان، ثم يذر المخلوط في حديقة مسكنهما الذي عاشا فيه طوال زواجهما، وتم ذلك.
وكان برنارد شو كبير العناية بصحته، وكان يقول إن الصحة من الحكمة؛ لأن الرجل الحكيم يتعود العادات التي تخدم صحته ويتجنب تلك التي تؤذيها، ولكن التزامه للطعام النباتي مدة 64 سنة لم يكن لبواعث الصحة وإنما كان للبواعث الإنسانية؛ إذ كان يعتقد أن الناس يستطيعون الاستغناء عن هذه الشدة التي يمارسونها في قتل الحيوانات كل يوم كي يأكلوها، وأن في الطعام النباتي غناء عن ذلك، وكراهته التدخين كان مرجعه الإحساس الفني في تجنب عادة قذرة بعيدة عن الجمال في ممارستها ومضايقتها لمن لا يدخنون، ولكن كيف نفسر امتناعه عن القهوة والشاي؟
لا أستطيع هنا أن أسلم بأن الهدف الذي قصد إليه شو، وهو شاب، حين التزم هذا النسك بالامتناع عن اللحم والخمر والتبغ والقهوة والشاي، لا أسلم بأن هذا الهدف كان للصحة فقط.
واعتقادي أنه نسك قصد منه إلى اعتصام نفسي بغية التوفر على مجهودات سامية، وكثيرا ما نجد أن اليقظة الذهنية، وإحساس الرسالة والقصد في الحياة يرافقها نوع من الاعتصام، يتخذ أسلوبا معينا من النسك الذي ينعكس أثره على النفس، في تحري الجد ورصد العمر لواجب مقدس، برفض الكثير مما نسميه ملذات أو مسرات.
نفعل ذلك وكأننا نعلو على أنفسنا ونخدم رؤوسنا، وهي أسمى ما في أجسامنا، بدلا من أبداننا، وعندئذ تستهلك شهوات الذهن كل طاقتنا وتقمع شهوات الجسم.
إن المسيحي حين يغلو في دينه يذهب ويدخل الدير، وقد أمضى الغزالي سنوات وهو ناسك، وكذلك فعل المعري الذي لم يتزوج ولم يأكل في حياته غير العدس، وشهور الصوم في جميع الأديان هي شهور الغلو في الدين، وقد رفض غاندي الشهوة الجنسية، والطعام والشراب واللباس، إلا القليل من اللبن وشملة من الخيش.
وهؤلاء جميعا: برنارد شو، والغزالي، والمعري، وغاندي، لم ينسكوا حبا للنسك، وإنما حملتهم نزعة الجد في الحياة وإحساس القصد والرسالة على أن يعلوا على أنفسهم للتوفر على ما رسموه من واجبات.
ولست تجد رجلا عظيما إلا وله نوع من النسك يمارسه كما لو كان رياضة نفسية يستعين بها على التوفر لعمله أو قصده العظيم.
وليس في التزام الطعام النباتي صحة كما يتصور البعض؛ فإن برنارد شو قبل وفاته بأكثر من عشر سنوات أصيب بمرض «الأنيميا الخبيثة» وأوشك على الموت منه، فشحب لونه، وكان يتعب لأقل مجهود وينام وهو قاعد، فاضطر هذا النباتي الإنساني إلى أن يتداوى من مرضه بتناول خلاصة كبد الخنزير حتى شفى ولكنه لم يعد إلى طعام اللحم.
ومع أن ثروته تجاوزت ثلاثمائة ألف جنيه عند وفاته؛ فإنه لم يهدف قط إلى جمع المال، وكثيرا ما عمل وجهد بلا أجر، لا يهدف إلا إلى الخدمة الإنسانية، ولما نال جائزة نوبيل وقدرها الآن نحو 14 ألف جنيه رفض تسلمها، وأنشأ بها جمعية لزيادة الاتصال بين أدباء الأقطار الإسكندناوية وبريطانيا.
وكان يسعف جميع الأدباء المحتاجين بمبالغ كبيرة كان بعضها يبلغ خمسمائة جنيه كل عام، وبقي على هذا في بعض الحالات أكثر من عشرين أو ثلاثين سنة، وفي وصيته ترك مبالغ كبيرة لمن خدموه الخدمة المنزلية، بل إنه أقام نصبا تذكاريا لخادمته التي ماتت قبيل وفاته في الحديقة، وحين دعا النحات كي يقوم بصنع النصب خشي أن يموت هو قبل أن يتم النصب فعرض عليه دفع الثمن قبل إتمامه.
وكان يعمل في غرفة نائية من مسكنه في الحديقة؛ وذلك كي يتوفر على عمله دون أن يزعجه صوت أو ضوضاء، حتى إن الخادم عندما كان يأتي إليه كي يطلب شيئا ما أو ينبهه إلى ضيف، لم يكن يشافهه بكلمة، وإنما كان يكتب ما يريد على ورقة يرد عليها برنارد شو كتابة دون أن ينطق بكلمة.
وكانت طريقته في التأليف أن يترك الموضوع يختمر في ذهنه مدة سنة أو سنتين، يقرأ فيها عشرات الكتب التي تتصل بهذا الموضوع، فإذا شرع في التأليف كتب العناصر ووضع التخطيط. وقد يؤلف الدرامة في شهر أو أسبوع وقد يؤلفها في سنتين أو ثلاث سنوات.
وكان يتعب كثيرا في التأليف حتى لقد ذكر عنه أنه كان يترك مقعده أمام مكتبه وينبطح على أرض الغرفة إعياء وتعبا، ويبقى على ذلك حتى يستريح وينهض لاستئناف الكتابة.
هؤلاء علموا برنارد شو
كان برنارد شو يعد نفسه محظوظا قد حابته الأقدار لأنه لم يتعلم في جامعة، وأن كل ما حصل عليه من تعليم لا يزيد على مستوى الصبي الذي ينقطع عن الدراسة النظامية المدرسية منذ السنة الأولى الابتدائية، ومعنى ذلك أنه علم نفسه.
هذا هو المعنى، أما الدلالة فهي أنه كان يختار ما يتعلمه، وكان اختياره يتوقف على حاجاته الذهنية والنفسية، كما يختار الجائع ما يحتاج إليه من طعام، وكما أن الجائع يختار لنفسه أفضل مما نختار نحن له، كذلك طالب الثقافة يحسن الاختيار لنفسه أكثر مما نحسن له هذا الاختيار؛ لأنه يسير فيه وفق كفاءاته وعلى مهل وتدبر وبصيرة بالمستقبل، وقد ذكر أحد الأدباء الإنجليز أنه التقى ببرنارد شو وهو بعد في الحلقة الثالثة من عمره في مكتبة المتحف البريطاني، وكان أمامه كتابان أحدهما «رأس المال» لكارل ماركس، والثاني كتاب عن الموسيقى بالحروف الموسيقية، وكان يراوح بينهما في الدرس.
ويذكر برنارد شو تسع سنوات أيام شبابه كان فيها مغفلا لا يلتفت إليه أحد، وكان كل ما كسبه في هذه السنوات من قلمه ستة جنيهات، ولكنه يظلم نفسه حين يقول هذا القول؛ لأن أي كاتب مهما ضعفت منزلته يستطيع أن يكسب مائة ضعف هذا المبلغ في هذه السنوات؛ إذ إن هناك أعمالا في الصحف، وأيضا هناك من المؤلفات الرائجة ما يرد عليه هذا الكسب.
نقول أعمالا في الصحف ومؤلفات رائجة، ولكن مع التفاهة.
ولكن برنارد شو رفض أن يؤلف أو يكتب شيئا تافها منذ نصب لنفسه قصة حياته، وهو أن يكون مفكرا نافعا، كما أنه في هذه السنوات التسع كان يربي نفسه، يقرأ ولا يكتب، أو يقرأ كثيرا ويكتب قليلا.
وهو كثيرا ما يشير في مؤلفاته إلى المدارس الثانوية وإلى الجامعات في احتقار وغضب؛ لأنها تملأ جماجم الصبيان والشبان بحشو المعارف التي تؤذيهم في نموهم الثقافي حتى تجعل هذا النمو كما يزداد بدلا من أن يكون تطورا يرتقي بهم، وهو يذكر مثلا درامات شكسبير فيقول إنه قرأها جميعها واستمتع بجمالها وتعمق توتراتها، ولكن الطالب الذي يقرأ (أو يدرس) إحدى هذه الدرامات، مع التعليقات والتفسيرات التي يعد بها نفسه للامتحان، لا يعود شكسبير؛ لأنه - لفرط ما تعب في درسه - لا يطيق قراءة شيء منه، بل لعله لا يطيق حتى رؤية هذه الدرامات ممثلة على المسرح.
إن مؤلفات شكسبير يجب أن نستمتع بها قراءة في الكتب، أو رؤية على المسرح، ونحن في طرب الفن والاستمتاع وليس في العرق والدموع، وما يقال عن شكسبير يقال مثله عن سائر الأدباء.
وإني لأذكر هنا ما حدث لي مما يشير برنارد شو إلى دلالته، فقد كنت قد حفظت وأنا في السنة الثالثة بالمدرسة الابتدائية قصيدة أبي العلاء «خفف الوطء»، ولم أفهم لها معنى إلا أنها تجري في الدروس ضمن العذاب المقرر لنا، وكرهت أبا العلاء بسبب هذا العذاب، ولم أعد إليه إلا بعد نحو عشرين سنة حين وجدت فيه دنيا من البر والخير والفن والأدب، وما زلت إلى الآن أعود إليه كي أضحك معه في إلحاده وأتعمق تلميحاته، ولا أعرف أني أحب أديبا عربيا قديما قدر حبي للمعري الذي أوشك معلم اللغة العربية أن يقطع بيني وبينه وهو يعذبنا بإعراب أبياته في قصيدته «خفف الوطء».
التربية الذاتية هي التربية الناجعة، وهي اختيار، في حين أن التربية الجامعية إجبار؛ ولذلك سرعان ما يتخلص منها خريج الجامعة. وبعد، بل يكاد يكون محالا أن يتعلم أحدنا الأدب في الجامعات؛ لأن الأدب تربية ذوقية، وكفاح نفسي، ومثابرة الليل والنهار، وتغيير للأهداف، وتطور، وارتياد للقديم والجديد، وبحث في الصين وإنجلترا، وتطرق إلى الدين وتعمق للفلسفة، وكل هذا - بل بعضه - لا تستطيع أن تقوم به أية جامعة.
وشيء آخر يجعل التعليم الجامعي ناقصا بل مشوها؛ ذلك أن جميع الجامعات على الرغم مما تزعم من «استقلال» تؤيد النظم الحكومية القائمة، فترفض دراسة فولتير لأنه كافر، وترفض دراسة كارل ماركس لأنه ثائر، وترفض دراسة لورنس لأنه فاسق ... إلخ. ولكن طالب الأدب خارج الجامعة يجد الحرية المطلقة في الاختيار، ويطلب المنهل والمرعى كما يفهمه عقله، وعندئذ يجد الوسيلة بل العناد لتأثيث ذهنه وبعث المركبات الأدبية والفنية في نفسه.
يروي «أندريه جيد» عن أيامه الأولى في الامتصاص الثقافي أنه كان فيما بين سن السادسة عشرة والعشرين متعلقا أشد التعلق بكتابين يقرأهما ويعود إليهما، هما الكتاب المقدس وألف ليلة، والجمع بين الاثنين يكاد يعد كفرا في نظر أستاذ جامعي، ولكن أندريه جيد لم يتعلم الأدب في جامعة إنما تعلمه - أو بالأحرى نما إليه - وهو حر مطلق يختار ويرعى وينهل كما يشاء.
ومثل هذا الكلام لا يقال بالطبع عن تعليم العلوم التطبيقية التي تحتاج إلى معامل لا تستطيع تأسيسها غير الجامعات.
وعندما أتأمل حياة برنارد شو وأتجسس على المعلمين الذين تعلم عليهم واستلهمهم في صياغة حياته وأدبه وتكوين رجولته، أجد أربعة يبرزون في مؤلفاته حيث تتكرر أسماؤهم كما تشرح أفكارهم، هم كارل ماركس، وفريدريك نيتشه، وصمويل بطلر، وهنريك أبسن.
وبرنارد شو معروف بين الجمهور بأنه مؤلف مسرحي، ولكنه في الواقع كان أكبر من ذلك، كان رجلا أولا وقبل كل شيء، يجابه الدنيا كما هي بلا استسلام للخيال، وكان إنسانا حساسا لا يطيق الاستعمار أو الاستغلال أو الإذلال، وكان فيلسوفا يضع الفلسفة على المسرح في الوقت الذي كانت المسارح فيه مشاهد سخيفة للغرام أو القتال أو الزنا أو التهريج.
وأعظم المفكرين الذين تأثر بهم برنارد شو هو كارل ماركس داعية الاشتراكية، وبرنارد شو اشتراكي، دعا إلى الاشتراكية نحو ستين سنة، ولم ينحرف عنها ولم يعرف إصلاحا شاملا للشعب في عيشه وثقافته وحضارته غيرها، وكان كارل ماركس فيما بين 1880 و1930 مغمورا في إنجلترا لا يعرفه غير المثقفين، بل الخاصة من المثقفين.
وقد آمن برنارد شو بنظرياته لأنه كان يجد أن الفقر هو علة المرض والجهل والدنس والجريمة، وأنه لا إصلاح لكل هذه الرذائل سوى تعميم اليسر بين جميع أفراد الشعب، وأنه لا سبيل إلى هذا التعميم سوى الاشتراكية، وأكبر مؤلفاته «المرشد للمرأة الذكية عن الاشتراكية» هو شرح مبسط لهذا المذهب، وقد أنفق الكثير من سني عمره في خدمة «الجمعية الفابية» التي كانت تدعو إلى الاشتراكية، ومع أن هذه الاشتراكية كانت تدرجية إصلاحية، على خلاف ما دعا ماركس؛ فإن برنارد شو كان على دراسة تامة لزعيم الاشتراكية الثورية، وقد انتهى هو وزعماء هذه الجمعية في أواخر حياتهم إلى الإشادة بالنظام السوفيتي الذي اعتمد زعماؤه من لنين إلى ستالين على كارل ماركس.
وليس بين مفكري القرن التاسع عشر من أخصب التفكير بين الكتاب، وبعث الدراسات العميقة للتاريخ والاقتصاد والعلم، وجعلنا نرتفع من الفهم إلى الدلالة بشأن الأخلاق والارتزاق وفلسفة العيش والشرف والإنسانية مثل كارل ماركس؛ فإنه خميرة إذا دخلت العقول تناولت أبعادها وأعماقها وعملت فيها نضجا وإيناعا.
والماركسية يمكن أن نعرفها في سطرين وأن نشرحها في ألف صفحة.
فأما السطران فهما أن المجتمع، بما فيه من حكومة وأخلاق، وأساليب للعيش وآراء في الدين، واتجاه في السياسة والأدب والشعر، ينبني كله على نظام اقتصادي ارتزاقي إنتاجي معين، فإذا تغير هذا النظام تغير المجتمع.
وإنه لحظ كبير للرجل المثقف أن يكون قد اهتدى إلى كارل ماركس منذ شبابه، وقد عرفه برنارد شو قبل أن يبلغ الثلاثين واستضاء عقله به طيلة حياته.
أما المعلم الثاني الذي تأثر به برنارد شو فهو فريدريك نيتشه الذي غرس فيه فكرة الإنسان الأعلى (أي السبرمان) الذي سوف يقف منا ما نقفه نحن من القردة؛ فإن هذه الفكرة الجليلة جعلت من التطور عند برنارد شو دينا حميما يؤمن به ويهدف إلى غاياته البشرية.
فهو يحدثنا عن شهوة التطور في الإنسان، بل يزيد في عمق التعبير فيقول «الغلمة إلى التطور» باعتبار أنه أساس الحياة ونظامها، وأن الوقوف عن التطور تعاقب عليه الطبيعة بالمحو والإبادة، بل هو يذكر الدين بأنه يجب أن يتطور، وأن ما نؤمن به هذا العام من عقائد دينية ليس من الضرورة أن نؤمن به في العام القادم؛ إذ يجب أن تتسع وتتعمق عقائدنا وتستنير بالكشوف العلمية التي تخدم الصحة والرقي.
وفكرة السبرمان مع ذلك سبقت داروين والتطور، ونحن نجدها عند نيتشه ذات معنيين اضطرب هو بينهما. فإنه دعا إلى أن تسمو الشخصية الفذة على مألوف المجتمع وقوانينه بحيث يصير كل إنسان قانونا لنفسه مستقلا في قواعده وأهدافه بعيدا عن سلطة «القطيع»، وهو هنا وجودي، وربما كانت شخصية جيته الأديب الألماني العظيم هي التي ألهمت نيتشه هذه الفكرة التي لا تعدو أن تكون اجتماعية.
ولكن نيتشه أيضا يذكر لنا القردة، ويقول إننا يجب أن نهدف إلى إيجاد إنسان أعلى من الإنسان الحاضر، وأن الإنسان الحاضر يجب أن يلغي نفسه، بأن يكون جسرا تعبر عليه الطبيعة من القرد إلى السبرمان، وهو هنا بيولوجي.
وفكرة برنارد شو عن السبرمان - أي الإنسان الأعلى - بيولوجية وليست وجودية؛ أي إنه يرغب في إيجاد إنسان مختلف منا، زائد علينا، في طول العمر وذكاء الفهم وصحة الجسم ... إلخ، وهو هنا يعتمد على خاصة التطور التي يختص بها كل حي والتي ينقرض وينمحي من الدنيا إذا فقدها.
وربما كان أعظم مؤلفات برنارد شو درامته المسماة «الإنسان والسبرمان» التي تقرأ ولا تمثل؛ إذ لا يمكن أن تمثل إلا بعد حذف الكثير منها مما يخل بمغزاها، وهي تدل القارئ على ديانة برنارد شو البيولوجية بل على رسالته في أدبه وفنه.
أما المعلم الثالث الذي تعلم منه برنارد شو فهو صمويل بطلر، وهو أديب إنجليزي حارب النفاق الاجتماعي الذي كان يقول بأن الحياة العائلية الإنجليزية تسمو وتسعد بروابطها المقدسة، واستطاع بمؤلفاته أن يشرح للقراء هذا النفاق وأن يبين تعس الأطفال بين الآباء الذين يصرون على أن ينشئوهم على غرارهم وفق عقائدهم وعاداتهم. وقد ألف في النقد والقصص، وله قصة خيالية فريدة تدعى «ايروين» عن شعب يعاقب على المرض ولا يعاقب على الجريمة، وهو يرمي إلى مغزى هو أن الجريمة كالمرض تحتاج إلى العلاج وليس إلى العقاب، وانغمس في مجادلات مثيرة بشأن مذهب داروين في التطور وعارض القول بأن «تنازع البقاء» هو أساس التطور، كما عارض أن التطور حركة عمياء في الطبيعة لا تهدف إلى قصد، وكتابة «الحياة والعادة» ينقلنا من داروين إلى لامارك من حيث إن العادات هي الأصل في التطور، وأن الابن ثم الأحفاد ثم السلائل، كلها ترث ما اعتاده الآباء والأسلاف من عادات جديدة اقتضتها بيئات جديدة، وأن تراكم العادة جيلا بعد جيل يؤدي إلى خصائص وراثية تتغير بها الأحياء وتتطور.
وانتفع برنارد شو كثيرا بصمويل بطلر وأخذ عنه هذه الأفكار جميعها، وتناولها في كثير من مؤلفاته بالشرح والتوسع، وقد أخصبت ذهنه وزادته إنسانية كما زادته بصيرة في دلالة العلم.
والمعلم الرابع لبرنارد شو هو هنريك إبسن المؤلف النرويجي.
فقد ظهر إبسن حوالي منتصف القرن الماضي بمذهب جديد في الدرامة هي أنها يجب أن تعالج المشاكل الاجتماعية والفلسفية في عمق وجراءة، ودرسه برنارد شو، وألف عنه كتيبا بعنوان «لباب الإبسنية» دافع فيه عن موقفه هذا، كما أنه تأثر بإبسن في التأليف فجعل المسرح ميدانا للمناقشات الاجتماعية والفلسفية، ولكن ميزة إبسن الأولى، وهي دقة الحبكة المسرحية، لم يستطع برنارد شو أن يرتفع إليها.
هؤلاء المعلمون الأربعة علموا برنارد شو، وبرزوا في وجدانه الثقافي، وكانت لأفكارهم دورات في ذهنه بحيث تغير بهم وتطور، ولكن هناك مئات من المؤلفين الذين انتفع بهم أيضا، فقد عاش 94 سنة كان يقرأ ويدرس فيها، أو في ثمانين سنة منها، قراءة الوعي والتساؤل والتطور.
ولم نذكر هنا داروين باعتباره أحد معلميه، ومع أن فكرة التطور بارزة في جميع مؤلفات برنارد شو؛ وعلة ذلك أن برنارد شو كان يسلم بالتطور، بل يؤمن به إيمانا دينيا، ولكنه كان يكره داروين لاعتماده على «تنازع البقاء»؛ ولذلك فالتطور عنده هو تطور لامارك الذي سبق داروين، وقال بأن العادات تورث وأنها هي علة التطور.
إن برنارد لم يكتب تاريخ حياته ولم يخبر في إيضاح مسهب عن أولئك الذين علموه، ولكنه في مقدماته لدراماته كثيرا ما يذكر حياته وكفاحه ودراساته، ومنها نستطيع أن نتبين أن هؤلاء الأربعة، أو الخمسة بزيادة لامارك، قد أثروا في ثقافته وأخصبوا ذهنه.
ولكن مع ذلك يجب ألا ننسى أن الذي وجه شو وجهة الفن هي أمه التي احترفت الغناء والموسيقى، وهو لا يذكر فضلها لأنه كان يكرهها للمعاملة السيئة التي وجدها منها لأبيه السكير، ويبدو أن هذا الأب كان يحب الصبي جورج كما كان الصبي يتعلق به، وكثير من السكيرين يبدون أبطالا للأطفال، وتزيد هذه البطولة إذا كان البطل أبا، ولكن ليست هناك امرأة تطيق زوجا سكيرا عربيدا تافها أجوف ليست له غير زجاجة الخمر يعانقها ويفرغها في جوفه كل يوم؛ فالأم تعذر هنا في كراهتها له.
وكان برنارد شو، كان على الدوام، يذكر أباه بلهجة الحب، ولكنه لا يكاد يذكر أمه، مع أننا نفهم أنها هي التي وجهته وجهة الفن - أجل - والاستقلال؛ إذ كانت تعمل لكسب قوتها وقوت أبنائها في وقت كانت المرأة فيه، حتى في إنجلترا، قعيدة البيت.
الصداقة حب على مستوى عال
الصداقة حب على المستوى الإنساني العالي، وهي لذلك تتجاوز الحب الجنسي في القيم الإنسانية؛ لأن هذا قد ينبعث بالاشتهاء الجنسي أولا فيكون حافزه انفراديا، ثم يتسامى إلى الصداقة، وليس في هذا بالطبع ما يعيب الحب، بل ليس هناك ما يعيب الاشتهاء الجنسي؛ إذ كيف نعيب شيئا تطالبنا به الطبيعة في نخاع عظامنا بل يطالبنا به الخلود البشري؟
ولكن الصداقة، حين تنشأ بين رجل ورجل أو بين رجل وامرأة، ويكون حافزها اجتماعيا وليس انفراديا، تكون بلا شك أسمى من الحب، بل نحن حين يستولي علينا حب عظيم، بل حب جنسي عظيم، نكاد نفقد غريزة الاشتهاء، ألسنا نستطيع أن نقول أحيانا في بعض تجاربنا: «إن حبي لها كان أعظم من أن أشتهيها؟»
والصداقة ميزة للممتازين من الناس؛ إذ ليس كل إنسان قادرا على أن يصادق، ذلك أننا حين نصادق نحتاج إلى قدرة تؤاتينا على اختيار من يستحق الصداقة، وإلى قدرة أخرى تؤاتينا على أن نضحي من أجله، وبين هاتين القدرتين: فضائل لا تحصى من الإيثار والشرف والشهامة والنجدة، وهذه خصال نادرة.
ونحن نجد في الحياة ألوانا من الاستمتاعات كالثقافة، والطبيعة، والحب الجنسي، والأبوة، والهناء العائلي، والفلسفة، والإنسانية، ونحو ذلك. ولكن يجب أن نعد الصداقة في مقدمة هذه الاستمتاعات، وهي بلا شك استمتاع نادر لأن القادرين عليها - كما قلنا - نادرون، وهم نادرون لأن المجتمع قد ربانا وأنشأنا على الانفرادية الأنانية التي تعوق الصلات الاجتماعية، والصداقة صلة اجتماعية قبل كل شيء.
وكثيرا ما تلتبس علينا القرابة بالصداقة، حتى إننا لنتحمل القريب مهما خطر وفدح ايذاؤه لنا، أو حين تقطع الظروف بيننا وبينه، فلا تكون هناك مشاكلة أو مقاربة في منهج عيشنا أو أهدافنا أو ثقافتنا. ومع ذلك نتكلف له «الصداقة» الجوفاء التي لا تزيد على أن تكون فرضا اجتماعيا نتأفف منه في أعماقنا ولكننا لا نصرح به ، مع أن التصريح به هو خير ما نفعل؛ لأن القرابة مصادفة عمياء قضت بها الطبيعة ولكن الصداقة اختيار وتفعل.
وتبادل الصداقة بين كفئين هو تربية إنسانية عالية كما هو سعادة عظمى أكاد أقول إنها لا تدانيها أية سعادة أخرى، ولست تجد عظيما لهذا السبب إلا وله صديق أو أصدقاء آزروه على أن يبلغ عظمته.
ونحب هنا أن نذكر أصدقاء برنارد شو، فقد كان شخصية فذة وكان له لذلك أصدقاء أفذاذ اختاروه للمشاكلة في الأهداف.
وكان أعظم أصدقائه في هذه الدنيا شارلوت زوجته «التي كان حبه لها أكبر من أن يشتهيها» وقد عاش معها 35 سنة لم ينفصل عنها يوما واحدا، بل لم ينفصل عنها بعد موته؛ فقد أحرق جثمانها وحفظ الرماد في زجاجة، فلما مات هو أوصى بإحراق جثمانه ثم خلط رماده برمادها، وأنفذت الليدي أستور هذه الوصية، ونحن نحس هنا الوفاء في هذه الصداقة الفريدة، بل جمال الفكرة في هذه الأسطورة التي تحمل إلينا في معانيها رمزا إنسانيا نكاد نتذوق جماله ونتنهد لإنسانيته، ونحب أن نقول إنهما كانا يحييان معا بعد الموت في زجاجة على الرغم مما في هذا القول من لغو؛ إذ هو لغو محبب إلى نفوسنا.
ومنذ تزوج برنارد شو انقطع عن أقاربه، بل أقاربه الحميمين، إذ لم يجد فيهم أصدقاء؛ فقد كانت أهدافه غير أهدافهم وأسلوب عيشه غير أسلوبهم. ومن السخف أن يتكلف الصداقة لهم ويرهق نفسه بها في مثل هذه الأحوال، وانقطع أقاربه الحميمون، مثل أمه وأخته، عن زيارته عقب زواجه إلى وفاتهما، ومع أنه كان مثابرا على معونتهما بماله فإنه لم يستطع أن ينسى أنهما سودتا عيشه معهما حين كان لا يزال كما مهملا في هذه الدنيا يعجز عن كسب لقمته.
ولسنا نعرف كثيرا عن علاقته بزوجته سوى الهناء الذي كانا ينعمان به كما كان يبدو عليهما أمام الزائرين والأصدقاء، وكانت هي أديبة غير صغيرة لها بعض المترجمات من الدرامات الفرنسية التي وضع برنارد شو مقدمة لها، وقد عرفته عن طريق صديقيه سيدني ويب وزوجته بالجمعية الفابية، ولزمت فراشه حين كسرت ساقه وهو أعزب، وكانت تعنى به وتمرضه إلى أن برئ حين عقد زواجهما.
وأقرب الأصدقاء إليه بعد زوجته هو وليم آرتشر الأديب الناقد الذي ترجم درامات إبسن من اللغة النرويجية إلى اللغة الإنجليزية، وكان آرتشر عضوا عاملا في جمعية «العقليين» وهي جمعية تناهض الأديان جميعها وتنشر على الجمهور كتبا علمية بأثمان تافهة بل غاية في التفاهة، فقد كانت تبيع كتاب «أصل الأنواع» لداروين بخمسة وعشرين مليما، ونشرت المئات من كتب العلم بهذا الثمن أو بأقل، وعممت التفكير العلمي بين طائفة كبيرة من القراء، ولعل مما يستغربه القارئ المصري أن ج. م. روبرتسون الذي كان صديق مصطفى كامل والذي دافع عن مصر أيام حادث دنشواي، هذا الرجل كان من أقطاب هذه الجمعية وكان داعية الإلحاد في إنجلترا.
ويبدو من الكثير الذي كتبه برنارد شو عن وليم آرتشر أنه عرفه منذ أيام شبابه الأولى، وأنه هو الذي وجهه في حياته الأدبية، أو كان له أكبر تأثير عليه، وكان هبوط برنارد شو على إبسن من أعظم الحظوظ التي لقيها؛ فإنه هو الذي فتح ذهنه لدلالة الدرامة الاجتماعية التي احتضنها شو بعد ذلك وجعلها رسالة حياته.
واشترك الاثنان في التأليف المسرحي، ولكنهما لم يفلحا في ذلك؛ لأن التأليف هنا شخصي، فردي، يستند إلى مزاج وعاطفة كما يستند إلى عقل، وبلغ من دالة شو على صديقه أن وبخه ذات مرة على تقصيره وتخلفه وعزا ذلك إلى زواجه، وكان آرتشر قد تزوج فتاة ذكية تعلق بها كثيرا، وفهم آرتشر من هذا التوبيخ أن شو يدعوه إلى الطلاق أو الانفصال، أو على الأقل النسك، حتى يستعيد كفاءته الأدبية، وغضب وأرسل خطابا إليه يمنعه فيه عن زيارته، وبقيت هذه الجفوة بينهما مدة، ولكنهما عادا إلى الصفاء.
وحدث أن احتاج وليم آرتشر في سنة 1924 إلى إجراء عملية جراحية خطيرة، وكان وقتئذ في نروج وفي مثل هذه الظروف يذكر الإنسان دنياه التي قد تزول فجأة إزاء المجهول في التردد بين الحياة والموت؛ ولذلك كتب قبل إجراء العملية بساعات هذا الخطاب إلى برنارد شو:
عزيزي برنارد شو
عرفت، بعد أن كتبت إليك خطابي الأخير أني محتاج إلى إجراء عملية جراحية هذه الأيام، وسأذهب إلى المستشفى غدا، ولست أعرف إذا كانت هذه العملية خطيرة جدا أم لا، والواقع أني أحس الصحة الكاملة، وظني أني سأنهض منها معافى، ولكن مع ذلك قد يحدث غير ما ننتظر، هنا أجد العذر لأن أقول لك كلمة أرجو واؤمل أنه لم يدخلك شك قط بشأنها، وهي أني على الرغم من بعض مواقفي نحوك وأني كنت أخاطبك وأعاملك أحيانا بلهجة اللوم والتأنيب، فإني لم أتردد قط في إعجابي بك وحبي لك ولم أكف عن الإحساس بأن الأقدار قد حابتني حين جعلتك صديقا لي وجعلتني أعيش في هذه الصداقة سني حياتي، إني أشكرك من قلبي لأربعين سنة أمضيتها في زمالتك، ومهما قيل عني فلن يقال إني لم أعش في مجتمع حسن.
تناولت غذائي اليوم مع ملك نروج والأمير أولاف.
تحياتي وتسليماتي إلى زوجتك وهنيئا لكما.
المخلص و. آرتشر
عام 1935
ووصل الخطاب إلى برنارد شو بعد وفاة آرتشر.
ونحن نتنهد في شجن لهذه الصداقة السامية التي ربطت هذين الأديبين، فلقد اختار كل منهما الآخر لما فيه من سمات عالية يجد فيها ما يرفعه ويرقيه، وارتقى كل منهما بهذه الصداقة واستمتع بها بأكثر مما يستمتع الحبيبان بحبهما.
وكلمة الحب تذكرنا بصداقة أخرى مارسها برنارد شو، وأنت بعدما تقرأ ما سأقوله عنها ستتساءل: هل كانت هذه صداقة أم حبا؟
ففي الربع الأخير من القرن الماضي اكتسحت المسرح الإنجليزي ممثلة عظيمة تدعى إلين تري، وكان جمال وجهها لا يساويه إلا فصاحة لسانها، وهذا إلى ذكاء نادر وثقافة واسعة.
وأحبها برنارد شو وكتب إليها رسالة حب.
وردت إلين تري على الرسالة برسالة تستجيب فيها لحبه، وكان برنارد شو يراها كل مساء على المسرح فلا يحاول لقاءها، وكانت هي تنظر من خروق الستار إليه وهو في الصف الأول بين المتفرجين.
وتبودلت رسائل الحب بينهما سنين ولكن بلا لقاء، هل كان حبهما أكبر من أن يشتهي أحدهما الآخر؟
إن في برنارد شو نسكا عجيبا، إذ كان يعزف عن اللحم في الطعام ولا يشرب الخمر ولا يدخن، وقد عاش مع زوجته شارلوت نحو نصف قرن لم يحدث فيه بينهما اتصال حميم، فهل كان هذا العزوف عن اللقاء بينه وبين إلين تري نسكا؟
ألا يمكن أن نفسر هذا العزوف بأنه وسيلة لاستبقاء الحب حتى يبقى مشتعلا لا ينطفئ باللقاء؟ بل، ألا يمكن أن نقول إن هذا العزوف كان وسيلة لزيادة الحب واحتدامه؟
إني أكاد أسمع همسات القارئ هنا بأنه لم يكن هناك حب، أو إذا كان هناك حب فإن في برنارد شو علة أو عللا حالت دون الوصول به إلى غايته الحميمة.
ولكن علاقات برنارد شو خارج الزمام كانت فاضحة، على الرغم مما عرف عنه من التعقل في سلوكه، ومما يذكر عنه أنه «اشتهى» إحدى الممثلات، وتعقبها في رواحها وغدوها حتى فرت من الفندق في أحد المصايف، وتركت المصيف كله هروبا منه.
لكأن برنارد شو يقول: «من أحببناه هجرناه».
إن الموقف سيكولوجي دقيق يحتاج إلى التحليل، وليس عندنا من التفاصيل ما يكفي لهذا التحليل؛ ولذلك نتركه كي يعبر به القارئ ويتأمله ويجتره، يحاول أن يحله وفق ما يحس ويعقل، والتفكير هنا ينفع كثيرا.
ولكن صداقة العمر التي استمتع بها برنارد شو أكثر سني حياته هي صداقته لسدني ويب وزوجته بياترس ويب، فقد كان هؤلاء الثلاثة كالشخص الواحد أكثر من ستين سنة، لهم هدف موحد ووسائل موحدة يستجيبون لأحداث العالم وتطوراته وكأنهم على خطة لا تتغير.
عرفهما برنارد شو قبل أن يبلغ الثلاثين، وتزوج شارلوت بإيحائهما، ولما ماتت شارلوت تركت في وصيتها ألف جنيه هدية وتقديرا لبياتريس ويب، وبياتريس ويب امرأة من أولئك النسوة الجديدات في عصرنا، يمكن أن نقول بأنها كانت وجودية من حيث لم تكن تدري، فقد استقلت منذ شبابها وأصرت على أن تحيا حياتها كما تريد وترغب، وتعلمت بوحي عقلها، وجربت.
عرفت - وهي فتاة في بداية العقد الثالث من عمرها - أن العاملات من الفتيات والزوجات الفقيرات، اللائي يعملن في الخياطة في الحي الفقير في شرق لندن، يجهدهن ويستغلهن تجار عتاة لا رحمة عندهم، فاندمجت بينهن، وعملت معهن، وتناولت أجورا مثلهن، مع أنها كانت تنتمي إلى عائلة غنية، وبقيت على ذلك تدرس أحوالهن في السلوك والطعام والمأوى، وكتبت عن حياتهن فصولا حفزت المفكرين بعد ذلك على ضرورة الإصلاح.
وتزوجت بياتريس زوجا عجيبا، من أولئك الأفذاذ الذين يحبون الدنيا أكثر مما يحبون أنفسهم؛ ولذلك تحبهم الدنيا بعد ذلك وترفعهم إلى القمم، وقد صار سدني ويب بعد ذلك وزيرا في حكومة العمال.
وكان بيت ويب - زوجا وزوجة - مكتبة من أوله إلى آخره، من دهليزه إلى مطبخة، وكانت مائدة الطعام منضدة العمل، يتناولان طعامهما، ثم يفرشان المنضدة ويضعان الكتب والأوراق لدراسة الإنسانية.
درسا الاشتراكية وآمنا بها، وكان لكل منهما مجهود احتاج إلى عرق وتعب في تنشئة الجمعية الفابية التي علمت الأغنياء مبادئ هذا المذهب، وبحث كلاهما البؤس والإجرام ونظم الحكم وتعليم الشعب ونحو ذلك ما استغرق كل حياتهما.
وعرفهما برنارد شو، وتعلم منهما كثيرا، كما تعلما منه، وتوثقت الصداقة بين الثلاثة، وكانت صداقتهم تنهض على وحدة الهدف، وهي الاشتراكية لإنجلترا. •••
لقد ذكرت هنا بعض الأصدقاء الذين اختارهم برنارد شو أو اختاروه، فكانوا زملاء العمر، يجد كل منهم الوفاء من صاحبه له، ويستمتع بحبه، والأديب بطبيعته قليل الأصدقاء، يتألق في اختيارهم؛ لأن عمله انفرادي يحتاج إلى الخلوة أكثر مما يحتاج إلى الاجتماع.
ولكن هناك أصدقاء نؤثرهم على هذه الخلوة المقدسة؛ لأنهم ممتازون في القلب والعقل، نأتنس بقلبهم ونستنير بعقلهم، ونحن بؤساء حين لا يكون لنا أصدقاء.
العبقري في زواجه
الزواج، باعتباره عيشا مشتركا بين اثنين، يعد مشقة منذ بدايته إلى نهايته عند كافة الناس، وخاصة إذا كانت الزوجة على شيء من التربية التي علمتها الاستقلال والإباء فلا تطيع الطاعة العمياء، ولكنه عند العبقريين من رجال الفن أو الفكر أو القصد الإنساني النبيل، يعد أكثر من مشقة، يعد مشكلة.
ذلك أن كلا من الزوجين يحصل، إلى قبيل سن العشرين أو بعدها، على تربية معينة في بيئة مختلفة، ترسم له قيما محدودة تخالف ما يحصل عليه الآخر، فإذا كان الزواج بعد ذلك في عيش مشترك تصادمت القيم وانعكس في مستقبلهما اختلاف بيئتيهما في الماضي.
يحدث هذا عند كافة المتزوجين الذين يعالجونه بالتسامح والمحاولة والملاءمة.
ولكن العبقريين يجدون في الزواج مشكلة تحملهم على التفات خاص ينقص من التفاتهم إلى عملهم العبقري؛ ولذلك كثيرا ما يعزفون عن المعيشة الزوجية أو يؤثرون حياة العزوبة فلا يتزوجون.
واعتقادي أن بؤرة المشكلة في الزواج - إذا كان الزواج عبقريا - أنه - أي هذا الزوج - يؤثر الأهداف الإنسانية على الأهداف الاجتماعية، وهو ينشد الثقافة أو الفن أو الحرية أو الاشتراكية، ويرضى بأن يضحي بماله وأحيانا بحياته في سبيل ذلك، بينما هي - أي الزوجة - تؤثر الأهداف الاجتماعية، كالثراء والترف ومصلحة الأبناء والمسكن الممتاز والضيافة الكريمة ونحو ذلك.
هو يطلب الوحدة التي تتيح له الإنتاج في حين هي تطلب الاجتماع، هو إنساني وهي اجتماعية؛ ولذلك تصطدم أهدافها بأهدافه.
وإلى هنا نفهم معنى الشقاق، أو على الأقل الخلاف، بين الزوج الممتاز والزوجة العادية، وكثيرا ما نعتقد أن هذه الزوجة تعطل زوجها الممتاز وتحول دونه والإنتاج المثمر، وهنا نذكر كلمة نيتشه: «أف للزوج العبقري من الزوجة البطة.»
بل نذكر «البطة» التي تزوجها سقراط والتي أتعست حياته، والرجل حين يستغرق في فنه العالي أو قصده العالمي، يجب ألا يستأثر بوقته سوى هذا الفن أو القصد، بل هو يضن بالأوقات القصيرة التي تتطلبها المعاشرة الزوجية، وهو إلى هذا فوضوي في سلوكه في البيت، ينام في غير ميعاد ويتناول وجباته على غير قياس.
وقد يسهر الليل كله في غير عمل واضح، أو ينام النهار كله بلا مرض عاذر، وهو ينكر نفسه عن ضيوفه الذين قد تحب زوجته الترحيب بهم، وهذا السلوك لا يبعث في نفس الزوجة سوى القلق، بل أحيانا النفور منه.
وقد عاش أناطول فرانس منفصلا عن زوجته، كما فعل مثل ذلك هنريك إبسن؛ لأن كلا منهما وجد أن حياة العزوبة أكثر إنتاجا من حياة الزواج، وقد ختم تولستون حياته بمأساة، بعد حياة زوجية كابد فيها العذاب من المحاولات المتكررة التي قامت بها زوجته كي تجعله اجتماعيا، بينما هو كان ينشد الأهداف الإنسانية، وترك بيت الزوجية، بل فر من زوجته في فجر أحد الأيام. وأمضى نحو 18 يوما وهو يحاول الفرار إلى أن مات في إحدى القرى النائية، وكأنه بهذا العمل كان يرمز إلى أن الحياة الزوجية لا تلائم العبقري.
وعندما نتأمل الأسباب التي دعت تولستوي إلى كراهة المعيشة الزوجية لا نتمالك الإحساس بأن هذا الرجل قد ظلم زوجته أكبر الظلم، فقد تزوجته وهو «كونت» أي أحد النبلاء له ضيعة إقطاع، وأنجبت له أبناء كانت تنتظر لهم وراثة هذه الضيعة، ولهذا فنحن نعذرها في موقفها.
كانت هي امرأة اجتماعية، تفكر في تعليم أبنائها وتزويج بناتها وفق القواعد والعادات في طبقة النبلاء، وكانت تحرص لذلك على ريع الضيعة، تفكر في تنشئة هذا الابن الذي يحتاج إلى الرحلة إلى بطرسبورج كي يتعلم في الجامعة، كما تفكر في هذه الآنسة الصغيرة التي ستكون عروسا تجمل صدرها الجواهر الغالية.
اعتبارات اجتماعية لا نستطيع أن نلوم الزوجة الأم عليها.
ولكن الإنسان في تولستوي كان يوحى إليه: دع الأرض للفلاحين ولا تنتفع بمليم من مكاسبهم وعرق عضلاتهم.
وهنا تصرخ الزوجة الاجتماعية، ويصرخ الزوج الإنساني، خلاف لا ينقطع.
ثم لا يكتفي تولستوي بذلك، بل يعلن أنه كافر لا يؤمن بالكنيسة الأورثوذكسية، ويقرر المجلس الأعلى للكنائس حرمانه، أي إخراجه من حظيرة المسيحية.
وتتأمل الزوجة الاجتماعية هذا القرار فتبكي لمصير أبنائها، وخاصة بناتها؛ إذ من يتزوج هؤلاء البنات وأبوهن كافر؟ ولكن الاعتبارات الاجتماعية لا قيمة لها عند تولستوي إذ إن جميع اعتباراته إنسانية.
وإلى هنا نفهم ونشفق ونترحم، ونكاد نقول إن نيتشه قصد إلى معنى واضح حين تأفف من العبقري يتزوج البطة، هو معنى واضح، ولكنه مؤسف، في مجتمعنا العصري الذي كان أيضا يسود روسيا أيام القياصرة.
ولكن هناك معنى آخر من اضطراب الحياة الزوجية يعلو على الخلاف الذي كان بين تولستوي وزوجته.
فقد كان هذا الخلاف زوجيا عائليا، يتعلق بميراث الأبناء ومركز العائلة الاجتماعي ومستقبلها في المجتمع، أما الخلاف الذي نقصد فيعلو على المشاجرات الدائمة بين تولستوي وزوجته؛ إذ هو من طراز آخر؛ ذلك أن أوربا، التي كانت تهتز بالحركات والنزعات والاختمارات الاجتماعية والإنسانية حوالي 1880، كانت تتحدث كثيرا عن الزواج، وكانت حركة «الحياة الجديدة» التي ظهرت في لندن في 1881 إحدى الحركات التي بعثت التفكير والابتكار، وكان مستوى المرأة قد ارتفع وأصبحت تنشد آمال الرجال، وتؤدي أعمالهم، وتحيا في استقلال اقتصادي يبعث، كما هو الشأن على الدوام، على استقلال فكري وفلسفي واجتماعي.
وهنا نجد ابتكارا جديدا في الزواج. فإن هافلوك أليس الاختصاصي في درس الشئون الجنسية، وهو عالم وفيلسوف وأديب، يتزوج الآنسة لي، ويتفق كلاهما على أن يعيش كل منهما في مسكن منفصل، حتى إذا كانت أيام الاصطياف في شهري يونيه ويوليه مثلا قصد الزوجان إلى المصيف يمضيان فيه معا، في مسكن واحد، هذه الإجازة السنوية، فيكونان بمثابة عرسين يمضيان شهر العسل في اشتياق قد زاده الحرمان طوال شهور الانفصال الماضية.
وقد قرأت تاريخ حياتهما وتأملت هذه التجربة، وأستطيع أن أقول إن الزوج قد سعد بهذا الانفصال، وأما الزوجة فلم تسعد.
ويسهل علينا أن نفهم لماذا سعد الزوج؛ فإنه كان مؤلفا ومفكرا عظيما مشغول الذهن والقلب بقصد إنساني عظيم هو تعميم الثقافة الجنسية الصحيحة بين الجماهير، وقد نجح في تعميم العلوم الجديدة التي رفعت جمهور القراء من سذاجة العقائد الموروثة إلى حقائق الطبيعة والكون والحياة.
قصد إنساني عظيم استأثر بحياته واحتاج إلى أن يعيش منفردا بلا زوجة تشغله وتشاركه العيش في مسكن واحد.
ثم هي كانت امرأة عظيمة. فقد أسست ناديا للنساء العاملات، وألفت كتبا، ودعت إلى أن المرأة يجب ألا تستأثر واجبات البيت بكل وقتها، وأن عليها أن تربي شخصيتها بالعمل المنتج كالرجل سواء، ولكنها مع الأسف لم تتحمل كل ما اضطلعت به، فانهارت شخصيتها، حتى احتاجت إلى المعالجة في المستشفيات.
لقد ابتدع كلاهما بدعة الزواج الانفصالي الذي نسمع هذه الأيام، بعد سبعين سنة من ابتداعهما له، بأنه ينتشر في أوربا وأمريكا.
وهو ينتشر لسبب أصيل في الحضارة القائمة، التي علمت المرأة، وحققت لها الاستقلال الاقتصادي، وكونت شخصيتها، فاحتاجت إلى العيش المستقل في المسكن المستقل.
وهنا ننتقل إلى برنارد شو.
لقد عاش هذا الرجل عن قصد يحاول أن يغير الدنيا والمجتمع، وتزوج الآنسة شارلوت تونسند، وعاش معها في حياة «زوجية» أكثر من 35 سنة، ولكن لم يتم بينهما اتصال جنسي في كل هذه السنين.
لقد كتب برنارد شو في إحدى مقالاته عبارة تستحق أن نقف عندها - ونتأمل معناها في ضوء هذه الحقيقة التي باح بها للمترجم بحياته سانت جون ارفين - قال:
إن أعظم ما أنشده في حياتي أن أجد في لذة الفن تلك الحماسة التي أجدها في اللذة الجنسية.
ويقول لنا المترجم بحياته هذا إن شارلوت كانت تكره الرجال، وإنها شرطت على برنارد شو قبل الزواج أن تبقى عذراء.
برنارد شو.
ولكن من منا يسيغ هذا الكلام ويقبل هذا المنطق؟ فإن المرأة التي تنفر من الرجال تستطيع العيش في عزوبة بعيدا عن الرجل، وكذلك برنارد شو لم يكن بالعازف عن المسرات الجنسية كما نعرف من اقتحاماته الغرامية العديدة قبل الزواج.
صورة عائلية: والدة شو إلى اليسار، ووالده إلى اليمين، وجورج فاندلير في الوسط.
والدة شو في حديقة منزلها في لندن 1897.
وإذن كيف نفسر هذه الرهبانية في مسلك برنارد شو أربعين سنة؟
أفسرها بأنه قد تزوج بعد الأربعين، أي بعد أن شبع من المغامرات الجنسية، وحين شرع في الفن والثقافة، دعوة الاشتراكية، ونزعة الإنسانية، تستولي جميعها على كيانه النفسي الذهني وتستأثر بكل مجهوده، وصار يجد أن هذا المجهود يجب ألا ينتقصه أي مجهود آخر في الحياة الجنسية.
إنها حياة العزوبة قد آثرها الفنان أمام نفسه وضميره، مع النفاق الاجتماعي الذي خدع به الناس وأوهمهم أنه زوج مثل سائر الأزواج، حتى لا يثير موقفه التساؤل والاستطلاع من الفضوليين.
وعلى قدر القصد الإنساني تكون التضحية بالذات.
لقد فعل ذلك أيضا غاندي، وبقي «أعزب» مع زوجته نحو عشرين أو ثلاثين سنة قبل وفاته.
وربما نحتاج هنا إلى سؤال سيكلوجي: هل سلك برنارد شو هذا السلوك قسرا أم عفوا؟ أي هل كان يمنع نفسه أم كان يمتنع بلا منع؟
وجوابي أنه كان يفعل ذلك عفوا بلا أدنى إحساس بالقهر والقسر؛ ذلك أنه بعد اقتناعه بضرورة قصر مجهوده على الفن والثقافة، وجد عزوفا طبيعيا عن الاشتهاء الجنسي؛ أي إن استنكاره لهذا الاشتهاء، من حيث إنه يؤخر مجهوده الفني الثقافي، قد أصبح «طبيعيا»، وموقفه هنا يشبه موقف رجل آخر عرفته أنا، فقد مات ابنه وحزن عليه حزنا محرقا، وأحس في أعماقه أن حقه في ملذات الدنيا قد سقط بعد هذه النكبة، فذهب عنه الاشتهاء الجنسي تماما، وذهب عفوا بلا أدنى قسر.
وهنا سؤال: هل كان برنارد شو وزوجته سعيدين بزواجهما؟ والجواب أن الذي نستطيع أن نقطع به أنهما كانا سعيدين بزواجهما على الرغم من هذا «الشذوذ»؛ وذلك لأن الحب أخذ مكان الاشتهاء عندهما، وبين الاثنين ما يقارب المضادة، إذ عندما يزيد الاشتهاء ينقص الحب، ثم العكس؛ لأن الحب حنان أما الاشتهاء فعدوان.
والحنان - أي حنان الحب - يحتاج إلى شخصية نعرفها ونأتنس إلى لغتها وأخلاقها وتاريخها، أما الاشتهاء فيمكن أن نحسه نحو أي شخص لمفاتنه الجنسية فقط حتى ولو كنا نجهل لغته واسمه.
وقد يصل أحيانا عدوان الشهوة إلى الاغتصاب، ولكن هذا لا يمكن أن يحدث في الحب.
وقد كانت شارلوت سعيدة بأن تعيش إلى جنب عبقرية فذة وإنسان منذور للإنسانية، كما كان برنارد شو سعيدا بأن يعيش مع امرأة تتيح له التسامي بالغريزة الجنسية إلى آفاق الثقافة والفن بحيث يستطيع أن يحس أنه جزء من القصد العام في التطور البشري.
ولكن الذي يجب أن نؤكده هنا أن مثل هذا الزواج الذي يجحد الحيوان في الإنسان لا يمكن أن يتم، مع سعادة العيش، إلا بين اثنين يرتفعان إلى المستويات العليا من الحياة، وهذا نادر في عصرنا، بل في كل عصر.
الاشتراكية مذهب شو
مذهب برنارد شو في السياسة والمجتمع هو الاشتراكية.
عرف هذا المذهب قبل أن يصل إلى الثلاثين من عمره، ودعا إليه، وروج له، وضحى بوقته وجهده لإيضاح مزاياه، وما كنت في حاجة لأن أشرح هذا المذهب لولا الأمية السياسية التي عممها قانون المطبوعات في مصر، حين كانت تؤيده هيئة مؤلفة من البوليس السري لتعقب المفكرين، كما تتربص بالشعب «نيابة عامة» تقدم المفكرين للقضاء وتطلب معاقبتهم، والى كل هذا عشرون سنة من الرقابة على الصحف، وهي رقابة عرفتها أنا، وعرفها الصحفيون والمؤلفون في الحكومات الغابرة، حين لم يكن يؤذن لنا بنشر جملة في كتاب إلا إذا أذن بها الرقيب الذي لعله لم يكن ليرتفع في المستوى الثقافي إلى مقام المؤلف نفسه.
المذهب الاشتراكي يقوم على تأميم الممتلكات التي تحتاج إلى استغلالها إلى عمل العمال، بينما المذهب الانفرادي الذي نعيش نحن على نظامه يجيز للفرد أن يمتلك الممتلكات ويستخدم العمال لاستغلالهم وزيادة كسبه بهذا الاستغلال.
نحن نعيش في نظام انفرادي، ولكن المجتمع الانفرادي، مهما بالغ والتزم الروح الانفرادي في نشاطه الاقتصادي، يحتاج إلى شيء كبير من الاشتراكية وإلا عمت الفوضى، ففي مصر مثلا تدير الحكومة مصالح التلغرافات والتليفونات والبريد والسكك الحديدية، والطرق والجسور، ومشروعات الري، كما تدير المدارس والجامعات والمتاحف وصيانة الآثار، وعندنا مجالس بلدية تتولى إضاءة المنازل والشوارع وإيصال المياه النقية للمساكن.
كل هذه الأعمال اشتراكية يديرها الشعب، الممثل في حكومته الرئيسية أو بمجالسه البلدية العديدة لمصلحة الشعب؛ أي إنها لا تملكها وتستغلها هيئات كالشركات مثلا فتديرها لمصلحة الكسب الذي يعود على مساهميها، بل لقد كانت إضاءة القاهرة بل وكذلك مياه الشرب - إلى وقت قريب - تقوم بها شركتان استغلاليتان.
كان نظام إيصال الضوء الكهربائي والغازي وكذلك إيصال الماء للبيوت والمصالح انفراديا، حين كانت تتولاه شركتان غاية نشاطهما كسب المساهمين أولا ثم خدمة السكان في القاهرة ثانيا، ولكن الحكومة المصرية استولت عليها، فأصبح مساهموها الشعب بدلا من الأفراد الذين كانوا يشترون أسهم الشركتين في البورصة.
وليس من المعقول أن الشركتين كانتا تخدمان الشعب بإخلاص يزيد على إخلاص الحكومة المصرية للشعب المصري.
والقضاء والتعليم كلاهما نشاط اشتراكي لا يمكننا أن نسلمه لشركة أو لأفراد كي يقوموا هم به بدلا من الحكومة.
الأفراد والشركات يقومون بالأعمال بغية الكسب، ولكن الحكومة العامة، والحكومات الخاصة الممثلة في المجالس البلدية، تقوم بالأعمال بغية الخدمة العامة للشعب، ومن هنا أفضلية نظم الاشتراكية على النظم الانفرادية في الاستغلال.
كان الطب نشاطا انفراديا في إنجلترا إلى وقت قريب، ثم أصبح مؤمما، فماذا أعني بكلمة التأميم؟ وكيف كان الطب قبل التأميم ثم بعده؟
كان الطبيب قبل التأميم يعالج المريض ويطالبه بالأجر كما يهوى، تجارة حرة بين الطبيب والمريض، فكان من مصلحة الأطباء أن يكثر المرضى، بل كان من مصلحة الطبيب أن يبقى المريض أطول مدة ممكنة تحت العلاج حتى يحصل الطبيب على أكبر مقدار من الأجر.
وكان الأثرياء يمتازون بأحسن الأطباء، الذين يكافئونهم بأكبر الأجور التي يعجز الفقراء عن تقديمها لهم، فكان الأثرياء يدخلون المستشفيات الفخمة ويجدون الخدمة الممتازة حين كان الفقراء يقنعون بالطبيب الرخيص، الذي قد يكون كذلك لأنه غير كفء في المعالجة ولم يكونوا يجدون سوى المستشفيات الحقيرة.
ثم أمم الطب في إنجلترا؛ فلم يعد الطبيب يتناول أجرا من المريض، وإنما هو يتناول مرتبه آخر الشهر من هيئة حكومية، وصار أفقر الفقراء يجد العناية التي يجدها أثرى الأثرياء، كما أن طقوم الأسنان، والنظارات، والسماعات، وزعت بالمجان على المحتاجين إليها.
أصبح من مصلحة الأطباء أن تنتشر الصحة وتقل الأمراض، حتى لا يتعبوا في العلاج؛ لأن زيادة الأمراض لن تزيد أجورهم.
ونحن في مصر نكلف الدولة القيام بالتعليم المدرسي والجامعي؛ أي أن التعليم مؤمم، وقد كان يمكننا أن نترك التعليم كله للهيئات غير الحكومية شركات أو أفراد، فهل لو كان كذلك كنا ننتفع به كما ننتفع الآن به وهو مؤمم تحت إشراف الحكومة؟
ولسنا مع ذلك اشتراكيين في مجموع أو معظم نشاطنا وأعمالنا، وإنما بدون هذا القليل من النظم الاشتراكية في الدولة لا يمكن البقاء.
بل الدفاع عن البلاد، بالجيش والأسطول والطائرات عمل اشتراكي لا يمكن أمة - مهما بالغت في الإيمان بالمذهب الانفرادي - أن تأتمن الأفراد أو الهيئات الحرة على أن تتولاه.
بل أكثر من هذا، فإنه حين تحدث الأزمات لقلة المعروض من القمح أو البترول أو نحو ذلك؛ تنهض الحكومات وتتدخل لمنع المباراة الحرة في هذه الأشياء، فتشتري هي القمح أو البترول وتبيعها لأفراد الشعب؛ وذلك لإيمانها الراسخ بأن التاجر الحر عندما يجد قلة في سلعة معروضة للبيع يرفع أثمانها، وقد يخفيها، حتى يحس الجمهور قلتها فيزيد في الثمن لشرائها.
نظام المباراة الحرة في الكسب هو النظام الانفرادي، ونظام الإشراف أو الإدارة الحكومية هو النظام الاشتراكي، ولكن وصف الاشتراكية بأنها نشاط حكومي يحدث التباسات، وصحيح أن هناك اشتراكية حكومية حين تدير الحكومة الرئيسية السكك الحديدية مثلا، أو حتى يتولى المجلس البلدي كنس الشوارع وتنظيم المواصلات في المدينة، ولكن الاشتراكية أكبر من هذا.
فحين يكون هناك مصنع أو مزرعة يتولى العمال إدارتهما بأنفسهم، ويؤلفون من أنفسهم حكومة لهذا المصنع أو لهذه المزرعة، ويعينون الأجور، كما يعينون المبالغ للتجديد والترميم، ويختارون اللجنة المشرفة، والحكومة الرئيسة (المركزية العامة) لا تتدخل في إدارة هذا المصنع إلا بمقدار ما تحافظ به على مصلحة المستهلكين، أو للفصل في خلاف تعجز اللجنة المشرفة عن علاجه.
النظام الاشتراكي يقوم على: (1)
أعمال تتولاها الحكومة المركزية. (2)
أعمال تتولاها المجالس البلدية. (3)
أعمال يتولاها العمال أنفسهم عن طريق نقاباتهم أو شركاتهم التعاونية.
وليس هناك شعب، يعيش على النظام الرأسمالي (أي المباراة الحرة بين أصحاب الأعمال من الأفراد أو الشركات) يمكنه أن يستغني عن نحو عشرين أو ثلاثين عمل اشتراكي كما هي الحال في مصر الآن، وما يطلبه الاشتراكيون هو تعميم هذا النظام الاشتراكي على جميع الأعمال التي تحتاج إلى عمل العمال حتى تأخذ الخدمة الاشتراكية مكان الاستغلال الفردي. •••
نظام المباراة الحرة في الإنتاج هو نظام تنازع البقاء، للفائز الرخاء والثراء، وللمهزوم الجوع والعري، هو نظام الفقر والغنى، الفقر الذي يؤدي إلى الجريمة وإلى المرض، والغنى الذي يفسد الأبناء بالميراث ويعمم الأمراض النفسية بين الأغنياء أنفسهم ، كما نرى الآن في الولايات المتحدة حيث يزيد عدد الأسرة الخاصة بالأمراض العصبية والنفسية في المستشفيات على عدد الأسرة الخاصة بأمراض الأجسام.
في نظام المباراة الحرة، الفقير متعب جائع ذليل مريض بالحرمان، والغني متخم بالثراء والغذاء مرهق بالهموم، وكلاهما عدو للآخر.
وما دام الإنسان يطلب الكسب، وزيادة الكسب، فإنه لا يبالي كيف يكسب، فقد يؤسس بيتا للدعارة، أو للمقامرة، أو للخمور، أو ربما يتجر بالمخدرات المهلكة، أو - وهنا أفدح الخطر - قد يتجر بآلات الحرب، وهو حين ينتهي إلى ذلك سيحرض على الحرب التي ربما تنتهي بقتل الملايين من الناس.
لما ظهر مدفع كروب في ألمانيا حوالي 1870 حاولت مصانع كروب بيع إنتاجها منه لألمانيا، فرفضت الحكومة الألمانية، فعرضته على بعض حكومات أوربا فرفضت أيضا، وعندئذ بعثت بمندوبها إلى مصر حيث كان الخديو إسماعيل، وكانت له نيات إمبراطورية في أفريقيا فاشترى بعض هذه المدافع.
وعندئذ قصد المندوب إلى تركيا، وأفاض في النيات الإمبراطورية التي يحتضنها إسماعيل والتي ربما تحمله على محاربة السلطان؛ أي إنه مشي بالوقيعة بين الخديو والسلطان، فاشترى سلطان الأتراك بعض هذه المدافع، بل حرص على أن يشتري أكثر مما اشترى إسماعيل، ثم قصد إلى روسيا، ومشى بالوقيعة بين تركيا وروسيا، وأفهم وأوهم الوزراء بأن هذه المدافع تحقق النصر لتركيا إذا حاربت روسيا، فاشترت روسيا مقدارا كبيرا من هذه المدافع، وعندئذ خشيت ألمانيا هذا الجار الروسي المسلح فاشترت، وخشيت فرنسا ألمانيا فاشترت ... إلخ.
هذا مثال من النظام الانفرادي في الإنتاج، نظام المباراة الحرة الذي لا يبالي سوى الكسب، ولو كان الموت هو السبيل إلى الكسب.
ولكن النظام الاشتراكي لا يهدف إلى الكسب وإنما إلى الخدمة؛ إذ لمن يكسب؟
هل الحكومة، وهي تؤدي خدمة عامة بالتعليم أو المواصلات أو الجيش تريد الكسب؟ ومن يحصل على هذا الكسب؟
هل الحكومة الإنجليزية بعد أن أممت مهنة الطب تريد الكسب؟
وهل هي حين أممت المناجم كانت تريد الكسب؟ ولمن تعطي هذا الكسب؟ •••
الاشتراكية في قصة قناة السويس هي التأميم، هي أن يملك الشعب المصري هذه القناة المصرية ويخدم بها العالم كله، بلا قصد إلى الكسب، كما يخدم الشعب المصري.
الانفرادية في قصة قناة السويس هي أن تستبد شركة بإدارته، وتزيد أجور العبور فيه كما تشاء بلا أي رقابة، وتعطي المساهمين الكسب الذي يطمعون فيه، فإذا طلبت الحكومة المصرية التأميم حرضت الشركة حكومتي فرنسا وبريطانيا على قتالنا.
جميع الحروب، بل جميع الاستعمار، هي نظام انفرادي في الكسب باستغلال العمال داخل بلادهم أولا، ثم استغلال العمال في الشعوب الأخرى المستضعفة مثل الهند ومصر وكينيا والجزائر ... إلخ.
وأخيرا نظام المباراة، النظام الانفرادي للكسب، هو نظام الأزمات المتواترة التي تحدث التعطل للعمال؛ فإن أزمة 1930 التي عمت العالم الانفرادي، والتي سبقتها ثم لحقتها أزمات قد أشاعت التعطل بين نحو ستين أو سبعين مليون عامل في أوربا وأمريكا، وكان معنى التعطل هنا الجوع والعري والمرض والموت؛ إذ لم تكن الشعوب الغربية قد عممت الضمانات ضد هذه الأزمات، وهي ضمانات مع ذلك لا تكفل سوى الحد الضروري للبقاء؛ أي لا تكفل للمتعطلين الحياة المتمدنة المثقفة.
وعلة التعطل أن أصحاب المصانع والمزارع والعقارات يجمعون بتوالي السنين مقدارا كبيرا من أجور العمال وإيجارات الأرض والعقارات، وتنتهي الحال بفقر الشعب الذي يتألف 95٪ من أفراده من العمال المأجورين أو التجار أو الساكنين المستأجرين، وعندئذ يعجزون عن شراء السلع التي تنتجها المصانع أو عن استهلاكها جميعا، وينتج من هذه الحال أخيرا الاستغناء عن العمال، وإقفال المصانع، أو الإقلال من الإنتاج بتعطيلها يومين أو ثلاثة أيام كل أسبوع، وهذه هي الأزمة، إنتاج كثير من المصانع والمزارع وعجز في الشعب عن الشراء، ثم تعطيل الإنتاج وطرد العمال، ثم الجوع والعري والمرض.
والنظام الانفرادي في قصة البترول العربي هو تسليمه لشركات شل وأرامكو وفاكييوم، الإنجليزية الفرنسية الأمريكية الهولندية، واستخدام العمال العرب بأتفه الأجور لاستخراجه، ثم توزيع الأرباح على المساهمين في لندن وباريس ونيويورك وأمستردام، مع بقاء العرب في الفقر والمرض والجهل.
والنظام الاشتراكي للبترول العربي هو التأميم، حتى يملك العراقيون بترولهم، ويملك السعوديون والكويتيون بترولهم، ويبيعون بعضه لأقطار العالم ويستعملون بعضه لإدارة مصانعهم .
أكتب هذه الكلمات والطائرات الإنجليزية تلقي الموت على اليمنيين لأنهم يعارضون الإنجليز في احتلال منابع البترول.
ولو كانت الحكومة الإنجليزية اشتراكية لما فعلت ذلك.
إن حزب العمال في بريطانيا - وليس جميع أعضائه اشتراكيين، وإن يكن كثير منهم كذلك - حمل الإنجليز على الجلاء عن الهند، ووقف في صف مصر ضد حكومة المحافظين حين جن إيدن وضرب بورسعيد وسائر مدننا بالقنابل من أجل التشبث بحقوق، أي بسرقات، المساهمين في قناة السويس.
الاشتراكية هي العدل والشرف في السياسة الدولية، وهي التي حملت روسيا والصين الاشتراكيتين، كما حملت نهرو الاشتراكي، على مساعدتنا في أزمة قناة السويس. •••
الاشتراكية هي مذهب برنارد شو.
وينبعث الاشتراكيون إلى هذا المذهب بالإنسانية، ولكن ليست الإنسانية هنا هي كل شيء؛ أي إنهم لا يقولون بالرحمة للفقراء ورفع مستواهم الاقتصادي والعناية بصحتهم وزيادة أجورهم، بالنظام الاشتراكي فقط.
وإنما هم اشتراكيون أيضا لأن الإنتاج العالي، الإنتاج الوفير يحتاج إلى الاشتراكية.
لقد استطاعت دولة الاتحاد السوفيتي أن تصلح في السنوات الخمس الماضية (آخرها 1955) ثلاثين مليون فدان، كانت قاحلة فأصبحت الآن تزرع بالقمح والذرة والقطن، وهذه المساحة تزيد خمسة أضعاف مساحة الأرض المزروعة في مصر.
وما كان يمكن أن يقوم بهذا المجهود فرد أو شركة، وإنما استطاعته الحكومة السوفيتية لأنها حكومة اشتراكية تتوافر لها الموارد المادية البشرية في شعب يبلغ 180 مليونا.
فالذي يبرر الاشتراكية، بعد عامل الإنسانية، هو عامل الاقتصاد، عامل الإنتاج الوفير بتعبئة الشعب كله لزيادة رفاهيته وحضارته وثقافته. •••
ما هي العوامل التي عينت المذهب السياسي لبرنارد شو ووجهته؟
نشأ شو أرلنديا، فرأى استبداد الإنجليز ببلاده، وكره الفكرة الإمبراطورية وقاومها طيلة حياته، والمذهب الاشتراكي هو العدو الأصيل للفكرة الإمبراطورية الاستعمارية؛ لأن الأساس في الاشتراكية هو محو الاستغلال. الاستغلال للعمال داخل البلاد، والاستغلال للشعوب الضعيفة التي أخضعها الاستعمار.
ولم تكن أرلندا تزيد في نظر الإنجليز الاستعماريين على الهند أو مصر، وتاريخهم في هذه الجزيرة هو تاريخ الجزارة البشرية، وقد مرت بأرلندا أوقات كان عدد الأرلنديين المهاجرين إلى الولايات المتحدة الأمريكية أكبر من عدد الأرلنديين داخل أرلندا. وذلك فرارا من فظاعة الاستعمار البريطاني.
ولكن برنارد شو يستعمل عقله ولا يستسلم قلبه حين يتحدث عن أرلندا؛ فإنه يجحد سلطة الكهنة الذين يستغلون تدين الشعب الأرلندي، هو يزيد على ذلك ويقول إن الأرلنديين قد اكتسبوا باحتلال الإنجليز لبلادهم شيئا لا يقدر بثمن هو اللغة الإنجليزية التي تصل بينهم وبين الثقافة العالمية، وهو يجحد محاولة الوطنيين الأرلنديين إحياءهم للغتهم الميتة.
وهو يكاد يبرر الفتوحات الإمبراطورية في حالات معينة؛ فإنه يقول إن مكافحتنا للمبدأ الإمبراطوري، وإخضاع شعب لشعب آخر يستغله، يجب ألا يعمينا عن حق العالم كله في الثروات المعطلة عند الشعوب المتأخرة؛ إذ ليس من حق شعب ما أن ينام على كنوز أرضه من بترول أو فحم أو حديد، فلا هو يستغلها ولا هو يترك غيره لاستغلالها، ثم يقف خلف هذا الجمود يدافع عن نفسه بحق استقلاله.
وهذا كلام جد يبدو خاليا من الرحمة، ولكنه لا يخلو من العدل؛ فإنه ليس من حق اليمنيين مثلا أن يحجموا عن استغلال البترول في بلادهم ثم يمنعون غيرهم من استغلاله.
وقل مثل هذا وأكثر منه عن سائر الشعوب الشرقية المتخلفة التي تغري المستعمرين بغزوها لجمودها. •••
ليس هذا الكتاب عن الاشتراكية، وإنما احتجت إلى قليل من الشرح لهذا المذهب؛ لأن شو قبل كل شيء اشتراكي، والاشتراكي ليس له فقط سياسة حزبية معينة وإنما له أيضا أخلاق يكتسبها من هذا المذهب، فهو إنساني يضع القيم الإنسانية فوق القيم الاجتماعية، وهو داعية مساواة، فلا يقول بأنه يجب علينا أن نكافح حتى نتفوق على غيرنا في الثراء أو غير الثراء، ثم لا يبالي الكسب إلا بمقدار ما يحصل منه على العيش المطمئن وليس على الترف، هو بكلمة مفردة: شريف.
وكانت الاشتراكية فيما بين 1880 و1900 مذهبا ثوريا قد ألصق به المحافظون والأحرار في إنجلترا نزعات شاذة كاذبة، مثل الإلحاد وقتل الأثرياء ونحو ذلك.
وكان شو يعرف أن جهره بهذا المذهب سيؤذيه في تخصصه للتأليف المسرحي؛ لأن المتفرجين في الدور المسرحية كانوا في ذلك الوقت أو تسعة أعشارهم على الأقل، من الأثرياء وأبناء الطبقات المتوسطة، الذين كانوا ينفرون من هذا المذهب، وكان يعرف أنه لو ألف المسرحيات المسلية لوجد الإقبال المفرد والنجاح العظيم. ولكنه لم يفعل؛ فإن أولى دراماته تنصب على موضوع الإثراء الملوث من الاتجار بالبغاء، مع شرح مسهب عن ألوان الثراء الأخرى، وأنها لا تختلف كثيرا عن الإثراء عن طريق البغاء.
وهذا موقف شريف يجب أن نعترف به لبرنارد شو، ولكن يجب ألا نترك برنارد شو بلا نقد بشأن الاشتراكية.
فإن المذهب الاشتراكي يقول بأن الحكم للشعب على يد الشعب، ولكن برنارد شو في النصف الأخير من حياته التأليفية نزع إلى لون فاشي مع استبقائه لإيمانه الاشتراكي، فقد مدح موسوليني وألف درامات يقول فيها بأن الجمهور يمكن خداعه وغشه، وأن الحكم يجب أن يبقى في أيدي الأقلية الممتازة بالذكاء والخبرة، وهو هنا يعكس الحال التي عاينها في إنجلترا فيما بين 1900 و1919 حين استطاع الأحرار والمحافظين أن يخدعوا الشعب الإنجليزي ويوقعوه في الحرب الكبرى الأولى، بل ويورطوه في خطط استعمارية هي غاية في السفالة والخسة والدناءة.
ثم هو كان يؤمن بأن الاشتراكية المتدرجة، التي كانت تدعو إليها الجمعية الفابية، كانت تكفي لتنوير الشعب وحمله على اختيار حكومة اشتراكية، ومع أنه يعزو ظهور حزب العمال إلى تعاليم هذه الجمعية (وإن يكن هذا مما يشك فيه)؛ فإن هذا الحزب لم يحقق كل ما كان يصبو إليه برنارد شو من تحقيق النظام الاشتراكي.
وانحياز برنارد شو نحو الفاشية يعود إلى يأسه من تعليم الشعب، وأعظم مظاهر العجز في الشعب الإنجليزي، بل في كل شعب آخر، هو جهله؛ فإن «الديلي إكسبرس» مثلا تعكس لنا - بتفاهة أخبارها وسخافة آرائها - عقلية الشعب الإنجليزي أكثر مما تعكسه لنا جريدة «التيمس»؛ فإن الأولى - وهي للشعب - تطبع في اليوم نحو أربعة ملايين نسخة حين لا تطبع الثانية - وهي للخاصة - أكثر من ربع مليون.
ولكن هذه الأمية الصحفية تعود في النهاية إلى إهمال تعليم الشعب، ولو أن حكومات المحافظين والأحرار والعمال عنوا العناية الكبيرة بتعليم الشعب لما أمكن خداعه. وحسبنا مثلا أن نقول إن روسيا قد جعلت العلوم في أساليبها وموادها أساسا لتعليم خمسة ملايين عالم أو رجل علمي، ومثل هذه الوثبة ستكفل للشعب الروسي - أو بالأحرى للشعوب السوفيتية - مرتبة عالية من الثقافة العلمية الجديدة التي تحول بينها وبين الإيمان بالخرافات المقدسة، كما تحول بينها وبين الخداعين والنصابين في السياسة.
ولكنا مع كل ما قلنا هنا لا نستطيع أن نتهاون أو نتسامح في هذا الانحياز نحو الفاشية في برنارد شو.
الاشتراكية الإنجليزية وحزب العمال
قبل نحو سبعين سنة كتب الشاعر الإنجليزي رديارد كبلنج هذه الأبيات ينصح فيها للجندي الإنجليزي، ويرشده عن تصرفه عندما يلتقي بواحد من أبناء المستعمرات، من السود أو السمر، حين يحاول ابتزاز ما معه من نقود أو جواهر، فإذا رفض هذا الأسود أو الأسمر تسليمه ما يطلب ابتزازه منه كان على هذا الجندي أن يجلده، فإذا أصر على الرفض فعليه أن يعيد الجلد، ويعذبه حتى يستخرج ما كان قد أخفاه عنه، وإليك النص الإنجليزي باللغة العامية التي كان كثيرا ما يؤلف بها كبلنج أشعاره:
Now remember when you are acking round a gilded Burma god,
That’s eyes is very often precious stones.
An’ if you treat a nigger to a dose o’cleanin-rod,
ES’ like to show you everything’e owns.
When’e wont produce no more, pour some water on the floor,
Where you ’ear it answer ’ollow to the poot. (Cornet; toot: toot!)
When the ground begins to sink, shove your baynick down the chink,
An’ you ’re sure to touch the ... (Chorus: loo loo, lulu, loot loot, ow the loot).
ولا أعتقد أني أحسن الترجمة لأني أجهل اللهجات العامية الإنجليزية، ولكني أحاول:
تذكر (أيها الجندي) وأنت تحطم الأشياء حول تمثال الإله المذهب في بورما.
أن عينيه تكونان في الأغلب مصنوعتين من الجواهر الثمينة.
وأنك إذا أنت عالجت الزنجي بجرعة من العصا المطهرة،
فإنه سيعترف لك عن كل شيء يمتلكه، فإذا توقف عن إظهار ما تبقى عنده، فعليك أن تصب بعض الماء على الأرض،
وعندئذ تسمع جوابه: لم يبق شيء. (البوق: توت: توت)
وعندما تخيس الأرض، اغرز حربتك في الشق وعندئذ ثق بأنك ... (كورس: لو. لو. لولو. لوت. لوت. أو ذي لوت)
وكلمة لوت هنا تعني النهب أو الغنيمة.
ولم يكن كبلنج يعبر بهذه الكلمات عن إحساس الأديب الشاعر وإنما عن إحساس الاستعماري؛ فإنه نشأ في وسط ينتمي إلى أسرة عمل أعضاؤها في الإمبراطورية، وقد ولد هو في الهند حيث كان أبوه موظفا كبيرا، وكان ابن خالته «بولدوين» رئيس الوزارة البريطانية في العقد الثالث من هذا القرن؛ وإذن يجب أن نعد لغته لغة الساسة من حزب المحافظين الإمبراطوريين قد اتخذت صبغة الفن.
ونحن نفتري افتراء كبيرا على الشعب الإنجليزي إذا كنا نتهمه كله بهذه الإحساسات الإجرامية؛ فإن هذا الشعب الذي نبغ فيه كبلنج الإمبراطوري، قد نبغ فيه أيضا شو الاشتراكي وعشرات وعشرات من الأدباء الإنسايين، بل نزيد على هذا ونقول إن الشعب الإنجليزي يحمل جبالا من هذه الجرائم التي ارتكبها الاستعماريون والإمبراطوريون من الإنجليز الذين أذلوا العمال الإنجليز كما أذلوا شعوب المستعمرات.
وواضح من أبيات القصيدة التي نقلناها أنها تنشد جماعة؛ إذ هي تحتوي كلمات خاصة بالكورس أي المرددين، وصبيان المدارس يتعلمونها وينشدونها، ويحسون إحساساتها الوحشية في النهب والقتل، وهم ينشأون على هذه الإحساسات، ويجنون على العالم بعدوانهم واستعمارهم، وهم معذورون لأنهم يتلقون هذه المبادئ وهم صبيان لم يتم نضجهم، ولا بد أن السير إيدن في عدوانه علينا بشأن قناة السويس ودعوته إلى اغتصابها منا كان على إحساس بهذه العواطف الملعونة التي غرسها فيه كبلنج أو غيره ممن على شاكلته.
ولو كانت هذه العواطف الملعونة عامة في الشعب الإنجليزي لما ظهر حزب العمال، هذا الحزب الذي وصفت حكومته فيما بين 1945 و1950 بأنها «حكومة خيرية»
كيف نشأ حزب العمال؟
لم يكن للعمال «وجود» في السياسة الإنجليزية إلا في السنين الأخيرة من القرن الماضي، وكان الأحرار والمحافظون يتداولون الحكم، ولكن في بداية القرن الماضي ظهر في إنجلترا رجل من أصحاب المصانع يدعى «روبرت أوين» الذي فكر كثيرا في أحوال العمال وبؤسهم، وانتهى إلى إيجاد فكرة «التعاون» أي الجمعيات التعاونية، وكان يعتقد أنه يمكن تغيير المجتمع من مبدأ المباراة إلى مبدأ التعاون بإيجاد هذه الجمعيات، ونجح في الدعوة إلى هذه المنشآت إلى حد بعيد، وكان يؤمل أنه عندما تقوى هذه الجمعيات ويأخذ الناس بنظمها فإنها تنتهي بإلغاء الممتلكات الفردية وجعلها - أي هذه الممتلكات - للمجتمع وحده؛ أي لا يملك المصنع أو المزرعة فرد وإنما تملكها جمعية تعاونية.
وهو واضع كلمة «الاشتراكية» في اللغات الأوربية ولكن اشتراكيته كانت في الأكثر أمنية إنسانية ولم تكن برنامجا علميا؛ لأن هذا التحول من الامتلاك الفردي إلى الامتلاك الاجتماعي عن طريق جمعيات التعاون لم يتحقق، بل لم يقارب التحقيق، وإن كان قد أدى خدمة كبرى في الإنتاج وأيضا في الأخلاق؛ لأن العامل الذي كان ينتسب إلى إحدى هذه الجمعيات كان يفكر ويحس بمعان جديدة بشأن الإنتاج بالمباراة وبالاجتماع وبشأن الكسب والاستغلال.
وإلى جنب حركة التعاون ظهرت حركة أخرى أيقظت وعيا جديدا بين العمال، هي حركة النقابات التي كافحتها المحاكم الإنجليزية وحاولت القضاء عليها بنفي الأعضاء إلى أستراليا باعتبارهم مهددين لأمن الدولة، كما كان يفعل البوليس السياسي في مصر بإيعاز المستعمرين والمستبدين.
وبقيت حركات العمال تسير في بطء يغذوها مفكرون طوبويون خياليون، ولكنها مع ذلك انطوت على ثلاثة أشياء: (1)
فكرة الجمعيات التعاونية. (2)
فكرة النقابات العمالية. (3)
فكرة الاشتراكية.
ومع أن هذه الفكرات الثلاث كانت تسير في ضعف؛ فإن أوربا كانت تغلي بالسخط لما كان يعانيه العمال في كل قطر من العسف والضغط والفقر، وما هو أن كانت سنة 1848 حتى انفجر السخط إلى ثورات عامة اتخذت أشكالا واتجاهات مختلفة وفقا للبيئة التي ظهرت فيها.
وكان هناك رجل قد نصبه التاريخ للفهم والإيضاح يدرس عصره، أي القرن التاسع عشر، ويحاول أن يحلل عوامل مجتمعه ويفهمها ثم يشرحها ويوضحها للشعوب المتألمة من نظام المباراة في الإنتاج والعمل.
هذا الرجل هو كارل ماركس أعظم فيلسوف ظهر في العالم إلى الآن.
وقد أمضى سنين قبل ثورات 1848 وهو يدرس الأفكار التعاونية والنقابية والاشتراكية، حتى إذا كانت هذه السنة أخرج ما يسمى «البيان الشيوعي» الذي شرح فيه في عبارات مبسطة الأفكار الاجتماعية المعقدة، ولا يزال هذا البيان إلى الآن مثالا للتفكير العميق في العقل الناضج.
ومع أن كارل ماركس كان يعيش في إنجلترا، ومع أنه أخرج هذا البيان وهو في إنجلترا، فإن أثره لم يكن كبيرا فيها، ولكن حركات العمال في أوربا تأثرت به كثيرا واتبعت - إلى حد بعيد - مبدأه ومنهجه.
وبقي الأحرار والمحافظون يتناوبون الحكم في إنجلترا دون أي حساب للعمال، وكان اهتمامهم الأكبر بالإمبراطورية التي كانت تغل كل عام ملايين الجنيهات، يسرقونها من الهند وغير الهند من المستعمرات، وهذه الملايين التي كانت تؤخذ من المستعمرات وتنفق في إنجلترا، كانت تحدث رخاء عاما هو علة الركود في حركات العمال الارتقائية الإنجليزية؛ فإن المصانع كانت تعمل ليل نهار في إنتاج السلع التي تقهر المستعمرات على شرائها، وكان العمال الإنجليز راضين عن أحوالهم كما كانوا أيضا - بالمقارنة إلى عمال أوربا - غير واعين.
ونشأت في إنجلترا لهذا السبب اشتراكية يؤمن بها مئات العمال، وهي غير اشتراكية ماركس الثورية، هي اشتراكية التدرج وليس الثورة، وظهرت «الجمعية الفابية» حوالي 1885.
وكلمة «الفابية» هي وصف مشتق من القائد الروماني «فابيوس» الذي كان يحارب «هني بعل» قائد الجيش القرطجني الذي كان يحتل إيطاليا في القرن الثالث قبل الميلاد، وكانت خطة فابيوس تعتمد على تجنب المواجهة، ومقاتلة هني بعل بتخطف قواته من جوانبها جزءا بعد جزء حتى تنهار.
وكانت الجمعية الفابية تعتمد أيضا على تجنب المواجهة للأحزاب القوية، وتقنع بالتسلل إلى العقول في نشر الأفكار الاشتراكية؛ وذلك حتى لا تثير جبهة ضدها من الأحرار والمحافظين، ونجحت في ذلك، بل إن أفكارها قد تسربت إلى هذين الحزبين ورشحت إلى عقول زعمائها، ولم تكن هذه الجمعية حزبا يتألف من العمال كما كان الشأن في أوربا، وإنما كانت «جمعية» مؤلفة من رجال الطبقة المتوسطة، بل أحيانا من الأثرياء الذين يهدفون إلى الدرس ونشر الآراء للدعاية فقط وليس للتمثيل السياسي، وقد ألف برنارد شو الذي كان أبرز أعضائها بعض رسائلها الدعائية، وكان منها كتيب يدعى «الاشتراكية للأغنياء»، والاسم يدل على الهدف المقصود، أو بكلمة أخرى لم يكن العمال هم الجمهور الذي ألف له برنارد شو هذا الكتيب كي يقنع أفراده بضرورة الاشتراكية، إذ كان يهدف إلى إقناع الأغنياء بأن الاشتراكية تخدمهم أكثر مما تخدمهم الانفرادية التي أثروا في نظامها.
وليس من الشاق أن نقنع الأثرياء بأفضلية الاشتراكية؛ فإن الثراء الحاضر في نظامنا الانفرادي قد يكسب الثري ميزات لا يستخف بها، ولكنه يحمل من الهموم ما ينضي على حياته أحيانا وهو دون الخمسين لأن مسئولياته كثيرة، فهو يعمل أحيانا أكثر من عماله، كما هو عرضة للإفلاس في أي وقت، ثم هو يأخذ بقيم اجتماعية تبعثر أمواله على الزينات والبهارج، لنفسه ولزوجته وأولاده، بحيث يضطر - لو كان على مقدار متوسط من الذكاء - أن يسأل عن قيمة هذا الثراء الذي يبهظه بهذه التكاليف التي يمكن الاستغناء عنها، ولعلنا لا ننسى أيضا في أيامنا هذه أن الأمراض النفسية تصيب الأثرياء أكثر مما تصيب العمال وذلك لفرط ما يجهدون قواهم ويحملون من هموم.
ونجحت الجمعية الفابية في إيجاد «الاشتراكية التدريجية» في بريطانيا، وهي اشتراكية الإصلاحات الاجتماعية التي سارت فيها الدولة عاما بعد آخر، والمثل الأعلى لها هو «مشروع بفريدج» الذي يكفل العيش والصحة والتعليم لكل إنجليزي من المهد إلى اللحد. بل قبل المهد وبعد اللحد.
ولكن علينا ألا ننسى أن هذه «الاشتراكية التدريجية» قد أخرت التفكير الاشتراكي الثوري.
وما زلت أذكر أني طيلة انتمائي إلى الجمعية الفابية، سواء وأنا في لندن أو بعد ذلك في مصر، لم أكن أسمع عن اسم ماركس إلا قليلا جدا، ولم أكن أعرف أن الاشتراكيين في أوربا يهدفون إلى الثورة لا الإصلاح، بل إنهم كانوا وما يزالون يعدون الإصلاح عائقا للثورة، وهذا بلا شك صحيح إلى حد بعيد.
انضممت إلى الجمعية الفابية في 1908 وبقيت معتنيا بمؤلفاتها وتوجيهاتها أكثر من عشرين سنة، ولما ألفنا الحزب الاشتراكي في مصر في 1921 كانت تعاليم هذه الجمعية في ذهني أكثر من تعاليم ماركس؛ أي أننا كنا نبغي التنوير الاشتراكي عن طريق الإصلاحات المتدرجة.
وليس معنى قولي هذا أننا أهملنا ماركس تماما؛ فإن التفسير الاقتصادي للتاريخ - كما رسم منهجه ماركس - كان بارزا في أذهان الفابيين، ولكن فكرة الطبقات، والضدية الاجتماعية، والثورة، كانت غائبة عن أذهاننا إلى حوالي 1925، وبعد ذلك شرع الاشتراكيون بجميع ألوانهم يدرسون ماركس، وزاد هذا الدرس قوة واندفاعا عقب أزمة 1930 التي أوضحها ركاكة النظام الاقتصادي الانفرادي وضرورة استبدال النظام الاشتراكي به.
ومع ذلك وجدت لي مقالا في التفسير الاقتصادي للتاريخ في مجلة الهلال في 1927 أي قبل هذه الأزمة بثلاث سنوات.
وكانت الجمعية الفابية بطبيعة انتمائها إلى الطبقة المتوسطة تمارس ألوانا من النشاط في العلوم والفنون، فكانت منها لجان تدرس كل ما يتصل بالمجتمع من ثقافة جديدة تتفق والاتجاه الاشتراكي، وكان برنارد شو روح هذا النشاط، ولم يكن يضن بوقته الغالي في خدمة الأعضاء، وما زلت أذكر أنه رأس لنا اجتماعا أمضى فيه نحو ساعتين في المناقشة بشأن التعليم، ولم نكن نحن المستمعين نزيد على 8 أو 10 أعضاء.
وأذكر من المحاضرات التي سمعتها في الجمعية (وأعني لجانا منها) واحدة أو أكثر عن الأدب الروسي، وأخرى عن تحديد النسل، وثالثة عن الدرامة الواقعية، ورابعة عن الاستعمار ... إلخ، وهذا بالطبع غير المحاضرات الاشتراكية التي كانت تهدف إلى الحد من النشاط الانفرادي في التجارة والصناعة، والأخذ بالإصلاحات الاشتراكية والدعوة إلى أن تتولى المجالس البلدية مشروعات تأميمية محلية مثل إيجاد المكتبات العامة والأحواض السباحية وإنشاء المدارس وتغذية التلاميذ وإنشاء المدارس الليلية للعمال، بل إنشاء الأندية الترفيهية كذلك حيث يجد العامل طعاما رخيصا ونشاطا يشغله عن الخمر والقمار.
ونجحت الجمعية في كل ذلك، ووجدت دعوتها القبول بين عدد كبير من الجمهور المتعلم، كما أن دعوتها إلى تأميم الثروات الكبرى التي كانت تحتكرها الشركات، مثل المناجم والسكك الحديدية ونحوها، وقد وجدت - بعد خمسين سنة من الدعاية - الاستجابة من حزب العمال، وكان نقدها لتعطل العمال ماركسيا، كما أن عبارة «حق العمل» كانت بلا شك ثورية.
وحزب العمال الإنجليزي هو، بتأليفه ومذهبه الاشتراكي، فابي النزعة من نشأته إلى حاضره، وليس شك أنه من حيث التفكير الاشتراكي الصميم، ونعني هذا التفكير كما تفهمه أوربا في أيامنا، بعيد عن الماركسية وفلسفتها؛ إذ يقول بالتدرج ويعزف عن الثورة، وهو - لهذا السبب - يعد عائقا للثورة الشيوعية التي تهدف إليها الأحزاب الماركسية في أوربا.
لقد اختلطت وأنا بإنجلترا ببعض أعضاء حزب العمال، فوجدت فيهم الإمبراطوريين الذين يتحدثون عن المستعمرات كما لو كانوا محافظين، ووجدت فيهم الأحرار الذين يخشون الاشتراكية الكاملة، ولكني وجدت فيهم أيضا الاشتراكيين المخلصين مثل كير هاردي، وخلاصة القول أن أعضاء الحزب لم يكونوا قبل الحرب الكبرى الأولى، وبعدها إلى حوالي 1930، من الاشتراكيين إلا في الأقل.
ولكن مع ذلك كان هذا الحزب صاحب الفضل في جلاء الإنجليز عن الهند في 1949، وكذلك وقف في صفنا عندما أغار الوغد إيدن وحزبه على بورسعيد.
وكان برنارد شو أبعد المفكرين عن الدعوة إلى الثورة، وكان عزوفه عنها يحمله أحيانا على احتقار الحركات الشعبية، حتى إنه أيد موسوليني في فاشيته، ولكنه بعد أن زار روسيا عاد وكله إطراء للنظام الجديد ومدح للثورة وإعجاب بمآثرها.
وكذلك فعل سيدني ويب واضع عبارة «التدرج المحتوم»، فإنه أيضا زار روسيا وأكب على درس منظماتها، ثم أخرج كتابه عنها بعنوان «حضارة جديدة» رفعها فيه إلى السماء إعجابا وإطراء.
وقد يتساءل القارئ هنا بحق: كيف يكون برنارد شو اشتراكيا ويحتقر الشعب؟
والجواب أنه ينتمي أولا إلى الطبقة المتوسطة ويحس إحساسها من الاستعلاء على العامة؛ ولذلك كان بعقله مع الشعب وبعاطفته مع طبقته السائدة، ثم علينا ألا ننسى أن معظم من كانوا اشتراكيين سئموا البطء في حركات الإصلاح الاشتراكية، فعمدوا مخدوعين إلى الفاشية، باعتبار أنها الديكتاتورية التي تستعجل الإصلاح وتختصر الطريق، ثم عرفوا بعد ذلك خطأهم وندموا.
ولما ذهب برنارد شو إلى روسيا انقلب، وآمن بالثورة وبالشعب، ومدح النظام الاشتراكي القائم.
هناك أفكار تعد خمائر؛ أي لا تتحيز مكانا وتقف عنده ساكنة في عقولنا، وإنما تسري كالخميرة في سائر الكتلة المحيطة فتغذوها وتنيرها وتطورها.
وقد وجدت هذه الخميرة التي غيرتني وطورتني في الجمعية الفابية، وفهمت إنسانية أخرى لم أكن أفهمها قبل التحاقي بها؛ إذ وجدت رجالا ونساء يبحثون معاني الخير والشرف ويتساءلون: كيف نلغي الفقر؟ كيف نمنع الجريمة؟ كيف نربي الطفل؟ كيف نكافح الاستعمار؟
وقبيل الحرب الكبرى الأولى ألفت ثلاثة كتيبات نفدت جميعها، وهي تدل على الاختمارات الذهنية التي كنت أعانيها والتي كانت ثمرة الحركات الذهنية في الجمعية الفابية: (1)
مقدمة السبرمان، كما يفهمه نيتشه وبرنارد شو، وبهذه المقدمة فصل عن ضرورة الاشتراكية باعتبارها النظام العادل للحكم والإنتاج (طبع في 1910). (2)
نشوء فكرة الله، وهو تلخيص لكتاب جرانت ألين، يبحث الأصول المادية التاريخية التي أدت إلى الإيمان بالله (طبع في 1912). (3)
الاشتراكية، وهو دعوة إلى هذا المذهب (طبع في 1913).
وفي 1920 عندما ألفت مع بعض الزملاء الحزب الاشتراكي، كانت هذه الأفكار وغيرها عنصرا أساسيا في تفكيري، أرغب في نشرها وأجعل من الحزب بؤرة لبحثها ومناقشتها هي وغيرها؛ مما يجعل شعبنا عصريا يحيى في أفكار القرن العشرين ويسير في مواكبه الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
ولكن سعد زغلول في 1924 سلط علينا النيابة العامة. التي هجمت علينا، وحققت معنا، وشرعت تعتقل بعضنا، حتى قتلت هذه البذرة التي كان يمكن أن تنبت وتتفرع وتشيع نورا يضيء ظلام تقاليدنا المصرية والاستعمار الإنجليزي، وأصبح التفكير الاشتراكي من ذلك الوقت خطرا.
ولو أن هذا التفكير كان مباحا رائجا في عقول الناس، لكنا قد فهمنا الاستعمار الفهم الصحيح، ولكنا قد كافحناه الكفاح البصير.
ولكن الجهل الذي يسود العقول ويظلمها منع عنا هذا النور، وجعل من التفكير الاشتراكي جريمة يتوقاها الشبان ويخشون عواقبها.
وفي 1951 كنت عائدا من فرنسا إلى مصر على إحدى البواخر، وكان معي «البيان الشيوعي» لكارل ماركس، فكنت أقرأه صفحة بعد صفحة وأقطع ما أقرأه وأطرحه في البحر، حتى لا «يضبط» معي عند نزولي في الإسكندرية.
ثمرة، هي حلال في الأمم المتمدنة، وهي حرام على أبناء مصر.
أسلوب شو
ليس له أسلوب ...
يكتب شو كما يتكلم، وهو يتكلم في صراحة ودقة، ولكنه يفكر كثيرا؛ ولذلك أسلوبه صريح، دقيق، حافل بالأفكار التي تستهوينا فلا نلتفت أقل الالتفات إلى أسلوب الكتابة وترتيب الكلمات، وحين نتوقف ونلتفت نجد أنه يكتب الأدب كما لو كان يكتب موضوعا علميا كله دقة ورصانة وترتيب، والقيمة الأولى في كل ذلك للأفكار.
وليس في أسلوبه ما نسميه قوة التعبير، أو حلاوة التعبير، كما ليس فيه مبالغة أو إسراف في استعمال كلمة زائدة أو جملة رائعة، وإنما نحن نتأثر بقوة المنطق في أفكاره، ونرتاح إلى اقتناعنا به، وإلى أننا نتعلم منه أصول التفكير الناضج، وأكثر من هذا نحس أننا في تعلمنا منه نعالج الموضوعات والمشكلات الرئيسية في هذه الدنيا: الدين، العلم، السياسة، الزواج، التربية، الضمير، الحرب، الإجرام، وسائر ما يتصل بهذه الموضوعات، وأكثر ما يهتم له برنارد شو هو موضوع التطور والفقر.
هذا هو أسلوبه، أسلوب الأفكار الذي ينسينا ما تعودناه من غيره من الأدباء؛ أي أسلوب الألفاظ والعبارات والزينات والبهارج.
الكاتب المفكر يأنف من الزينات والبهارج.
ذلك أنه يجد في أفكاره قيمة تعلو على الزخارف والزينات، فهو يتحدث في بساطة، وقد يغلو أحيانا فتحس فيه بلاغة، ولكنها بلاغة الأفكار المتدفقة، وقد تجد في تدفقها غلواء، كما لو كان واعظا يعظ فيرتفع صوته عندما يخلص ويتحدث عن إيمانه بالشرف والحق والعدل.
وليذكر القارئ أننا إنما نلجأ إلى الزخارف والزينات حين تكون المادة التي نزخرفها ونزينها رخيصة مبتذلة، فإذا صنع لي الفخار إبريقا من الطين فإني أؤثر أن يكون مزينا مزخرفا كي يخفي عني مادته الخسيسة وهي الطين، ولكن إذا صنع لي الصائغ إبريقا من الذهب الخالص فإني أؤثر أن يكون ساذجا ليست به زخارف أو زينات؛ لأن مادته ثمينة، مادة الذهب التي لا أشبع من الإعجاب بها حين أتأملها.
وهكذا الشأن في الكاتب المفكر؛ فإنه يقدم لك الذهب لا الصلصال، وأسلوب أفكاره يشغلك عن أسلوب كتابته، ومن هنا السذاجة في أساليب الكتاب العظماء مثل داروين، أو قاسم أمين، أو جان جاك روسو، أو أناطول فرانس؛ فإنهم جميعهم كتاب أفكار تحس أنهم يشبعونك، وأنك تكبر بقراءتهم، وتنضج بأفكارهم، وتزداد إنسانية وشرفا ببسط ضميرهم لك.
نقرأ برنارد شو فلا نجد كلمة مهجورة، أو كلمة منفوخة، وإنما نجد الكلمات المألوفة المأنوسة، وله كتاب يدعى «المرشد للمرأة الذكية عن الاشتراكية» لو نقل إلى العربية لبلغ أكثر من ألف صفحة، وتكاد لغته تتألف من كلمات البيت.
وأعظم ما يغمرك به برنارد شو وأنت تقرأه هو الإحساس بأنك تتحرر، وأنك تستعمل عقلك في موضوعات لم تكن تستعمل فيها عقلك من قبل، وإنما كنت تستعمل عقيدتك التي نشأت عليها.
والعقيدة هي انتحار العقل.
وأنت تحيي عقلك لذلك بما تقرأ من الأفكار المرتبة المتدفقة من برنارد شو، وتحس إخصابا لعقلك كأنك لم تتعلم منه معارف جديدة فقط بل مناهج جديدة للتفكير: التفكير الاجتماعي، التفكير البيولوجي، التفكير الديني، التفكير الاقتصادي، وأنت تستيقظ بهذا الأسلوب ولا تنعس أو تنتشي.
فهو يقول مثلا: الصحة حكمة، الأخلاق من الذكاء، من لا يعرف كيف يصنع نفسه لا يعرف كيف يصنع شيئا آخر.
كلمات للتأمل، كأن كلا منها مشكلة، ولكن بلا زينات أو زخارف، بل الحق لو أنه كان قد زخرف أو زين هذه الكلمات لكان قد ضللنا بعض الشيء عن الفهم والتعقل لما قاله.
وأسلوب التعبير، أي أسلوب التفكير، عند برنارد شو يمكن أن نصفه بعد كل الذي ذكرنا عنه، أنه علمي، موضوعي، غير عاطفي، وهو يمتاز على الدوام بالنظرة البكر، كأنه يعالج الموضوع كما لو لم يكن قد عالجه أحد غيره من قبل، وهو يعالجه في هدوء، ولكن مع إحساس المسئولية التي ترتفع أحيانا إلى إحساس الرسالة، بل الحق أن إحساس الرسالة يغمره، حتى إنك لتحس أنه يكتب كما لو كان نبيا أو كاهنا، ولكنه يسترشد بالعقل وليس بالعقيدة.
انظر في هذه الكلمات الحكيمة التي كتبها عن النقود، أي علاقة الثراء والفاقة بالفضائل، واعتبر أسلوبها المواجه الصريح:
أهم الأشياء في هذه الدنيا هو النقود؛ إذ هي تمثل الصحة والقوة والشرف والسخاء والجمال، تمثلها جميعها في وضوح بارز، كما أن الحاجة إلى النقود تمثل أيضا في مثل هذا الوضوح البارز؛ المرض والضعف والفضيحة والدناءة والقبح، ومن فضائلها التي لا تعد صغيرة أنها تدمر الأدنياء من الناس كما أنها تقوي وتعظم النبلاء ... وحاجتنا العظمى ليست هي الأخلاق الحسنى، أو الخبز الأرخص، أو الاعتدال في الشراب، أو الحرية أو الثقافة، أو إنقاذ إخواتنا الساقطات أو إخواننا الخطاة ... وإنما هي الكفاية من النقود.
أو انظر في كلماته التالية في الموضوع نفسه:
ما معنى أن يكون الإنسان فقيرا؟ معناه أن يكون ضعيفا وأن يكون جاهلا، وأن يكون بؤرة للأمراض، وأن يكون معرضا دائما للقبح والقذر، وأن يكون أطفاله مرضى بالكساح، وأن يكون رخيصا في أجره عندما يعمل، فيجر - بانخفاض أجره - زملاءه إلى حضيضه، ومعناه أن تستحيل مدننا بؤرا سامة بسبب المساكن التي يعيش فيها الفقير، ومعناه أن تنقل بناته عدوى الأمراض التناسيلة إلى شبابنا، وأن ينتقم أبناؤه لشرف أخواتهم منا بأن يفشوا بيننا الجبن والقسوة والنفاق والبهيمية السياسية والإسخربوط وسائر ثمرات الظلم وسوء الغذاء.
هكذا يتكلم برنارد شو عن الفقر وآثاره في الشعب، وهذه لغته التي تفحم بسذاجتها وصراحتها وإيجازها، لأنها أفكار صريحة وليست ألفاظا مزينة، والآن اقرأ ما يقوله عن الأسباب التي تدعوه إلى تأليف دراماته، وكأنه هنا يعترف، وهو يعترف في شجاعة وصراحة معا؛ إذ يقول:
لست أنا من الكتاب العاديين المألوفين؛ إذ أنا اختصاصي في تأليف الدرامات التي تتصل بالأخلاق والزندقة، وقد كسبت شهرتي بمثابرتي على الكفاح كي أحمل الجمهور على أن يعيد النظر في أخلاقه، وأنا حين أؤلف دراماتي إنما أقصد منها إلى هدف هو حمل الشعب على أن يأخذ بآرائي في شئونه الجنسية والاجتماعية، وليس في نفسي باعث آخر للكتابة إذ إني أستطيع أن أحصل على لقمتي بدونها.
ولبرنارد شو درامة اسمها «منازل الأرامل» ألفها في فضح النظام الاقتصادي الانفرادي الذي يقوم على المباراة وجمع المال والتفوق والثراء، وما يجلبه كل هذا من رذائل وجرائم، وهذه الدرامة تجري على أسلوب درامة «وظيفة المسز وارين» من حيث الأسلوب والهدف. قال في مقدمة «منازل الأرامل» ينتقد نفسه ويبرر موقفه:
إني أتقدم بنقدي لمؤلف «منازل الأرامل» وأقول إن ما كان يجعل عظماء المؤلفين المسرحيين يؤلفون المأساة إنما يجعلني أنا مستهزئا، والاستهزاء هو جو أقل صفاء من جو المأساة، وقد كنت أحب أن أؤلف مسرحية جميلة مثل «الليلة الثانية عشرة» لشكسبير أو مسرحية رائعة تتمثل فيها المأساة، ولكني أصرح بأني عاجز عن ذلك؛ وذلك لأن نظامنا الاجتماعي التجاري هو مدرسة سيئة لتعليم الفنون، ولا يمكنه - أي هذا النظام - مع ما فيه من اللصوصية وسفك الدم والبغاء، أن يحرك في نفوسنا النزعات السامية في الحسرة والرهبة؛ إذ هو نظام قبيح دميم، كما هو عقيم سافل، يحفل بالأخطاء ويبعث على السخرية مع زعمه على الدوام بأنه يدعو إلى سعة العقل والإنسانية والإقدام، مع أن هذه صفات أبعد ما تكون منه، وليس أخطائي أنا - أيها القارئ - أن أتناول بفني التعبير الصادق عن الخسة الذهنية الأخلاقية بدلا من أن أعبر به عن الإحساس بالجمال؛ فقد أمضيت معظم حياتي في المدن الكبرى العصرية حيث لم أشبع في نفسي الإحساس بالجمال، وهذا في الوقت الذي حشي فيه ذهني بمشكلات المنازل البالية القذرة كتلك التي عالجتها في هذه الدرامة، وبقيت على هذه الحال إلى أن أصبحت أتذوق هذه الموضوعات في فظاعة وأن أجعل منها مادة لفني.
وهو يصف المجتمع الإنجليزي بهذه الكلمات الناطقة:
إن أقدر رجالنا من الحكام يموتون - من حيث مقدرتهم السياسية - في طفولتهم، يلعبون الجولف والتنس والبردج، ويدخنون التبغ، ويشربون الخمر كما لو كانت جزءا من غذائهم اليومي، ويمارسون الصيد والطراد، ويقرأون قصص القتل والزنى وأخبار البوليس، ويلبسون قمصانا لأكمامها ورقباتها زوائد سخيفة، وتلبس نساؤهم أحذية عالية الكعوب، ويلطخن أظافرهن وشفاههن ووجوههن. وبكلمة موجزة، يلعب الرجال والنساء لعب الأطفال بدلا من أن يسلكوا في رياضتهم سلوك الساسة والشيوخ، حتى عندما يقرأون أفلاطون، والإنجيل، وكارل ماركس، ويعرفون ما يجب عليهم أن يعلموا، حتى هنا لا يعرفون «كيف» يعملون، بل يبقون على ما نشأوا عليه لقلة ما حذقوا من الفنون السياسية التي تنشأ وتتطور الآن في روسيا بضغط الحوادث، ومحاولاتهم في التربية والتعليم تنتهي عادة بوضع الصبيان في مدارس هي «مراكز اعتقال» حيث يجلدون، وعندما يبلغ الصبيان سن الشباب يخرجون من هذه المراكز متوحشين، يبغضون التعليم والنظام، ويبقون في جهل كثيف لشئون الحياة عند تسعة أعشار الشعب الذي يتولون حكمه.
وهذا ما يقول عن الإمبراطورية البريطانية والمجتمع الإنجليزي:
أيما إنسان يستطيع أن يرى ... أن نظامنا الحاضر في العدوان الإمبراطوري، هذا النظام الذي يتخذ معاذير الاستكشاف والاستعمار، والذي يسير خلف المغامرين، يتبعهم رجال المال والتجارة، ويشرف عليهم العلم البريطاني، سوف ينهار عندما تنتقل الرقابة على القوات الحربية من طبقات الرأسمالية إلى الشعب، وأيما إنسان يستطيع أن يرى أيضا أن زوال الطبقات، مع ما نسميه الآن «الرأي العام»، هذا الزوال سيرافقه اتحاد المجتمع في طبقة موحدة لها رأي عام موحد له قوته التي لا تحد، وأن هذا الرأي العام سيجعل الرقابة لأول مرة فعالة، وأن استقلال النساء الاقتصادي، واستبدال الفرد - باعتباره الوحدة التي تعترف بها الدولة - برئيس العائلة، سوف يغير مركز الأطفال ومنفعة العائلة، وأنه سيعيد بناء الكنيسة في الدولة على أسس ديمقراطية جديدة بحيث يمكن أن ينتخب رئيسا لها - للكنسية - رجل ملحد معلن لإلحاده مثل مورلي أو برادلف.
هذه هي لغة الأديب برنارد شو، وهذه هي أفكاره التي لا أشك في أن كثيرا من الشرقيين يحسبونها هدامة، كما كان إسماعيل صدقي يحسب الاشتراكية والجمهورية أفكارا هدامة.
ولكن أوربا تتغير وترتقي بهذه الأفكار الحرة، والشرق يلتزم تقاليده ويأسن في عاداته وينهزم أمام أوربا في «تنازع البقاء». •••
يقارن بعض النقاد برنارد شو بشكسبير ويزعمون أنهما عمودا الأدب الإنجليزي، وقد يكون هذا حقا إذا اعتبرنا الزمان والمكان لكل منها، أما المقارنة المطلقة فتبدي لنا فروقا كبيرة.
كان شكسبير شاعرا ملوكيا جميع أبطاله ملوك ولوردات أو ما يشبه ذلك، ومع أن أسلوبه - بالمقارنة إلى من عاصروه - كان شعبيا إلى حد كبير، فإنه كان يحتقر الشعب ويصفه بأنه رعاع وغوغاء، وقد أحدث نهضة لا شك في ذلك، ولكن هذه النهضة كانت مسرحية فنية ولم تكن قط أخلاقية أو سياسية.
أما برنارد شو فقد كان أديبا شعبيا ديمقراطيا، استعمل لغة الشعب، وجميع أبطاله تقريبا من أبناء الشعب أو زعماء الشعب، وإن يكن في أواخر سنيه قد انزلق نحو الفاشية سأما من طرق الإصلاح الفابية البطيئة، ولم تكن النهضة التي بعثها مسرحية فقط، إذ كانت أخلاقية واجتماعية وسياسية أيضا.
كان المسرح قمة الأهداف عند شكسبير، ولكن المسرح عند شو وسيلة لتعليم الأخلاق.
وكانت الألفاظ الرنانة عند شكسبير كبيرة القيمة، وهي عند شو غش يجب تجنبها.
ويقول شو عن شكسبير في استصغار شأنه:
لماذا ننفق وقتنا، نحن الذين ورثنا تراث العصور العظيمة، وعرفنا الأشعار المسرحية لجوتيه وإبسن، ووقفنا على الألحان الموسيقية لأسرة الموسيقيين العظماء من باخ إلى فاجنر، لماذا ننفق وقتنا على دراسة الكتاب العاديين في عصر الملكة إليزابيث أو نشجع المؤلفين الأغنياء في أيامنا على تقليدهم، أو نتحدث عن شكسبير كأن تفاهاته بشأن الأخلاق أو فصاحته المزيفة بشأن الحروب، أو ما تنطوي عليه بعض دراماته من أحاديث الحانات، أو سائر حشوه وثرثرته، أو عجزه عن دراسة قشور الفلسفة التي سرقها بلباقة تستحق الدرس ...
وقد قال تولستوي مثل هذه الآراء في شكسبير، بل زاد عليها استصغارا لشأنه واستقباحا لأفكاره وأسلوبه، ولكن شو مع ذلك لا ينكر بعض الميزات التي امتاز بها شكسبير.
إن أدب القرن العشرين هو أدب الثورة على شكسبير الرومانسي، أدب القعقعة والصلصلة ومجد الحروب والشعوذة، وقد أدت عبادة شكسبير من القرن السابع عشر إلى القرن التاسع عشر إلى حرمان المسرح الأصالة والابتكار، ليس في إنجلترا وحدها بل في فرنسا وألمانيا أيضا.
وقد كان «زولا» الواقعي المؤكد يجد في شكسبير خصما للواقعية حتى قال فيه: «ليس لمن ينتمون إلى شكسبير، انتماء الزنا، أن يسخروا من الأبناء الشرعيين لبلزاك.»
بلزاك واقعي، ناقد، اجتماعي، أما شكسبير فرومانسي لم ينتقد المجتمع.
وزولا الذي فهم الواقعية بدراسته لطبيعة الإنسان في غرائزه يكره شكسبير الذي فهم الإنسان في زيناته وبهارجه.
وبرنارد شو يستصغر شأن شكسبير حتى في فنه، فيصف أشعاره المرسلة بأنها عبث سهل يمكن أي أديب ناشئ أن يؤلف مثلها في سهولة تامة، ولا يجد شو في شكسبير من الدرامات التي تستحق الاحترام سوى درامة «هامليت»، ويصفها بأنها تكاد تكون «غير شكسبيرية» لأنها تحوي مواقف التردد والبحث عن الضمير والتساؤل الفلسفي.
إلى هذا الحد يزدري شو بشكسبير.
كان شو للشعب، يقرأ ويكتب من أجل الشعب، ومن أجل الشعب أيضا أوصى بثروته كلها تقريبا لإصلاح الهجاء الإنجليزي، بزيادة بعض الحروف، حتى يمكن التفادي من الأخطاء، وأيضا التعبير عن جميع الأصوات حتى ينطق الصبي الكلمة الإنجليزية وفق حروفها وليس وفق السماع.
شو وويلز
التمع الأدب الإنجليزي في النصف الأول من هذا القرن باسمين هما شو وويلز، وكانت رسالتهما واحدة وإن اختلفت أساليبهما في التعبير عنها، هذه الرسالة هي أن الحضارة الانفرادية القائمة تبنى على ظلم وفساد، وأنها أيضا في انهيار، وأن العلاج هو تغييرها إلى حضارة اشتراكية.
وكان كلاهما من الكتاب الحافزين الذين يبعثون حولهم جوا من التفاؤل والاستطلاع ومحاولة الاستقرار على حقائق المجتمع وطبيعة الإنسان والكون، وما من أديب في إنجلترا لم يتأثر بهما ويسير شوطا بعيدا في طريقهما.
وكلاهما يكفر بالأديان، ويجد في الاشتراكية البدل العملي للدين، فإذا كان الدين يدعو إلى الإحسان، وإلى الرحمة بالفقراء، وإلى الإخاء والتعاون؛ فإن المذهب الاشتراكي لا يدعو هذه الدعوة فقط بل يضع الأسس لبناء المجتمع الذي يمارس كل هذه الأشياء دون أن يحس أحد من أفراده فضلا على آخر.
المذهب الاشتراكي يقوم مقام الدين لأنه التطبيق العملي للإنسانية؛ ذلك أن المجتمع الاشتراكي يلغي الفقر، ويتجه نحو إلغاء التفاوت الاقتصادي بزيادة الإنتاج، وهو أيضا يلغي ما هو أسوأ من الفقر، أي الاستعمار؛ لأن الدولة الاشتراكية لا تستطيع غزو شعب والاستيلاء على بلاده واستغلال أبنائه.
إذ لمن تستغل؟
إن المجتمعات الانفرادية التي يستغل فيها الأثرياء الفقراء، وتتألف فيها الشركات لتنظيم هذا الاستغلال، تنتهي إلى الاستعمار، وهو الاستغلال في أوجه وعلى أعلى مراتبه، فالفرد أو الشركة من الأمة الغازية السائدة يستغلان أبناء الأمة المهزومة، ولكن ليس في المجتمع الاشتراكي فرد أو شركة يستغلان أبناء الشعب؛ ولذلك لا توجد الوسيلة لاستغلال أبناء المستعمرات.
فالاشتراكية هي الديانة العملية التطبيقية، الديانة الإنسانية، وهي قد تكون ملحدة أو مؤمنة، إذ لا دخل للإيمان الشخصي في النظام الحكومي الاشتراكي، ولكن ليس شك في إحساس الاشتراكي بأن مذهبه يدعو و«يعمل» بنظام معين لتعميم الإنسانية، ومنع استغلال فرد لآخر، وأن هذا النظام يلغي الفقر ويزيد الإنتاج، وهذا الإحساس يجعل الاشتراكي قانعا بالتفكير العملي دون التفكير الغيبي.
وشو وويلز كلاهما ملحد، أي غير مؤمن بالإله الذي تعتمد عليه الكتب المقدسة، وإلحاد شو مهذب، وإلحاد ويلز بذيء، ومنبع إلحادهما هو العلم.
شو يحترم «شخصية» المسيح ويحبه، وقد دعا إلى الأخلاق المسيحية في كثير من دراماته، ولكنه يجحد فكرة الفداء والتضحية والآخرة، ومع ذلك يجد في الكون ما يسميه «قوة الحياة» وهي أقرب الأشياء إلى «نهضة الحياة» عند بيرجسون؛ أي إن هناك اتجاها في المادة نحو الحياة، ثم اتجاها في الحياة نحو العقل، أي نحو الإنسان، ثم اتجاها نحو الارتقاء الإنساني حتى يخرج السبرمان من نسل الإنسان، وله في هذه الموضوعات جملة مؤلفات ودرامات.
ولكن ويلز في إنكاره لله قد بذئ كثيرا؛ فإنه لما شرع في التأليف إلى ما قبل 1920 كان يكبر من شأن الدين ويظن أنه يجد فيه الخير أكثر مما يجد الشر، ولكنه انتهى إلى الإلحاد وصار يؤلف في الدعوة إلى إنكار الله، ويستخرج من التوراة والإنجيل كلمات وعبارات يستنتج منها ما يشاء، مما يجرح إحساس المؤمنين، أو قد يحيل بعضهم إلى الإلحاد.
وكلاهما، شو وويلز، قد دعا إلى أخلاق جديدة أساسها العلم، وكلمة «أخلاق» تعني العقائد السياسية والاقتصادية والثقافية، وليست الاشتراكية عندهم نظاما للرحمة أو الإنسانية، وإنما هي قبل كل شيء إنتاج علمي يزيد الثراء، ومتى زاد الثراء فإن الفقر ينمحي، وعندئذ نجد أن الإنسانية ممكنة، ممكنة بالنظام وليس بالإحسان.
والفن عند شو هو الدرامة، والفن عند ويلز هو القصة.
ولكن إلى جنب ذلك ألف كل منهما مؤلفات أخرى تناولت الاقتصاد والأخلاق والدين ونحو ذلك، وقد انتفع كل منهما بالآخر. ومستقبل الإنسان، ومستقبل العالم، ومستقبل اللغة والثقافة، كل هذا يهتم كلاهما به ويكتب عنه بطريقته ووسائله الخاصة. فإن ويلز يؤلف موسوعة في تاريخ البشر كما لو كان تاريخ أسرة متعددة الأفراد ولكنها تنتمي إلى أرومة واحدة، وهو يكتب ويؤلف بشأن حكومة عالمية تحكم البشر جميعهم بلا تفرقة في السلالة أو اللغة، وهو ينشد لغة عامة للبشر، وهو يؤلف القصص الرومانسية عن المستقبل العلمي للإنسان.
كان ويلز كبير الإيمان بالعلم ، حتى إنه قال ذات مرة إن رجل الأدب لا قيمة له، ولكن قبل أن يموت بأقل من عام انفجرت القنبلة الذرية فوق هيروشيما وناجازاكي، فانهار إيمانه وداخلته الشكوك التي أظلمت أيامه الأخيرة وجعلت من تفاؤله الدائم تشاؤما لازما.
والواقع أن انهياره العصبي هو الذي جعله يتشاءم أكثر مما يجب؛ فإن هذه القنبلة أثبتت للمثقفين ضرورة الأخذ بأفكاره: العالم هو قريتنا الكبرى، والشعوب أمة واحدة، ولا بد أن تؤلف للإنسان حكومة موحدة تحكم الأرض.
كانت هذه الفكرة رسالة حياته، وقد أيدها العلم باختراع القنبلة الذرية التي تصرخ في وجوهنا: إذا لم تتحدوا وتنشئوا حكومة موحدة للعالم فليس أمامكم سوى الدمار والعودة إلى الغابة، وهذا إذا لم يفن النوع البشري كله، بل الحياة كلها.
ولكن قبل تحقيق هذه الأحلام لا بد من الاشتراكية تعم أقطار العالم وتضع الإيثار مكان الأثرة ومصلحة الجماعة فوق مصلحة الفرد.
كان ويلز عالمي الذهن يفكر في تأليف موسوعة عامة تشترك فيها جميع الأمم وتخرجها حية بالمعارف البشرية، بل إنه يكتب التفاصيل في طريقة الطبع لهذه الموسوعة؛ إذ هي يجب أن تربط على طريقة الورقة السائبة، بحيث يمكننا أن ننزع إحدى الورقات ونضع مكانها أخرى تحتوي على معارف جديدة، فالموسوعة تبقى بالبيت طيلة العمر وتتجدد بأوراق ترسل من وقت لآخر إلى الذين اقتنوها، فتتجدد.
وكان كبير التقدير لرجل العلم حتى لقد قال ذات مرة - كما ذكرنا - إن رجل الأدب لا قيمة له. وهو هنا يختلف مع شو الذي يحترم الأدب كما يقدر العلم، ولكن الواقع أن عقليهما أقرب إلى العلم منهما إلى الأدب.
وقد استنار الشعب بل الشعوب الإنجليزية من هذين الكاتبين، وارتفع مقام التأليف والصحافة بهما؛ فإنهما صحفيان قبل أن يكونا مؤلفين، بمعنى أن اهتمامهما بالأحداث الجارية كان كبيرا بحيث لم تكن هناك صحيفة كبرى تهمل رأيهما بشأنها، وكان اتفاقهما في الوسائل والأهداف أقل من اختلافهما، أما الموضوعات التي عالجاها فلم تخرج قط عن التطور، الإنسان في المستقبل، الاشتراكية، الثقافة ، الزواج، الحكومة، قيمة العلم ... إلخ.
وإذا شئنا أن نفضل ونميز بين شو وويلز جاز لنا أن نقول إن عقلية شو انتقادية في الأكثر بنائية في الأقل، أما ويلز فيبني ولا يكاد ينتقد إلا قليلا؛ أي إنه إيجابي، يشرع المشروعات للبناء في السياسة والاقتصاد والأخلاق. والإصلاحات الاجتماعية العديدة التي سارت فيها الحكومة الإنجليزية في النصف الأول من هذا القرن هي من إيحاء مؤلفات شو وويلز أكثر من أي كاتب آخر.
ولقد كان من سعادة حياتي أني جاريت هذين الاثنين من السنين العشر الأولى من هذا القرن إلى يوم وفاتهما، ولم أكن أهمل حرفا مما كتباه، وإليهما أعزو نشأتي العلمية واتجاهي الاشتراكي الإنساني.
شو وتولستوي وشكسبير
كان الأدب الروسي - في الربع الأخير من القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين - قدوة ومثالا لجميع طلبة الأدب والأدباء في أوربا، وأيما أديب كان يجهل تولستوي أو دستوفسكي أو جوركي، أو يستصغر شأنهم في الأدب، كان - بهذا العمل - يعرض نفسه للسخرية والاحتقار.
ولم يكن غريبا على برنارد شو أن يصف الأدب الروسي بأنه أدب «العمالقة»، والمعنى هنا أن الأدباء الروس يعلون على غيرهم من أدباء أوربا علوا عظيما.
وعرف شو تولستوي، واتصلت المكاتبات بينهما في شئون الفن والدين، وأكاد أقول إنه لم يهز أوربا ويثير ضميرها بعد فولتير مثل تولستوي وشو، وهناك من الحوادث الصغيرة ما له قيمة رمزية كبيرة؛ فإن المتهتكين من الكهنة الروس (الذين ينتسب إليهم راسبوتين) كانوا قد رأوا فيما يكتبه تولستوي هرطقة أي زندقة، فحرموه أي أخرجوه من حظيرة الكنيسة، ومع أن هذا الحادث تافه فإنه فتح العيون والعقول في أوربا على مقدار الهوة التي كانت تتردى فيها روسيا أيام القياصرة.
وكانت خطيئة تولستوي التي استوجبت هذا الحرم أنه وصف المسيح بالحكمة والعقل لا أكثر، حتى إنه قال إن الحكمة المسيحية التي تقول: «لا تقاوموا الشر بالشر» لا تحتاج إلى إيحاء إلهي «وكان يمكنني أنا أن أقولها لو لم يقلها الإنجيل.»
وأحب شو روسيا، وأحبها أكثر عقب ثورة 1917، ولما مات وجدت صورة «لنين» معلقة فوق فراشه، وزار الاتحاد السوفيتي وقرأ وصحح كتاب سيدني وبياتريس ويب «حضارة جديدة» عن الاشتراكية كما تمارس هناك حوالي 1941، ولم يكن هذا غريبا فيه؛ فإنه عاش حياته يدعو إلى الاشتراكية، فكان طبيعيا أن يعجب بالنظام الاشتراكي الجديد في الاتحاد السوفيتي.
ونجد هنا إغراء على المقارنة بين شو وتولتسوي، فقد كان الأول كاتبا مسرحيا بينما كان الثاني كاتبا قصصيا، وكلاهما تفوق في فنه وامتدت له شهرة عبر القارات الخمس، وكانا على وفاق في الأهداف الإنسانية، يكرهان القوة والفحش والغلظة ويميلان إلى النسك، وإن يكن لكل منهما طرازه الخاص فيه، ولكنهما كانا يختلفان في أشياء أخرى.
كان برنارد شو يحيى مع زوجته ناسكا لا يقربها، وكان تولستوي يحاول ذلك، ولكنه يخيب في محاولاته، فيسخط ويألم، وكانت الخطيئة الكبرى عند تولستوي هي الخروج عن حظيرة الزواج إلى مغامرات عشقية، في حين كان برنارد شو يجرب في هذه المغامرات بعض التجارب.
ولم يكن لتولستوي برنامج سياسي اقتصادي اجتماعي، أو قل إن برنامجه الكلي الشامل هو المسيحية؛ ولذلك كثيرا ما تعب وعرق ودخل في مشاجرات مع أسرته بشأن رغبته في النزول عن أرضه الزراعية للفلاحين، وصدته أسرته عن هذا الاتجاه، فكان يعزي نفسه من وقت لآخر بأن يلبس الملابس الخشنة، ويحرث الأرض بنفسه، ويصلح أحذية الفلاحين بيديه، وكل هذا كان بمثابة العبث، يعبث به القلب الطيب العاجز عن تحقيق أحلامه.
ولكن برنارد شو كان يدعو إلى النظام الاشتراكي، وكان لهذا المذهب شأن في ترتيب ذهنه وتوجيه نشاطه سواء الفني منه أم الاجتماعي، فلم يأنف لذلك من أن يكون له خادم يطهو له طعامه، ولكن عندما مات هذا الخادم، أقام له نصبا تذكاريا في حديقته، وترك لزوجته وأبنائه معاشا من تركته.
وكان كلاهما شعبيا مع فروق، فقد كان تولستوي يكتب للشعب في لغة شعبية إذا سمعها فلاح فهمها واستبصر بها، وكذلك كان شو من حيث اللغة، ولكن الاهتمامات الذهنية عند شو كانت من الطراز العالي في الثقافة، هذا الطراز الذي لا يكاد يشغل بال الفلاحين، أما موضوعات تولستوي، إذا استثنينا الدين، فقد كانت اجتماعية مألوفة قلما ترتفع إلى القمم الفلسفية الخطرة؛ ولذلك حدث التصادم.
كان برنارد شو ساخرا يحب أن يضحك وهو عند حافة المأساة، وكان تولستوي وقورا يفزع من السخرية. وكان برنارد شو علميا في أهدافه يستنبط فلسفته المادية من العلم، في حين كان تولستوي مسيحيا يحس الإحساس المسيحي العميق، وبرنامجه للعدل والخير والمساواة؛ أي يحب بعضنا بعضا، وكفى هذا.
وشعبية تولستوي المسرفة تتضح من تعريفه للفن حين قال إن العمل الفني هو الذي يحسه الفلاحون ويدركونه، وقد رد عليه شو بحق بأن السيمفونية العظيمة عندئذ لا يمكن أن تكون من الفنون الجميلة.
إن الفن عند شو يحتاج إلى تربية وتدريب.
ويقول تولستوي: «إنه ليس هناك شك في أن الفنون الجميلة عند الطبقات العالية في الشعب لا يمكن أن تكون فنون الشعب». وهو صادق هنا، ما دام الشعب لم يتعلم، وهذا بالطبع إذا لم نفهم من كلمات تولستوي أنه يقصد إلى الفنون المتهتكة التي كانت الطبقة العالية المنهارة في روسيا تمارسها وتستمع بما فيها من غرائز واتجاهات حيوانية.
وألف تولستوي كتيبا عن شكسبير وصفه فيه بالغلظة والقبح وخسة التعبير وهوان التفكير، والكتاب جدير بأن يقرأه المتأدبون في مصر والأقطار العربية، وهو - أي تولستوي - يمثل الفنان الشعبي، وينظر في غيظ واحتقار إلى فنان الطبقة العالية؛ فإن الشعب كان عند شكسبير «غوغاء»، وهو عند تولستوي كل شيء، بل ليس هناك شيء غيره، وقد رد عليه برنارد شو فسلم بالكثير مما قاله تولستوي عن شاعر بريطانيا سيدة البحار، واستصغر أشعاره المرسلة، ولكنه مع ذلك دافع عنه بأنه لا يزال فنانا غير صغير القدر.
وألف شو درامة «بلانكو بوسنيت» فمنعها الرقيب على المسارح؛ لأنه جعل بطل الدرامة يصرخ بكلمات نابية عند المؤمنين عن الله، ولكن الرقيب بعد ذلك أجاز تمثيلها دون أن يحذف منها شيئا، وأرسل شو نسخة من هذه الدرامة إلى تولستوي مع خطاب قال فيه:
رأيي أن الله لا يوجد الآن، ولكن هناك قوة خالقة تحاول بلا انقطاع أن توجد عضوا عاملا منفذا، له من القوة والمعرفة ما يشبه كمال الآلهة؛ أي له المقدرة الكلية والمعرفة الكلية، وعندما يولد رجل أو امرأة تكون ولادتهما بمثابة المحاولة الجديدة لتحقيق هذا الهدف ... ونحن هنا نحاول مساعدة الله، ونؤدي عمله، ونصلح أخطاءه القديمة، ونكافح حتى نصل نحن إلى الألوهية.
وهذا الكلام لا يخرج عن مذهب شو عن «السبرمان» وعن نظرته وفهمه لمعنى التطور، ولم يستطع تولستوي أن يسيغ هذه اللغة، كما أنه سبق أن انتقد شو في درامته «الإنسان والسبرمان»؛ لأنه كان يحيل المواقف الخطيرة الجادة إلى مواقف سخرية وضحك، وكتب إليه بهذا المعنى، فكان رد شو أكثر سخرية إذ قال لتولستوي: «لعل الله قد خلقنا كي يضحك منا.»
وهذا يعود إلى أن في أعماق شو مهرجا يطل من وقت لآخر ويعترض على الفيلسوف، ويخفف بذلك من وقار المواقف، وإن كان في بعض الأوقات يزيد في التهريج إلى حد الوقاحة، هذه الوقاحة التي لم يطقها تولستوي.
المسرح وسيلة للتربية
عندما أتأمل حياة العظماء، من قادة الفكر، أو المكتشفين في العلوم، أو دعاة الثورات، أو الأدباء الراسخين، أتعجب من أن عددا كبيرا منهم لم يحصل على تعليم متوسط أو عال يبرر تفوقهم البارز، بل إن منهم من لم يحصل حتى على تعليم ابتدائي، وكثير منهم عاشوا في فوضى تعليمية يتقلبون بين دراسة وأخرى بحيث لم يحذقوا واحدة منها، كما تجد مثلا في هربرت سبنسر، وتشارلس داروين، وبرنارد شو، وعشرات غيرهم.
وعندئذ أحتاج إلى أن أبحث عن علة تفوقهم، فأجدها في مئات الكتب التي يكتبها مؤلفون جادون يتعبون في التأليف كي يربوا القراء ويعلموهم، كما أجدها في عشرات المجلات التي تختص في علم أو فن معين وتدرسه، بل إن في عواصم أوربا من المحاضرات المنظمة للشعب ما يكفي لتخريج العامة إلى مثقفين، وأستطيع أن أقول في يقين إن عدد المحاضرات العامة التي يدخلها المستمعون بأجور منخفضة، خمسة أو عشرة قروش، لا يقل عن ثلاثين أو أربعين محاضرة كل يوم في لندن وحدها.
وأخيرا هناك المسرح ، إن المسرح الأوربي للتسلية فقط حين ينحط، وهذا قليل، ولكنه للتعليم حين يرتفع، وهذا هو الغالب عليه؛ فإن المؤلفين للدرامة الأوربية، منذ هنريك إبسن، يعالجون المشكلات الاجتماعية بذكاء نادر كما يجرءون أيضا على معالجة المشكلات الفلسفية بل الدينية.
الفلسفة على المسرح شيء مألوف في باريس ولندن وبرلين، وقد غذى المؤلفون المسارح بالفلسفة والدين والأدب والأخلاق، وعاونهم على ذلك حرية فكرية تتسع للآراء المتناقضة، بل الآراء المؤلمة، لمن نشأوا على احترام العرف والعادة بلا تفكير، وقل أن يزور أحدنا مسرحا أوربيا ويستمتع برؤية إحدى الدرامات لكاتب ممتاز دون أن يخرج وفي رأسه طنين من الآراء يبعث على الاجترار والتفكير.
وهذه الأشياء الأربعة: الكتب الجديدة، والمجلات المتخصصة، والمحاضرات المدروسة، وأخيرا المسارح التي تعلم وتنير، هي التي تعلم العامة من أبناء الشعب الذين لم يحصلوا على تعليم منظم في مدرسة أو جامعة، وهي التي يعزى إليها التبريز الذي نجده في أمثال داروين وسبنسر وشو.
وعندما أذكر برنارد شو وأتأمل مؤلفاته التي لم يفتني منها كتاب أو مقال، أحس أنها تكفي لتخريج المثقفين في الموضوعات المعقدة التي عالجها وهي عشرات، كتبها جميعا في لغة بعيدة عن البهارج التي تشغل القارئ أو المستمع وتحول بينه وبين التفكير المتزن، وهذه المؤلفات كلها تقريبا درامات تمثل، وتتناول كل منها مشكلة فلسفية أو اجتماعية بل أحيانا مشكلة دينية، ولكنه كان حين يخرجها كتبا مطبوعة، يكتب لكل منها مقدمة قد تزيد أحيانا في عدد صفحاتها على الدرامة نفسها، وهو يشرح فيها موقفه بأكثر إسهابا من المشكلة التي عالجها في الدرامة، وساعده على إخراج دراماته - بما تحويه من فهم عميق - مناخ من الحرية الفكرية يحيا فيه المفكر وينمو ولا يجد عائقا من تقاليد مشئومة تقول له: قف هنا ولا تفكر، التفكير ممنوع.
ولذلك لم يصطدم إلا في الأقل بالقانون أو العرف حين منع تمثيل بعض دراماته، ولكن لم تمض سنوات على المنع حتى أجيز تمثيلها ثانيا، حدث ذلك في درامة ألفها بشأن الكسب الحرام من المواخير، حين حمل على النظم التجارية الأخرى لأنها تجيز الخسة والدناءة والاستغلال السافل كما يحدث في المواخير سواء، وحدث مرة أخرى في درامة تتصل بالإيمان بالله، جعل فيها أحد الأشخاص ينتقد الله في حماقة ويسب ويهاتر، ولكن أجيز التمثيل بعد مدة من المنع.
وكل ما أقصد إليه أن مناخ الحرية يجرئ على التفكير؛ لأن مصير الانحراف إلى الإهمال والتلاشي، ويبقى بعد ذلك الناضج الذي يؤدي إلى الرقي، وهذا هو ما يجعل من المسرح مدرسة بل جامعة.
ومع أننا نضحك كثيرا ونقضي الساعات ونحن نستمع إلى الحوار الذكي والنكات الصارخة التي تخرج من أفواه الممثلين؛ فإننا نجدنا في موقف قد وضعنا فيه المؤلف، يحملنا على أن نسأل ونرتبك ونحاول أن نفهم ونتغير، بل قد نحزن كثيرا على الرغم من الكلمات والنكات التي أضحكتنا كثيرا.
وبرنارد شو أديب الأفكار. وهنا أقف كي أعرب عن الأسف بأن أدب الأفكار لا يكاد يوجد في الأقطار العربية، وإني أسأل لماذا لا يكون عندنا مثلا معجم للأفكار التي أثارت الثورات وحركت العقول وغيرت المجتمعات، كما أن عندنا معاجم كثيرة للألفاظ؟
ولأن أدب برنارد شو هو أدب الأفكار فإنه - مثل فولتير - عني بالعلم عناية كبيرة، فقد يجهل القراء أن فولتير أديب أوربا العظيم وصاحب الدعوات التحريرية، قد انغمس في دراسة العلوم حتى إنه ألف مجلدين تبلغ صفحاتهما نحو 1000 صفحة كبيرة يبحث فيها، على قدر عصره، مشكلات العلم المادي.
وكذلك فعل برنارد شو؛ فإنه ناقش نظرية داروين والمعاني المنبثقة منها بشأن التنازع والتعاون في الطبيعة، كما ناقش عوامل الوراثة وعوامل الوسط وتأثيرهما في التطور، بل ناقش الأطباء في حكمة العلاج والدواء، وهذا إلى بحوثه العميقة في معاني التربية وأهدافها.
لقد عني برنارد شو كما عني فولتير بالعلم لأن العلم أفكار وليس ألفاظا. •••
إن العبرة التي نحتاج إلى تأملها أن المسرح الأوربي لا يزال يحيا قويا، يتسع للبحوث الفلسفية الاجتماعية، في حين أن مسرحنا يكاد يكون لغوا نسيا لا نأبه به ولا نكاد نذكره، وهذا الاختلاف بين المسرحين يجب أن يهمزنا إلى البحث عن العلة وإلى طلب العلاج؛ إذ نحن بإهمال مسرحنا تنقصنا مدرسة بل جامعة.
لقد أنشأنا الأوبرا منذ أيام إسماعيل، لكن حكم المستعمر الأجنبي، يؤيده الخائن المصري، كان يحمل الحكومة على معاونة التمثيل الأجنبي دون التمثيل المصري، بل لم تكن هناك أية محاولة جدية لإيجاد الفنون المسرحية العربية.
شارلوت زوجة برنارد شو، في أخريات أيامها.
برنارد شو في أربعينيات عمره.
شو في شبابه في 1879.
برنارد شو في تسعينات القرن الماضي.
ثم جاء التمثيل السينمائي، وهو في أحسن ظروفه لهو أكثر مما هو فن، وكان يمكن أن يكون فنا عظيما لولا أن المجتمع التجاري الذي نعيش فيه وتعيش فيه أوربا وأمريكا أيضا، يطلب المال أكثر مما يطلب الفن؛ ولذلك اتجهت القصص السينمائية في مصر إلى اللهو الذي يجذب الجمهور ويستخرج نقود أفراده بدلا من أن يتجه إلى الفن الذي يربيهم.
ولا يمكن التمثيل المسرحي أن يزاحم التمثيل السينمائي، ما دام هذا الأخير يتجه نحو العامة الذين لا يحاول المؤلف أن يرفعهم إلى مقام الشعب ويعلمهم التفكير، وما دمنا على هذه الحال فإننا لن نطمع في أن نجد برنارد شو في مصر، بل إني أعتقد أنه لو مثلت درامات برنارد شو على مسرح في القاهرة فإن الجمهور سيصد عنها لأنه لم يتعود الحديث الذهني والاشتغال بالمشكلات الفلسفية العلمية والاجتماعية؛ ولذلك يكون مصيرها الإهمال.
ولم يؤثر التمثيل السينمائي على المسرح الأوربي إلا تأثيرا طفيفا؛ لأن المخترعات السينمائية جاءت بعد أن كان المسرح قد ثبت، بل رسخ، في المجتمعات الأوربية وأصبح بعض مؤسساتها المحترمة.
ومشكلتنا الآن هي: كيف نحيي المسرح؟
أعتقد أن أول ما يجب علينا هنا هو أن نترجم المسرحيات العظيمة كي تقرأ أولا، وهي متى قرئت وعرفت قيمتها عند جمهور المفكرين استطعنا أن نشرع في تمثيلها على قياس صغير لا يكلفنا إرهاقا، حتى إذا تذوقها الجمهور وتربى بها بعض التربية أقبل عليها في التمثيل بعد القراءة، وأنا أقصد بعبارة «المسرحيات العظيمة» تلك التي تعالج المشكلات الإنسانية من اجتماعية إلى فلسفية إلى علمية، ولا أقصد ذلك اللهو الذي يكاد يكون سينمائيا.
ومن هنا قيمة برنارد شو لنا؛ فإننا لو ترجمناه إلى لغتنا لوجدنا فيه جامعة تعلم وتلهم وترشد نحو الخير والبر والشرف والقوة، نجد ذلك حين نقرأه قراءة الدراسة والتأمل، ثم يبقى لنا بعد ذلك الأمل الذي أرجو ألا يكون بعيدا وهو أن نراه ممثلا. •••
نحتاج هنا إلى تذكر الخصائص التي يمتاز بها برنارد في مسرحياته، وأول هذه الخصائص أنه لا يبالي القواعد المسرحية، مثل «وحدة الزمان والمكان» أي إن الدرامة كلها فصل واحد أو تكاد تكون كذلك كما كان يفعل هنريك إبسن، ومثل «الحبكة» أي إننا يجب أن نجد الحوادث مرتبطة تدور حول نقطة، ومثل «الذروة» حين يخلق لنا المؤلف نقطة يزداد فيها التوتر حتى يصل إلى الذروة التي ينتظرها المتفرجون وأنفاسهم معلقة، وأخيرا «الحركة» على المسرح.
وبرنارد شو يخالف كل هذه القواعد، حتى لقد اتهم لهذا السبب بأنه حط المسرح الإنجليزي ولم يرفعه، بل هناك من يعلل صدود الجمهور الفرنسي عن دراماته بإهماله لهذه القواعد بزعم أن الفرنسيين أدق إحساسا بالفن من غيرهم.
ولكن برنارد شو هنا مقنع في رده؛ إذ هو يقول إنه ينقل الحياة إلى المسرح، وليس في الحياة حبكة، وإن يكن جمهور المتفرجين يرتاحون إليها، كما أن الحوادث لا تصل على الدوام إلى الذروة، أما عن وحدة الزمان والمكان فليست واقعية.
ولكن الذي لا يشك فيه أن برنارد شو يقصر في «الحركة»؛ فإن بعض دراماته تكاد تكون أحاديث لا أكثر، بل إن هناك موقفا في درامة «الإنسان والسبرمان» يتكون من أربعة أشخاص يتحدثون نحو ساعة بلا أدنى حركة أو تغيير، ومع أن هذا يحدث في الحياة؛ فإن الفن يقتضي طرد السأم عند المتفرجين من مثل هذا الموقف؛ لأن المسرح إمتاع كما هو تعليم.
والواقع أن برنارد شو، قبل أن يكون مؤلفا مسرحيا أو أديبا إنما هو فيلسوف؛ إذ هو لا يبالي أن يضحي بفنه من أجل فلسفته، فنحن نفهم أن الحب هو موضوع الدرامة في أكثر أحوالها وأقربها إلى أذهان الجمهور، ولكن الحب هو أبعد الموضوعات عن ذهن برنارد شو الذي قل أن يعرض له؛ إذ إن موضوعه بل جميع موضوعاته فلسفية، ونحن معه إزاء رجل يعلمنا، وهو يسلينا، أي إن التسلية وسيلة الفلسفة، وقد عيب عليه إهماله للحب، فكان جوابه أنه ليس هو الشأن الأعظم في حياتنا. وأشخاص دراماته البارزون لهذا السبب فلاسفة أو ينزعون إلى آراء فلسفية بشأن المجتمع.
ومع خلو درامات برنارد شو من «قواعد» التمثيل فإن براعته في الحوار الفلسفي تسحرنا، حتى لننسى القواعد ونحن نصغي إلى تبادل الأحاديث بين أشخاص الدرامة، ودرامة «جان دارك» لا تخلو من الحركة والحبكة، ولكننا مع ذلك نلتفت إلى الأحاديث ونحن مسحورون بمعركة الأفكار فيها، وهي معركة تمس قلوبنا حتى لنحس أننا نحن نمثل فيها، ونشترك مع أشخاص الدرامة وإن لم نكن على المسرح معهم.
ليس برنارد شو ممن يؤلفون الدرامة للدرامة أو يمارسون الفن للفن، وهو أيضا لا يكتب ما يريده العامة، ولو كان قد فعل لكان قد اكتسح جميع الذين ألفوا المسرح، وإنما هو معلم يتخذ المسرح وسيلة وليس هدفا، والاعتبار الأول عنده هو المناقشة الفلسفية بشأن الدين والفلسفة والأخلاق والعلم، كي يغير المتفرجين، ويحملهم على أن يتطوروا وعلى أن يعتمدوا على العقل والذكاء وليس على العادات والمعتقدات.
الزواج في درامات شو
من الموضوعات المحببة إلى برنارد شو في دراماته ما يذكره ويكرره بشأن موقف المرأة من الزواج؛ فإن المألوف عندنا وعند جميع الشعوب المتمدنة أن الرجل هو الذي يفتتح وسائل التعارف، وهو الذي ينطق كلمة العرض. هو يعرض والفتاة تقبل.
ولكن برنارد شو يوضح في تكرار وبسط أن هذا السلوك هو ما يظهر على سطح المباحثات قبل الزواج، أما الحقيقة فهي أن المرأة هي التي تبحث عن الرجل، وهي التي تغري وتحرض، كي ينطق هو في النهاية بالكلمة التي تدعوها إلى الزواج منه.
وهو يعلل ذلك بأن المرأة تطلب الزواج باعتباره وسيلة للعيش؛ إذ هي تجد فيه زوجا، أي عائلا ، يعولها ويخدم أبناءها. فهي لا تقصد من الزواج إلى التناسل أو إلى السعادة الزوجية، بل هي لا تختار كما يوحي إليها قلبها، وإنما هي تهدف في كل جهودها ومناوراتها إلى الوصول إلى زوج يحقق العيش الحسن.
وهذا هو ما نجد في بلادنا، مصر، أكثر مما نجد الآن في إنجلترا؛ فإن الفتاة الإنجليزية تتعلم وتعمل وتكسب، وهي تختار زوجها لجملة اعتبارات منها بالطبع أن يكون الزوج قادرا على الكسب، ولكن ليس هذا هو الاعتبار الوحيد في اختيارها للزوج في أيامنا، وقد كتب برنارد شو دراماته وبسط آراءه عن الزواج قبل نحو أربعين سنة حين كانت المرأة مبتدئة في الأعمال الحرة، وحين كانت الحاجة عندها إلى اختيار الزوج «العائل» أكبر مما هي الآن.
وبرنارد شو ينتقد (نعني أنه كان ينتقد) هذه الحال؛ لأن المرأة حين كانت تطلب عائلا فقط، أو قبل كل اعتبار آخر، إنما كانت تهمل اعتبارات أخرى لها قيمتها البيولوجية العظمى، مثل سن الزوج وصحته وكفاءته لإنجاب الأطفال الممتازين.
والواقع أن أعظم ما يفكر فيه برنارد شو بشأن الزواج هو هذه الاعتبارات البيولوجية اليوجنية، وخاصة أن يكون الزواج وسيلة لارتقاء البشر باختيار الأصلح للتناسل، بل منع التناسل لغير الأكفاء له، أي إنه يهدف إلى أعلى.
والزواج في الحالة الحاضرة - في مصر أكثر مما هو في إنجلترا - يعطل هذا التطور؛ لأن الفتاة تطلب قبل كل شيء من يعولها ولو كانت ميزاته البيولوجية ناقصة، ووجود الطبقات، وتفاوت الثراء، يحملان الفتاة على أن تنكر على نفسها ما تمليه عليها حريتها في طلب الصحة والجمال والذكاء، وشو يعتقد أن غريزة المرأة هنا تصدق في تحري هذه الميزات، ولا تخطئ، لو لم تقف اعتبارات المال حائلا دون الاسترشاد بها.
ولا يجد شو في الزواج أي معنى لما يقال أنه عقد مقدس لا يمكن أن يحل، إذ هو عنده قبل كل شيء عقد تناسلي بيولوجي يوجني. ومعنى كلمة «يوجني» هنا أنه يهدف إلى صحة النسل؛ ولذلك هو يقول بتيسير الطلاق، بل جعله مباحا بلا قيد ولا شرط إذا لم يكن للزوجين أطفال، أما حين يكون هناك أطفال فإن الطلاق يباح مع مراعاة مصلحة الأطفال.
وكتابه، أي درامته، عن «الإنسان والسبرمان» هو الهدف الأخير، أو الفكرة الأصيلة، في تفكيره عن الزواج والتناسل؛ فهو لا يكاد يذكر أن الزوجين يسودهما وفاق ينهض على المساواة في المستوى الثقافي مثلا حتى لا يكون التفاوت هنا داعيا إلى الخلاف؛ فإن فكرة التناسل الذي يؤدي إلى إيجاد جيل جديد أرقى من الجيل السابق أي جيل الأبوين، تغمره.
وعندما نتأمل الأسرة (لا العائلة فقط) في مصر بل في جميع الأقطار، نجد أن لبرنارد شو الحق في الالتفات إلى هذه الفكرة؛ فإنه لا تكاد توجد أسرة ليس فيها خال أو عم أو ابن خال أو ابن عم، فضلا عن الأشقاء، خالية من عيوب بيولوجية في بناء الجسم أو ذكاء العقل، ونحن حين نولد لا نرث أبوينا فقط وإنما نرث بعض سماتنا الجسمية والعقلية من جدودنا وأخوالنا وأعمامنا، أي من أرومتنا (أسرتنا) التي نشأ منها أبوانا.
وقد هدفت اليوجنية (أي علم إصلاح النسل) إلى إصلاح هذه الحال بمنع الناقصين من التناسل وتشجيع الأكفاء الحاملين للسمات الحسنة، ومؤلف هذه الكلمة «اليوجنية» هو جالتون ابن عم داروين، وقد استرشد بالطبع في معانيها وأهدافها بنظرية التطور أو الداروينية.
ومع أن برنارد شو يؤمن بتأثير الوسط إيمانا كبيرا فإنه لا ينكر قيمة الوراثة؛ إذ ليس العلم مذاهب وإنما هو نظريات وتجارب.
وهذا الاتجاه نجده على أقصاه عند «برتراند رسل» الفيلسوف الإنجليزي المعروف؛ فإنه يعتقد أن الزواج سوف يكون من التبعات الاجتماعية للارتقاء بالنسل جيلا بعد جيل، حتى ليقول إن الجيل القادم سوف تختار الدولة أفراده قبل ميلادهم، أي باختيار آبائهم.
بل هو يرغب في تخصيص بعض النساء للأمومة دون غيرهن، ويكتب هذه الكلمات التي يعدها غيره كلمات كافرة فاجرة:
نستطيع أن نتوقع في المستقبل، من حيث التنظيم الجدي للكم والكيف (في النسل)، أنه سيكون في كل جيل 25٪ من النساء و5٪ من الرجال يختارون لأن يكونون آباء لأبناء الجيل القادم ، أما سائر أفراد الشعب فيعقمون حتى لا ينجبوا أطفالا، وهذا التعقيم لن يمنع الاتصال الجنسي بأية حال ولكنه يجعل هذا الاتصال خاليا من الآثار الاجتماعية ... والنساء اللائي يخصصن للتناسل ستحمل كل منهن وتلد ثمانية أو تسعة أطفال، ولكنها لن تكلف القيام بأي عمل لمدة شهور، ولن توضع أمامهن عقبة لمنع اتصالهن بالرجال المعقمين، ولكن التناسل سيكون من شئون الدولة ولن يترك حرا للاختيار بين الجنسين، وربما يكون «التلقيح الصناعي» أوكد في الإخصاب وأقل إحداثا للارتباك إذ هو يغني عن الاتصال الشخصي بين الأب والأم المختارين لإنجاب الطفل المنشود، ولن يكون للآباء أية صلة بالأبناء، وسيكون هناك على وجه عام أب واحد لكل خمس من الأمهات، وربما لا يرى الأب أولئك الأمهات اللائي حملن بأبنائه إذ هن قد يحملن بالتلقيح الصناعي؛ وعلى ذلك لن تكون هناك عاطفة أبوية ...
قال برتراند رسل هذه الكلمات في كتابه «النظرة العملية»، وقد رأيت أن أنقلها للقراء وإن لم تكن من تأليف برنارد شو؛ وذلك لاعتقادي أن برنارد شو يوافق عليها كفكرة، وأيضا لأني أحب أن يقف جمهور القراء العرب على ما يفكر فيه فلاسفة أوربا وبرتراند رسل في مقدمتهم؛ إذ ليس هناك أسوأ من أن نحرمهم الوقوف على هذه الاتجاهات الأوربية، ولا يمكن أن يكون الجهل فضيلة، ومهما تكن هذه الأفكار منافية لعاداتنا وتقاليدنا، بل مهما تكن هذه الأفكار فجة نابية، فإنها تعالج أعظم الموضوعات للإنسان في هذه الدنيا، وهو موضوع تطوره وإيجاد نوع أو سلالة جديدة ترقى عليه بميزات جديدة.
وقد انخفض التفكير الفلسفي، بل انعدم، في مصر وسائر الأقطار العربية بالمثابرة على منع الأفكار الأوربية من التسلل إلينا، ونظمت قوى مظلمة تحت أسماء «البوليس السياسي» أو «القلم المخصوص» في مصر لمراقبة المؤلفات الأوربية التي تحوي مثل هذه الآراء، وخاصة الآراء الاشتراكية والشيوعية، وبقيت شعوبنا العربية في جهل أكثر من أربعين سنة لأسلوب الحياة في روسيا وسائر دول الاتحاد السوفيتي، ومنعت ترجمة «البيان الشيوعي» لكارل ماركس خشية أن يؤدي إلى حركة شيوعية، مع أن روسيا نفسها لم تصل بعد إلى النظام الشيوعي ، وأستطيع أن أقول إنه قد حبس عشرات في مصر لأن هذا الكتيب قد وجد في مساكنهم.
والذي أراني مضطرا إلى الاعتراف به أن السياسي الذي يحيى في عصرنا، ولم يقرأ بل لم يدرس «البيان الشيوعي» الذي ألفه كارل ماركس، إنما هو إنسان جاهل، وجهله يبلغ أعلى مراتب الخطر؛ إذ لن يستطيع أن يفهم حركة التاريخ الحاضر أو الماضي أو المستقبل، ولن يفهم معاني القوة وتطور المجتمع، بل أساس الاستعمار الذي ما زال جزء كبير من العالم يعانيه.
والعقوبة على القراءة، ودعوة «ألا تقرأوا» هما في صميمهما إنكار للعقل البشري وجحد للذكاء، وأيما أمة تفعل ذلك إنما تنتحر.
وليس من الضروري أن نصير شيوعيين حين نقرأ «البيان الشيوعي» كما ليس من الضروري أن نقوم بدعوة إلى إلغاء الزواج كما هو الآن حين نقرأ ما كتبه برتراند رسل، إنما من الضروري أن نقف على الآراء البازغة في أوربا، التي تسود الدنيا، وأحيانا تستبد بنا؛ أي بمصر أو الهند أو العراق أو غيرها من الأقطار.
يجب أن نعرف هذه الأفكار، ونتأملها، في ضوء أحوالنا الاجتماعية والثقافية؛ لأن أقل ما فيها أننا نألف التفكير الحر ونعتاد دراسته، ثم نعرف كيف تحيى هذه الدنيا، أي كيف يحيى ثمانمائة مليون إنسان شيوعي، وليس الجهل هنا فضيلة وإنما هو رذيلة من أسوأ الرذائل، كما ليس الجهل بالأفكار الفلسفية مهما شطحت ونطحت، من الفضيلة أيضا.
الفقر . الفقر . الفقر
حياة برنارد شو الفنية هي حياة الكفاح للفقر، وأولى دراماته: «حرفة المسز وارينز» تعالج موضوع الفقر، وهو اشتراكي المذهب لأنه يجد في هذا المذهب معالجة للفقير.
الفقر عند برنارد شو هو الأصل والجذر لعشرات من الشرور والآثام، ومعالجته هي معالجة لعشرات من الشرور والآثام.
كنت في 1931 في رحلة في الصعيد، وكان أعظم ما وقع في نفسي رؤية الفلاحين في فقرهم الفاحش المزري، الذي حرمهم الكرامة والنظافة والصحة والمعرفة، وجدت هناك خادمات يعملن بخمسة عشر قرشا في الشهر، أي خمسة مليمات في اليوم فقط، وعرفت أن بعض العمال يعملون بخمسة عشر مليما في اليوم، ثم مع ذلك لا يجدون العمل كل يوم.
وفهمت عندئذ لماذا تكثر الجرائم البشعة في الصعيد.
أليست الحياة رخيصة؟ فماذا لو فقدناها؟ ماذا نفقد بفقدانها؟ نفقد لقمة الذرة الجافة نسيغها بالماء العاكر؟ ولماذا لا نغامر بالقتل والسرقة والاغتصاب وخطف الأطفال؟
إن قصارى ما يمكن أن ينزل بنا من الكوارث إذا ارتكبنا هذه الجرائم هو السجن، وهو مكان رحب يحتوي الغذاء والكساء بالمقارنة إلى الحياة بالحرمان والجوع والمرض التي كان يحياها فلاحونا في الصعيد حين زرته في 1931.
في 1940 كنت أحرر «مجلة الشئون الاجتماعية» فوصفت في إحدى مقالاتي «الفقر والجهل والمرض» بأنها ثالوث مدنس، كل رذيلة فيه تؤدي إلى الرذيلتين الأخريين، وارتحت كثيرا حين وجدت أن كتابنا تعلقوا بهذه الكلمات وكرروا ذكرها في الصحف للتنوير العام حتى وصل التنوير إلى الوزراء، ولكن بلا جدوى.
والآن أحب أن أقول إن أرذل هذه الرذائل الثلاث هو الفقر؛ إذ هو يؤدي حتما إلى الجهل والمرض، أما هذان الاثنان فيمكن في بعض الحالات، وفي نظامنا الاقتصادي الحاضر، ألا يؤدي أحدهما إلى الفقر.
نظامنا في أساسه اقتصادي، وعلى قواعده الاقتصادية تنبني جدران بنائه الاجتماعي، ومن هذا البناء الاجتماعي تتكون أخلاقنا بل عواطفنا التي نعتقد أنها طبيعية، ولذلك حين نقع في الفقر تنهار جميع أو معظم قيمنا الاجتماعية، ولا يستطيع الثبات على هذه القيم في وجه الفقر سوى الأقلين الشاذين الذين يمكن أن نعزو شذوذهم هذا إلى مركبات معينة هي أقرب إلى المرض منها إلى الصحة.
يقول برنارد شو:
إن الفقر الذي نجده في مدننا الكبرى يدنس الفرد كما أنه ينقل عدوى الدنس إلى جيرانه، وما يدنس الجيران يمكنه أن يدنس قطرا بل قارة، بل العالم المتمدن كله، إذ نحن كلنا جيران، بل الأغنياء تنتقل إليهم آثار الفقر السيئة؛ ذلك أنه حين يحدث الفقر وباء معديا، كما هو شأنه على الدوام، إن قريبا وإن بعيدا، فإن الأغنياء يقعون في هذا الوباء ويرون أبناءهم يموتون به، وعندما يحدث الفقر والبطش والجريمة يستولي الخوف على الأغنياء، فينفقون الكثير من أموالهم لحماية أشخاصهم وممتلكاتهم، وعندما يحدث الفقر ألوانا من السلوك السيئ والكلمات البذيئة يتعلم أبناء الأغنياء من أبناء الفقراء هذا السلوك وهذه الكلمات حتى حين يحجبون عن الاختلاط بالفقراء، بل هذا الحجاب نفسه يؤذيهم أكثر مما ينفعهم، وإذا كانت الفتيات الفقيرات يجدن - كما هي الحال - أنهن يحصلن من النقود بالرذيلة أكثر مما يحصلن عليه من العمل الشريف، فإنهن يسممن أجسام الشباب الأثرياء الذين - حين يتزوجون - ينقلون عدوى الأمراض التي وقعوا فيها بالزنا إلى زوجاتهم وأولادهم فيحدثون لهم الأوجاع بل أحيانا العمى والموت، وما كان يقال بأن كل إنسان يمكنه «أن يبقى بعيدا» عما يحدث حوله حتى لا يمسه شيء مما يقع بجيرانه أو حتى بأولئك الذين ينأون عنه بنحو مائة ميل، هذا القول خطأ عظيم؛ فإننا حين نقول بأننا أعضاء مشتبكون في مجتمع؛ فإن قولنا هذا ليس مجرد كلمات يقولها الصالحون في الكنائس، هو حقيقة واقعة؛ لأنه إذا كان يمكن الأغنياء أن يتجنبوا السكنى مع الفقراء فإنهم لا يستطيعون الفرار من الموت معهم حتى يفشو وباء.
ثم علينا أن نذكر أنه ما دام الفقر مقيما بيننا فإننا لن نضمن لأنفسنا ألا نقع نحن فيه؛ لأن الحفرة التي نحفرها لغيرنا قد نقع نحن فيها، وإذا تركنا هاوية غير مسيجة فقد يقع فيها أطفالنا عندما يلعبون، وكثيرا ما نرى لذلك العائلات المحترمة البريئة تقع في حفرة الفقر، وليس هناك ما يكفل لنا ألا نقع نحن فيها أيضا.
ولذلك يجب أن نشرط شرطا محتوما في التوزيع السليم للثروة بأن يحصل كل فرد في الشعب على مقدار منها يكفيه شر الفقر ... إن ما كابدناه من آثار الفقر المريعة، في الفقراء والأثرياء معا، يجب أن يحملنا على ألا نجيز لأحد بأن يكون فقيرا. ويجب، ونحن نقتسم الثروة يوما بعد يوم (في المعاملات والضرائب) أن نترك لكل إنسان ما يكفيه رخاء وكرامة.
ولكن إذا كنا نقول بأنه لا يجوز لنا أن نترك أحدا في فقر؛ فإنه يجب أن نسأل أيضا هل يجب أن نترك أحدا في ثراء؟ هل نجيز الإسراف والترف بعد أن ننتهي من إلغاء الفقر؟ إنك تستطيع أن تعرف الفقر وتجده حين تجوع المرأة، وتلبس الملابس المهلهلة، أو حين لا يكون في مسكنها غرفة مؤثثة بالأثاث اللائق كي تنام هانئة فيها، أو حين تجد أحد الأحياء في المدينة تنخفض فيها سن الموت إلى ما دون السبعين بسنوات كثيرة، أو حين ينخفض وزن الأطفال إلى ما دون الوزن في أطفال الأثرياء الذين يجدون العناية والغذاء، ولكنك لا تستطيع أن تعرف وتجد الآثار السيئة للثراء في الأغنياء بمثل السهولة التي تجد بها الآثار السيئة للفقر في الفقراء.
وأولئك الذين يختلطون بالأثرياء يجدون هذه الآثار السيئة واضحة كل الوضوح، فهم يشكون على الدوام سوء الصحة؛ ولذلك لا يكفون عن الجري وراء الأدوية والعمليات الجراحية المختلفة، وهم حين لا يكونون مرضى يخال لهم أنهم مرضى، وهم في قلق على ثرواتهم وعلى خدمهم وعلى أقاربهم، وعلى استغلال أموالهم وعلى المحافظة على مقامهم الاجتماعي، وحين يكون لهم أبناء عديدون يقلقون لأنهم لن يتركوا لكل منهم ثروة تعادل ثروة أبويهم حتى يعيشوا بعد وفاتهما كما كانوا يعيشون قبلها ... ثم هما يتركان لأبنائهم عاداتهما الباهظة بتكاليفها وأصدقاءهم الأثرياء وديونهما، ولا يكادان يتركان شيئا آخر، وعندئذ تتفاقم حال الأبناء، ثم تنتقل إلى الأحفاد، وهذا هو السبب فيما نرى من رجال ونساء يعشن في تعب وقلق لأن دخولهم دون نفقاتهم؛ ولذلك تزيد تعاستهم على تعاسة الفقراء. •••
إننا نتخلص، عندما نلغي الفقر من جميع ألوان الشقاء الذي يحدثه، وكثيرا ما يلجأ الفقراء، للتخلص من آثار الفقر إلى السعادة المصنوعة كما يلجأ المنتظر لعملية جراحية إلى تبنيج عقله وإحساسه؛ إذ كلاهما لا يستطيع مواجهة الآلام، والكئول الذي يلجأ إليه ملايين الفقراء يمنحهم سعادة مصنوعة، وشجاعة مصنوعة، وسرورا مصنوعا، حتى يتحملوا حياتهم التي لا تطاق في واقعها. والكئول (أي الخمور) هو لذلك نعمة يحرصون عليها. ... ولكن الفقراء عندما لا يتألمون من الجوع الممض أو البرد القارس، ليسوا أقل سعادة من الأغنياء، بل في كثير من الأحوال يكونون أسعد منهم، ويسهل عليك أن تجد ناسا قد بلغوا الستين فزادت ثروتهم إلى عشرة أضعاف ما كانت عليه وهم في العشرين، ولكن ليس فيهم واحد يستطيع أن يقول لك إن سعادته زادت عشرة أضعاف ما كانت عليه، وجميع المفكرين منهم سيقولون لك إن السعادة لا تتوقف على مقدار النقود؛ فإن النقود تستطيع أن تعالج الجوع ولكنها لن تعالج الشقاء، والطعام يمكنه أن يشبع البطن ولكنه لن يشبع النفس، وقد كان الزعيم الألماني الاشتراكي «فرديناند لاسال» يقول إن أعظم ما يكربه حين يحاول إنهاض الفقراء إلى الثورة على الفقر هو أن الفقراء أنفسهم لا يرغبون في إلغاء فقرهم، وليس معنى هذا أنهم راضون، وإنما معناه أنهم ليسوا من السخط على حالهم بحيث يطلبون تغييرها: لقد أذهلهم الفقر وخدرهم.
لقد نقلت قليلا، بل قليلا جدا، مما كتبه برنارد شو عن الفقر؛ فإن مؤلفاته الخمسين أو الستين لا يخلو واحد منها من هذا الموضوع.
والفقر - مثل الغنى - لازمة من لوازم النظام الاقتصادي الانفرادي الذي يدعو إلى التفوق بالمباراة، أي يدعوني إلى أن أسبقك في جمع الثروة وإلى أن أتركك متخلفا فقيرا، ومن هنا مذهب الاشتراكية الذي اعتنقه برنارد شو منذ شبابه، إذ هو مذهب المساواة وليس التفوق، وهو التعاون وليس المباراة.
وقد ارتضت الأديان وجود الفقر وعالجته بالصدقة، ولكن الحكومات المتمدنة تعاقب الفقير المتسول الذي يمد يده للصدقة، وهذا اعتراف منها بأن الفقر جريمة، ولكنها لم تضرب على هذه الجريمة في أصلها؛ لأن مثل هذا العمل يقتضي الإيمان بالنظام الاشتراكي وتطبيقه.
ويدعو شو إلى المساواة في الدخل، كل منا يحصل من الدولة على دخل قدره 500 أو ألف جنيه كل عام بصرف النظر عن ماهية عمله، وقد ترد هنا على هذا الاقتراح بأن هذه المساواة تمنع الرغبة في التفوق وبذل الجهد، ولكن مساوئ التفوق لا تحصى، كما قد رأينا؛ إذ هي تفرض الفقر الفاحش والثراء الفاحش، وكلاهما ضرر، كما أن الإسراف في بذل الجهد يتلف صحة الجاهدين من الأثرياء.
ومع أن شو كان من الداعين إلى التدرج عن طريق الجمعية الفابية الاشتراكية في لندن؛ فإنه - وهو في الحلقة الثامنة من عمره - أصبح من المعجبين بالنظام الاشتراكي في روسيا، ولما زار سدني ويب دول الاتحاد السوفيتي ألف كتابا بعنوان «دولة الاتحاد السوفيتي: حضارة جديدة». وقرأ برنارد شو هذا الكتاب في تجارب الطبع.
ولما مات وجدت صورة لنين على سريره.
وبكلمة أخرى بدأ شو اشتراكيا متدرجا وانتهى شيوعيا ثوريا.
أولى درامات شو
برنارد شو كاتب مسرحي قبل أن يكون أي شيء آخر، وقد جعل المسرح ميدانا للبحوث الفلسفية والمناقشات الاجتماعية، ويبدو من تجاربه الأدبية الأولى أنه لم يكن يهدف إلى هذه الغاية التي أرصد لها حياته أو ستين سنة من حياته؛ ذلك أنه بدأ تجاربه بتأليف القصص التي لم يفلح فيها، ولكنه بعد ذلك اشتغل بالنقد المسرحي فبرزت ميزاته ولفتت إليه أنظار المؤلفين والناقدين.
وفي هذه الأثناء عرف هنريك إبسن، وكان هذا المؤلف المجدد في المسرح الأوربي كشفا عظيما له، وقد تعلم منه شو درسا لم ينسه طيلة عمره، هو أن الدرامة يجب أن تكون للتنوير الاجتماعي الفلسفي وأن ترشد المتفرجين كما لو كانوا في جامعة يتعلمون ويسترشدون.
وبدأ مؤلفاته المسرحية بدرامة عنوانها «حرفة المسز وارينز» وذلك في 1894، وأكاد أقول إن جميع مؤلفات أو درامات برنارد شو بعد ذلك إلى 1959 حين مات، لم تخرج عن موضوع هذه الدرامة، وأعني صميم الموضوع وهو الفقر؛ فقد عاش عمره كله وهو يرى حقيقة بارزة هي أن الفقر أصل لجميع الرذائل في الدنيا، للجهل، والمرض، والإجرام، والخسة، والبغاء، والجبن، والهوان، وسائر الرذائل.
وهذه الدرامة الأولى تبرز نتائج الفقر في أعظم مخازيه، وهو البغاء، أو بالأحرى الاتجار بالبغاء، وقد منع الرقيب في لندن تمثيل هذه الدرامة بضع سنوات بدعوى أنها تتحدى الحياء العام وتفشي أشياء اصطلح الناس على إخفائها، ولكنه عاد فأجاز تمثيلها.
ونحن نجد في الدرامة أثر إبسن في أسلوب المناقشة والوضع المسرحي للممثلين، وهذا غير المشابهة في اختيار الموضوع ، وهو موضوع اجتماعي، وهذه الدرامة تمثل لنا أسلوب شو في التأليف المسرحي، وهو أسلوب لم يتغير في نحو ستين سنة.
أشخاص الدرامة يتحدثون، ومن حديثهم تستنبط ماضيهم وما وقع لهم من أحداث انتهت بالموقف الحاضر على المسرح، وهذه هي طريقة إبسن، والحركة في كل من إبسن وشو قليلة، تكاد تكون معدومة على المسرح، ولكننا نستمع إلى حوار ذكي نفهم منه حياة الأشخاص التي تنتهي إلى الأزمة أو إلى الذروة، وتتضح لنا مشكلة عميقة في الاجتماع يجري الحوار بشأنها كي نصل إلى حل لها أو إلى شعاع يشير إلى الحل.
نحن في بيت ريفي هو كوخ أنيق في حديقة يحيط بها سياج، وقد قعدت آنسة رشيقة على كرسي أمام الكوخ على العشب، وإذا بأحد يستأذن في الدخول ويسأل إذا كان هنا منزل المسز وارينز، وتجيبه الفتاة بالإيجاب، وتفتح له الباب فيدخل.
ونفهم من الأحاديث الابتدائية أن الفتاة «الآنسة فيفيان» كانت طالبة في الجامعة، وأنها تخرجت بامتياز، وأنها ابنة المسز وارينز صاحبة الكوخ، ونفهم أن القادم شاب مهندس يدعى المستر برايد.
وبعد قليل تأتي المسز وارينز يرافقها السير كروفتس، وكلاهما في الكهولة، ولكن صحتهما توهم الشباب، وبين الفتاة الآنسة فيفيان والأم المسز وارينز كلفة بعيدة عن الألفة التي تربط بين الأم وابنتها، وليس هذا غريبا إذا عرفنا أن الفتاة أمضت عمرها الماضي كله تقريبا بعيدة عن أمها؛ إذ كانت هذه الأم في أكثر أوقاتها أو كلها خارج إنجلترا، في بروكسيل أو أوستند أو بودابست لأسباب لا ندريها.
ويدخل البيت زائر جديد هو المستر فرانك ابن القسيس جاردنر، وهو شاب وسيم تلتفت إليه الآنسة فيفيان في حب وإعجاب.
ومع أن الأحاديث تجري بين الجميع في انطلاق ومداعبة فإننا نحس أن الجو مثقل بالأسرار، وأن الآنسة فيفيان تكتم هذه الأسرار، أو هي تشتبه فيها، تحب أن تسأل وتتعرف ولكنها تتراجع وتتحفظ.
ثم يزيد الضيوف واحدا هو القسيس جاردنر، والد الشاب الوسيم فرانك، ولا نكاد نعرف شيئا من الفصل الأول سوى أن القسيس قد طلب إليه أن يستضيف إلى منزله بعض الضيوف لأن الكوخ ليس مجهزا لقضاء ليلتهم، فهم يتركون الكوخ ويقصدون إلى منزله.
ثم تتكشف الأسرار وكأنها كانت خيوطا قد التبست واشتبكت ثم أعيد تنسيقها وترتيبها.
الآنسة فيفيان الجامعية الأنيقة الجميلة هي ابنة المسز وارينز، ولكنها لا تعرف لها أبا، فهي تسأل أمها عنه، ثم هي تجد ثراء ضخما تتقلب فيه أمها ولا تعرف مأتاه، فتسأل أيضا عنه، ثم تتأمل السير كروفتس فتجد فيه رجلا دوارا من تلك الحيوانات التي تحيى في الليل وتنام في النهار وتفتأ تجري وراء الشهوات، وهو يتحدث إلى أمها في ألفة وتفاهم كما لو كانا زوجين.
وتسأل فيفيان أمها: أين أبوها؟ ومن أين تعيش وتنفق؟ وهي تبدي لها شكوكها وشبهاتها.
ولكن المسز وارينز، على الرغم من خسة الحرفة التي تحترفها، لا تزال على شيء كبير من الشجاعة، وهي تهدد ابنتها بقطع معونتها عنها، وتطلب إليها أن تتزوج السير كروفتس الذي أبدى إعجابه بها، ولكن الفتاة ترفض في إباء هذا العرض، وتعود فتلح على أمها في السؤال عن ثرائها، كيف جمعته؟ وهل هذا السير كروفتس كان شريكا لها؟
وتحرج الأم وتعترف بالأسلوب الذي جمعت به ثراءها الملوث، إنها تدير أربعة «فنادق» في بعض المدن الأوربية، وكلمة «فنادق» هنا تتحمل معاني أخرى، إذ إن المسز وارينز تزودها بالفتيات الجميلات من إنجلترا حيث يقدمن إلى الزبائن لهذه الفنادق خدمات أخرى غير ما يفهمه المترددون من الزائرين العابرين الذين لا يطلبون غير المأوى، وتعرف فيفيان أن هذا الثراء الذي تتمتع به أمها إنما جاء عن طريق الاتجار بالرقيق الأبيض.
وتصطدم الأم بالبنت، وتدافع الأم عن موقفها، أي عن حياتها الماضية، وتقص على ابنتها تلك الدوافع التي دفعتها إلى طريق العار هذا، ونجد برنارد شو هنا في موقف الهجوم الذي يقفه في معظم دراماته، وهو أن المجتمع الحاضر يؤدي إلى فقر الكثير من أبنائه، وأن هذا الفقر هو عجلة جميع الرذائل ومنها هذا الاتجار بالرقيق الأبيض الذي تمارسه المسز وارينز التي تقص على ابنتها قصتها.
لقد ولدت في فقر ورأت أقاربها يموتون في الفقر والجوع والمرض، وقد عملت هي وأقاربها هؤلاء في بعض الأعمال الوضيعة التي كانت تطالبهم بمجهود 12 ساعة في اليوم مع أجر لا يزيد على بضع شلنات كل أسبوع، وكانت هذه الأعمال مع إيذائها للصحة وحرمانها للراحة «شريفة».
ولكن أختها «ليزا» رفضت هذا الشرف ومارست عملا محرما، ولكنه مكسب، يعود على الفتيات اللائي يمارسنه بالربح الكبير، وقيل - أو أشيع - أن هذه الأخت قد انتحرت، ولكن الواقع أنها كانت قد اختفت فقط حتى لا تثير غضب أسرتها أو فضيحتها.
أما المسز وارينز فكانت - وهي فتاة - قد احترفت عملا في حانة، ليس شريفا كل الشرف ولكنه بعيد عما انحدرت إليه اختها، وذات يوم وهي في «البار» تناول الشاربين كئوسهم المترعة بالخمور، إذا بأختها ليزا تدخل لتناول كأس من الوسكي وهي في أبهة من الجمال واللباس والفخامة.
وتلاقت الأختان وجرى الحديث بينهما، ثم استؤنف، وانتهت المسز وارينز إلى الأخذ بطريقة أختها في الحياة، وانهالت عليها بعد ذلك الأرباح التي أمكنتها من أن تحيى حياة المترفين وأن تعلم ابنتها في جامعة، وهي تذكر فضل السير كروفتس الذي ساهم في أعمالها بأربعين ألف جنيه.
أربعون ألف جنيه كان يحصل هو منها على ربح سنوي قدره 35٪ وكانت هذه الأعمال لا تزيد ولا تنقص عن البغاء، أي الاتجار بالرقيق الأبيض في تلك «الفنادق» المزعومة في مدن أوربا.
وتعرف فيفيان هذه الحقائق، وتسمع دفاع أمها عن سلوكها، وتعرف أنه لولا هذه الحرفة الساقطة لما استطاعت أمها أن ترسلها إلى الجامعة، ولكنها تسأل: من أبوها؟ وتراوغ الأم في الإجابة.
ولكن «فرانك» الشاب الوسيم يتحبب إلى فيفيان التي تستجيب لحبه وتلاطفه في رقة ولطف، وتجد الأم هذه العلاقة بين ابنتها وابن القسيس، فتنكرها، وتدعو ابنتها إلى الزواج من السير كروفتس شريكها في البغاء، ولكن فيفيان ترفض وتصر على حبها لفرنك ابن القسيس.
ويدخل القسيس فتخبره المسز وارينز بأن ابنتها تحب ابنه وأنهما يسعيان لعقد الزواج، ويرتاع القسيس، وتتحداه المسز وارينز، وكأنها تتحدى رياءه، بل تتحدى الأخلاق العامة التي تجري في الظلام بغير ما تبدو به في النور أمام الناس، وتتابع الأحاديث فنفهم أن فيفيان هي ابنة القسيس الذي كان في بعض صبواته قد أحب المسز وارينز وأعقب منها هذه الفتاة بالزنا.
فيفيان وفرانك أخوان، ولكنهما لا يعرفان ذلك.
وأخيرا وبعد هذه الارتباكات تعترف المسز وارينز بكل شيء وتبوح لابنتها بأن أباها هو القسيس.
وفي غفلة من الجميع تفر فيفيان إلى لندن حيث تعمل في أحد المكاتب بأجر شهري متواضع، وتحس أنها قد نجت بنفسها من هذا الوسط الموبوء وأنها ستستقل وتعمل وتحيى حياتها كما تحب.
ولكن ما هي العبرة التي أراد برنارد شو إبرازها؟
نجد العبرة على لسان السير كروفتس الذي يطلب يد فيفيان فتأبى عليه لأنه رجل قد سقط شرفه بالاشتراك مع أمها في إدارة «فنادق» للدعارة، فهي تقول له:
كانت أمي فقيرة قد حطمها الفقر فلم يكن أمامها سوى هذا السلوك الساقط، ولكنك أنت كنت رجلا ثريا فسلكت سلوكها كي تربح 35٪؛ ولذلك أعدك وغدا من الأوغاد، وهذا رأيي فيك.
ويرد عليها السير كروفتس رد العارف بشئون المجتمع الساخر بنفاق الناس، فيقول:
قولي ما تشائين يا آنسة؛ فإنك تسلين نفسك ولا تؤذينني، ولماذا لا أستغل أموالي بهذه الطريقة؟ فأنا أحصل على الفائدة من أموالي كما يفعل غيري، وأرجو ألا تعتقدي أني ألوث يدي بالعمل الذي تستغل فيه أموالي، وأظن أنك لن ترفضي التعرف إلى ابن عمي الدوق بلجرافيا لأنه يجمع الإيجارات من ممتلكاته التي تستعمل في أغراض غير مألوفة، ولن تقاطعي أسقف كانتر بري لأن الخمارين وغيرهم من الخطاة يسكنون في عقاراته ويؤدون له الإيجارات عنها، وهل تعرفين الجائزة السنوية، جائزة كروفتس، في كلية نيونهام؟ إن الذي وقفها على الكلية شقيقي عضو البرلمان، وهو يحصل على ربح قدره 22٪ من المصنع الذي تعمل فيه 600 فتاة ليست منهن واحدة تحصل على أجر يكفي قوتها، وكيف تعيش هؤلاء الفتيات إذا لم تكن لهن عائلات يعتمدن عليهن؟ اسألي أمك. وهل تنتظرين مني أن أولي ظهري لربح يبلغ 35٪ في حين يجمع غيري المئات والألوف كما يفعل العقلاء؟! لا، لست أبله إلى هذا الحد، وإذا كنت أنت تنوين اختيار الأصدقاء والمعارف على أساس من المبادئ الأخلاقية، فخير لك أن ترحلي عن هذه البلاد، إلا إذا كنت قد قررت الانفصال من المجتمع الراقي.
وترد فيفيان عليه وكأن ضميرها قد نخسها:
وإنك لتستطيع أن ترد علي بأني أنا نفسي لم أسأل: من أين جاءت النقود التي كنت أنفقها؟ واعتقادي أني أنا وأنت سواء في الرذيلة.
فيجيب السير كروفتس بعد أن اطمأن:
وليس شك أنك كذلك، وهذا حسن، وأي ضرر في هذا؟ (ويتابع حديثه في لهجة مازحة) والآن، وبعد أن فكرت، هل تعدينني وغدا من الأوغاد، أليس كذلك؟
فيفيان :
لقد اقتسمت الأرباح معك، وأوضحت لك عن رأيي فيك.
كروفتس (في لهجة الصداقة) :
هذا صحيح، ولن تظني بي سوءا، ولأصرح لك بأني لست أتعالى بالذكاء ولكني على شيء كبير من الإحساس الإنساني، وأسرتنا جميعا تكره الخسة، وهذا ما أعتقد أنك تعطفين علي بشأنه، صدقيني يا فيفيان إن الدنيا ليست من السوء كما يزعم الساخطون عليها، وما دام أحدنا لا يتحدى المجتمع فإن المجتمع لا يسألنا سؤالا تربكنا الإجابة عليه، وليس هناك من الأسرار ما يبقى في الخفاء، مثل تلك الأسرار التي هي موضوع ظنوننا وشبهاتنا، وثقي أننا عندما نتزوج فإن الطبقة التي أقدمك لها لن تجرؤ سيدة أو سيد منها على أن ينسى أحدهما نفسه حتى يتحدث معك عن أعمالي المالية، وعلى ذلك لن تجدي من يستطيع أن يكسبك الطمأنينة والأمن مثلي.
فيفيان (وهي تدرس وجهه ونفسه) :
أظن أنك تعتقد أنك بحديثك هذا قد أقنعتني وأرضيتني.
كروفتس :
بعد هذا الذي قلت، أظن أن لي الحق في أن أرضى عن نفسي وأن أقول إنك تحسنين بي الظن الآن أكثر من قبل.
فيفيان (في هدوء) :
لا أجد أنك جدير بأن أفكر فيك، وعندما أفكر في المجتمع الذي يتسامح في وجودك، وفي القوانين التي تحميك، وفي الفتيات التسع أو العشر اللائي يؤدي عجزهن إلى الوقوع بين يديك أو بين يدي أمي، هذه المرأة التي يتعفن اسمها مع الذي يمولها ...
كروفتس (في غيظ) :
لعنة الله عليك. (وينتقم كروفتس منها بأن يقول لها قبل أن يغادرها):
سأقول لك شيئا قبل أن أذهب، ولعلك تهتمين بهذا الشيء ما دمت تغرمين به كما يغرم بك، إن المستر فرنك هو أخوك، أو هو نصف أخ من الأب القسيس جاردنر، هو أخوك يا فيفيان. (ويخرج) .
ولم يعد في الدرامة سوى اللمسات الأخيرة؛ فإن الحب الذي كان بين فيفيان وفرانك، وكان على وشك أن يؤدي إلى الزواج قد انتهى أمره وأصبحا صديقين بعد أن كانا محبين. وتنتهي فيفيان إلى مقاطعة أمها وإلى السفر إلى لندن حيث تعمل بكد ذهنها وعرق جبينها لأن تعيش مستقلة.
والقارئ هنا يحس مضضا من هذه الدرامة التي يحاول فيها المؤلف أن يقنعنا بأن الفساد المختفي في المجتمع لا يجد من يفشيه بل يجد الاحترام، أليس كروفتس قد حاز على لقب سير؟ وأليس هو على حق بأنه ليس هناك من يسأله: من أين جمعت أموالك؟ وأليست المسز وارينز محترمة مرفهة مترفة؟ وأنها لولا ما جمعته من البغايا لما استطاعت تربية ابنتها في جامعة؟ بل أليس من الحق أيضا أن أصحاب الحانات والمتاجر الأخرى يستخدمن الفتيات الوسيمات لجلب الزبائن؟
وما سبب هذا الفساد كله؟ ما الذي يغري عليه؟ السبب هو: الفقر. ثم الفقر. ثم الفقر.
التربية مهمة العمر
المفكر العظيم هو الذي يبقى طيلة عمره طالبا يدرس ويواصل الجديد في الثقافة ويلم بالكشوف الجديدة في العلم؛ ولذلك ليس هناك مفكر لا تشغله مشكلة التربية؛ كيف يربي نفسه؟ وماذا يختار؟ وما هي الثقافة الأصلية التي يحتاج إليها في حياته وينضج بها ذهنه؟ وما هو الفرق بين التعليم والتربية؟
كل هذه مشكلات قائمة، بل بارزة في أذهان المفكرين، ولست تجد واحدا منهم إلا وله فيها رأي بل آراء، إذ هي تمس شخصه في ارتقائه الذهني كما تمس الشعب بل البشرية التي ينتمي إليها.
إن برتراند رسل الفيلسوف الإنجليزي قد أسس مدرسة وعلم فيها في بعض سني حياته، وألف كتابا عن «التربية».
وه. ج. ويلز الأديب الإنجليزي الذي مات قبل سنوات قد ألف كتابا عن مدرسة ساندرسون التي اختطت خططا جديدة وجعلت التربية منهجا بدلا من التعليم، بل إن معظم مؤلفات ويلز تنحو إلى التوجيه في التربية الشخصية والشعبية والعالمية، وهو لم يؤلف كتابه العظيم عن تاريخ العالم إلا وهو يسترشد بفكرة التربية لقرائه، بل التربية الإنسانية، حتى يخرج هذا القارئ من حدود الوطنية إلى رحابة العالمية، وقصصه هي مشروعات للتربية.
وما زلت أذكر وصف ه. ج. ويلز للسياسي المشهور جلادستون بأنه رجل ناقص التربية؛ لأنه لم يكن يعرف العلوم ولم يستنر ذهنه بكشوفها في أصل الإنسان وسعة الكون وأسسه الاقتصادية ونحو ذلك، وهذا على الرغم من أنه كان يتقن اللغتين القديمتين الإغريقية واللاتينية.
لقد كان العلم والتاريخ مصباحين استرشد بهما ويلز في التوجيه البشري وألف عنهما كثيرا، بل أكاد أقول إنه لم يؤلف غيرهما؛ لأن قصصه نفسها تنزع إلى هذا التوجيه، وكانت دراسة التاريخ عنده وسيلة إلى الوحدة البشرية التي تسمو على الاختلافات المذهبية واللونية والجغرفية: لغة واحدة وعالم واحد، بل إنه ليسمي هذا العالم «قريتنا الكبرى».
ولما قارب الموت كان أعظم ما تعذب به تلك القنبلة الذرية التي حطمت أحلامه وجعلته يحس الخطر منها في انقراض الحضارة والإنسان، مع أني أعتقد أن لهذه القنبلة وجها، هو تعميم السلم وتعمير الدنيا وإلغاء الحرب؛ ذلك لأن خطرها أكبر من أن يتيح لإحدى الدول التفكير في الحرب التي قد تقضي عليها كما تقضي على العدو، ثم تنتشر كالوباء المميت إلى سائر أنحاء هذا الكوكب.
وقد دأب ويلز في شرح الدلالات الجديدة من العلم، وكان على الدوام يوضح لنا التخلف في العلوم الاجتماعية عن العلوم المادية، وما يحمل هذا التخلف من أخطار فادحة للبشر، فإن المجتمعات القديمة والأخلاق القديمة التي تحمل أعباء من الأساطير والعادات والامتيازات والاحتكارات، لا ترتفع إلى ما سما إليه العلم من ابتكارات للقوات الجديدة التي قد تعمر الدنيا وتحيلها إلى جنة، أو تدمرها وتحيلها إلى جهنم.
ومصداق هذه الأقوال يتضح في أيامنا عندما نتأمل السياسة؛ فإن مشكلة السويس لم يكن فيها ما يشكل أقل الإشكال لو أن الساسة الأوربيين كانوا على شيء من التربية، فقد أوشكوا على أن يجروا العالم إلى الحرب عامة لأنهم - كما كان يمكن لويلز أن يقول - يجهلون التاريخ وإنسانيته والوحدة البشرية فيه، كما يجهلون العلم وقواته للتعمير والتدمير.
فقد تعلم هؤلاء الساسة الأوربيون في المدرسة والجامعة، ولكنهم لم يتربوا، ولم تحس نفوسهم إحساس الإنسانية.
والتعليم هو مهمة المدرسة والجامعة، ولكن التربية هي مهمة العمر كله، وتربية بلا تعليم خير ألف مرة بل مليون مرة من تعليم بلا تربية، وحسبنا برهانا أن أحد خريجي كلية الحقوق في القاهرة ألف في الشهر الماضي (1957) كتابا يخبرنا فيه عن العفاريت والجن والشياطين، كيف تتزواج، وكيف تتوالد، ولماذا يزيد عددها على المصريين (من الإنس).
التربية ثقافة ننشدها، ونتحرى الصحيح منها، ونغيرها، ونتطور بها، ونحيا على أصولها طيلة العمر، وهي تبدأ بعد الجامعة أو المدرسة، بل تبدأ قبلهما أو بدونهما، ولكن الجامعة والمدرسة لن تستطيعا تحمل عبء التربية، إذ هما تعلمان فقط.
لقد كان برنارد شو حكيم العصر منذ نصف قرن، ومع ذلك لم يحصل من التعليم المدرسي على أكثر من مستوى السنة الثالثة الابتدائية، وإنما وصل إلى الحكمة لأنه اعتمد على «التربية الذاتية»، فاختار من الكتب، ومارس من الأعمال الأدبية والفلسفية، ما أنضج به ذهنه وقدس به حياته، فكان في تفكيره وسلوكه مثالا للثقافة العالية حتى ارتفع في أخلاقه إلى القيم العالية في الإنسانية والفن وفهم الدلالات في شئون هذا العالم.
أجل، يجب ألا نقتصر على الفهم؛ إذ علينا أن نرتفع إلى الدلالة؛ فإن أبلد البلداء يمكنه أن يفهم ولكنه يعجز عن الوصول إلى الدلالة فيما يفهم.
ما هي دلالة مشكلة قناة السويس في سياسة العالم؟
ما هي دلالة كتاب العفاريت في برنامج التعليم في كلية الحقوق، وأيضا في المجتمع المصري الحاضر؟ إن المفكرين الناضجين يضعون أصابعهم على الدلالة.
لقد كتب برنارد شو كثيرا عن التربية، وكانت علامة الاستفهام البارزة في حياته هي هذا السؤال: هل ربيت نفسي؟ هل الدولة تربي الشعب؟
وقد خلص من تأمله لهذا الموضوع إلى أن الأقدار قد حابته لأنه لم يتعلم في مدرسة أو جامعة وإنما علم نفسه؛ وذلك لأنه كان يدرس بعد الاختيار، وكان يختار وفق حاجته الذهنية كما يختار الجائع الطعام الذي تشتهيه نفسه، ولكن المدرسة أو الجامعة تعطينا أحيانا ما لا نشتهيه ولذلك قد نعجز عن هضمه.
وهناك بالطبع مواد من المعارف نحتاج إلى أن نتعلمها بالإغراء أو الإجبار، مثل القراءة والحساب والجغرافيا، وأمثال ذلك من المعلومات التي لا نستطيع أن نقرأ جريدة أو نتحدث في فهم أو نرتقي إلى المستويات العليا من الثقافة بدونها، ثم هناك معارف أخرى يجب أن يعرفها كل شاب أو فتاة إجبارا، مثل تلك التي تتصل بالصحة الجنسية، وصلاح الرجل أو المرأة في التناسل، والأمراض الوراثية التي تؤذي الأجنة وتعقب العاهات، وكذلك الأمراض الزهرية التي تنتقل عدواها إلى الأبناء.
ولكن إجبار التلميذ على حفظ الأدب أو الشعر أو الفنون، التي قد لا يكون هو أهلا لأن يفهمها، هو إضاعة للوقت والجهد، كما أن هناك من الشئون الثقافية ما لا يجوز أن تعلمه المدرسة أو الجامعة، مثل العقائد أو الأخلاق، إلا إذا جعلت هذا التعليم خاضعا للمناقشة والمناقضة من جانب التلاميذ؛ وذلك لأن هذه العقائد والأخلاق لم تكن قط ثابتة عند أية أمة، وإنما كانت في تغيير دائم، والأمة المتطورة يجب أن تكون مستعدة على الدوام للتغيير والتحسين في عاداتها الذهنية، أي العقائد والأخلاق الموروثة أو ما نسميه تقاليد. بل إن شو ليصرح في أسلوبه المسرف بأن الأمة الراقية يجب أن تنقح دينها مرة على الأقل كل عام.
ويحمل برنارد شو على التعليم المدرسي والجامعي بأنه لا يتقدم على المجتمع ولكنه يتأخر عنه، ويضرب المثل بتعليم اللغة اللاتينية إلى وقت قريب في جامعة أكسفورد، وإلى تأخر العلوم العصرية فيها، بل هناك ما هو أكثر من ذلك في جمود المدارس والجامعات؛ ذلك أنها - لانتمائها إلى الحكومات واعتمادها على الحصول على أموالها منها - ترفض ذكر الأحرار الذين قاموا بالثورات؛ فإن «وشنطن» الذي حرر أمريكا من الاستعمار البريطاني، وكذلك «توم بين» داعية الثورة على العرش البريطاني، بل كذلك «فولتير» و«روسو» كانوا منفيين لا تذكرهم كلية في جامعة لأنهم كانوا ضد الدولة أو كانوا في رأي أساتذتها ملحدين أعداء للبشر والدين.
ويقول هنا برنارد شو:
إذا كنا سنعلم الصبيان أشياء تتجاوز مجرد القراءة والكتابة فيجب علينا أن نعلمهم علم الفلك العصري منذ كوبير نيكوس، وكذلك الفيزياء الإليكترونية ونظرية التطور، وليس من الحكمة أن نقود الصبي في الساعة العاشرة في الصباح إلى حصة ما كي يقول له القسيس إن الأرض مسطحة وثابتة لا تتحرك، وإن السماء سقف فوقها حيث توجد جنة مؤثثة كما لو كانت قصرا ملوكيا. ثم في الساعة الحادية عشرة نقوده إلى حصة أخرى حيث يقول معلم الفيزياء إن الأرض كرة تدور حول نفسها على محورها، وإنها تدور حول الشمس في فضاء لا نهاية له، وإن هناك ألوفا من الأجسام مثل الأرض تفعل مثل ذلك، وليس من العقل كذلك أن نلقن الصبيان في حصة الدين أن جميع الأحياء بأشكالها المختلفة قد خلقت في ستة أيام، وأن من هذه الأحياء امرأة كاملة صيغت من ضلع، فإذا دقت الساعة لحصة أخرى تناولنا الصبيان بالشرح لملايين السنين التي انقضت في تجارب لإيجاد أشكال عديدة من الأحياء من العمالقة الضخمة إلى أحياء صغيرة لا تراها العين، وهي تجارب انتهت إلى شكل مركب لا نستطيع بأية حال أن نقول إنه حسن، هو المرأة.
وفي هذه الكلمات التي نقلناها من كتاب «مرشد المرأة إلى الاشتراكية والرأسمالية» يحاول برنارد شو أن يبين التناقض بين الثقافة القديمة التي لا تزال حية في المدارس إلى جنب الثقافة الجديدة التي تصطدم بها، وما يعقبه هذا الاصطدام من بلبلة في عقول الصبيان والشباب تحول دون الفهم الصحيح.
ويزيد برنارد شو في الشرح فيقول:
إننا نعلم الجهل في المدارس، ونجعل منها مستودعات لقاذورات للقرون الماضية وللخرافات الهمجية، بل إننا نعاقب من يدعو إلى إلغائها.
ومع أن كلماته هنا قاسية، بل أحيانا فظة، فإنها لا تستغرب منه؛ إذ هو رجل جديد يدعو إلى دنيا جديدة ويحاول أن يحقق هذه الدنيا بالتعليم، وهو يخلص من هذا إلى أن الرجل المثقف في عصرنا إنما يصل إلى هدفه ومجهوده الشخصي وليس بالتعليم الجامعي، وهو بالطبع لا ينكر قيمة الجامعات والمعاهد في التعليم الفني الذي يحتاج إلى المعامل والتجارب، ولكن هنا تعليم للتخصص وليس ثقافة عامة تجعل المثقف حكيما مفكرا في الحياة يستوعب المعارف ثم ينظمها في ذهنه ويقارنها ويستنتج منها فهما للكون والإنسان وحكمة للعيش.
أين الدين في التربية؟
يجيب برنارد شو على هذا السؤال بأن رجلا بلا دين هو رجل بلا شرف.
والذي يجب ألا ننساه أن الثقافة مكفولة لكل من يطلبها في أوربا بحيث يمكن الذين حرموا الجامعة أن يجدوا في مئات وألوف الكتب ما يربيهم ويساعدهم على تعيين القصد في الحياة، فهل الحال كذلك عندنا؟
أعتقد أن الثقافة الصحيحة ليست مكفولة بالمؤلفات في مصر أو في أي قطر عربي آخر، ولكن بعضها مكفولة، ومشروع «ألف كتاب» الذي تقوم به وزارة التربية في الوقت الحاضر بغية نقل الكتب النافعة إلى لغتنا هو خطوة، بل وثبة نحو الأمام نحو إيجاد ثقافة عصرية يستطيع عامة القراء أن يجدوا عن سبيلها التربية التي ينشدونها.
هذه الكتب ليست للتعليم وإنما هي للتربية، هي إنسانية، هي دين يرشدنا إلى المستقبل.
ولكن هل الكتب هي كل ما يربينا وكل ما يثقفنا؟
إن التربية أكبر من الكتب؛ إذ هي أيضا اختبارات وتجارب حتى ليمكن الأمي الذكي أن يحصل على تربية عالية ولو لم يقرأ كتابا، وبالطبع كانت تربيته تكون أفضل وأعم وأسمى لو أنه كان يقرأ الكتب، ولكن هناك أفذاذا، اختبروا الدنيا، يعدون من أسمى الناس إنسانية وصلاحا، مثل أكبر خان السلطان المسلم في الهند؛ فإن هذا الأمي كان فيلسوفا من الطراز العالي، وتجربته الدينية التي قصد منها إلى الإخاء البشري ، لا تزال محل الإعجاب من جميع المفكرين، حين أراد أن يستنبط دينا من الأديان الإلهية الثلاثة، ولكن هؤلاء أفذاذ، والثقافة التي تهدف إلى التربية لا تزال تحتاج إلى الكتب.
ما هو القصد من الثقافة، من التربية؟
هو أن أستطيع الإجابة على هذا السؤال: من أنا؟ من أنا في هذا الكون؟
هو أن أبلغ يقظة الوعي الكوني بالفهم، هو أن أحيا الحياة الإنسانية، وأن أحس الفهم ليس للإنسان فقط بل للكون كله.
هو أن أزيد وعيي للإنسان والكون.
هو أن أجد القصد في الحياة.
ولذلك نقول إن التربية هي مهمة العمر.
فكرة السبرمان عند شو
عندما أتأمل التفكير الفلسفي عند المفكرين الملهمين الذين أخصبوا الثقافة البشرية وبعثوا النمو في براعمها وولدوا فيها، أجد أنهم - أي هؤلاء المفكرين - أطفال يفكرون تفكير الأطفال ولكن على مستوى عال.
ذلك أن تفكير الأطفال يتسم بحرية مطلقة لا تعرف القيود الاجتماعية أو التحفظات العرفية، حتى ليسألك الطفل حين تقول له «إن الله خلق العالم»: أين الله؟ أين مسكنه؟ ماذا يلبس؟ ونحو ذلك مما نتأفف منه ونمنعه عن المضي في السؤال عنه.
والرجل المفكر يسأل مثل هذه الأسئلة ولكن على مستوى عال: كيف نشأ الكون؟ ما هو أصل المادة؟ ما هي نهاية الكون؟ ماذا بعد الموت؟ ما هو مستقبل الإنسان بعد مليون سنة؟ ونحو ذلك.
والرابطة بين الطفل الساذج والمفكر الناضج هي أن الاثنين يفكران في حرية مطلقة؛ فالطفل حر لأنه لا يعرف القيود الاجتماعية، والمفكر حر لأنه يجد نفسه مضطرا إلى التخلص من هذه القيود كي يحسن التفكير.
وهذا هو ما نجد في برنارد شو، طفل كبير يسأل أسئلة الأطفال ويجيب عليها إجابة الفلاسفة، ومن قبله فعل مثل ذلك «نيتشه».
كلاهما سأل عن السبرمان؛ أي الإنسان العالي.
والفكرة في الإنسان العالي نشأت في ألمانيا منذ انتشى الألمان بحياة أديبهم وعالمهم وفيلسوفهم «جوتيه»، فقد عاش هذا العظيم نحو ثمانين سنة وهو يمارس أنواعا من النشاط العالي في مختلف الثقافات، يجمع بين الفن والعلم، والشعر والسياسة، والأدب والدين ، ويستنبط من كل هذه الأشياء حكمة للعيش وبصيرة لماضي الإنسان ومستقبله.
فلما مات أصبحت حياته أسطورة يقرأها الشباب ويتأملها الشيوخ، ويعكسون تفاصيلها على ما يلابسهم من ظروف وما يستجيبون له من أحداث، ويسألون عن ارتقائهم في ضوء شخصيته، وأصبح جوتيه الرجل المثالي.
وكان جوتيه السحر الذي سحر «نيتشه»، ولم يعد عنده الرجل المثالي فقط بل صار السبرمان (فوق الإنسان).
ودعا نيتشه خاصة المثقفين إلى أن يكون كل منهم سبرمان يترفع عن الأخلاق العامة ويسن لنفسه أخلاقه الخاصة، فكان بذلك وجوديا يقول باستقلال الشخصية، وبأن المجتمع يجب ألا يغرقنا في عاداته وتقاليده وأخلاقه.
هذه هي الفكرة الأولى عن السبرمان عند نيتشه: فكرة وجودية أساسها عظمة جوتيه الذي ارتفع في حياته حتى كاد يكون إنسانا أعلى فوق الإنسان العادي.
ثم درس نيتشه فكرة التطور من «داروين»، فقال: كما أن الإنسان أعلى من القردة التي ينتسب إليها، كذلك يجب أن يتطور البشر إلى السبرمان الذي يعلو على الإنسان.
ولكنه مع ذلك لم ينس جوتيه، بل لقد ذكر اسمه إلى جنب اسم داروين، ورفعه فوق داروين.
لقد كان جوتيه حبه الأول: حبه الأعلى، ولكن منذ داروين أصبحت فكرة السبرمان هي الفكرة الإيجابية في نظرية التطور؛ إذ عرفنا أن الأحياء على الأرض لا يزيد عمرها على 700 مليون سنة.
بدأت حقيرة كالفيروس الذي لا نستطيع أن ننظمه في الجزئيات المادية أو في عداد الخلايا الحية؛ فإنه يجمع بين خصائص الاثنتين، ثم «ترتقي» الأحياء إلى الخلايا المفردة، فالخلايا المشتركة في جسم واحد، فالأحياء الكبيرة مثل القناديل، ثم تشرع خصائص الحياة العالية تظهر في أعضاء الحواس، ثم يتفرع الأحياء فرعين أحدهما نحو المفصليات التي تنتهي بالحشرات والعناكب، واعتمادها الأكبر على الغرائز، والآخر نحو السمك الذي ينتهي بالإنسان واعتماده الأكبر على العقل.
وكان من المعقول المتوقع أن يتساءل الناس أو المثقفون: إذا كان هذا أصلنا فما هو مستقبلنا؟ أليس الإنسان حلقة في سلسلة طويلة من التطور مضت منها جملة حلقات وبقيت منها جملة حلقات أخرى هي تطور الإنسان في المستقبل؟
أو كما قال نيتشه: «الإنسان جسر تعبر عليه الطبيعة من القرد إلى السبرمان» و«الإنسان يجب أن يعلى عليه» و«الإنسان يجب أن يزول كي يأخذ مكانه السبرمان.»
الفكرة جليلة ومخصبة لأنها تبعث التفكير في كل وقت ومكان عن الإنسان الحاضر وإلى أين يتجه؟ هل هو يسير نحو الانقراض كما حدث للدينصور؟ هل هو وقف عن التطور؟ هل سيتطور إلى إنسان آخر أعلى منه؟ إلى السبرمان؟ •••
التطور عند برنارد شو ديانة، وكثيرا ما يقول: «ديانة التطور»، وهو الديانة البيولوجية القائمة على أصل الإنسان واتجاهه ومستقبل كفاءاته الجنسية والغريزية والذهنية.
والتفاتات برنارد شو إلى الناحية البيولوجية كثيرة، فإنه مثلا يقف عند قصة لوط وكيف خدعته ابنتاه حتى حملتا منه، فيشيد بهذا العمل ويجد فيه سموا لأن فيه دلالة البقاء بالتناسل، حتى ولو كان هذا البقاء يخالف العرف العام والأخلاق السائدة؛ إذ لو لم تسلك ابنتا لوط هذا السلوك لانقرضت سلالته، وهو حين يتحدث عن الزواج يقول بأنه - أي الزواج - ليس من حق كل إنسان، وأن الناس يسرفون في الإقبال على الزواج؛ إذ يجب أن يقصر على أقلية تتمتع بكفاءات إنسانية تستحق التخليد في الأبناء والأحفاد.
وهو ينشد السبرمان الذي يجب أن نستولده من الإنسان الحاضر على سبيل التدرج، وهو يفكر هنا تفكير الأطفال، أي إنه ينسى أنه في مجتمع متمدن له قوانين وأوضاع ويجري على عرف وأخلاق.
وهو بالطبع يخبط، ولكنه لا ينسى الهدف وهو يخبط، بل إنه لا يمكن أن يفكر في هذا الموضوع بلا خبط؛ إذ ليس هناك طريق ممهد إليه؛ لأن معلوماتنا الحاضرة قاصرة، والأرض بكر لم تطأها قدم أحد قبله إلا نيتشه، ولكن نيتشه لم يشرح لنا النظام الذي يحملنا إلى السبرمان، وقصارى ما قال إن بين البشر صقورا وعصافير، ومن حق الصقور أن تأكل العصافير، ومن مصلحة الإنسان أن يأكل قويه ضعيفه؛ لأن في هذا ارتقاء نحو القوة.
برنارد شو في عمله.
السبرمان عند نيتشه يتحقق بمذهب القوة ومطاردة الضعيف ومحوه، مذهب تنازع البقاء والبقاء للأقوى.
إلين تري.
ولكن نيتشه لم يقل لنا ما هي القوة التي يريدها؟
وحين يشرع برنارد شو في معالجة هذا الموضوع يذكر أولا أن الارتقاء البشري وهم أكثر مما هو حقيقة؛ وذلك لأننا ارتقينا في الوسط ببناء المدن وزراعة الأرض واختراع الآلات، ولكن أجسامنا وغرائزنا لا تزال كما كانت قبل مليون أو نصف مليون سنة، والارتقاء الصحيح يجب أن يتناول أجسامنا وعقولنا وغرائزنا.
إننا لا نزال نسلك بغرائزنا سلوك الحيوان.
ولا تزال عقولنا عاجزة عن الفهم السليم لقلة ما نتمتع به من ذكاء.
وليم آرشر.
ولا تزال أجسامنا عرضة للأمراض وأعمارنا قصيرة.
ولذلك يجب أن يتغير الإنسان؛ أي يتطور نحو السبرمان.
إن عندنا من القوانين ما يكفنا عن ارتكاب الجريمة وممارسة الرذيلة، ولكن هذه القوانين لا تدل على ارتقائنا؛ لأن القوانين قفص يحبسنا عن الانطلاق نحو الرذيلة والجريمة، ونحن منها بمثابة الأسد في القفص لا يؤذي الناس لأنه محبوس، ولكنه لو انطلق لغاث وافترس.
وإنما يكون الإنسان راقيا حين تتطور غرائزه فتكف عن الجرائم والرذائل دون خوف من قوانين؛ أي يجب أن نصل إلى الإنسان الذي يسلك السلوك الحسن، ويعزف عن السلوك السيئ، عفو طبيعته وليس خوفا من عقوبة.
وهو هنا يعود طفلا يتحدث وكأنه لا يبالي المجتمع، فيقترح الفكرة دون الخطة، ويلقيها على عواهنها كي يبحثها غيره أو كي تكون إيحاء وإيماء لمن يفكرون بعده، فيضرب المثل بالفلاح الإنجليزي الذي تبدو عليه متانة الأعضاء وصحة الأجهزة الفسيولوجية فيقول بزواجه من المرأة النحيفة الذكية، فسيكون من هذا الزواج نسل يجمع بين صحة الجسم وذكاء العقل.
وهو يحرص على أن يقول إنه يقدم فكرة للبحث وليس خطة للعمل. •••
إن داروين هو الموحي للفكرة التي يقول بها برنارد شو.
هنريك إبسن.
وحوالي سنة 1900 نشأت في لندن جمعية، لا تزال حية، تسمى الجمعية اليوجنية، غايتها إصلاح النسل بالوسيلتين، السلبية والإيجابية، وهدفها الارتقاء في المادة البشرية بحيث يعلو الجيل القادم على الجيل الحاضر ويستمر الارتقاء جيلا بعد جيل.
وكان هدفها، ولا يزال، منع الناقصين من التناسل وإن أجيز لهم الزواج، وذلك بالتعقيم الذي يتيح الاتصال الجنسي ولكن بلا إخصاب، فأولئك الذين يولدون بعاهات وراثية مثلا يعقمون، وهذه هي الوسيلة السلبية للارتقاء، أما الوسيلة الإيجابية فتكون بتشجيع الأكفاء على الزواج والتناسل.
وبمرور الزمن، نحو ألف أو عشرة آلاف سنة، تظهر النتائج الحسنة لهاتين الخطتين، السلبية والإيجابية، بحيث يظهر جيل يخلو من العيوب الوراثية في الجسم والعقل، كما أن الصفات الحسنة يتأكد ويكثر وجودها في الأفراد لتشجيع الأصحاء على التناسل.
وواضح أن الفكرة موحاة من نظرية داروين، ولم تجد هذه الجمعية التأييد من العلميين، وإن وجدت من الحكومات اتجاها نحو تعاليمها، وأعظم ما صد العلميين عنها أنها جعلت الارتقاء موقوفا على الوراثة، وكأن الوسط لا قيمة له في ترقية الأفراد، فهي داروينية أكثر مما هي لاماركية.
وقد صد عنها برنارد شو لهذا السبب.
ولكنه مع ذلك في مسرحيته «الإنسان والسبرمان» يهدف إلى إيجاد نوع جديد من البشر له خصائص عالية في الصحة والذكاء والتعمير، وهو يومئ إلى الطريق للوصول إلى هذا الهدف، ولكنه لا يفصل ولا يوضح.
والذي لا شك فيه أن الوسط يغير الأحياء بتغيره، فبقرة البحر الميرميد التي تكثر في البحر الأحمر، كانت قبل نحو 30 أو 40 مليون سنة بقرة سوية تسير على اليابسة وترعى الأعشاب، ثم وجدت من الظروف ما حملها على أن تأكل أعشاب البحر التي تطرحها الأمواج على الشاطئ، ثم تدربت على البقاء في الماء والسباحة فيه، والسباحة تقتضي الاستغناء عن الساقين مع بقاء الذراعين وحالتهما إلى زعنفتين حتى تتخذ شكل السمكة.
وهذا هو ما حدث للميرميد التي لم يبق من ساقيها غير نحو ثلاثة سنتيمترات تتصل بعمودها الفقري.
ولكن ما هي عبرة الميرميد؟
هي أنها تدربت على السباحة، أي اعتادت وسطا جديدا.
ثم تغير جسمها بالعادة الجديدة، وهي تركها لليابسة ونزولها في الماء.
وأخيرا أصبحت العادة المكتسبة وراثية.
والإيمان المطلق بالوراثة في الإنسان، وأنها هي العامل الوحيد في التغير المطلق، ينتهي بإيجاد نوع من الاستبداد وسن القوانين التي تميز في الحقوق ، بل يؤدي إلى إهمال الوسط، بدعوى أننا مهما ارتقينا بهذا الوسط فإن ارتقاءه هذا لن يؤثر في ارتقاء الإنسان، وقد ننتهي إلى ما هو أسوأ فنقول: هذا رجل عبقري بالوراثة، وهذا آخر مجرم بالوراثة، وهذا معتوه بالوراثة، ونحو ذلك.
وكأننا بهذا القول نكف الناس عن بذل المجهود الفردي أو الجماعي للإصلاح؛ لأن الوراثة عندئذ تعود قدرا من الأقدار لا يتغير. •••
ولكن مع الإيمان بقوة الوسط في التغير، بل مع الإيمان بأن الوسط هو الأصل في التغيير والتطور؛ فإننا حين نريد سلالة جديدة من الدجاج أو الحمام أو الخيول أو الكلاب، نعمد إلى الوراثة نستخدمها بالتلاقح بين فردين، نجد أن صفاتهما أقرب ما نفهم من الهدف الذي نصبو إليه.
فالاختيار للكفاءات الوراثية في الإنسان هو الوسيلة النهائية لإيجاد السبرمان.
ولكن هنا تبرز صعوبة ذلك أننا حين نريد سلالة من أحد الحيوانات نعرف ما نريد، جواد للسباق أم الجر، بقرة للبن أو لولادة العجول الضخمة، حمامة لحمل الرسائل أم للريش المزغب، كلب للحراسة أم للشراسة ... إلخ.
ولكننا في الإنسان لا نعرف ماذا نريد وكيف نهتدي إلى ما نريد.
فإن الذكاء والصحة وسلامة الغرائز والتعمير، كل هذه صفات نرغب في أن نستكثر منها في الأجيال القادمة، ولكننا حين نريد الاختيار نجد أولا أن للمجتمع قوانين تقليدية لا تجيز هذا الاختيار بين الناس كما تجيزه بين الحيوان، ومن غير المعقول أن يتحدى أحد هذه القوانين، وثانيا نحن لا نعرف إذا كان الذكاء أو الصحة أو سلامة الغرائز أو التعمير هي نتيجة الوسط بالتربية الحسنة أم هي نتيجة الوراثة.
ولذلك كان برنارد شو يقول إن تحقيق السبرمان عنده فكرة وليس خطة، وإن الفكرة ستبقى أملا بعيدا إلى أن يزداد فهمنا لمعاني الارتقاء البشري وحقائقه.
أما قبل ذلك فليس لنا غير الإصلاح اليوجيني بكف الناقصين عن التناسل وتشجيع القادرين عليه، ولكن مع تجنب الإسراف.
كتاب السبرمان
ربما كان كتاب «الإنسان والسبرمان» الذي ألفه برنارد شو في سنة 1903 أعظم مؤلفاته، وهو مقدمة، ثم درامة، ثم كتيب ألفه أحد أشخاص هذه الدرامة عن الثورة، ثم كتيب آخر هو مجموعة من الحكم والأمثال الثورية، ومجموع ذلك في طبعة بنجوين يبلغ 286 صفحة.
والكتاب الذي ألفه أحد أشخاص الدرامة هو بالطبع من تأليف شو نفسه.
والدرامة لا تمثل كاملة؛ إذ يحذف منها عادة أخطر فصولها وهو الفصل الفلسفي، ولكن الكتاب - أي المجموعة - يقرأ كأي كتاب.
وأنا هنا ألخص الكتيب الذي زعم برنارد شو أن أحد أشخاص الدرامة قد ألفه؛ إذ هو لباب الدرامة.
وهو يقول في مقدمة هذا الكتيب:
إن جميع الممتازين بدأوا حياتهم ثائرين، وأعظم هؤلاء الممتازين يزدادون ثورة كلما تقدموا في السن، وإن لم يكن هناك من يظن أنهم يعودون محافظين، وإنما ذلك لأنهم يفقدون إيمانهم بالأساليب المألوفة في الإصلاح.
إن الرجل الذي يخلص في دينه يعد هرطيقا (زنديقا) أي ثائرا.
إيمان إنسان، لا يزال دون الثلاثين من العمر، وعلى شيء من المعرفة بالنظام الاجتماعي القائم، ثم مع ذلك ليس ثائرا؛ يعد ناقصا.
ومع ذلك لم تخفف الثورات من أعباء المظالم، وقصارى ما فعلته أنها نقلت هذه الأعباء إلى عاتق آخر.
1
كان توكل الإنسان على قوة سماوية تعينه على صعوبات الحياة كسلا وجبنا، وعليه منذ الآن أن يحمل العبء بنفسه بدلا من أن يحيله على قوة سماوية، وليس هذا ممكنا فقط وإنما هو السبيل الوحيد الذي أمامه.
وما تحقق من تغيرات في المجتمعات، والحكومات، والتعليم، والغيبيات، والطبيعيات، إنما هو تغيرات عقيمة ينطبق عليها المثل الفرنسي «كلما زاد التغير بقيت الأشياء كما كانت»؛ أي بقي الإنسان كما هو وكما كان.
وإنما التغيرات الحقيقية هي تلك التي اتخذ فيها الإنسان مقام الآلهة حين خلق من الثعلب أو الذئب كلبا، ومن الثمار البرية العفصة ثمارا طرية حلوة، ومن جواد الجر الثقيل مهرا خفيفا للسباق.
إن التغير هنا صادق: سلالة جديدة من الحيوان أو النبات ظهرت من سلالة قديمة، أما تغيير المجتمع والحكومة ... إلخ، فلم يغير الإنسان.
لقد أردنا التغيير في الحيوان وغيرناه.
ولكننا هنا نعرف لماذا نغير؛ ذلك لأننا نعرف ماذا نهدف إليه، كلب أنيس من الذئب أو الثعلب، أو جواد للسباق، أو ثمرة حلوة تؤكل.
ولكننا في الإنسان، حين نرغب في إيجاد سلالة جديدة منه، لا نعرف ما نهدف إليه، هل ننشد رجلا وسيما، فيلسوفا، رياضيا، مع امرأة جميلة سليمة تكون زوجته؟
والجواب: أن التجارب وحدها هي التي سترشدنا، وهي تجارب لا بد تحتوي الإصابة والخطأ.
ولكننا مع ذلك نتفق على أننا نحتاج إلى العقل المتفوق في السبرمان، ولكن العقل المتفوق لا يعني الفضائل العرفية وبين رجل الرياضة البدنية، فيجب أن نؤثر الثاني على الأول لأن أقل ما في الرياضي جسم سليم قوي أما الفضائل العرفية فليست لها قيمة أصلية إذ هي تختلف باختلاف البيئات.
2
لن يأتي السبرمان، إلا إذا أرداته المرأة عن تفكير وتدبير.
إن أخطر ما في الإنسان هو ما نجهله إلى الآن فيه؛ ولذلك نحن نبدأ بحذف الناقصين، المعيبين، التافهين، وحرمانهم الأبوة ما دامت هذه العيوب واضحة وليس لها في هؤلاء الأشخاص ما يقابلها من ميزات توازنها وتبرر حقهم في الأبوة.
وعلينا مع ذلك ألا نقع في الخطأ فنقول إن أبناء الزواج الموفق يكونون على الدوام مواطنين صالحين؛ إذ من المرجح أننا يمكننا أن نحصل على نتائج حسنة من التلاقح بين اثنين غير زوجين بل لا يليقان للمعاشرة الزوجية.
وليس هناك - سواء في إنجلترا أو أمريكا - من يستطيع قبول فكرة التلاقح بلا زواج بغية ارتقاء السلالة البشرية وإيجاد سلالة تتجدد جيلا بعد جيل نحو هدف السبرمان، والاعتقاد العام أن غاية الزواج هي إنجاب الأطفال، مع أن هذا ليس هو الواقع؛ لأن الزواج قبل كل شيء معاشرة قد يرافقها إنجاب الأطفال أو لا يرافقها، والأطفال في الزواج، يأتون جزافا بلا أدنى تفكير في تحسين السلالة البشرية.
لا بد إذن من إنجاب السبرمان بطريق آخر غير الزواج.
3
يروي لنا برنارد شو في هذا الفصل قصة «مجتمع أونيدا» الذي أسس في 1848، سنة الثورات التي اشتعلت فيها الأفكار في أوربا وأمريكا.
وزعيم هذا المجتمع هو «ألفريد نويس» من أبناء الولايات المتحدة، وكان قد درس الإنجيل وفهم منه أنه يدعو إلى الشيوعية وأن الإنسان لا يمكنه أن يكون إيثاريا يؤثر على نفسه أو يساوي بينه وبين سائر مجتمعه إلا إذا ألغى الامتلاك الفردي على نحو ما فعل تلاميذ المسيح.
وكان هذا المجتمع يتألف من نحو ثلاثمائة شخص عاشوا معا في أمريكا دون أن يعرف واحد منهم أنه يملك شيئا من عقار أو منقول، وكان ألفريد نويس يزعم أن هذا المجتمع هو «ملكوت الله» الذي ذكره المسيح.
وعاش أفراد أونيدا يعملون وينتجون للمجتمع، وقد ألغوا الزواج وصار التناسل بينهم وفقا للاختيار الحر بين الجنسين.
وعاش هذا المجتمع ثلاثين سنة بقوة زعيمه نويس الذي قاده إلى هذا النظام، ولكن لما أحس نويس أنه يقترب من الموت خشي الفوضى على مجتمعه، فعاد به قبل موته، إلى النظام الانفرادي في الممتلكات والزواج.
والعبرة التي يستخلصها برنارد شو من مجتمع أونيدا هذا أنه يمكن الرجل العبقري أن ينكر الأخلاق العرفية بغية الوصول إلى هدف أعلى مما تتيحه المجتمعات المتمدنة، ولكن لما كان الناس في مجموعهم دون المستوى الذي يبلغه العبقري فإنهم عندما يفقدون القيادة العالية التي توجههم يعودون إلى حضيضهم السابق.
وبرنارد شو يعرض لمجتمع أونيدا باعتبار أنه فكرة وليس نظاما، كما سبق له أن عرض لابنتي لوط اللتين حملتاه، وهو سكران، على الاتصال الجنسي بهما كي تحافظا على النسل، وهو يذكر حادث لوط ومجتمع أونيدا كي يدلل على أن الأخلاق العرفية في الزواج والامتلاك، ليست هي الأخلاق المثلى والتي يجب أن نتجمد بها كأنها خالدة.
والتغيير ليس ممكنا فقط بل هو واجب، وإنما يقع هذا الواجب على عاتق الزعيم العبقري وحده الذي يحدد المجتمعات، وليس هذا من حق العامة أو الجمهور؛ أي إنه ليس من حق الأفراد العاديين.
4
ويمدح برنارد شو مجتمع أونيدا، ويقول إنه في المدة التي عاش فيها نويس وهو يتزعم هذا المجتمع عمت السعادة جميع أفراده، وزاد إنتاجهم، وارتفعت معاملتهم للأطفال، وقلت الوفيات إلى أقل عدد.
ولكنه يعترف بأن أفراد الجماهير تنشد السبرمان، أي الإنسان الأعلى في الخيال، فتصف أبطال تاريخها كما لو كان كل منهم الإسكندر، وتضفي صفات القداسة على الأفذاذ من رجال الدين، لكن هؤلاء الأفراد يرفضون التدخل من أحد في عاداتهم المألوفة في الزواج، بحسبان أن هذا التدخل سيحرمهم مسرات الزوجية أو ينقصها، وهم يهبون في وجوه دعاة التغيير ويصفونهم بأنهم فاسدون مفسدون قد انحلت أخلاقهم، ولكن إذا وثقوا بأن الزواج ممكن، وأنه سيدوم ويتوافر، وأن كل ما سيؤدي إليه التغيير هو قصر التناسل على الممتازين من الشعب، إذا وثقوا من ذلك فإنهم يقبلون التغييرات التي يقتضيها النظام الاجتماعي الذي سوف يهيأ كي يرتقي الشعب، وترتقي البشرية، بتقييد حق التناسل على الرجل الممتاز والمرأة الممتازة ويحرم غير الممتازين التناسل، ولكنهم لا يحرمون الزواج.
وهنا يقول برنارد شو: إن أعظم المخترعات في القرن التاسع عشر هو الأدوات التي تستعمل لمنع التناسل؛ لأن هذا المنع سيغير البشرية في صلب الإنسان، أي يغير جسمه وعقله، أما سائر المخترعات فليس لها هذا الأثر إذ هي تغير وسطنا المتمدن ولكنها لا تغيرنا في تركيب أجسامنا.
وبكلمة أخرى يقول إن التناسل يجري في أيامنا جزافا، ولكن طريقنا إلى السبرمان يقتضي أن نجريه بالتدبير والتنظيم.
5
حاجتنا إلى السبرمان حاجة سياسية، حاجة محتومة.
السبرمان كلمة تحمل معنى التدرج، فهي تعني في عصرنا الرجل الممتاز الذي يبصر بالمستقبل ويتحسس طريقه إليه، وهو نادرة عصره، ورجل ناضج، دارس، له قيم خاصة وأفكار فذة، ولكنه قلما يستطيع قيادة الجماهير التي تحتاج إلى من يتملقها، ويشيد بلغة الخطابة، بالأخلاق والدين والتاريخ والتقاليد.
السبرمان في عصرنا نادر الظهور؛ لأن التناسل يجري فوضى بلا نظام، ولكنه - أي السبرمان - سوف يتكاثر في المستقبل حين ينظم الزواج بغية إيجاد النسل الأعلى، الجيل الذي يعلو على الجيل الذي سبقه في توافر الصفات البشرية العليا.
والسياسة هي في عصرنا تملق الجماهير، لأنها سياسة ديمقراطية، أي إنه لا يمكن تأليف حكومة إلا إذا رضي عنها الشعب، والشعب لا يمكن أن يرضى عن سياسي يدعوه إلى إيجاد نظام تناسلي أو زواج مقيد يهدف منه إلى السبرمان.
وهنا نجد أن برنارد شو قليل الإيمان بالديمقراطية، وهو يميل إلى شيء من الديكتاتورية الاشتراكية التي تملي على الشعب وتحمله، بل تجبره، على الارتقاء؛ ومن هنا إعجابه بهتلر بل أيضا بموسوليني، وقد كان هذا بالطبع شططا منه حمله عليه إيمانه بأن الجماهير راكدة ليس لها القوة الحافزة على الابتكار الجريء، وأنها لذلك تعوق نشوء السبرمان.
وبرنارد شو هنا لم يبصر بقوة الإنتاج، هذا الإنتاج الذي سيتوافر بحيث لا يحتاج من أحد إلى أكثر من ساعتين أو ثلاث ساعات في اليوم للعمل، ثم يبقى سائر النهار وبعض الليل بلا عمل، وهذه الحال التي تقترب إليها الشعوب المتمدنة ستحمل حكوماتها على أن تجعل التعليم العام، أي التعليم الذي يفرض على كل شاب وفتاة، تعليما إجباريا من السنة الأولى في المدرسة الابتدائية إلى السنة الأخيرة في الجامعة، بحيث لن يخرج إلا حوالي سن الثلاثين وقد حصل على ثقافة تهيئه لأن يفكر التفكير الناضج، وأن يتقبل الأفكار الجديدة التي تؤدي إلى الارتقاء البشري العام، حتى ولو كان في هذه الأفكار ما يخالف تقاليده وعاداته.
6
أولئك الذين يأنفون أو يستحيون من الحديث عن التناسل واعتباره الأساس للعلاقة بين الجنسين، إنما يفعلون ذلك لأنهم لا يستطيعون الحديث في هذا الموضوع إلا بكلمات بذيئة عاهرة، فحياؤهم هنا هو عجز في التعبير ونقص في التربية، وبرهان ذلك أن الأطباء، أو المعلمين الذين يشتغلون بحياة الحيوان، يمكنهم أن يتناقشوا في حرية لغوية تامة عن موضوع التناسل؛ لأن كلماتهم التي يعبرون بها علمية، ولأنهم يلتزمون الحد والدروس في تناول الموضوع.
وعندما يضاف إلى فقر اللغة فقر آخر مادي في المسكن والمأكل ووسائل العيش عامة، تكثر الأدران والأقذار، وتلابس الموضوع، فيكون الاشمئزاز الذي يمنع الحديث.
ولكن عندما يكون زواجنا نظيفا، ومدننا نظيفة، ومعيشتنا نظيفة؛ فإن لغتنا عندئذ تكون نظيفة، ولن نأنف ولن نستحي من الحديث عن الشئون الجنسية والتناسل والزواج، وأن نوجه هذا الموضوع نحو الارتقاء البشري.
7
عبارة «الارتقاء البشري» من العبارات الخادعة؛ ذلك أن الحضارة التي هيأت لنا المسكن الحسن والانتقال السريع والملابس الوفيرة ونظافة المياه والأمن ونحو ذلك، إنما هي جميعها ارتقاء في الوسط الذي نعيش فيه وليست ارتقاء في صميم أجسامنا وعقولنا، فنحن أرقى مساكن مما كنا قبل عشرة آلاف سنة حين كنا نعيش في كهوف، ولكن أجسامنا وعقولنا لا تزال على ما كانت عليه قبل عشرة آلاف سنة.
وقد انفجرت ثورات غيرت المجتمعات ولكنها لم تغير الإنسان، إنما يتغير الإنسان إذا توليناه بالعقل الناضج والقصد الأرحب بحيث نهدف منه في قوانينه، وعاداته وأسلوب عيشه، وفلسفته، إلى أن يكون - جسما وعقلا - في ارتقاء دائم يزداد صحة وذكاء جيلا بعد جيل، وذلك قبل كل شيء عن طريق قصر التناسل، لا الزواج، على الأكفاء الممتازين.
8
ما زلنا متوحشين، ودعوانا بأننا أرقى المتوحشين كاذبة؛ إذ لا تزال عقائدنا وأخلاقنا وعاداتنا متوحشة.
إننا ما زلنا نمارس في عقائدنا نأكل الإله كما يفعل المتوحشون، وما زلنا نمزق أعضاء الموتى، وقد فعلنا ذلك بجثة المهدي في السودان حيث ضرب كتشنر ضريحه بالمدافع.
وقد كان سلوكنا في حرب الصين، البوكسر، لا يختلف أقل اختلاف عن سلوك المغول والتتار.
وما زلنا نستخرج الاعترافات من المتهمين بالتعذيب.
وفي حربنا في أفريقيا الجنوبية كنا نجبر أقارب المعدمين بحضور «حفلة» الإعدام.
وكذلك فعل الأمريكيون في فيليبين.
ونحن نحكم بجلد المجرمين مائة جلدة، وألف جلدة، مع أن موسى قبل ثلاثة آلاف سنة كان يقنع بأربعين جلدة فقط.
وقد يقال إننا ألغينا الرق في القرن الماضي، ولكن الحقيقة أننا لم نلغه لأننا ارتقينا في الإنسانية على أسلافنا، وإنما لأنه لم يعد يصلح للإنتاج؛ إذ إن العامل المأجور ينتج أكثر من العبد المملوك.
وكل هذا الذي ذكرنا يدل على أن دعوانا في الارتقاء كاذبة، ولن نرتقي حتى نتطور إلى ما هو أعلى، أي حتى نتجه في الطريق الذي يسمو بنا إلى ظهور السبرمان من الإنسان.
9
ليست المخترعات برهانا على ارتقاء الإنسان؛ فإن ستيفنسون اخترع لنا القاطرة، ونحن جميعا نستعملها دون أن نرتفع إلى مستوى ستيفنسون في الذكاء ، ولكن لن نستطيع أن نكون مسيحيين إلا إذا كان كل فرد منا على مستوى المسيح نفسه في الأخلاق.
ركوبنا للقطار لا يقتضينا أن نكون أكثر تطورا وارتقاء من أسلافنا الرومان أو المصريين القدماء، ولكن اتخاذنا للأخلاق المسيحية، بحيث تصير جزءا من كياننا لا نجبر عليه بل نحبه، يعد تطورا.
نحن نتحدث عن تأميم الإنتاج كالزراعة أو الصناعة، ولكن يجب أيضا أن نفكر في تأميم التطور، أي التربية البيولوجية الانتخابية للإنسان، بحيث يرتقي الأحفاد على الجدود ويزداد الارتقاء جيلا بعد جيل حتى يأخذ السبرمان مكان الإنسان.
نحتاج إلى وزارة للتطور يكون لوزيرها مقعد في مجلس الوزراء، ويكون هدف هذه الوزارة ألا نحيى فقط، بل نحيى أحسن، بتحسين السلالة البشرية وسن القوانين التي تؤيد هذا التحسين.
اعتبر مثلا ما كانت تفعله الحكومة من منع المعلمات من الزواج؛ فإن هذا المنع قد تنتفع به الحكومة من حيث إدارة أعمالها، ولكن الضرر كبير حين نفكر، ونذكر أن أحسن النساء اللائي تعملن وعملن قد كافأناهن بالتعقيم مع حاجة التطور إلى أبنائهن، أليست المعلمة التي هدفت إلى الخدمة الجادة، ونجحت في مراحلها التعليمية، خير أم تنجب الأطفال؟
إننا لا نسمح للملوك بأن يتزوجوا أو يختاروا زوجاتهم كما يشاءون؛ لأننا ننظر من خلال زواجهم إلى مصلحة الدولة، وهذا مع أن الملوك ليس لهم شأن كبير في سياسة الدولة، ولكن الشأن الكبير لأبناء الشعب العاملين؛ ولذلك يجب ألا نتركهم يتزوجون ويتناسلون كما يشاءون وفق أهوائهم، إذ يجب أن نذكر المصلحة التطورية للشعب من زواجهم وتناسلهم.
يجب أن نعيش ألف سنة
تذكر التوراة أن متوشالح عاش 969 سنة.
وعبرة هذا القول أن الرغبة في طول العمر أصيلة في الإنسان، بل هي الأصل في أساطير عديدة لجأ إليها البشر في مختلف أطوارهم الاجتماعية؛ فإن المصريين القدماء عبروا عن هذه الرغبة بتحنيط الجثمان، حتى يحتفظ بأعضائه ويستطيع أن يحيا حياة خالدة في العالم الآخر.
ولكن إذا كان المصري القديم قد استسلم للأساطير حين جعل من التحنيط وسيلة للخلود؛ فإن الإنسان العصري لا يزال يرغب في إطالة العمر، ولكن بوسائل علمية ، فهو يسأل: لماذا تعيش الببغاء قرابة مائة سنة، وتعيش السلحفاة ضعفي هذا العمر؟ ولماذا لا نعيش نحن البشر أكثر من 70 أو 80 سنة؟
وليس الحافز على هذا السؤال هو النفور من الموت والتشبث بالحياة لمحض الحياة كما كانت الحياة عند أسلافنا، وإنما الحافز عندنا فلسفي علمي، فقد أصبح الإنسان المتمدن وجوديا سواء أراد أم لم يرد، كما أنه أيضا قد انتهى في عصرنا إلى عقلية تطورية، يقول بإمكان التغيير للمادة البشرية بإيجاد سلالات جديدة منها على نحو ما أوجدنا أكثر من مائتي سلالة لكل من الكلاب أو الحمام أو الخراف.
وهذا إلى أننا قد اتجهنا أيضا هذا الاتجاه الوجودي الذي يحثنا على أن نحيا في هذه الدنيا ملء كفاءاتنا وأن نستمتع فيها بأكثر ما نستطيع من استمتاعات عالية تتفق وإنسانيتنا.
رجل العلم ورجل الفلسفة، كلاهما يشتغل بالوسائل التي تطيل عمر الإنسان، رجل العلم مثل «متشنيكوف» الذي أمضى كل عمره تقريبا يبحث عن البكتيريا «المضادة» التي تستطيع قتل جراثيم الفساد في أمعائنا فتطول أعمارنا بذلك، وقد خاب في سعيه، ولكن خيبته فتحت الأبواب لغيره من العلميين الذين لا يزالون يبحثون هذا الموضوع والذين سوف يهتدون إلى الوسائل التي تحقق هذا الهدف.
ثم رجل الفلسفة مثل برنارد شو، الذي يهدف إلى زيادة الفهم بزيادة العمر، أليست الفلسفة فهما؟
ولكن كيف نفهم كل هذه المعارف التي تشتتت وتعددت من كيمياء إلى فيزياء، ومن إليكترونات إلى فلك، ومن طب إلى هندسة، ومن تاريخ إلى اقتصاد، ومن أدب إلى فن، كيف نفهم كل هذه الأشياء وندرسها هي وغيرها دراسة التعمق والتفرغ إذا كنا لا نعيش سوى ثمانين أو تسعين سنة؟
إننا نقتصر على دراسة علم واحد أو فن واحد لأن أعمارنا قصيرة، ودراستنا تتخذ صيغة التخصص الذي يعمينا عن سائر العلوم والفنون، فنحن نعرف علما ونجهل مائة علم، وأولئك الذين يحاولون التعميم بدلا من التخصص يجدون أنفسهم في قصور لا يمكنهم التغلب عليه، ومرجع هذا القصور إلى أن أعمارنا قصيرة.
إن العلوم كشوف، كل كشف منها ينير العقل ويفتح البصيرة، ويجب أن نتعلمها؛ ولذلك نحن في حتمية فلسفية تطالبنا بإطالة أعمارنا حتى نستطيع استيعابها، وحتى يزول هذا التخصص الذي كثيرا ما يؤذي أكثر مما يؤذي الجهل.
ذلك أن المتخصص - كما قلنا - يحده تخصصه ويعميه عن شئون الحياة الأخرى، بل هو يعميه عن الأثر الحسن أو السيئ لما تخصص فيه من علم أو فن، فلو أن العلميين الذريين الذين اشتغلوا باختراع القنبلة الذرية كانوا على شيء من مهارة الذهن وعمق الذكاء في فهم الخير الإنساني كما كانوا في فهم الذرة لما ارتضوا اختراعها، هذا الاختراع الذي تجاوز القنبلة الذرية إلى القنبلة الهيدروجينية التي تخيم على عالمنا غيمة سوداء تهدد بمحو الحضارة وفناء الإنسان.
إن رجل العلم يجب أيضا أن يكون فيلسوفا، وإلا فهو خطر.
وهل أحتاج إلى أن أذكر أن رجلا من رجال العلم الإنجليز اقترح قبل سنوات حرمان الأمم المتخلفة - التي ترفض تحديد النسل ومنع الحمل - من العقاقير الجديدة «المضادات» التي تقتل بكتيريا الأمراض، وكانت حجته في هذا الاقتراح أنه ما دامت هذه الأمم تسرف في التناسل فلنتركها حتى تموت بالأمراض الميكروبية بلا دواء.
هذا النقص في الإحساس بالخير الإنساني هو ثمرة التخصص؛ إذ لو كان هذا الوحش قد درس الأدب والفلسفة والشعر والفنون الجميلة، كما درس العلم، لما أجاز لقلمه أن يكتب هذه الكلمات الكافرة.
ولكنه لم يجد الوقت لهذا التعميم في الدراسة لأن العمر قصير، فتخصص وقنع بالتخصص.
وقد بصر برنارد شو بهذه المشكلة وألف مسرحية بعنوان «العودة إلى متوشالح» يوضح فيها ضرورة الإطالة لعمر الإنسان.
لقد عاش متوشالح 969 سنة كما تقول التوراة، ولكن برنارد شو يطمع في 300 سنة يحياها كل منا، أو بالأحرى من أعقابنا، على الأرض.
وقد عاش برنارد شو 94 سنة وكان يفكر كثيرا في قيمة العمر الطويل، وكان يمكن أن يعيش أكثر من هذا العمر لو لم تقع له حادثة أدت إلى كسر ساقه، فلما لزم السرير بسببها وقع في نزلة شعبية كانت سبب وفاته.
واهتمامه بإطالة العمر هو اهتمام يمكن أن نصفه بأنه «وجودي»؛ فإن الوجودية كانت كامنة في جميع المفكرين الماديين قبل أن يصرح بها ويشرحها سارتر، فقد كان إبسن وجوديا عندما أخرج الزوجة من بيت زوجها في الليل تبحث عن استقلال شخصيتها وتربية ذهنها واقتحام الدنيا، وبرنارد شو وجودي عندما يطالبنا بأن نحيا في هذه الدنيا أقصى ما نستطيع من العمر الطويل كي ندرس العلوم ونسيح في الأقطار ونختبر ونتعلم ونستمتع.
إن أسلافنا أيام الفراعنة لم يكونوا يجدون أية دلالة لوجودهم على هذه الأرض، وكانت الحياة لذلك في العالم الآخر كل ما يهتمون له، شيدوا مقابرهم بالحجر، وبنوا مساكنهم بالطوب النيء، وكان العالم الآخر مجسما في أذهانهم كأنهم يعرفون شوارعه وأزقته.
ولكن الوجوديين في أيامنا لا يسلمون بعقائد مصر الفرعونية، وكأن لسانهم يقول: «فلنعش في هذه الدنيا ولنستمتع بأقصى ما نستطيع بحياتنا.»
والسخفاء من الشبان والفتيات الوجوديين في باريس يفهمون من هذا الاستمتاع أنه استهتار وعبث، ولكن الجادين الناضجين يفهمون منه أنه استقلال، وحرية في الاختيار، ودرس وثقافة واختبار.
يقول برنارد شو إن أعمارنا تجعلنا لا نعنى بهذه الدنيا؛ إذ إننا بمثابة المستأجر لمسكنه شهورا أو سنوات قليلة لا يبالي فيها أن يصلح بناءه، إذ هو سيتركه بعد قليل، لو أنه كان على يقين بأنه سيقيم، هو وأبناءه، ثم أحفاده بعده، نحو مائتي سنة فإنه كان يبنيه مع العناية والدرس، ويزينه مع السخاء والفن، بحيث يعود متحفا في الجمال والأناقة.
وهذا هو شأننا نحن البشر في هذه الدنيا؛ فإن عنايتنا بها قليلة أو معدومة، ولكن لو كان كل منا يعيش نحو ألف أو ثلاثة آلاف سنة لعنينا بها، بحيث نجعل من غاباتها متاحف، ونزرع بحارها كما نزرع يابسها، ونقيم المصايف على هملايا وفي القطبين الجنوبي والشمالي، ونلغي الحكومات المتعددة ونقنع بحكومة مفردة تشرف على جميع البشر، ونعمم الخير بين الناس، ونلغي الحرب ونعيش في سلام.
ولكن، لأننا لا نعمر طويلا، لا نبالي أن نبني دنيانا كما يجب أن تبنى، بل نتركها في فوضاها ودمارها الحاضرين وفي اختلافات أبنائها وجهلهم بل وتوحشهم.
وليس هذا فقط، فإن برنارد شو يذكرنا بأننا عندما نعمر طويلا، مئات وآلاف السنين؛ فإننا نستطيع أن نصل إلى ما ننشده من تربية لأنفسنا، لا نحصل، ولا يمكن أن نحصل على مثلها أو نصفها ونحن في أعمارنا القصيرة الحاضرة، بل كذلك استمتاعاتنا التي لا نجد الوقت لأن نمتلئ بها وننغمس فيها ونتعمق الحياة عن سبيلها.
لو كان أحدنا يستطيع أن يعيش ألف سنة لاستطاع أن يحيا جملة حيوات من حياتنا الحاضرة الموجزة؛ فإن ألف سنة من العمر تتيح لنا أن نعيش فرنسيين عشر سنوات في فرنسا، وصينيين عشرين سنة في الصين، ثم في روسيا وألمانيا ... إلخ. وهذا إلى أن نمضي سنوات في دراسة الذرة، ومثلها في دراسة الكيمياء، ومثلها في دراسة الفيزياء ونحو مائة سنة في دراسة الفلسفة.
هذه هي الاستمتاعات على مستواها العالي كما يفهمها برنارد شو عندما يقول بضرورة إطالة الأعمار، هي استمتاعات الحكمة التي تثمرها الدراسات المتعددة والاختبارات الشخصية في القارات الخمس.
إن السلحفاة تعيش نحو مائتي سنة، فلماذا لا نعيش نحن ألف أو ألفي سنة؟
إن فكرة التطور بارزة في كل ما يكتبه برنارد شو، وهو يذكر لوحة الأحياء وتطورها من الخلية المفردة إلى الإنسان الحاضر في 700 مليون سنة، ثم يفكر في إيجاد كفاءات جديدة في إنسان المستقبل.
وأولى هذه الكفاءات أن يطول عمره حتى يكفي لأن يحيله من طفل كبير يحب الحروب، وينغمس في الخمر والجنس، ويشتهي المخدرات، ويقتني المال، ويؤثر الجهل والكسل على الجد والدرس، إلى إنسان حكيم قد كسب حكمته من السنين المديدة واستمتع بحياته.
وهو حين يصل إلى هذه الغاية يجد معنى ودلالة للوجود، ولذة في الحياة، لا يجدهما الآن.
الدين كما يؤمن به شو
لجميع الأديان - أيا كانت - وجهتان: الأولى غيبية، والثانية دنيوية.
فأما الغيبية فهي التي تعين مركز الإنسان في الكون، والالتفات يتجه أكثره نحو موقفه من أصل الدنيا، وأصل البشر، ومصيره بعد الموت، وما يلقى من ثواب أو عقاب في نعيم أو جحيم، وجميع الأديان القديمة تعنى لذلك بشرح ما بعد الموت وكأن هناك حياة هي خير من الحياة على الأرض.
أما الوجهة الدنيوية فهي ما يتصل بمعايش الناس وأخلاقهم.
وبرنارد شو يؤمن بنهائية الموت، فلا نعيم عنده ولا جحيم، ولا حساب في عالم آخر، ولكن ما موقفه من ناحية «الله»؟
هو موقف «سبينوزا» من حيث إن الله كامن في المادة.
برنارد شو لا يذكر كلمة الله، ولكنه يقول إن هناك ما يسميه «قوة الحياة»، وهذا التعبير هو صورة أخرى لتعبير برجسون «النهضة الحيوية» أو «التطور الخالق».
وعندما نحاول أن نفهم هذا الموقف نجد أنه لا مفر لنا من الاعتراف بأنه موقف مادي، بل كذلك موقف سبينوزا نفسه الذي نفهم منه أن القوة الخالقة ليست منفصلة من المادة وإنما كامنة فيها.
وهذه القوة الخالقة عند سبينوزا - بل أيضا عند برجسون - هي الله، الذي ينأى معناه هنا عن معناه في كتب الدين.
وهذه القوة في المادة عند برنارد شو هي قوة تطورية؛ أي إن في المادة خاصة التطور، وكثيرا ما نجد برنارد شو يقول «ديانة التطور».
والموقف هنا مادي لا شك فيه عند هؤلاء الثلاثة: سبينوزا، وبرجسون، وشو. نستطيع أن نعبر عن موقف برنارد شو بهذه الكلمات:
إن العقل كامن في المادة.
والأخلاق والإنسانية والخير كامنة كلها في العقل.
والخير أكبر من الشر في هذه الدنيا، بل في هذا الكون، وبرهان ذلك عند شو أنه لو كان العكس هو القائم، أي الشر أكبر من الخير، لكانت الفوضى ثم انقراض الإنسان، بل الأحياء جميعها. فبقاء الإنسان في نظام ومجتمع برهان على أن الخير، في الطبيعة، في المادة، في الدنيا، أكبر من الشر.
ليس هناك إله خالق منفصل عن المادة، هذا هو موقف الثلاثة الذين ذكرنا.
القوة الخالقة في المادة هي خاصة من خواص المادة، أي إنها خاصة التطور فيها.
ليست هناك قوة روحية، أي روح للكون، كما ليس هناك روح للإنسان، إنما مادة الكون ومادة الإنسان تحتوي كلتاهما قوة التطور .
هذه القوة تسير في تطور من أسفل إلى أعلى في الكائنات الحية، وهي عرضة للصواب والخطأ، وملايين الأحياء التي انقرضت - مثل الزواحف الكبرى قبل نحو ثمانين مليون سنة - برهان على أن المادة تسير في تجارب، تصيب وتخطئ، وليس بعيدا أن تتجه هذه القوة التطورية وجهة أخرى غير الوجهة التي انتهت بوجود الإنسان، فينقرض هذا أيضا ثم تسير هذه القوة التطورية نحو إيجاد «إنسان آخر» وإلى تجارب أخرى.
وعند برنارد شو أن هذه القوة هي الله، فكأن الله يصيب ويخطئ، وأنه دائم التجارب في الخلق، ولا يعني هذا القول أكثر من أن الدنيا والكون والإنسان والحيوان والنبات والمادة في تطور.
ونحن نجد هذه التعابير التالية مكررة في مؤلفاته: «ديانة التطور، شهوة التطور، الديانة البيولوجية، تطور الإنسان في المستقبل (بإرادة الإنسان) نحو السبرمان، رجل بلا دين هو رجل بلا شرف.»
ثم نجد أنه أوصى بألا يصلى عليه عند وفاته في كنيسة، كما أنه أوصى بإحراق جثمانه، وقد سبق أن فعل مثل ذلك مع زوجته، ثم يقول في أحد مؤلفاته إن الأمة اليقظة يجب أن تنقح ديانتها مرة كل عام على الأقل.
فكأن نظرته للدين إنكار للغيبيات جميعا، من إله منفصل عن المادة، إلى نعيم وجحيم بعد الموت، إلى أرواح، ثم فهم للدين على أنه إحساس بالتطور، وأن واجب الأمة، وواجب البشر، وواجب كل فرد منا - ونعني الواجب الديني - هو أن نتطور.
نتطور في الثقافة فنثابر على استيعاب المعارف وزيادتها، ونتطور في الصحة نعيش 500 أو ألف سنة، فتتعمق الحياة ونعني بالدنيا، ونتطور في الأخلاق حتى نولد بها أصيلة في كياننا النفسي وليست مكتسبة بالمرانة والتعليم بعد الميلاد.
وما أفهمه من الدين، كما أستخلصه وأستنتجه من برنارد شو، هو اليقظة إلى الوعي الكوني؛ أي ما هو موقفي من الكون والدنيا والبشر.
وزعماء الدين عنده هم موسى، والمسيح، ومحمد، وعمر، وأبو بكر، وغاندي، وتولستوي، وشفيتزر، وبرنارد شو، وسقراط، وابن رشد، ولنكولن، وتوم بين، وكارل ماركس، ولينين، وباستير، وجميع الفلاسفة والأدباء والشعراء والمفكرين والعلميين الذين خدموا الإنسان في زيادة حريته، وإنقاذه من رق العمل أو رق الأفكار، أو من الأمراض، أو من مظالم الاستبداد والاستغلال.
والذي أفهمه من ديانة برنارد شو أيضا أن الرجل الصالح في عصرنا ليس هو الأناني الذي لا يفكر إلا في إنقاذ نفسه ونجاتها بالصلاة والصوم، وإنما هو الذي يسعى لإصلاح البشر بإيجاد حكومة موحدة للعالم، وإلغاء الحروب، ومحو الأمراض، وتعمير الصحاري والجبال، وصيانة الأحياء والغابات، واختراع الوسائل لزيادة الثقافة والفهم والصحة والذكاء.
والذي أفهمه منه أيضا أن التعاون في الطبيعة أكبر من التنازع، وأن التعاون هو الوسيلة إلى التطور في الإنسان، وأننا يجب أن نأخذ بالتطور في إيجاد السبرمان، أي الإنسان الأعلى.
وأفهم منه - أي من ديانته التطورية - أن إرادة الإنسان تخلق، فإذا أردنا أن نعمر ألف سنة، فإن هذا الأمل سيتحقق وإن بعد ميعاد التحقيق، وإننا لم نصل إلى ميزاتنا الإنسانية الحاضرة إلا لأننا أردنا ذلك عن وعي أو غير وعي.
ولبرنارد شو نحو أربع أو خمس درامات خصها ببحث الموقف الديني للإنسان، وهذا إلى إشارات عديدة إلى هذا الموضوع، تخللت مؤلفاته الأخرى، وعندي أن «العودة إلى متوشالح» و«الإنسان والسبرمان» يشرحان لنا فلسفته؛ أي ديانته، وهما بحث للتطور كما يبصر به في المستقبل، أو هما بحث للدين في مستوياته العليا للمفكرين الذين يتجاوزون التفكير العلمي، وقد ألف درامة عن جان دارك، الفتاة الفرنسية التي قادت الجيش الفرنسي إلى النصر في حرب فرنسا مع إنجلترا في القرن الرابع عشر، ثم وقوع جان دارك أسيرة في أيدي الإنجليز ومحاكمتها بتهمة الهرطقة (الزندقة) لأنها تؤمن بعقائد تخالف المبادئ المسيحية. ثم الحكم عليها بالإحراق.
والنقطة البارزة في هذه الدرامة هي موقف جان دارك بأنها تفهم المسيحية بعقلها المستقل، وأنها لا تتوسل إلى الله بالكنيسة أو القسس، ويشرح لنا القاضي في محكمة التفتيش خطيئتها بأنها تسلك سلوك المسلمين، ويسب نبي المسلمين لأنه أيضا يقول بأن للإنسان الحق في الشكوى إلى الله ومناجاته دون وسيط من كاهن أو قسيس، ولكن برنارد شو وهو يضع كلمات السباب على لسان هذا القاضي إنما يمدح النبي ؛ لأن موقف جان دارك هو موقفه، وهو الموقف الذي يبرره برنارد شو ضد القاضي، أي إن الإنسان لا يحتاج إلى وسيط بينه وبين ربه.
ويومئ برنارد شو إيماءة نحو المستقبل؛ فإن جان دارك هي الرائدة الأولى في الإصلاح الكنسي الذي انتهى بظهور لوثر الألماني في القرن السادس عشر، وقد التبس موقف برنارد شو على بعض كتابنا فحملوا عليه حين ظهرت درامة جان دارك بدعوى أنه سب النبي.
ودرامة أخرى له تدعى «أندروكليس والأسد» تمثل الأسطورة التي عاشت في القرن الأول والثاني للميلاد بشأن الأسد الذي أطلق لافتراس أحد المسيحيين في العرين الذي كان في رومة، وكان يلقى فيه المسيحيون للأسود التي تفترسهم وتأكلهم أمام الجماهير المتفرجة، وهذا الأسد يدخل العرين فيجد رجلا مسيحيا قد أنقذه قبل سنين من شوكة دخلت في ساقه وأعجزته عن الحركة، فيعرفه الأسد، ويأبى افتراسه. وقد عد المسيحيون الأولون هذه القصة، أو بالأحرى الأسطورة، إحدى معجزات الدين الجديد.
ويشرح لنا برنارد شو في هذه الدرامة المبادئ المسيحية كما يفهمها فيقول: (1)
إن ملكوت الله في نفسك وليس في عالم آخر، أنت ابن الله، والله أبو الإنسان، والله هو أبوك، وأنت هنا في الدنيا تؤدي عمل الله، وأنت والله شيء واحد. (2)
تخلص من ممتلكاتك واجعلها مشتركة بين أعضاء المجتمع، وافصل بين عملك وبين النقود والأجور، واذكر أنك إذا تركت طفلا يجوع فإنك تجيع الله نفسه، ولا تقلق على غدك، ماذا تأكل فيه وما تلبس. (3)
تخلص من القضاة والعقوبات والانتقامات، واحبب جارك كما تحب نفسك؛ إذ هو جزء منك، وأحب أعداءك إذ هم جيرانك. (4)
تخلص من الاشتباكات العائلية؛ لأن كل امرأة تلاقيها هي أمك، مثل المرأة التي حملت بك، وكل رجل يلاقيك هو شقيقك، مثل شقيقك الذي حملت به أمك بعدك، ولا تضع وقتك في الجنازات العائلية حزنا على أقاربك، لتكن عنايتك بالحياة وليس بالموت.
هذه هي النقاط الأربع التي يلخص فيها برنارد شو فهمه للمسيحية كما دعا إليها المسيح، وهي أبعد ما تكون عن فهم المجتمع أو الكنيسة لها.
ولكن هل معنى ما ذكرنا أن برنارد شو كان مسيحيا؟
الجواب أنه كان مسيحيا من حيث فهمه للأخلاق كما دعا إليها المسيح، ولكنه من حيث الغيبيات المسيحية كان كافرا منكرا. وهو يرد هذه الغيبيات إلى أقاصيص وعقائد الأمم القديمة.
ويجحد برنارد شو في المسيحية التبرير للاعتراف بحق كل إنسان في دخل من الدولة يكفل به بقاءه هو وعائلته، وبكلمة أخرى يجد في المسيحية دعوة إلى الاشتراكية. وكل من يقرأ الإنجيل، في تأمل، ويتعمق المبادئ المسيحية، يضطر إلى التسليم بصحة هذا الاستنتاج.
وهو يعلل امتناع المسيح عن الزواج بأنه كان صاحب رسالة يريد التفرغ لها وأن يبقى حرا من الاشتباكات العائلية، ولكنه مع ذلك، أي المسيح، لم يدع إلى إيثار العزوبة على الزواج كما فعل بولس.
ويشرح برنارد شو لنا هذا الموقف، أي موقف العزوبة، فيقول إن كل من يحمل رسالة للبشر، أو يكافح للوطن، أو يمارس الأدب الحر، أو الفلسفة الحرة، أو الذي يدعو إلى مذهب، كل هؤلاء يجدون أنفسهم مضطرين إلى إيثار العزوبة على الزواج؛ ذلك لأن رب العائلة الذي يرتبط بالزوجة والأبناء يضطر في أزمات ضميره إلى المساومة عليه حتى لا تجوع عائلته، وهنا تفسد رسالته. أما إذا كان أعزب حرا فإنه لا يبالي ما ينزل به من حرمان أو عذاب.
وهذا مصداق الحديث المشهور: «الولد مجبنة ومبخلة لأبيه».
وليس هذا الموقف بالطبع، موقف إيثار العزوبة على الزواج، لجميع الناس، وإنما هو للخاصة والقادة وأصحاب الرسالات فقط، أما سائر الأفراد فيتزوجون بلا حاجة إلى نصيحة. •••
والآن، بعد هذا الذي ذكرنا عن الدين كما يعتقد برنارد شو، لنا أن نسأل ما هو برنامجه العملي الذي يستنبطه من الدين؟
هو بلا شك الاشتراكية التي عاش لها وسعى لتحقيقها طيلة حياته، كما قد وجدنا في نشاطه في الجمعية الفابية، وهذا أيضا هو موقف ه. ج. ويلز.
كلاهما رأى رؤيا الاشتراكية كما لو كانت دينا يحس الولاء له، وكلاهما خدم هذا الدين بكل ما وسعه من مجهود.
وكلاهما كان ملحدا في المعنى العرفي للإلحاد، وهو إنكار خالق متصل بالكون له شخصية عاقلة ورعاية شاملة للبشر، كلاهما يجد في التطور ديانة كاملة كافية؛ فالديانة هنا ليست غيبية وإنما هي بيولوجية.
والأخلاق عندهما هي مسئوليتنا قبل كل شيء نحو الحياة التي تفرض علينا التطور والتعلم، وأن نربي أنفسنا، وأن نتوسع في وجداننا، وأن نطيل أعمارنا ونصون صحة أجسامنا وعقائدنا، وأن نرتقي، وأن نحس الولاء لهذا العالم وليس لعالم غيبي آخر.
لسنا مسئولين أمام الله، أو أمام القانون، أو أمام المجتمع، وإنما مسئولون أمام الحياة التي تضطرنا في النهاية إلى أن تكون مسئوليتنا أمام المجتمع والقانون إذا كانا على عدل، أما إذا اصطدمت مسئوليتنا أمام الحياة بمسئوليتنا أمام القانون والمجتمع، فإننا يجب أن ندافع عن الحياة ضد القانون والمجتمع.
إصلاح الهجاء الإنجليزي
لأول مرة ينهزم برنارد شو هزيمة منكرة، فقد حكمت محكمة تشانسري في لندن بأن الوصية التي كان قد كتبها بشأن وقف نحو ربع مليون جنيه من تركته لإصلاح حروف الهجاء في اللغة الإنجليزية، هذه الوصية ملغاة، ويجب لذلك أن تقسم التركة بين الورثة الشرعيين، وصدر هذا الحكم في فبراير 1957.
وكان برنارد شو عند وفاته في 1950 قد ترك نحو سبعمائة ألف جنيه خص منها نحو ربع مليون لإصلاح الهجاء الإنجليزي، فطعن الورثة في صحة الوصية، ودخلوا في تفاصيل عديدة احتاجت إلى نحو خمس سنوات من الدرس والمرافعة، وانتهت بفوز الورثة وإلغاء الوصية؛ أي انتهت بهزيمة شو لأول مرة في حياته الثانية بعد وفاته.
وكان برنارد شو كبير العناية باللغة كبير التقدير لقيمتها في ثقافة الشعب، وتكوين الشخصية، والارتقاء الذهني لكل إنسان. وكانت له كلمة جارحة صادقة بشأن أرلندا وطنه الأصلي، فقد حمل على الوطنيين الأرلنديين لأنهم يحيون لغتهم الميتة ويكتبون بها، بدلا من الكتابة باللغة الإنجليزية، لغة المستعمرين. وكان يقول إنه على الرغم مما أنزله المستعمرين الإنجليز بالأرلنديين فإنهم أسدوا فضلا كبيرا بتعميم اللغة الإنجليزية بينهم؛ ذلك لأن هذه اللغة تحتوي من ألوان الثقافة العصرية ما لا يستطيع الأرلنديون أن يحصلوا على مثله بلغتهم التي لا تتسع للتعابير العلمية، أو للتأليف على الأبعاد الرحبة في الثقافة كما هي الحال في بريطانيا، وهو هنا يشبه - في حماسته للغة الإنجليزية - نهرو؛ فإن هذا الزعيم العظيم أيضا يدعو إلى التخفيف من النعرة الوطنية الهندية وإبقاء اللغة الإنجليزية في الهند، كلغة الثقافة والعلم، واللسان المشترك بين أبناء الهنود الذين تختلف لهجاتهم بل لغاتهم، وهذا على الرغم من أنها لغة المستعمرين الذين أذلوا الهند أكثر من مائتي سنة ونهبوها وأفقروها.
والحق أن اللغة العظيمة التي تتسع للعلم والثقافة العصريين تعد من أعظم الوسائل للارتقاء الفني والاجتماعي، بل السياسي والحربي، وأيما شعب يهمل لغته، ويتسامح في وجود بعض النقائص في تعبيرها أو هجائها، إنما يهمل بذلك عاملا خطيرا من عوامل حياته في موكب التطور، وكما يتخلف الشعب لإهمال القوة الصناعية أو القوة الحربية، ويتعرض بذلك للهزيمة في موكب التطور، كذلك يمكن أن يتخلف وينهزم إذا كانت لغته ناقصة.
وأيما إنسان درس التطور البشري يعرف قيمة اللغة، بل القيمة العظمى لها في تكبير الدماغ وترتيب المعارف وتوجيه الحضارة، وكان برنارد شو يكثر من ذكر الحكمة القائلة بأن اللغة جعلت المكان جغرافيا والزمان تاريخيا.
أي إننا بلا لغة لا يمكن أن يكون لنا جغرافية أو تاريخ.
وذلك لأن اللغة عينت، بالكلمات، المعاني، وهي التي نقلتنا من الخصوص إلى العموم، ومن الفكرة الإحساسية إلى التفكير التصوري.
وقد ذكرت الآنسة باتش سكرتيرة برنارد شو أنه كان كبير العناية باقتناء المعاجم، فما هو أن كان يظهر معجم جديد في إحدى اللغات حتى كان يشتريه ويقرأ فيه كما يقرأ أحدنا كتابا عن موضوع معين.
والواقع أن قراءة المعاجم الكبيرة، التي تتحدث عن الكلمة حديثا تاريخيا، هو متعة ذهنية كبيرة عند المستعدين لها؛ أي عند أولئك الذين يجدون الدلالة التاريخية أو الأنثروبولوجية في تاريخ الإنسان، وكثيرا ما عثرت أنا في قراءة الزمخشري أو ابن منظور على مواد ثمينة في هذا الباب.
وكان من اهتمام برنارد شو باللغة تلك الدرامة «بيجماليون» التي جعل بطلها أستاذا متخصصا في درس اللهجات، بحيث كان يستطيع وهو يستمع إلى أشخاص القصة أن يعين الإقليم الذي نشأوا فيه في إنجلترا، على أنه كان للمؤلف غاية أخرى في هذه الدرامة؛ فإن الحوار كان يجري على هذا الموضوع بشأن تعليم إحدى الفتيات لهجة أخرى غير لهجتها الوضيعة التي نشأت عليها وذلك كي يرفعها باللهجة الجديدة إلى مقام اجتماعي عال.
وكان برنارد شو يجد في هجاء اللغة الإنجليزية عيوبا كثيرة، والقارئون لمؤلفاته يجدون له أسلوبا آخر في هجاء بعض الكلمات، لا يتبعه غيره، يختلف من الهجاء المألوف، وقد دعا إلى إصلاح الهجاء ووقف مقدارا كبيرا من ثروته لإيجاد مؤسسة تدرس هذا الإصلاح وتدعو إليه، حتى يقنع الرأي العام ويأخذ به، وهذا الإصلاح هو الموضوع الذي ناقشته المحكمة وانتهت إلى إلغاء الوصية.
وكان برنارد شو يهدف من إصلاحه إلى جملة أشياء تستطيع أن نلخصها فيما يلي: (1)
حروف العلة التي تتحرك بها الكلمة ست فقط، مع أن هناك 12 صوتا لغويا، فيجب أن يكون في اللغة الإنجليزية 12 حرفا للعلة حتى لا يؤدي حرف أكثر من صوت واحد. (2)
ضرورة الاستغناء عن الحروف الثلاثة
COX
لأنها زائدة، ويمكن الحروف الأخرى أن تؤدي عملها. (3)
يجب ألا ينطق الحرف، ساكنا كان أم متحركا، إلا بصورة واحدة.
هذه هي أهم التغييرات التي طلبها شو، وهنا نحتاج إلى أن نقول إن الأمريكيين قد أخذوا ببعض الإصلاحات للهجاء الإنجليزي، وحاول تيودور روزفلت - حين كان رئيسا للجمهورية في 1906 - أن يغير الهجاء لنحو 300 كلمة، وبعث بجدول لهذه الكلمات المصلحة إلى إدارات الحكومة ومكاتبها للأخذ بها في المراسلات الرسمية، ولكن الرأي هاج فسارع إلى سحبها.
ما الذي يجعل الناس يكرهون إصلاح اللغة أو إصلاح هجائها؟
إن الجواب على هذا السؤال لا يختلف من جوابنا على نفور الناس من تغيير عاداتهم، فالكلمات عادات وطرق الكتابة عادات، وتغيير العادة هو صدمة تؤلمنا، ونحتاج إلى بذل جهد كي نقبل هذا التغيير، والصدمة تكون بالطبع أوقع عند الكتاب الذين يمارسون الكتابة كل يوم، وهي كذلك أكثر من صدمة عند الخطاطين، إذا كان هذا التغيير يتناول الحروف؛ لأنه يكون عندئذ بمثابة قطع العيش.
ومع أن هذه الحركة لإصلاح الهجاء قد وقفها حكم المحكمة، فإن هناك من سوف يستأنفون هذا الكفاح؛ لأن القضية التي تبناها شو صادقة، تعمل للاقتصاد في العلم لأبناء الإنجليز كما تيسر هذا التعلم لأبناء الشعوب غير الإنجليزية، وفي العالم الآن ثلاث أو أربع لغات يحتاج إلى تعلم واحدة منها جميع المثقفين في أنحاء العالم كله، وعلى قدر الصحة في نطق الكلمات، والقدرة على التعبير، والخدمة للعالم، والاقتصاد في الوقت والجهد للأجانب في التعلم، على قدر هذا كله يكون التفوق لإحدى هذه اللغات حتى تغدو لغة عالمية.
والآن أرجو القارئ العربي أن يذكر أن شو أراد من إصلاح اللغة الإنجليزية أن يكون بها 12 حرفا للعلة - أي حرفا حركيا - بدلا من ستة حروف، فماذا نقول نحن وليس عندنا غير ثلاثة فقط؟
ولكن صعوبتنا لا تنحصر في علة الحروف الحركية وإنما هي في الانفصال عن الحركة العالمية الثقافية؛ لأننا لا نستعمل الحروف اللاتينية التي أخذ بها 600 مليون صيني قبل شهور، الحروف التي تستعمل مقاطعها لتأليف الكلمات العلمية والتي نتعب نحن عبثا في ترجمتها أو كتابتها بحروفنا العربية، ماذا نقول في هذا؟
شو والطب والأطباء
عاش برنارد شو طيلة عمره يحمل على الطب والأطباء، يقول عن الأول إنه مجموعة من الخرافات، ويصف الأطباء بأنهم ليسوا مخلصين؛ إذ يعلمون أن معارفهم قاصرة، وأن جراحاتهم خطرة، وأن علاجاتهم عقيمة، ولكنهم يكادون يكونون مرتبطين في مؤامرة، كل منهم يداري على أخطاء الآخرين ويزعم العلم أو الفن حيث لا علم ولا فن.
ودرامته أو مأساته «ورطة الطبيب» التي تناول فيها هذه الموضوعات قد كتب لها مقدمة تبلغ، في طبعة بنحوين 88 صفحة شرح فيها موقفه، وهو موقف الأديب الفيلسوف الذي يدرس العلوم في استقلال، ويدلي برأيه في شجاعة تقارب الوقاحة.
ألف برنارد شو هذه المأساة في 1906، أي قبل خمسين سنة.
وماذا كان الطب قبل خمسين سنة؟
اسأل هذا السؤال لأحد الأطباء هذا العام (1957) يجبك بأنه لم يكن شيئا، وأنه حين يصف دواء لأحد المرضى فإنه لا يجد واحدا من تلك الأدوية المألوفة قبل 1906 يمكن الاعتماد عليه الآن.
أذكر أنا طبيبا عرفته حوالي 1910 في إنجلترا، كان ينتمي إلى أصل إنجليزي لبناني، وكان يدعى الدكتور صليبي، وكان قد انقطع عن ممارسة العلاج بدعوى أنه ليس هناك دواء للأمراض، وأن كل معارفنا من الطب لا تبرر لطبيب ما أن يزعم أنه يعرف معاني الداء والدواء، أو أنه قادر على شفاء المرضى، وكل الطب في نظره، وهو نفسه طبيب مرخص، أمل يرجى فقط وليس عملا يمارس، واقتصر - كي يحصل على قوته - على تأليف الكتب في الدعوة إلى إصلاح النسل بما يسمى اليوجنية.
وما زلت أذكر طبيبا فلاحا كنت أجالسه وأجد الأنسة والنور في آرائه، وكان ذلك في الزقازيق حوالي 1915، وقد قلت إنه كان فلاحا لا لأنه كان يمارس الفلاحة فقط، بل أيضا لأن عقليته كانت ريفية عملية، يسأل عن النتيجة في الدواء للجسم كما يسأل عن النتيجة في السماد للتربية، وكان قد انتهى إلى مثل يضربه لكل من يأنس فيه القدرة على التفكير وحفظ السر، وهذا المثل هو قوله: «ليس في الطب غير ثلاثة أشياء يوثق بها، هي الشربة للإسهال، والكينا للملاريا، والسم للموت.»
أعمدة الجمعية الفابية الثلاثة: سيدني ويب، برنارد شو، بياتريس ويب.
چرانفيل باركر، برنارد شو، جالزورت، باري.
أما ما عدا ذلك فليس هناك دواء لأي مرض لآخر.
ولم يكن برنارد شو شاذا في هجومه على الطب والأطباء، فإن تولستوي وقف مثل هذا الموقف أيضا وسخر من الطب، ومن قبل شو سخر كثير من المفكرين، واختيار شو لأسلوب معيشته في الغذاء والنوم والعمل، وشذوذه في هذا الاختيار، هما ثمرة استقلاله الفكري، وقد عاش بهذا الأسلوب 94 سنة.
وعندما نتأمل أسلوب حياته نجد أنه ينطوي على الاعتقاد بأن الأمراض هي نتيجة الحضارة القائمة، وأنها جميعا تقريبا تعود إلى الفقر، وإلى الجهل بقيمة ارتباطنا بالطبيعة، فقد كان يرفض التدخين ولا يشرب الخمر أو القهوة أو الشاي، كما كان ينام في غرفة مفتحة النوافذ حتى في الشتاء، وكان يمشي كل يوم نحو ثمانية كيلو مترات، وكان يتسلق الأشجار ويقطع غصونها، بل إنه مات عقب كسر حدث له عندما سقط من شجرة وأدى الكسر إلى التزامه الفراش في المستشفى، فأصابته نزلة شعبية مات بها.
برنارد شو وه. ج. ويلز.
وكلنا يعرف أنه التزم الطعام النباتي منذ بلغ التاسعة والعشرين من عمره، وإن يكن هو يعزو هذا الالتزام إلى الإنسانية وليس إلى المنفعة الصحية، ولكننا مع ذلك لا نتمالك الإحساس بأنه حين قاطع المنبهات والمخدرات، وحين أصر على النافذة المفتوحة وقت النوم، وحين مارس المشي كل يوم وتسلق الشجر، وحين التزم الطعام النباتي، إنما كان ينبعث في كل ذلك بالدعوة التي سادت في القرن التاسع عشر والتي بذر بذرتها جان جاك روسو وهي: عودوا إلى الطبيعة؛ لأن الطبيعة هي الإنسانية، وهي الصحة، وهي الهدوء والطمأنينة، وهي شاطئ الأمان من مفاسد الحضارة.
والواقع أن الطبيعة لم تكن قط في يوم ما كذلك، وإنما كانت في أحيان كثيرة «حمراء بين الناب والمخلب» ولكن الأفكار أو الخيالات الرومانسية كثيرا ما حفزت ونفعت. أجل، وغيرت الواقع.
وقد تأمل برنارد شو الطب، وانتهى إلى أنه فن أو علم ناقص. ولا تنس أن درامته هذه التي ألفها عن هذا الموضوع ظهرت كما قلنا في 1906، وكان من أحسن ما قاله أن الفضل في تقدم الصحة العامة في الشعوب المتمدنة يعود إلى الهندسة وليس إلى الطب؛ لأن المهندسين صنعوا أنابيب المياه التي تحمل الماء المصفى إلى المنازل وتنزح الماء القذر في أنابيب أيضا إلى خارج المدن.
ومع ذلك ليس كل الفضل للمهندسين؛ ذلك أن حركة التمدن وزيادة الثراء العام يعدان من العوامل الأولى في تقدم الصحة الوقائية التي كان معتمدها - إلى بداية هذا القرن - على النظافة، وأولى الوسائل للنظافة الشخصية هي الصابون الذي كان يحتاج إليه الفقراء ولا يجدونه، ولكن اتساع الثراء العام جعل هذه السلعة في متناول جميع الطبقات التي استطاعت أن تتخلص بها من أمراض بكتيرية عديدة.
كما أن تعميم النظافة التي يطالب بها التمدن ذوقا وييسرها اقتصادا، جعل العدوى بالحشرات - كالقمل والبراغيث - محصورة أو معدومة، وأصبح الغذاء وافيا في كمه على الأقل بتوفير الطعام.
وكل هذا، قبل اكتشاف الفيتامينات واختراع الضديات، مما جعل الصحة العامة على مستوى حسن وإن لم يكن عاليا، ولم يكن الفضل في شيء من هذا للطب، وإنما كان - كما قلنا - للهندسة وللتمدن والارتقاء العام.
وقد كان هذا الكلام حقا وصوابا، ليس إلى 1906 فقط بل إلى 1930 أو 1940، أما بعد تلك السنين فقد وثب الطب جملة وثبات حاسمة، فعثر على عقاقير السولفا أولا ثم الضديات ثانيا، وإلى جنب هذا، أو قبل هذا، عرفت الفيتامينات. ويستطيع المتأمل لهذه العقاقير أن يصف هذه المكتشفات بكلمة الثورة، وهي ثورة على ثلاثة أو أربعة آلاف سنة ماضية من الطب والشعوذة.
وأرجو القارئ ألا يلومني على جمعي بين هذين اللفظين؛ فإن المعاجم العربية لا تزال تقول إن الطب هو السحر، وقد كان كذلك بلا شك في أصله، بل إني حين أتأمل إقبال المرضى أو الواهمين على استعمال العقاقير بلا تعقل، وعلى إنفاق المبالغ الضحمة عليها، أكاد أحس أن الطب لا يزال فيه من الجاذبية ما يسحر به الجماهير ويجذب أموالهم إلى الصيادلة والأطباء بلا أدنى منفعة لها.
ولذلك لا نستطيع أن نلوم برنارد شو على حملته على الطب في 1906، بل كذلك لا نلومه على استهجان الأطباء في اعتمادهم على الحقن الإلزامي للطعم المضاد للجدري، فقد شاركه هربرت سبنسر في ذلك، وظني أنهما لم ينتهيا إلى هذا الرأي إلا لاستصغارهما شأن الطب، حتى صار كل ما فيه عندهما سيئا، وكانا بالطبع مخطئين، ولكن برنارد شو يتناول ناحية أخرى من الطب هي اعتماد الأطباء على التجربة في الحيوان الحي، وهو هنا إنساني فقط بعيد عن الروح العلمية، وبدهي أنه إذا اصطدمت عواطفنا الإنسانية في شأن كهذا بعقولنا وتجاربنا فإنه يجب أن نسلم بقيمة التجربة. وليس شك أن الحيوان يتألم، ولكن المنفعة التي تعود على النوع البشري تستحق هذا الألم الذي يجب أن نتسامح فيه إلى حدود معينة.
وواضح بعد ذلك أن لبرنارد شو موقفا اجتماعيا نحو حرفة الطب، وقد عاش حتى رأى تأميم الطب، أو شيئا منه، في إنجلترا.
والطبيب الحر، قبل التأميم، كان يجد أن مصلحته المالية تتفق وتفشي الأمراض؛ لأنها تزيد عدد المرضى ثم مقدار الربح منهم، ولكن الطبيب في نظام التأميم إذا تم يجد مصلحته في قلة الأمراض؛ لأنه يكلفه العلاج بأجر معين لا يتغير، فمن مصلحته أن ينقص عدد المرضى. •••
في آخر المقدمة المسهبة التي كتبها برنارد شو لدراسته «ورطة الطبيب» نجد هذه الخلاصة المثالية لرأيه في الطب والأطباء: (1)
ليس هناك ما هو أكبر خطرا من الطبيب الفقير حتى صاحب المصنع أو صاحب الأرض الزراعية ليسا أكبر خطر منه. (2)
ليس بين المصالح المؤسسة على الشرور الاجتماعية ما هو أعمق في الشر من المصلحة القائمة على استغلال المرضى. (3)
تذكر أن المرض جريمة، وأن الطبيب الذي يهمل الإبلاغ عنه للسلطة الطبية الرسمية في البلاد يعد شريكا في هذه الجريمة. (4)
انظر إلى كل وفاة في ظروفنا الحاضرة، باعتبارها جناية قتل أو اغتيال، وذلك بأن نجعلها موضوعا لتحقيق على يد النيابة العامة، فإذا ثبت أن الطبيب المعالج هو السبب للوفاة فيجب الحكم عليه بمحو اسمه من جدول الأطباء. (5)
يجب أن نعرف ونقدر عدد الأطباء الذين يحتاج إليهم الشعب، فلا نزيد عليهم ولا ننقص منهم، ويجب أن نجعل الطبيب موظفا عاما في الدولة ونعطيه أجرا كافيا من الميزانية يحفظ كرامته. (6)
عامل الطبيب الحر الذي يعمل وهو غير موظف بالدولة كما تعامل الجلاد الحر. (7)
عامل الأشخاص الذين يزعمون قدرتهم على شفاء الأمراض كما تعامل المنجمين ومحترفي البخت. (8)
اجعل الجمهور على معرفة تامة، عن طريقة الإحصاءات، بالأمراض التي يصاب بها الأطباء أو أفراد عائلاتهم. (9)
يجب على كل طبيب أن يزيد، على اللوحة التي كتب عليها اسمه على باب عيادته، هذه الجملة: «تذكر أني أمرض أيضا وأموت». (10)
يجب ألا يفوتنا، ونحن نضع التشريعات للنظم الاجتماعية، أن نعرف أن المرضى المزمنين الذين لا يستطيعون الشفاء بمجهودهم ليس لهم الحق في البقاء أحياء باستخدام غيرهم لهذا البقاء، والقول بأن كل إنسان حي لا تقدر قيمته هو - من حيث التشريع - غير عملي. (11)
لا تحاول أن تعيش إلى الأبد فإنك لن تنجح. (12)
استغل صحتك حتى إلى درجة البلى، وأنفقها كلها قبل أن تموت؛ إذ ليست لها قيمة أخرى عندك. (13)
ابحث عن العناية بصحتك قبل أن تولد، ومعنى هذا أن يكون هناك طبيب حسن تلدك أمك على يديه، ثم بعد ذلك يجب أن تجد المدرسة التي تكون بها عيادة طبيب للفحص عن أسنانك وعينيك وغذائك وسائر ما تحتاج إليه صحتك، ويجب أن يكون كل ذلك على نفقة الدولة وإلا فلن تجد هذه العناية بتاتا، كما أنك لن تستطيع - في الأغلب - أن تؤدي ثمن هذه العناية بنفسك، بل لا تعرف كيف تطلبها، وعندئذ تكون كما نحن الآن عليلين في شعب عليل لا نحس الخجل أو الخزي أو التعاسة مما نعاني. •••
والقارئ هنا يحس التحامل على الأطباء، ولكن علينا أن نذكر أن هذه الدرامة كتبت قبل خمسين سنة.
شو في سنيه الأخيرة
في مثل هذا الشهر (ديسمبر) من سنة 1950 مات برنارد شو بعد أن بلغ الرابعة والتسعين، وهذه هي سنيه الأخيرة، في شيخوخته، ومرضه، ثم وفاته، مما يجد فيه القارئ حكمة الفيلسوف وفكاهة الأديب وتصرف الإنسان.
في 1946 بلغ برنارد شو التسعين، وكان لا يزال نشيطا سليم الصحة، يسير كل يوم في الحقول ويشذب الأشجار ويتسلقها، ومعه فأس، يكسر منها تلك الغصون التي لا تتسق وجمالها، وكان لا يزال يضع «التصميمات» لأعمال مسرحية جديدة، وقد كتب وهو في هذه السن كتابه المعروف «ست عشرة صورة ذاتية» وهي ذكريات عن حياته، كما وضع كتيبا آخر بعنوان «أساطير مستغربة أو مستبعدة».
وسئل عند بلوغه التسعين إذا كان هانئا بشيخوخته، فأجاب بالإيجاب، وأنه لو لم يكن هانئا لانتحر وانتهى من حياته، وكان لا يكف عن الدرس والعمل وفقا لحكمته التي قال فيها إننا يجب أن نستهلك كل ما فينا من قوة قبل الموت، وأن نذهب إلى القبر ونحن «خردة» أي ليس فينا عضو سليم نأسف على دفنه.
وحدث وهو في الرابعة والتسعين، سنة 1950، أن تسلق شجرة لتشذيبها، وبقي على ذلك مدة، وبينا هو ينزل انزلقت قدمه فسقط وانكسرت ساقه.
ونقل إلى المستشفى حيث كان الأمل كبيرا عند الأطباء المعالجين بشفائه القريب، ولكن اتضح فجأة أن كليتيه لا تؤديان عملهما على الوجه الكامل، وكان هذا العجز في كليتيه السبب الأول لوفاته.
وكان طيلة مكثه بالمستشفى يضاحك الأطباء والممرضات، ويتفقأ لسانه عن النكات، فكان مما قاله للطبيب المعالج: «إني لو مت على يديك لأصبحت أشهر طبيب في العالم.»
وقال لإحدى الممرضات عقب استحمامه: «اكتبي لي شهادة بأني استحممت على يديك حتى لا أطالب من ممرضة أخرى بتكرار هذا العمل.»
وساءت حالته بسبب العجز في الكليتين، وأحس برغبة جامحة في العودة إلى منزله حيث أجيب إلى طلبه، وبقي أياما قليلة مات عقبها، وتقول المسز باتش سكرتيرته التي كانت ترعاه وتقرأ له الخطابات والتلغرافات التي تسأل عن صحته وترجو له الشفاء: إن الموت غشي وجهه بهدوء رائع كأنه قد مات هانئا إذ أدى عمله وأنجز واجبه نحو الحياة.
وما زلنا نذكر ذلك اليوم في ديسمبر من 1950 حين أذاعت التلغرافات نبأ وفاته، وكان مجلس الوزراء في الهند معقودا برياسة نهرو فقرر انفضاض الجلسة، واعتبر اليوم إجازة رسمية للمدارس، كأن نهرو قصد من ذلك إلى إيجاد وعي سياسي فلسفي عالمي بين التلاميذ الذين سيسألون عن السبب لهذه الإجازة وعن قيمة هذا الكاتب الذي أمضى عمره وهو يدافع عن الإنسانية ويجحد الإمبراطورية، وأغلقت جميع المسارح وسائر الملاهي في نيويورك.
وحدث حادث يؤسف له في الصحافة الإنجليزية التي تنحدر أحيانا إلى أسفل الدركات؛ فإن العادة المألوفة في جميع الجرائد الكبرى بها أن تخص مكانا من مبناها تجعله «جبانة» العظماء، وهي تستكتب الكتاب المختصين تراجم العظماء المشهورين قبل أن يموتوا، وكانت «الديلي إكسبرس» قد استكتبت ه. ج. ويلز ترجمة موجزة لبرنارد شو، ومع أن ويلز مات قبل شو، فإن هذه الجريدة نشرت هذا المقال الذي خرج على الناس كما لو كان عواء من القبر يوم وفاة شو، فقد كانت هناك خصومات قديمة بين هذين الكاتبين لم ينسها ويلز، فبعث أحقادها بكل ما فيها من لؤم وقبح.
ورأت الديلي إكسبرس أن نشر هذا المقال يزيد عدد القراء، وهذا هو ما تتوخاه في جميع نشاطها الصحفي.
ولا نستطيع أن ننسى هنا أن مثل هذه المهمة قد طلبت من برنارد شو عن ه. ج. ويلز، فكتب عنه أنه واحد من أولئك الناهضين الذين انفجرت نهضتهم أولا في القرن السادس عشر، وأن العالم ارتقى بمؤلفاته التي أرشد قراءه فيها نحو المستقبل، وهنا فرق بين كاتبين.
وتعود الخصومة بين شو وويلز إلى سنة 1905 حين أراد ويلز أن يغير خطة الجمعية الفابية الاشتراكية ويزيد عليها نشاطا آخر رأى شو أنه ليس من شأنها؛ إذ هي مختصة بنشر الاشتراكية فقط، وانهزم ويلز وخرج من الجمعية غاضبا على برنارد شو، ومن هذه المشاجرة الأولى نشأت خلافات وأحقاد، ولكن حدث أن وقع ه. ج. ويلز في مأزق من تلك المآزق الأخلاقية التي كان كثير الوقوع فيها، أو هكذا على الأقل رواية القصة، ولا ندري عنها أكثر من أن ويلز بعث بخطاب يشكر فيه شو لموقفه العالي نحوه ويرجوه أن ينسى إساءاته القديمة إليه، ولكن هذا الموقف لم يمنع ويلز من كتابة الترجمة الدنيئة لجريدة الديلي إكسبريس.
وكتب برنارد وصيته التي جاء فيها:
إني أرغب في أن يحرق جثماني، ثم يجمع الرماد ويخلط بالرماد المتخلف من زوجتي خلطا لا ينفصل، ورماد زوجتي مودع الآن أمانة في مرمدة جولدرزجرين، ويحفظ خليط الرمادين في إناء وينشر فوق أرض الحديقة بمنزلنا في أبوت سان لورنس حيث عشنا معا خمسا وثلاثين سنة، ولكن يمكن منفذي الوصية أن يغيروا في مصير الرماد إذا شاءوا، وأنا شخصيا أفضل نشر الرماد في الحديقة.
وقد أنفذت رغبته كما شاء.
وزاد في الوصية قوله:
بما أن عقائدي الدينية وآرائي العلمية في الوقت الحاضر، لا يمكن أن أضع لها تعريفا أكثر من أني أؤمن بالتطور الخالق، فإني أرغب في ألا يقام لي نصب أو يصنع لي تمثال أو صورة فنية، أو تنقش بشأني كتابة، أو يلقي أحد عني عظة، أو تعقد بشأني حفلة دينية على سبيل التذكار، ولا يحتوي شيء من هذا على ما يوهم أني اعتنقت أو قبلت العقائد الخاصة بإحدى الكنائس، وأن يتخذ هذا التذكار علامة الصليب أو أية أخرى للتعذيب أو التضحية الدموية.
وبكلمة أخرى مات برنارد شو ملحدا في معنى الإيمان بالأديان أو العقائد الدينية.
وترك برنارد شو تركة قدرت بمبلغ 767323 جنيها حصلت الحكومة منها على الضريبة وقدرها 380571 جنيها أي نحو النصف، ومع ضخامة هذه الضريبة فإن برنارد شو لم يكن ليأسف عليها، إذ هو كان من أعظم الدعاة لزيادة الضرائب التي تمكن الحكومة وهيئاتها المختلفة من القيام بالإصلاحات المدنية والاشتراكية والاجتماعية.
وكان أول ما عني به في وصيته أن عين منها مقادير (غير كبيرة) للمسنين من أسرته خئولة وعمومة، وكذلك فعل لأصدقائه.
ثم خص معظم التركة لمشروع إصلاح الهجاء الإنجليزي، وذلك بتأليف لجنة تدرس هذا الموضوع، وتوالي الدرس، حتى تزيد حروف الهجاء وتخترع حروفا أخرى لتأدية النطق الذي يتفق مع الحروف ولا يخالفها كما هو الشأن الآن في اللغة الإنجليزية.
ولكنه حرص على أن ينص في الوصية بأنه إذا لم يكن المنفذون راضين عن هذا الإصلاح فإنه يرغب في توزيع التركة على هذه المؤسسات التالية: (1)
المتحف الوطني في دبلين عاصمة أرلندا (ولا تنس أنه أرلندي الأصل). (2)
المتحف البريطاني في لندن. (3)
المجمع الملوكي للفن المسرحي.
هذا هو بعض ما يذكر عن السنوات الأخيرة من حياة برنارد شو، الذي مات في ديسمبر من 1950 دون أي احتفال بدفنه أو صلاة عليه أو سير جنازته في الشوارع في مظاهرة سخيفة كما يحدث لسائر الناس.
وليس شك أن الإحراق خير من الدفن، وهو نظافة وطهارة بالمقارنة إلى ما في الدفن من قذارة ونجاسة، وهذا إلى الاقتصاد في النفقات، والإحراق عادة قديمة مألوفة عند الهندوكيين الذين ليس في بلادهم جبانات.
ويطيب لنا هنا أن نذكر فكاهة شو عن التزامه للطعام النباتي 64 سنة، فقد كتب يقول إن له الحق عندما يموت أن تشيع جنازته قطعان وأسراب من البقر، والخراف، والخنازير، والدجاج، وأيضا حوض يحوي جماعة من الأسماك، وكلها في حداد عليه، وعلى أعناقها كوفيات بيضاء؛ وذلك لأنه لم يأكل الحيوانات مدة 65 سنة. •••
عندما يموت كاتب أو فيلسوف أو أديب نعود بالذكرى إلى حياته وأعماله، ونسأل:
ما هي الأفكار التي أشاعها فاستنار بها الناس أو ارتقوا؟
ما هو أسلوب حياته الذي أثر به في غيره؟
ما هي القيم الأدبية أو الأخلاقية أو الفلسفية التي خلفها؟
ما هي التطورات التي أحدثها؟
وفي ضوء هذه الأسئلة نستطيع أن نقول إن برنارد شو قد علمنا، ورقانا، وطورنا، في هذه الأشياء التالية:
أن المسرح ليس للغرام وحديث العشاق، أو لقعقعة السيوف والبطولة الزائفة، أو للجرائم السينمائية، وإنما هو للدراسة التي نلهو بها جادين، ونتعلم ونحن نطرب ونسر.
وأن التربية مهمة العمر كله، وأنها واجبنا الأول نحو الحياة وليس لنا من واجبات أخرى في العالم تقارب هذا الواجب.
وأننا يجب أن نتزوج إلى أعلى بغية التناسل، فنختار الشريك الذي نعتقد أن نسلنا منه سيفضل أبويه.
وأن ندين بديانة التطور، فنهدف إلى تعمير الدنيا، وإطالة عمر الإنسان، وزيادة الصحة في جسمه والذكاء في عقله.
وأن نأخذ بمذهب الاشتراكية، إذ هي الإنسانية في التطبيق.
سطور من الآنسة باتش
الآنسة باتش كانت سكرتيرة برنارد شو، أمضت معه ثلاثين سنة، وكتابها «ثلاثون سنة مع برنارد شو» ليس من الكتب العظيمة، ولكنه يحوي بعض التفاصيل الصغيرة التي تخفى على الذين عرفوا شو من مؤلفاته، وقد رأيت أن أنقل من هذا الكتاب سطورا قد تكون فيها بعض الدلالة على حياة أديب عظيم، وترجمتي هنا معنوية أكثر مما هي لفظية. «كان برنارد شو مهووسا بحب المعاجم، فما هو أن كان يقرأ عن إعلان عن معجم جديد حتى كان يسارع إلى شرائه.» «كان مكتبه يحفل في كل مكان فيه بالكتب من «الموسوعة البريطانية» إلى الكتاب المقدس في لغاته الفرنسية والألمانية والإيطالية والإسبانية فضلا عن الإنجليزية ... إلى كتب أخرى .» «كان يحب الحبر الأحمر وعجينة اللزق، وكان عندما يحب أن يصحح جملة في أحد السطور المجموعة بالكتاب، ينقر بالكتاب الجملة الصحيحة على ورقة بقدر الجملة الممحوة ويلزقها في مكانها.» «لما كان يقيم في المدينة قبل الحرب (الثانية) كان يبكر في الصحو ويقصد إلى نادي السيارات الملوكي، كي يرتاض بالسباحة في حوضه ... ثم يعود حيث يتناول فطوره ويقرأ الجرائد حوالي التاسعة صباحا، ثم يشرع في أداء أعماله، ويبقى أمام مكتبه إلى الساعة الأولى حين يتناول غذاءه، ثم يرتاح بعد الظهر ويستأنف أعماله في الساعة السادسة ويبقى في مكتبه إلى وقت العشاء، وكان من عادته في تناول العشاء أن يغير ملابسه ويلبس ملابس داكنة.» «كان من اعترافاته لي أنه لم يكن يجد ما يكفيه من إيراد التمثيل لمؤلفاته في لندن إلا حوالي 1905، مع أنه كان مدة السنوات العشر السابقة (من 1895 إلى 1905) يحصل على إيراد حسن من تمثيل دراماته في أوربا وأمريكا.» «لما كان عمره 65 سنة تعلم رقصة التانجو في ماديرا ... ويبدو أنه كان لبقا رشيقا في هذه الرقصة؛ لأن معلمه عرض عليه أن يرافقه في الطواف حول العالم لعرض رقصته، ولعل نجاحه في هذه الرقصة (مع تقدمه في السن) هو الذي حمله بعد ذلك على أن يتعلم أيضا اللغة الإسبانية، فاشترك في مدرسة مراسلة وأخفى اسمه، فكانت الدروس تصل إلي بعنواني أنا، وسئم هذه الدروس حتى إن مدير المدرسة بعث إلي بخطاب يأسف فيه على قلة مثابرتي في المذاكرة.» «زارنا نهرو (بعد الحرب) وأعجب بفاز مملوء بزهور الخزامى في البهو، وطلب مني أن أرافقه للتفرج في الحديقة، وكنا في صباح يوم ربيعي وكانت الحديقة على أزهاها وأنضرها، وترك لنا سلة كبيرة بها نحو ألف من ثمار المنجة، وشرح لبرنارد شو طريقة أكلها، وسأله برنارد شو عن المقدار الذي يمكن أن يأكله الإنسان بلا ضرر.» «لم يكن يحب أن يكتب مقدمات للمؤلفين الذين يرجون منه ذلك لمؤلفاتهم، ولكنه مع رفضه ذلك، كان على استعداد لمساعدة الكاتب الناشئ الواعد، وقد سأله واحد عما إذا كان يجب عليه - إذا شاء أن يكون مؤلفا - أن يتعلم صناعة الكتابة أولا، فأجابه شو بأن يعمد إلى الموسوعة البريطانية ويقرأها، حتى إذا وجد مادة يهتم بها فإن عليه أن يمضي في دراسة هذه المادة، وقال له ليست هناك أية منفعة بأن تتعلم كيف تكتب إذا لم تكن قد اهتممت بموضوع تكتب عنه وفي نفسك شيء تقوله عنه، فإذا وجدت الموضوع ووجدت الاهتمام، فإن الكلمات ترد إلى ذهنك في سهولة.» «كان كل مساء، قبل أن يأوي إلى فراشه، يخرج إلى الحديقة ويرفع رأسه إلى السماء يتأملها.» «كان المستر جون كيري لحادا يدفن الموتى، وكنا نحبه جميعا، وكنا نفرح عندما كنا نحمله على أن يلعب الكريكيت معنا في الحديقة.» «كان يقول في الدفاع عن الاشتراكية: إن الامتلاك الفردي لا يتفق مع الحرية، ويضرب المثل على ذلك بأن مالك الأرض لا يجعل من مستأجرها عبدا له فقط، بل إنه ليستطيع أن يبيع فرشاة أسنانه إذا لم يدفع له الجزية عن أرضه.» «قال عن الخمور إنها مخدرات، قد استغنت عنها روسيا لأنها جعلت الحياة محتملة (أيام لنين).» «قال لأحد الزنوج الذي زاره إنه كان مغمورا إلى عنقه في مذهب داروين قبل أن يبلغ السادسة عشرة، ثم عرف كارل ماركس بعد ذلك وصار اشتراكيا، وإنه لا يعرف أحدا آخر قد أثر في ثقافته.» «قال إن ماركس أثر في العالم أكثر مما أثر فيه المسيح أو محمد، ولكنه كان سبابة، ولذلك لم يكن له غير صديق واحد لو أنه كان قد استغنى عنه لمات جوعا.»
كانت المسز هيجينز الطباخة التي تهيئ الطعام النباتي لبرنارد شو، وقد أقام لها عندما ماتت نصبا في حديقته، وقال للنحات: «هل تحب أن أنقدك الأجر مقدما لأن عمري الآن 92 سنة وأخشى أن أموت قبل أن تنتهي من إقامة النصب فتجد صعوبة من المتولين للتركة للحصول على أجرك؟»
ونقشت الكلمات التالية على النصب: «برنارد شو المؤلف لعدد كبير من المسرحيات قد أقام هذا النصب في ذكرى صديقيه ومعاونيه اللذين يشكرهما: كلارا ربيكا هيجنز التي ماتت في الرابع من أغسطس من 1948 في الرابعة والسبعين من عمرها، وأيضا في ذكرى هنري باتشلور هيجنز الذي مات عقب وفاتها، فقد أمضى كلاهما السنين في العناية ببيته وحديقته في أبوت سانت لورنس، وبهذه العناية وجد الحرية لأن يؤدي عمله الذي كان يليق له، ولم يجد كاتب مسرحي آخر مثلما وجد هو من عنايتهما.» «كتب خطابا إلى جريدة التميس وهو في الثانية والتسعين من عمره يقول فيه إنه يجد من المحال أن يجعل الآخرين يفهمون ما يريد؛ وذلك لأن الذين يستعملون الكلمات لا يقصدون منها المعاني التي يطلبها منها غيرهم، وإنه هو مسئول بقدر مسئولية غيره في هذا الشأن.» «كلمة «الفظاعة» كانت الوصف الذي يصف به برنارد شو فكرة الأبدية بعد الموت، هي «فظاعة لا يمكن تصورها»، و«لا يمكن غير الطفل الذي لا يفهم معنى الأبدية أن يجابه هذه الفظاعة»، وكان يسخر من نشاط مستحضري الأرواح الذين يقولون إنهم يتصلون بالموتى.» «كان يتبرم بالغيبيات في الديانة المسيحية، ولكنه كان يسخو في التبرع للكنيسة في أبوت (حيث منزله) لإصلاح الأرغن ولشراء مولد كهربائي للإضاءة، وكان يصف قول الإنجيل «الله محبه» أنه ليس لهذا القول أية قيمة، وأننا لا نستطيع أن يحب أحدنا الآخر في عالم يحفل بالوحوش البغيضين المموهين، ولكن مع ذلك كان القسيس «انج» المشهور يصف برنارد شو بأنه «يعرف قلوب الناس»، يقول له: «إنك لست بعيدا من ملكوت الله»، وفي مدة الحرب طلبت الوزارة أربعة آلاف نسخة من درامة «أندروكليس والأسد» لتوزيعها على الضباط، وذلك لأنها توضح رقة التعاليم المسيحية، ورفض شو أن يأخذ ثمنها.»
كان يقول إنه يجب تعليم الصبيان قراءة الكتاب المقدس «لجمال لغته». «صفة التدين في المتدين الصالح إنما توجد، في رأي برنارد شو، في ذلك الإنسان الذي يعد نفسه وسيلة للغاية التي يهدف إليها الكون، وهي غاية سامية إذ هي «الصعود الدائم نحو النظام والقوة وانبساط الحياة»، حتى يظهر بالتطور كائن قوي حكيم له عقل يحوي الكون كله بالفهم مع الوسائل التي تمكنه من انفاذ إرادته الكاملة، وبكلمة أخرى يكون هذا الكائن إلها قادرا طيبا.» «... إنما نعجز عن الحديث عن الشئون الجنسية لقصورنا في التعبير اللغوي النظيف اللائق؛ ولذلك لا يجد الأطباء هذا الحياء الذي نجده نحن، لأنهم يستعملون الكلمات العلمية في التعبير بدلا من كلماتنا البذيئة.» «... الدين يكسبنا اليقين والاستقرار والسلام والإيمان المطلق، وهو يحمينا من ذلك الارتقاء الذي نخشاه جميعا، أما العلم فهو نقيض ذلك؛ لأنه لا يحل مشكلة إلا ويثير، إلى جنبها، عشر مشكلات جديدة.»
في اجتماع عام حضره شو وأينشتين قال الثاني عن الأول: «لقد نجح المستر شو في كسب حب الشعوب وإعجابهم الطروب بطريقة كانت تؤدي بغيره، لو أنه استعملها، إلى الاستشهاد، وإنه ليجرؤ على أن يسخر بما يبدو لغيره أنه بعيد المنال، وهذا الذي قام به المستر شو ما كان يمكن لأحد أن يقوم به سوى الفنان الموهوب، واستطاع بما لم يستطع غيره أن يضع المرآة أمامنا وأن يحررنا ويخفف عنا بعض أعباء الحياة.» «لما كان في أفريقيا الجنوبية كان يسوق سيارته وإلى جنبه زوجته، فاصطدمت السيارة وتدهورت وأصيب كلاهما بما أحوجهما إلى الراحة والعلاج، وفي هذه الأثناء ألف شو درامته «الفتاة السوداء» وموضوعها الاهتداء إلى الله، وقال في تصريح له لأحد الذين سألوه عن علة تأليفها هذه الكلمات الغريبة: «أنت تظن أنك تعتقد أن الله لم يعرف قصدي عندما كلفني وأوحى إلي بتأليف «الفتاة السوداء»، وما حدث هو أن زوجتي كانت مريضة طريحة الفراش في أفريقيا فجاء إلي الله وقال: إن كثيرا من النساء قد أرهقني بصلواتهم من أجلك، ما هي قيمتك أنت مع ذلك؟ فقلت له: إني أستطيع أن أكتب مع شيء من الكفاءة، أما في غير ذلك فلا أعرف شيئا. فقال الله: تناول قلمك وأكتب ما سوف أضعه في رأسك السخيف. وهذا هو الأصل لتأليفي هذه الدرامة.»» «لما ماتت شارلوت (زوجة برنارد شو) حملت إلى مرمدة جولدرز جرين حيث أحرق جثمانها في نفس المكان الذي أحرق فيه بعد ذلك جثمان برنارد شو ، وكانت حفلة الإحراق متفقة في الحالتين، ولم يحضرهما قسيس، وطلب برنارد شو عند ابتداء الحفلة أن يلحن الأرغن قطعتين من فيردي هما «نحن خالقو الموسيقا» وأيضا «فلنتحرر»، وقرأ السر سدني كوكريل صفحات من قصة «الحجيج في الطريق» للأديب دانيل ديفو، ولم تستغرق الحفلة الخاصة بشارلوت أكثر من أربع دقائق.» «تواردت الخطابات والتلغرافات لتعزية برنارد شو عقب وفاة زوجته فنشر في الصحف هذا الإعلان التالي: «تسلم المستر برنارد شو مقدارا هائلا من الخطابات بمناسبة وفاة زوجته، وهو مع أنه قد قرأها وقدرها جميعها، فإنه لن يحاول الرد عليها لأن هذا فوق طاقته؛ ولذلك فإنه يرجو أصدقاءه وأصدقاءها بأن يرضوا بهذه الإجابة العامة كما أنه يؤكد لهم أنه في انتظار النهاية السعيدة جدا، لعمره الطويل، يحيى الآن في هدوء كامل.»» «كان برنارد شو يفخر بأن جسمه يعادل في الصحة والقوة عشرة أضعاف الصحة والقوة عند «أكلة الجثث» يقصد غير النباتيين مثله، ومع ذلك يجب أن نذكر أنه كان مدينا في شفائه من الأنيميا الخبيثة لعصارة معدة الخنزير التي كان يحقن بها حتى حصل على الشفاء.»
كان من أقواله: «الصحة جزء من منهج الحكمة الذي ننهجه.» «كان عقب وفاة زوجته (في أوائل الحرب الثانية) يترك فراشه في الصباح في الساعة الثامنة، وبعد الفطور يقصد إلى الحديقة في حذائيه الثقيلين ويسير إلى أن يبلغ مخبأه حيث يبقى إلى أن يدعى للغداء، ولم يكن أحد يطرق عليه الباب طوال هذه المدة.» «وفي السنوات الأخيرة من عمره كان يقنع من الطعام بسندويتشات من السلطة المهيأة من الخضروات النيئة، ويشرب كوبا من عصير التفاح أو يأكل طبقا من اللبن الزبادي، ولكني لم أره قط يشرب الشاي أو الماء القراح، وكان يأكل البيض عندما لا يجد طعاما غيره، وقد سئم البيض لأن جميع من كانوا يدعونه لتناول الطعام كانوا يطبخون له البيض والسبانج، وقد سمعته يهدد أحد الجيران بأنه إذا قدم له هذا الطعام فإنه سيترك بيته فورا ولا يعود ، ولم أره قط يأكل الزبد الطبيعي، وقال ذات مرة إنه لا يمكنه التمييز بين الزبد وبين المرجرين (الزبد الصناعي)، ولم يكن يشرب شيئا بين الغداء والعشاء عند منتصف الساعة الثامنة من المساء، ولكن إذا حضر ضيف وشرب الشاي كان يشرب معه كوبا من اللبن، وكان بعد أن يستريح عقب الغداء يخرج إلى الحديقة ويرتاض بقطع الخشب من الشجر، فلما تقدمت به السن إلى الهرم كان يقنع بالسير في مماشي الحديقة حول البيت، وقبل أن يصل إلى السنين العشرة الأخيرة من عمره كان يقصد إلى مكتبه في الساعة السادسة مساء ويعمل بعض الوقت، وكان قبل أن يقعد إلى المائدة يدير الراديو، وظني أنه كان يفعل ذلك حتى لا يتحدث إليه أحد وقت الطعام.» «لم يكن شو نهما إلى الطعام، بل لم يكن أيضا دقيقا في تذوقه للطعام، وكان مغرما بالفواكه، ولكن كثيرا ما كان يتركها ولا يمسها حين تأتي هدايا من أصدقائه في إنجلترا أو في الخارج، وكتب إلى صديق له، وعمره وقتئذ 92 سنة، يقول إن اعتراضه على طعام اللحم ينهض على أساسين: الأول ذوقي والثاني منفعي؛ فإن الإنسان المتمدن يجب أن يصد عن رؤية القتل للحيوان أو الرضى به، ثم إن قتل الحيوان للطعام يستهلك الكثير من الوقت والجهد في إطعام الماشية والدجاج، وإضاعة الوقت في تربية الملايين منها، وهذه التربية تستلزم استعباد هذه الحيوانات للملايين من الناس في تربيتها وإطعامها وتناسلها.» «كان يقول إن النباتيين وصموا الطعام النباتي إزاء غيرهم من اللحميين حين قصروه على الكرنب والرز والعصيدة والجزر، وإنه يجب على النباتيين أن يأكلوا أيضا الجبن والزبد والشهد والبيض وفي بعض الأحيان زيت كبد الكود (أي السمك المعروف الذي يباع جافا في مصر في آخر رمضان باسم البكلاء)، وقد وصل إلى سن الرابعة والتسعين على الغذاء النباتي، ولكن حاجته إلى زيت كبد الكود، وأيضا احتياجه إلى التداوي بعصارة معدة الخنزير، برهان على أنه لم يكن يتعصب تعصبا أعمى للمذهب النباتي.» «من النوادر التي يشك في صحتها أن برنارد شو دخل مطعما فقدم إليه الجرسون طعاما من اللحم فوبخه شو، ولكن الجرسون بادره بالرد: «يا مستر شو أنت تلبس اليوم حذاء جديدا.»» «والنكتة هنا أن أديم الحذاء مصنوع من جلود الحيوانات، ولكن شو كان يرد على هذه النكتة بأنه ما دامت هناك ملايين من الحيوانات تقتل للطعام فإن من الحماقة ألا نستغل جلودها وصوفها للباس.» «كان بعد سن السبعين يستريح نحو ساعة ونصف بعد الغداء، وكان ينزلق في هذه المدة من النعاس إلى النوم، وكان ينبه من حوله بألا يزعجوه، وكان يتناول كتابا يشرع في تقليب صفحاته ثم يجده مخدرا فينام، أما قبل السبعين فلم يكن يحتاج إلى ذلك.» «جميع أفراد أسرة شو يعزفون على الآلات الموسيقية، ولما كان السر ستافورد كريبس وزيرا للمالية، وحين فرض ضريبة قدرها 66 في المائة على أثمان الآلات الموسيقية، وبخه شو وقال في توبيخه له: إن الموسيقا من الحاجات الأولى في الحياة المتمدنة. وكان شو يعزف على البيان، ويغني وهو يعزف، وبقي على ذلك كل يوم إلى أن ماتت زوجته، وكان صوته حسنا، قد مرنته أمه - وكانت معلمة غناء - على الغناء.» «كان يهوى التقاط الصور الفتوغرافية في جولاته، وبقي على ذلك إلى حوالي سنة أو سنتين قبل وفاته.» «كان يقرأ كثيرا، وأيضا كان يلعب كثيرا، ولكنه لم يكن يلعب للذة أو للتسلي، فقد كان يمارس السباحة، وركوب الدراجة، وسباق السيارة، والتجوال على قدميه في الريف، وكسر الخشب، وجر السياج الشجري حول الحديقة، وأحيانا يلعب التنس. وكان قصده من هذه الرياضات زيادة كفاءته لتأدية أعماله ... وحتى حين بلغ الثمانين كان يجول ويصعد في التلال، ويمشي في السهول، وحدث أن جاءه صحفي يريد الحديث معه فدعاه إلى مرافقته في التجوال، وأمضى معه الحديث، وعاد الصحفي المسكين وهو يلهث من الإعياء.» «على الرغم مما كنت أضيق به في خدمتي لبرنارد شو، كان في سلوكه معي حفاوة بي، وعندما بلغ التسعين، حين هزل وصار يبدو كما لو كان ورقة الخريف التي تهفو في الهواء لأقل هبوة، كان ينهض واقفا ويقدم لي كرسيه إذا رأى أن الكرسي الذي أقعد عليه ليس مريحا.» «كان عاجزا العجر كله عن أي خبث؛ وذلك لأنه كان راضيا عن نفسه، فلم يكن يحمل الخبث لأحد، وكان يرد على الحاقدين بهز كتفيه، وكان يريد الخير لجميع الذين كان يضايقهم بنقدهم، وقد انتقد في دراسته «المسرحية الأولى تأليف فاني» أصدقاءه الحميمين مثل ووكلي، كما انتقد الساسة بالفور واسكويث وكتشينر.» «عرض عليه رئيس الوزارة رمزي مكدونالد أن تمنحه الحكومة لقبا أو يدخله عضوا في مجلس اللوردة فأبى، وقبل منحه جائزة نوبل للآداب (14 ألف جنيه) لم يأخذ هذا المبلغ لنفسه وإنما وقفه على جمعية تؤلف من الإنجليز والسويديين لإيجاد التعاون الأدبي بين الشعبين.» «كان يصف نفسه بأنه «خطيب الغوغاء، الممثل الذي لا رجاء في إصلاحه.»» «كان يقول إن الرجل الذي يحمل في صدره مظلمة وقعت به يجب عليه أن يتخلص منها ولا يذكرها إذا وثق أنه لن يجد من ينصفه فيها، والمظلمة (مفرد مظالم) هي في رأيه كرب ونكد بمقدار ما تحتوي على حق وعلى ما لقي صاحبها من قسوة؛ ولذلك يجب على المبتلى بها أن يسارع إلى إسقاطها من حياته عندما ييأس من علاجها.» «كان عقله مضيئا كما لو كان من البللور؛ لأنه كان يأبى أن يزحمه بما لا قيمة له من الاهتمامات أو الدراسات.»
كان يقول عن مقامه في عالم المسرح: «لست الحصاة الوحيدة على الشاطئ بين كتاب المسرحيات إنما أنا شبح من أشباح إبسن»، وإبسن هو الكاتب المسرحي الذي أثر فيه تأثيرا كبيرا، وله درامة أو مأساة بعنوان «الأشباح».
كان يكره قطف الأزهار، زاره زائر ولاحظ أنه ليس في الغرفة أزهار، فأجاب شو: «أنا أحب الأطفال، ولكني لا أقطع رءوسهم وأضعها في زوايا البيت.» «كان إعجابه عظيما بالأمداء الفسيحة في الحقول.» «كان يكره الحديث وقت عمله، فكان إذا احتاج إلى شيء من شخص آخر في غرفة مجاورة كتب إليه سطرا، فيجاوب الآخر بسطر، ثم تجرى مكاتبات بينهما كأن محيطا بين قارتين يفصل بينهم.»
كان غيورا على الوقت، فقد قال لي بعد أن تناول غداءه وأحس الشبع: «يجب أن أستغني عن الغداء، تأملي كم من الوقت أنفق عليه في الطبخ والغسل، وهذا بعد فطور جيد، هذه سخرية.» «قال لي وهو في التاسعة والثمانين: «لا أستطيع أن أنتظر ستة شهور أخرى؛ فإن أيامي تعد علي الآن.»»
وعندما بلغ الثالثة والتسعين قال لي: «إن الموت يطرق الباب، وهو ضيف لا أرفض الترحيب به.»
كلمات برنارد شو
ليس لنا الحق في أن نستهلك السعادة دون أن ننتجها، كما أنه ليس لنا الحق في أن نستهلك الثروة دون أن ننتجها.
لا تقاوم ميولك، جرب كل شيء، ثم التزم الأحسن.
ذلك الذي يقتل الملك، وذلك الذي يموت من أجله، كلاهما عابد أصنام.
الحرية تعني المسئولية، وهذا هو علة الخوف الذي يبديه معظم الناس منها.
احذر الرجل الذي لا يرد لطمتك؛ لأنه لن يغفرها لك، ولن تغفرها أنت له.
الاقتصاد السياسي والاقتصاد الاجتماعي كلاهما ألعوبة ذهنية، إنما حجر الفلاسفة هو الاقتصاد الحيوي: الاقتصاد للحياة.
من الخطر أن تكون مخلصا ما لم تكن بليدا.
كل من تجاوز الأربعين يعد من الأوباش.
قولنا: «العقل السليم في الجسم السليم» خطأ؛ لأن الجسم السليم هو ثمرة العقل السليم.
عندما يمارس المتوحشون المسيحية تمارس المسيحية الوحشية.
الحياة تسوي بين جميع الناس ولكن الموت يبرز المتفوقين.
إنما يحصل الناس على الحكمة بقدرتهم على الانتفاع من اختباراتهم وليس لمحض اختباراتهم.
الاعتدال لا يمدح أبدا لذاته.
لا يستطيع أثرى الأثرياء، في عالم يحفل بالقبح والتعس، أن يشتري بثرائه سوى القبح والتعس.
كلما امتلك الإنسان أكثر مما يستعمل زادت همومه.
أعظم الآلام هو ما ينشأ من إطالة اللذة الحادة.
الجنون هو أن ننشد السعادة والجمال.
ذلك الذي يرغب في أن يحيى طيلة عمره حياة السعادة من امرأة جميلة يشبه ذلك الذي يرغب في الاستمتاع بلذة النبيذ باستبقاء فمه مليئا به.
في الشعب الأحمق يعد العبقري إلها، الجميع يعبدونه ولا أحد يعمل بإرادته، لو أن العظيم استطاع أن يجعلنا نفهمه الفهم الصادق لقتلناه.
الرذيلة هي التبذير في الحياة.
حب الاقتصاد هو الأساس لجميع الفضائل.
احذر الرجل الذي يقول إن ربه في السماء.
ليست الفضيلة أن نكف أنفسنا عن الرذيلة إنما هي ألا نشتهيها.
إن ما يؤمن به الإنسان ليس مذهبه الذي يفصح عنه، إنما هي مبادئه التي تحمله على السلوك والعمل.
السيد والخادم كلاهما ظالم، ولكن السيد يحتاج إلى الخادم أكثر مما يحتاج الخادم إلى السيد.
إذا عاملنا الخادم كما لو كان إنسانا لما وجدنا منه أية فائدة.
أكثر الناس قلقا في السجن هو السجان.
ما دامت عندنا سجون فليس من المهم أن نعرف من هم المسجونون.
السجن كالشنق لا يمكن أن نعالجه بعد وقوعه.
القتل بالمشنقة هو أسوأ أنواع القتل، لأنه يتم بموافقة المجتمع.
عندما يقتل الإنسان نمرا فإنه يصف عمله بأنه صيد ورياضة، وعندما يقتل النمر إنسانا فإننا نسميه حيوانية ووحشية، وليس الفرق بين الجريمة والقضاء أكبر من هذا.
أسوأ المربين هم الذين يحاولون أن يصوغوا أخلاق الصبي في قالب.
لا يمكن أي إنسان أن يتخصص تماما في علم ما دون أن يكون أبله.
الغاية الأساسية من الزواج هي التناسل كما قال الكتاب المقدس.
أعظم المخترعات في القرن التاسع عشر هو منع التناسل الذي يتيح الاتصال الجنسي ولكن بلا إخصاب.
الأمل هو نوع من المسئولية الأخلاقية.
إن خلف مسرحياتي علما اجتماعيا مدروسا.
الفنان الصادق يؤثر أن يترك زوجته جائعة، وأبناءه حفاة، وأمة تكد لتحصل على لقمتها وهي في السبعين، على أن يترك فنه كي يعمل عملا آخر.
إني أفهم على الدوام من معنى الاشتراكية أنها إصلاحات اقتصادية معينة أرغب في أن تنفذ، وليست مبدأ من المبادئ.
لقد أصبح التطور دينا، بل هو الآن دين القرن العشرين الذي نشأ من رماد الأديان والمذاهب الماضية، ولكنه لن يصير دين السواد من الأمة حتى تؤلف له أساطيره ومعجزاته وأمثولاته، ولا أعني بقولي «دين سواد» أن يفهمه سكان القرى فقط، بل أعني أن يفهمه الوزراء أيضا، وليس من العقل أن ننتظر النور والإرشاد من الذين يعدون الآن من محترفي السياسة ورجال الحكومات ؛ لأنهم ليسوا فلاسفة ولا أنبياء، إذ لو كانوا كذلك لكان همهم أن يفلسفوا ويتنبأوا بدلا من أن يضيعوا وقتهم في ممارسة الحكم.
لما رأى الكاتب العظيم أميل زولا مبلغ العقم الذي أصاب التناسل في بلاده، وأزعجه ذلك، عمد إلى قلمه فألف كتابا فصيح العبارة قوي الحجة في الدفاع عن مقام الأبوة والأمومة باسم «الخصوبة»، ولكن كتابه هذا اعتبر في إنجلترا غير لائق للترجمة وأن كل محاولة يراد منها شرح العلاقات بين الجنسين إلا من الناحية الغرامية الشهوانية يجب أن تقاوم.
هذا الحياء الذي تبديه الصحف لا يختلف من الحياء الذي يبدو من السامرين حول مائدة العشاء، وهو في حقيقته ليس شيئا سوى نقص في التربية وصعوبة في التعبير، فنحن لا ننشأ على أن نفكر تفكيرا نظيفا طاهرا عن هذه الموضوعات، وينتج من ذلك أننا نستعمل لغة فاسدة في التعبير عنها، ثم ننتهي إلى أن نصرح بأنه لا يجوز لنا أن نناقش هذه الموضوعات مناقشة علنية؛ وذلك لأن الألفاظ التي نستعملها في المناقشة لا تليق للاستعمال، على أن الأطباء الذين يستعملون الألفاظ الخاصة بحدود العلم لا يجدون هذه الصعوبة، وكذلك الحال في أساتذة اللغة الذين يحسنون التفكير، مثل أميل زولا في قصة «الخصوبة» أو تولستوي في قصة «البعث»، فإنهم يمكنهم أن يكتبوا دون أن يسيئوا أقل إساءة إلى القراء الذين يفكرون مثلهم تفكيرا نظيفا طاهرا.
هذا المخلوق الذي يسمى إنسانا والذي يعد في صميم عظامه جبانا، عندما يعالج مصالحه الشخصية، يستحيل إلى بطل عندما يجد فكرة ... وإذا أنت أوضحت له أنه سيؤدي عملا يزعم أنه قد كلفه الله إياه، وأنه سيكون لهذا العمل أسماء جديدة عديدة، فإنه عندئذ يخاطر بكل ما يملك ولا يبالي ما سوف تكون النتائج في شخصه.
تخلصت من رشوة السماء.
إني أمقت مذهب الفداء إيمانا بأن كرام الناس من الرجال والنساء يأبون أن يكفر أحد عن خطاياهم بأن يعاني هو موتا قاسيا.
بأي حق تجيز الأم لنفسها أن تدخن وهي تعنى بتربية طفلها، مع أنها تمنع من التدخين حين تبيع التفاح أو المناديل، أو حين تجمع أثمان التذاكر في الأتوبوس؟ أليس من حقنا أن نترك عربة التدخين في القطار ونحن مشمئزين دون أن نذكر أمهاتنا؟
إني أجد حضارتنا سائرة إلى الدمار لإسرافها في حرية الفرد الذي نجيز له أن يكون كسولا أو متلافا، أو أن يجمع الثروة الضخمة بالاستغلال المهين للعمال، أو بتجويعهم، أو بحملهم على أن يبيعوا أعراضهم، أو على أن يرتكبوا الجرائم أو يفشوا الأمراض بين مواطنيهم، أو أن يكون أحدهم لصا يغش الأرامل واليتامى أو غيرهم من الآمنين بأن يحصل على مدخرهم فيبذره ... إلخ.
العبقري ليس هو الرجل الذي يعرف أكثر من غيره أو يعمل أكثر من سائر الناس، ولم يحدث قط أن عاش عبقري ولم يتفوق عليه في هذين الشأنين عدد كبير من المغفلين الذين لا يرجى منهم خير، إنما العبقري هو ذلك الذي يرى أهمية الأشياء ويميز بينها، ولولا ذلك لكان أي معلم خيرا من المسيح نفسه.
لو أن مؤلف هذا الكتاب (أحد كتب شو نفسه) كان يشرب الخمر أو أي مخدر آخر لكان في الأغلب أروح لك، ولكنه كان يكون عندئذ أقل كثيرا في قيمته الذهنية ومحاسبته الوجدانية؛ ولذلك كان يكون أكبر خطرا على ذهنك.
أيما تغيير يلغي الفقر ويزيد الفراغ بين العمال سوف يلغي أيضا الحاجة إلى المخدرات والخمور التي تبعث في النفس إحساسا كاذبا بالسعادة.
إن القاعدة التي يقول بها الطبيعيون: «الطبيعة تكره الخواء» تنطبق أيضا على رأس الإنسان؛ إذ ليس هناك رأس فارغ ... فإذا أنت تركت زاوية صغيرة فارغة في رأسك لحظة واحدة فإن آراء الناس غيرك ستندفع إلى ملئها ... من الإعلانات والجرائد، والكتب، والقيل والقال، والخطب السياسية، والقصص والدرامات ... فيجب أن تحرص على أن تفكر بنفسك ما استطعت.
نموت جوعا إذا نحن كففنا عن العمل المنتج كل يوم، وإذا وجدت إنسانا فارغا لا يعمل فإن هناك من يعمل لنفسه وله، وإلا لما وجد أحدهما طعامه. ولذلك قال بطرس الرسول : «إذا لم يعمل الإنسان وينتج فإنه لن يجد ما يأكل.»
عقولنا هي عقول الجماعة، ومهما حاولنا الاستقلال في تفكيرنا فإننا مع ذلك لن نستطيع التخلص من التفكير الجماعي، وقصارى ما نستطيعه هو قشرة صغيرة من الاستقلال الفكري، بل إني لأقول إنك حين اشتريت كتابي هذا إنما فعلت ذلك كي أفكر أنا لك، ولكن الواقع أني لن أستطيع ذلك أكثر مما أستطيع أن أتناول لك عشاءك، وقصارى ما أفعل أني أطبخ لك عشاءك الذهني بأن أقدم لك مقدار ما فكرت وفكر غيري في الموضوع الذي تفكر أنت فيه؛ وذلك اقتصادا لك في المجهود.
ما منفعة النقود؟ إنها تمكننا من أن نحصل على ما نريد بدلا من أن نحصل على ما يظنه غيرنا نريده، وعندما تتزوج إحدى الفتيات يتقدم إليها أصدقاؤها بالهدايا بدلا من أن يقدموا لها نقودا، ونتيجة ذلك أنها تجد نفسها مثقلة بأدوات المائدة المكررة، أو بنحو ثماني ساعات، ولا تجد جوربا واحدا من الحرير، ولو أن أصدقاءها كانوا على تعقل وقدموا لها النقود بدلا من الهدايا - كما أفعل أنا - ولو أنها هي أيضا كانت على تعقل وقبلت النقود (وهي تقبلها على الدوام) لاقتصدت.
يمكننا تعليم الصبيان الجهل؛ إذ من السهل أن نكتب على ورقة بيضاء ما نشاء، ولكن أوراق المدارس التي يكتب عليها التلاميذ ليست بيضاء إذ هي تحفل بأبيات الشعر اللاتينية السخيفة، وبالشعارات والأمثال المهجورة، وبسخافات القرون الماضية وقماماتها، وبالتاريخ الحافل بالأساطير، وأيما إنسان يحاول محو هذه الأشياء يعاقب، وإذا لم يمكن عقابه فإنه يلعن باعتباره عدو الله والإنسان. أما روسو، وفولتير، وتوم بين، الذين حرروا الشعوب، فيعدون ملحدين أشرارا في مدارسنا العامة، وكذلك واشنطون وكارل ماركس ولنين يعدون مجرمين طغاة.
لا تقوم الحضارة إذا لم يكن لها قوانين ونظم واصطلاحات وقواعد، ولكن بعد أن تستقر كل هذه الأشياء يجب أن يكون هناك مجال للثورة والزندقة والشذوذ والابتداع والمخالفة؛ وإلا فإن الحضارة تتصدع وتنهار لأنها تعجز عن التكيف باكتشافات العلم ونمو الذهن، وعلى الحكومات أن تعاقب وتتسامح في وقت معا، ولكن العقوبة والتسامح ليسا مبدأين؛ إذ على الحكومة أن تعرف متى تعاقب ومتى تتسامح وفق الظروف الجديدة.
جميع أولئك الذين يحققون امتيازا في الحياة، يبدأون حياتهم ثوريين، والمتفوقون فيهم يزدادون ثورة كلما تقدموا في السن، وإن كان الوهم السائد عنهم أنهم يعودون محافظين، وعلة هذا الوهم أنهم يفقدون إيمانهم بالطرق المألوفة في الإصلاح.
سطور أخيرة
لو شئت أن أقول كلمة أخيرة تعين مكان برنارد شو في المسرح أو الأدب العصري، ما تعلمنا منه وما وضع مناهج، لقلت ما يلي:
بأن كتب الأدب تقوم في أيامنا مقام الكتب الدينية في العصور الماضية، وللأديب مقام النبي المرشد الذي يعين القيم الأخلاقية الجديدة ويغير القيم القديمة، وهو يهدف إلى ارتقاء المجتمع بأن يجعله مجتمعا متطورا.
المسرح هو الصورة العليا للأدب.
ولكن المسرح العالي هو الذي تمثل عليه الدرامة التي تعالج الأفكار وتنقد الأخلاق، وتعلم الجمهور بالمأساة والعبرة أو بالنكتة والفكاهة.
لم يعد المسرح مكانا للدرامة التافهة الصغيرة.
والدرامة التافهة الصغيرة هي التي يحبها الصبيان في سن العاشرة أو في سن الخمسين، هي درامة التسلية التي تحوي غرائب مثل الحظ الذي يجعل من الخادمة أميرة، أو الذي يهبط على الشحاذ فيحيله إلى ثري عظيم، أو التي تحوي مغامرات بشأن الخيانة الزوجية، أو قعقعة القتال والمبارزة، أو سفك الدم، أو ما شاكل ذلك مما يضحك ويسلي ولكن لا ينفع ولا يرقي.
ومع أن الفن شيء عظيم جدا، فإن هناك ما هو أعظم وهو الحياة؛ إذ هي أكبر من الفن، هي الكل وهو الجزء.
والهم الأول الذي يهتم له المؤلف المسرحي هو الحياة التي تأتي أولا، ثم يتبعها الفن عفوا وثانيا.
ليس هناك أسخف من القول بأن الفن للفن، أو العلم للعلم؛ لأن الفن والعلم كليهما يهدفان إلى خدمة الحياة.
درامة شو هي درامة المناقشة، وأكاد أقول إنها درامة الندوة، والمسرح بوضعه المادي لا يصلح للحركة والعمل، وإنما يصلح للحديث والمناقشة.
ليس الجمال هدفا للأديب أو الفنان، وإنما هو عرض للحياة العظيمة أو الحياة العميقة، فإذا هدف إلى إحديهما سما فنه من حيث يدري أو لا يدري.
ينكر شو الغيبيات في جميع الأديان، ويقدرها بما فيها من قيم أخلاقية فقط، وديانته الأصيلة هي التطور.
عنده أن الدنيا والكون والإنسان في تطور، وإنما يجب أن نهدف إلى إيجاد «سبرمان» من الإنسان، ونغير من الأخلاق بما يقتضيه إيجاده، وهذا المذهب هو الدين العملي للتطور.
يجب أن نهدف من الزواج إلى إيجاد نسل أعلى من الزوجين، وليس التناسل حقا لكل إنسان، إذ يجب أن يقصر على فئة مختارة من الشعب نرغب في الاستكثار منها بالتناسل، وهذا بالطبع لا يمنع من الاتصال الجنسي الذي لا يؤدي إلى التناسل.
روابطنا الاجتماعية أكبر وأهم، ويجب أن تكون أمتن من الروابط العائلية.
يجب أن نتساوى كلنا في الدخل بصرف النظر عما نؤدي من عمل، ويجب أن نذكر أن المرض الأساسي في المجتمع المصري هو الفقر، وهو علة المئات من الأمراض الأخرى.
وأخيرا يجب أن نستغل العلم في تغيير الدين والإنسان والطبيعة. أجل، ومحو الفقر؛ وذلك بزيادة الإنتاج.
Unknown page