بكم اتحدت هوى فلو حييتكم
قلت السلام علي إذ أنتم أنا
وتواعدا باللقاء من الغد في «سرڤيل»، حيث تكون ليلة الأنس الموعودة عند الباريسيات، ثم انصرف «ڤكتور» محتملا جسمه إلى منزله وتاركا فؤاده عند «أليس».
أخذتم فؤادي وهو بعضي فما الذي
يضركم لو كان عندكم الكل
فرآه آل بيته على تلك الحال من تشتت البال والبلبال، فبالغوا في الاعتناء بشأنه، ودارت به زوجته وأولاده يحاولون تنبيه فكره إليهم وهو لاه عنهم بالتي سلبته ذلك الفكر، حتى أنه خالف العادة في النهوض عن المائدة قبل أبيه وسائر ذويه بلا عذر ولا استئذان؛ فعجب والده من ذلك ولم يتمالك أن قال: يا للعجب! ما الذي أصاب «ڤكتور»؟!
فقالت «ماري»: تولاه الضجر يا والدي، واشتاق إلى معاشرة الناس، ومال إلى اختبار أحوال الاجتماع، فلا بد من إرساله إلى المدينة، فنحن ههنا لا نشفيه ولا نكفيه. - إن كان الأمر كذلك، فاذهبا إلى «بواتيه» واصرفا هناك فصل الشتاء. - أما أنا فلا أحب المدينة، ولست بتاركة منزلنا، فقد خلقت ألوفا لو تركت هذا الوادي لمت غما، فليذهب «ڤكتور» وحده وأنا أقيم. - كيف تصبرين على فراق زوجك؟ - إني أريد له السرور والسعادة، ولا بد لي من الصبر فللضرورة أحكام، فأنا أقيم ههنا مع الأولاد ولا شك أن «ڤكتور» يعود إلينا ولو بعد حين ، فإن الله مع الصابرين، ثم أعياها التجلد، فسقطت من عينها دمعة سخية، فمسحتها بأطراف البنان وقامت لتلحق بزوجها في غرفته، ولما كان الغد لم يخرج «ڤكتور» من المنزل، بل اهتم إلى المساء بإصلاح شأنه ومراقبة لباس الخدم ومسح العربة والخيل اهتماما لم ير منه قبلا، ثم عني بأمر لباسه فتأنق فيه ما شاء مسرعا غاية الإسراع حتى تم استعداده للزيارة قبل والده بنحو ساعة، فأعجبت به «أوچيني» وهو على تلك الحال إعجابا ممزوجا بالشك، ولم تجرؤ على معانقته ولا تقبيله مخافة أن تجعد الثوب أو القميص.
وأقيمت المأدبة في «سرڤيل» عند الباريسيات على وفق المرام، وجرى تشخيص الروايات الموعودة، فكانت مدام «دي ڤلمورين» المركيزة الحسناء هي المشخصة لأهم الأدوار، فأحسنت في التمثيل نهاية الإحسان حتى جرى مدحها على كل لسان، فلما تجلت على المدعوين في بهرة المنتدى بعد الفراغ من التشخيص حسدتها النساء حسد الضرائر للحسناء، وخفقت لها قلوب الرجال افتتانا بكمال ذاك الجمال، ولا تسل عما جرى على «ڤكتور» وهو الذي ما حضر قبل تلك الليلة مثل هذه المأدبة ولا رأى قبل تلك الرواية تمثيلا، فكيف به والتي استعبد قلبه هواها، واسترقه بيان بديع معناها هي المشار إليها والمعول عليها في المأدبة والتمثيل؟! على أنه كان آخر من تقدم إليها للثناء عليها، فلما رأته انعطفت إليه كأنما هي تطلبه من دون سائر القوم وقالت: هل سرك ما رأيته مني؟ - آه يا سيدتي ... ولم يزد.
والتزمته بقية الليلة لم تشتغل عنه بسواه ولم ترقص؛ لأنه لم يكن من الراقصين، وهي مع ذلك تتصباه برقة لفظها، وتتيمه بحركة لحظها، وترشفه من المنادمة مداما، تثير في القلب صبابة وغراما، حتى هزه الوجد واستخفه الفرح، ولمح الناس منه ومن خليلته ما كانا عليه؛ فتحدثوا في أمرهما متأسفين على «ماري» زوجة «ڤكتور»، توسلا للوقيعة في الباريسية الحسناء، وهذا شأن الناس من قبلهم ومن بعد لا يبذلون الشفقة إلا لتكون حجابا يستر النية السوداء.
وانصرف والد «ڤكتور» وحموه إلى منزلهم ب «مرلي» في أول المنصرفين ، ولبث هو في المرقص حتى لم يبق فيه أحد من المدعوين، ثم سار وفي ضميره للحب أسرار، ومذ حينئذ وقع في أحواله الباطنية انقلاب لم يخف عن قلب زوجته إن كان خافيا عن أعين الناس.
Unknown page