ويحسب ذاك الفناء وجودا
فإن عاش عاش حميدا سعيدا
وإن مات مات فقيدا شهيدا
وما فرغت باريسيتنا الحسناء من هذا الكلام الصادر من القلب حتى أخذها فيه حياء النساء، فعلت وجهها الزاهر حمرة الخجل، وكان «ڤكتور» أشد منها استحياء على أنه كان حائر الفكر، تائه اللب، يحسب نفسه في منام، وما يسمعه أضغاث أحلام، ويرى تلك الحسناء مستولية على لبه تتصرف فيه كيف تشاء، فتدفعه في طرق لا يعرفها إلى غايات لا يدركها؛ فيهيم في تلك المسالك هيام طرف الناظر من قمة الجبل الرفيع.
ومالت الشمس إلى الغروب وهما لاهيان ذاهلان عنها بما كانا يتجاذبان من أطراف الحديث من بضع ساعات، وكانت مدام «دي ڤلمورين» تتوقد في كلامها ذكاء، وتلتهب حدة، وتذوب تصورا، وتسيل رقة مقلبة أوجه الحديث، متفننة في ضروبه، متنقلة في أساليبه، تجد فتثير الأشجان، وتمزح فتذهب الأحزان، وتظهر العلم حتى يقال هذه آية الدهاء والذكاء، وتوهم الجهل حتى يقال هذه غاية السذاجة والصفاء، و«ڤكتور» مستهدف لتلك السهام بلا اختبار يحميه ولا اعتبار يقيه، ثم تنبهت الباريسية الحسناء لميل الشمس إلى الغروب، فخفت للانصراف، وقالت ل «ڤكتور»: قدر عليك أن تكون دليلي في مسالك هذا البلد، وأن أراك بين يدي كلما كنت محتاجة إليك حتى عجزت عن القيام بحق الثناء عليك، فهل لك أن تبلغني منزلنا غير مأمور؟!
فخف لذلك وانشرح وداخله السرور والفرح؛ فقال: لك الأمر وعلي الشكر. وانحدرا من الهضبة حتى بلغا شاطئ الجدول والنسيم تزف إليه والغصون تميل عليه.
غدير دار نرجسه عليه
ورق نسيمه وصفا وراقا
تراه إذا حللت به لورد
كأن عليه من حدق نطاقا
Unknown page