ولم يقل سعدون شيئا لهارون عما صنعه مع عبد المجيد، فكان شأن هارون عجيبا معه؛ فقد زاد من المبالغ التي كان متفقا عليها معه ومع حماته دون أن يطلب ذلك؛ ربما لأنه كان يعلم أن إباحة الأرض له ليزرعها قائمة على توكيل من صاحبي الأرض الصوريين، فكان في مقدور سعدون وزوجته أن يأمرا عطا الله أفندي والحاج وافي بأن يسقطا التوكيل عن هارون كما يسقطه عنه سعدون نفسه. وإذا فقد هارون هذه الأرض فإنه يفقد شيئا ليس هينا، ولو أنه استولى بنفس الطريقة على أرض أخرى كثيرة، أصحابها يقيمون بعيدا عنها ولا قدرة لهم على مواجهة الزراعة، ولكن مساحة الأرض المتاحة له من حميه وحماته ليست بالشيء القليل، وهو أيضا حريص ألا يسيء إلى بيته، ولا ينغصه من ناحيته منغص. فلو أن حماته وحماه لم يرضيا عنه لأثار هذا ما لا يحب له أن يثور من مشاكل في بيته.
أما أبوه وأمه فلا يستطيعان أن يثيرا مشاكل فبخل عليهما بخلا شديدا؛ فكانت تمر شهور لا يرسل إليهما مالا مع علمه أن لأبيه ريع أرضه التي استولى عليها، وله أيضا بيته الذي يقيم فيه، وإن يكن قد جمل بيت أبيه هذا وأثثه بأفخر الفراش، إلا أنه يظل مع ذلك بيت أبيه.
الوحيد الذي كان يزور حامد وزوجته من القاهرة هو سعدون، وقد أصبح يصحب حفيديه شهاب وفائق ليزورا جديهما ويمرحا في القرية في كل يوم جمعة. وأنس الطفلان إلى الجدين أنسا شديدا. وكان المال الذي يرسله إليهما هارون كلما تذكرهما لا يكاد يفي بما يحتاجان إليه من طعام وملبس ودواء، فكانا في ضيق مالي شديد لم يخف أمره على سعدون، وكان حائرا ماذا يستطيع أن يفعل إلا أن يأتي في كل أسبوع بهدية كبيرة نافعة للأبوين المهجورين، فأحيانا يأتي لهما بطعام وفير، أو يأتي لهما بملابس، وكان يقبلانها في إذعان يقرب إلى الذلة.
وتعرف سعدون في هذه الزيارات على أصدقاء حامد جميعا، وأنس إليهم وأحبهم. •••
مرضت الحاجة توحيدة وعادها طبيب الوحدة وهو صديق؛ فلم يقبل أن يتقاضى أجر الزيارة. ولم يكن المرض خطيرا ولكنه كان يحتاج إلى دواء على أية حال، وليس معهما ثمن الدواء، واضطر الحاج حامد كارها حزينا أن يطلب ابنه في التليفون ويخبره أن والدته مريضة. - مريضة بماذا؟ - المصران الغليظ. - بسيطة. - الحمد لله. - على كل حال سأحضر قريبا لأراها. - أهلا بك.
واستكبر الأب أن يقول لابنه أرسل الدواء، ووضع سماعة التليفون. ورأت الأم ما ارتسم على وجهه من أسى وشجن وحزن، وقامت من فراشها، وما هي إلا لحظات حتى عادت: حاج حامد. - نعم يا توحيدة. - لا تحمل الهم أبدا، خذ هذا الكردان. - حتى المصاغ القليل الذي تملكينه ستبيعينه هو أيضا؟! - بيعه خير من أن يرثه ابن لنا جحد أبويه. بعه يا حاج حامد. ما فائدة المصاغ إن لم يكن عونا عند الشدة، فما دمنا فقدنا ضمير ابننا، فلا بأس علينا أن نستعين بمصاغنا.
وأخذ الحاج حامد المصاغ، ولم يكن معه أجر السيارة إلى الزقازيق أو القطار إلى القاهرة، فراح يفكر في الأمر.
ترك الحاج توحيدة في مجلسها وخرج يخلو بنفسه في غرفة الاستقبال، ولم يتح له مختار عمر أن يخلو إلى نفسه طويلا: سلام عليكم!
وفي صوت هادئ ليس فيه رنة الترحاب التي تعودها مختار منه: أهلا. - ما لك؟ - لا شيء. - بلا هناك أشياء . أنت تحمل هما ثقيلا. - ومن فيها مرتاح يا مختار؟ - المؤمن. - نحمده؛ فبالإيمان نحتمل الحياة. - كنت مسافرا إلى القاهرة، ولكنني لا أستطيع أن أتركك على هذه الحال.
أنا كنت ذاهبا أزور الأولياء وبعض أقاربي. - كتر خيرك.
Unknown page