وكان إصراره أقوى من صوته. الآن عرف الحياة والناس كما عرف الوحشية والعذاب. واستمد من أهله قوة أشعل بها شمعة في عالم يموج بالظلام. وحانت منه التفاتة إلى ألفت فقبض على يدها ورفعها كأنما يقدمها إلى الجمهور في حفل عام وقال: إليكم أفضل زوجة على وجه الأرض!
أجل، لقد صمدت في المحنة؛ قامت بواجبها كمترجمة وربة بيت، وحضنت شفيق وسهام بالرعاية متحدية النبذ والتحقيق والرزق المحدود. أثبتت أنها أقوى مما توقع محمد أو تصورت ميرفت، وأقامت على حب الزوج الغائب بتفان، وتحمست أكثر لمبدئه، ولما رجع شبحا محطما غمرته بالحب والحنان راشقة في سمائه السوداء نجمة ماسية. وكانت كوثر تزورها كثيرا طيلة العامين، وعرضت عليها معونة ولكن ألفت اعتذرت شاكرة وإن قبلت الهدايا لشفيق وسهام. في تلك الأيام الحزينة قالت كوثر لأمها: ألفت هدية نادرة المثال.
فأحبتها سنية - ربما لأول مرة - وقالت: الشكر لله على أنها لم تعجن بطينة أمها.
ولم يكن تعريضها لميرفت من أجل مأساة الماضي وحدها ولكن لرعونتها - عقب وفاة حامد برهان - التي صارت حديث حلوان؛ برزت كامرأة متصابية في الخامسة والخمسين، متبهرجة، تنطلق بمفردها إلى الحديقة اليابانية أو السينما كأنما تعرض نفسها على الرائح والجائي. وجرى الهمس عن علاقة جديدة تتخلق بينها وبين حسن علما مهندس المباني - أحد سمار مجلس المرحوم حامد برهان - ولما شاع ما يقال وملأ الأسماع تحولت العلاقة إلى خطوبة، وطلق المهندس امرأته، ولكن الزواج تأجل إكراما لزوج ألفت السجين، وإن مورس بالفعل بصفة غير رسمية، وكانت كوثر تعلم بما يعلمه الناس جميعا ولكنها قالت: ألفت معدن آخر والحمد لله!
وأخفي الخبر عن محمد فأمضى فترة نقاهة قصيرة ثم رجع إلى مكتبه بعين واحدة وأخرى زجاجية وقلب متوثب للعمل. وغشي المحاكم وهو يعرج متأبطا حقيبته بذراع متوكئا بالأخرى على عصا غليظة. وانهمك في عمله انهماك مؤمن معذب يحلم بطوفان نوح من جديد. ومضت سنية في معاشرة آلامها التي لا شفاء منها، وأحلامها المعاندة المستعصية، مستوصية بالهدوء والصبر والرنو من حين إلى حين إلى الصورة التذكارية. ولكي تعفيها كوثر من بعض متاعبها استخدمت امرأة جديدة «أم جابر» كطاهية بعد أن اقتربت أم سيد - مثل أمها - من الستين، ولكي تستثمر جل وقتها في رعاية رشاد الذي ألحقته بروضة الأطفال سابقا ابني خاله شفيق وسهام وابني خالته أمين وعلي. هكذا بدأ جيل الأحفاد، أبناء العشق والآلام، والوطن تتجاذبه عوامل الصراع الخفية من ناحية وأحداث البطولات من ناحية أخرى. وعرفت منيرة زوجها أكثر وأكثر، زوجا عاشقا وفحلا عملاقا، وساذجا فيما يتعلق بالثقافة أو الحياة العامة، ولم يخدعها اهتمامه المباغت بالسياسة عقب اكتشافه أخاه ضمن الضباط الأحرار، وابتسمت في باطنها لأحاديثه عن الثورة ورجالها، ولحملته على الماضي ومخازيه، ومرة قال لمنيرة مفاخرا: نحن نعتبر من الأسرة المالكة الجديدة.
فضحكت قائلة: على مهلك يا أمير!
رغم حماسها للثورة منذ ساعتها الأولى، والتي لم تتغير تغيرا يذكر بمأساة أخيها التي هزتها من الأعماق. على أن قلقا ساورها مذ طعنت فيما بعد الثلاثين. إنها تمضي وحدها مخلفة وراءها زوجها يزداد تألقا وفحولة، وجعلت تطارد كلمات أمها القديمة كلما نبضت في خواطرها. واحتل سليمان بهجت مركزا ممتازا بقسم الخبرة بالزراعة بدفعة قوية من أخيه، وبدلا من أن يزيد من إسهامه في ميزانية البيت ابتاع سيارة بالتقسيط رغم التحاق أمين وعلي بالروضة وارتفاع الأسعار ببطء ماكر. وذات مساء انفجرت قنبلة تأميم قناة السويس مبشرة بميلاد زعيم جديد. ليلتها قال بهجت لمنيرة: سمعت من مخضرم أن استقبال جمال في عودته إلى القاهرة فاق استقبال سعد زغلول حين رجوعه من المنفى!
فوافقته منيرة رغم أنها لا تكاد تعرف عن سعد شيئا يذكر. ولم يستطع محمد أن يتذوق المغامرة بفمه المليء بالمرارة. واتفقت ألفت معه قائلة: معاملة إنسانية شريفة خير من بناء هرم.
فقال محمد: النبي عليه الصلاة والسلام أنشأ دولة إنسانية ولم يشيد هرما.
واستمع البيت القديم في حلوان إلى النبأ العظيم. لم تفهم أم سيد ولا أم جابر شيئا، وتوقفت كوثر عن تعليم رشاد دقيقة ثم واصلت عملها بحماس، أما سنية التي لم تشغلها آلامها وأحلامها عن قراءة الجريدة والاستماع إلى الراديو فقد خفق قلبها، واقتنعت - رغم مأساة محمد - بأن زعيما جديدا يتخذ موضعه في لوحة الزعماء الذين أحبتهم كما أحبهم زوجها الراحل. وسكر البلد بالنصر والعظمة، وانطلقت من صوت العرب زعامة عربية جديدة، وتضاربت الأنباء، واستفحلت الشائعات، حتى تجسدت الحقيقة في صورة عدوان ثلاثي، ومرحت طائرات العدو في سماء القاهرة ليلا ونهارا، تمطر قنابلها على المطارات والمواقع العسكرية. ومع أن الدبابات لاذت بأفنية العمائر إلا أن انتصارات وطنية ملأت الجو كالعاصفة وتمزق الناس بين الحماس والترقب. وتابع محمد وألفت الإذاعات الأجنبية حتى قال الرجل: انتهت حركة المجرمين، ولكن ما أفدح الثمن!
Unknown page