Balaghat Gharb
بلاغة الغرب: أحسن المحاسن وغرر الدرر من قريض الغرب ونثره
Genres
39
وكلما خطا خطوة غارت قدمه قليلا وتركت أثرا لا يلبث أن يمتلئ ماء.
نبع هذا الماء لينذره بسوء المنقلب، ولكن أسبل القضاء على عينيه سترا فلم يبصره. أمامه الشاطئ الرحب سهل ساكن لا يفرق بين صلبه ورخوه، فأخذ يواصل سيره ليبلغ الشاطئ، كاد يعتريه القلق، ولأي أمر يقلق؟ غاية ما هنالك أنه أخذ يشعر أن قدميه تزدادان ثقلا كلما خطا خطوة، وعلى حين غفلة يجدهما غائرتين في الرمل أصبعين أو ثلاثة.
أوشك أن يشعر الآن بضلاله؛ فألقى عصا الترحال ليبحث عن الطريق الأمين، ثم نظر فجأة إلى قدميه فوجدهما غائصتين في الرمل. نزعهما راجعا القهقرى، ولكنهما غابتا ثانية إلى الكعبين. تخلص وارتمى يسرة فأخذه الرمل إلى نصف ساقه. انتشلهما وانطرح يمنة، فغاص إلى ركبتيه. تحقق الآن من ضلاله فسقط في يده، وكاد يقطع سبابته من شدة الندم. عرف أن قد غره السراب، وتقطعت به الأسباب، فوقع في حبالة هذا الوسط الهائل الذي لا تثبت عليه الأقدام، بل لا تستطيع أن تسبح فيه الأسماك.
يحار الكاتب في تسميته، ليس ببر ولا ببحر، أخذ يفكر في سبيل للنجاة، فرأى أن يطرح حقيبته كالسفين، أخذها الموج من كل مكان، فقذف الركب عرض البحر ما تحمله من كل مرتخص وغال لينجوا بأنفسهم. جعل يعالج النجاة وقد أعيته الحيل، فابتلعه الرمل إلى ركبتيه. طفق يصيح مستغيثا مشيرا بمنديله، ولكن الرمل مستمر في اختطافه. فإن كان الشاطئ مقفرا، والديار بعيدة، وعدم النصير؛ فقد حم القضاء، وذهب صرخة في واد فريسة لهذا القبر السحيق، مستمرا في هويه البطيء في جوف الأرض، التي لم تمهله وابتلعته واقفا حرا في عنفوان صبوته وشرخ شبابه، كلما عالج وقاوم واشتد في صياحه وصراخه أسرعت الأرض في ابتلاعه.
بخل الثرى بالتعجيل بالتقامه ليترك له من الوقت ما يكفيه لوداع هذا العالم ليزداد حسرة على حسرة ومصابا فوق مصاب. أخذ يسرح الطرف، فرأى أمامه الأفق والأشجار والرياض الزاهرة ودخان القرى يتصاعد كالسحب وشرع السفن الماخرة في عباب البحر والطير الصادح والشمس المشرقة والسماء اللازوردية. •••
وهذه الرمال لهي القبر خرج من بطن الثرى على شكل مستنقع خفي ليختطف الأحياء الأصحاء.
يحاول هذا التعس الوقوف والقعود والاستلقاء بغير طائل. بل كل حركة يفعلها تزيد في غرسه، فيزأر كالأسود وينهب الأرض بذراعيه من اليأس، حتى إذا التقمه الرمل إلى صدره رفع ذراعيه وزاد زئيره. ينشب أظافره في الرمل، ويتكئ على مرفقيه لينسل من هذه الهاوية، ولا يزال الرمل حتى يصل إلى كتفيه ثم إلى عنقه، فلا يرى منه إلا الرأس، لم يبق منه إلا فم يصيح ويستغيث، ولكن حنق عليه الرمل فألجمه وسده؛ فلا تسمع له همسا ولا لمسا. بقيت عيناه تتوسلان بذرف العبرات، ولكن سئم منهما الرمل فأقفلهما، وصار يتخبط في ليل أليل، بقي منه شعر يلعب به الهواء، ثم خرجت من الرمل يده، واختلج بعض خلجات فاضت بعدها روحه فكان من الهالكين، وإن هي إلا هنيهة التأم فيها الرمل، وعاد كما كان سويا، وطوت الأرض في جوفها بائسا كأنه لم يك شيئا.
طرفة من الموسيقي
Un Peu de Musique
Unknown page