مقدمة المعرب
فيكتور هوجو1
ألفونس دو لا مارتين1
ألفريد دوموسيه1
أندريه شينييه1
الكونت ألفريد دوفيني1
فرنسوا كوبيه1
إيدمون روستان1
ألفونس دوديه1
تييوفيل جوتييه1
بيير كورنيي1
جان راسين1
مقدمة المعرب
فيكتور هوجو1
ألفونس دو لا مارتين1
ألفريد دوموسيه1
أندريه شينييه1
الكونت ألفريد دوفيني1
فرنسوا كوبيه1
إيدمون روستان1
ألفونس دوديه1
تييوفيل جوتييه1
بيير كورنيي1
جان راسين1
بلاغة الغرب
بلاغة الغرب
أحسن المحاسن وغرر الدرر من قريض الغرب ونثره
تعريب
محمد كامل حجاج
مقدمة المعرب
بسم الله الرحمن الرحيم
حمدا لمن أنشأ الإنسان، وميزه بفضيلتي النطق والبيان؛ ليترجم عما يوحيه إليه الشعور الشريف والوجدان، وصلاة وسلاما على نبراس العلم والعرفان، من خص بالحكمة وفصل الخطاب، وأوتي من جوامع الكلم ما سحر الألباب؛ حتى ساد قومه مجدا وفخرا، وإن من البيان لسحرا.
وبعد، فهذه نخب أقتطفها من معجز بلاغة الغرب؛ لنرى - معشر العرب - ما أحرزه الغربيون من قصبات السبق في مضمار التحرير والإنشاء، وما لهم من سلامة الذوق وحسن التعبير في الوصف والإعراب عن الشعور والعواطف بما يحس به الوجدان دون كلفة.
يقع شعرهم ونثرهم على الآذان كنغمات الموسيقى بما يشجي السامع من: رقة الوصف، وسلاسة التركيب، وأوانس الألفاظ، وغرر البيان، وبعد الكلام عما تعقد من المعاني، وخلوه من الخياليات المتشعبة والتنقل فيها بما يذهب بالسامع كل مذهب، فيركب متن الشطط، ويصعب عليه الفهم؛ فلذلك يعقله الفكر لأول وهلة دون إمعان وإجهاد قريحة.
وقد سلكت في تعريب هذه المقتطفات مسلك الأمين حرصا على المعاني لإبرازها بمشرب الكاتب؛ لنعرف أسلوبه وروحه في الإنشاء، وصغتها في قالب عربي سهل العبارة قريب التناول؛ لأزف إلى الناطقين بالضاد عرائس نظم الغرب ونثره رافلة في الحلل العربية، وعساني أكون أديت بعض الواجب الاجتماعي، وخدمت الناشئة بعمل نموذج لهم للترجمة والإنشاء؛ ليجمعوا بين الأصل والتعريب، ويعلموا كيف يسيرون فيه ويصوغون المعاني في القالب العربي اللائق بها والذوق السليم الملائم لها. وإن ساعدني الحظ وصادف عملي نجاحا وإقبالا من معشر قراء العربية، شمرت عن ساعد الجد، واستمررت في عملي هذا ناشرا أجزاء تباعا كلما سنحت الفرص وسمحت أويقات الفراغ والسلام.
فيكتور هوجو1
كان القرن التاسع عشر طفلا في حوله الثاني حينما تمخضت الأيام بمولود «بيزانسون»، وهو ابن الكونت «سيجيسبير هوجو» من مشاهير القواد والكتاب الحربيين، ثم طوحت به في كل شرق وغرب كحبة تذروها الرياح حيث تشاء.
نشأ من دم بريطاني ولوريني؛ فأصبح هذا الصبي واسطة عقد شعراء القرن الماضي، بل إمام شعراء الغرب على الإطلاق.
2
ولما ولد في عام 1802 كان القريض الفرنسي منحطا تغلب عليه الضعف؛ حتى كاد يودي به، وقد مضى وقتئذ على قتل «أندريه شينييه
André Chenier » الشاعر النابغة ثماني سنين، فلم يبق من خيرة الأدباء إلا «شاتوبرييان
Chateaubriand »، فإنه أتى بنثر رقيق متين تزينه روح الشعر.
وإذا استثنينا بعض الكتاب مثل: «أندريو
Andrieux »، و«كولين دارلوفيل
Colin d’Aarleville » اللذين مهرا في الروايات التمثيلية من نوع «الكوميدي»، والشعر البسيط المألوف؛ فإن الباقي من الأدباء لا يصلحون إلا لنظم الروايات المحزنة «التراجيدي»، التي كان يضرب الكل فيها على نغمة واحدة، والملاحم
3
الساذجة والأدوار المنظومة وغيرها مما تجرد جميعها من سحر البيان وغرر الإبداع، فكان نصيبها من القصاص أن طرحت في زوايا النسيان.
وكان من بين الأدباء في هذا العصر من يحسن الوزن، وتأتيه القوافي طوعا، ولكن نظمه خال من روح القريض ك «ديليل
Délille ». ويقال: إنه كان يفتخر في أواخر أيامه بأنه نظم في الإبل اثنتي عشرة قصيدة، وأربعا في الكلاب، وثلاثا في الخيل، وستا في النمور، واثنتين في القطط، وواحدة لكل من الشطرنج والنرد والضامة والبليار، وعددا عظيما في الشتاء والصيف والربيع وغروب الشمس والفجر؛ حتى ضل في عددها، ولما ظهر الجزء الأول من ديوان فيكتور هوجو المسمى «أود وبلاد
Odes et Ballades »
4
الذي بدأ به وهو في السادسة عشرة من عمره سنة 1818 سنة 1828، كان بردا قشيبا للبلاغة بعدما بلي ثوبها، وبدرا تما في سماء البيان غاب لظهوره كل نجم، ولم يكد يبلغ العشرين حتى أدهش الناس بحميته وحماسته وقوة خياله وغزارة مادته وطلاوة إنشائه وانتظام وزنه وسلاسة تركيبه.
وقد قويت وعظمت هذه الصفات في الأجزاء التالية من ديوانه، وفيها: «الشرقيات» سنة 1829، و«أوراق الخريف» سنة 1831، و«أناشيد الشفق» سنة 1835، و«أصوات الضمير» سنة 1837، «والأشعة والظلم» سنة 1840.
وكما أنه مهد للشعر سبلا جديدة، وحل أصفاده
5
التي رسف فيها حينا من الدهر، فإنه أتى بمعجزات المنثور وعنوان البيان وآية البراعة في كتابه «نوتردام دو باري
Notre-Dame de Paris » سنة 1831، الذي جمع فأوعى من شتات اللغة، فكان له القدح المعلى
6
في دولة النثير كالنظيم.
نظر إلى فن التمثيل، وقد هوى إلى الدرك الأسفل من الحطة والعوز، فصال عليه واستطال؛ حتى هذبه ورفع شأنه وبعثه بعثا جديدا.
ومن مشاهير رواياته التمثيلية التي سارت بذكرها الركبان، وسحبت على غيرها ذيل النسيان، ولم تفارق للآن أعظم المراسح ما وضعها شعرا مثل: «إيرناني»، و«ماريون دولورم» سنة 1830، و«الملك في لهوه» سنة 1832، و«روي بلاس» سنة 1838، و«ليبورجراف» سنة 1843 وغيرها، وما كتبه نثرا مثل «لوكريس بورجيا» و«ماري تودور» سنة 1833، و«أنجيلو» سنة 1835 وغيرها، وقد كتبها بنظم محكم السبك ونثر متين الحبك.
وقد انتخب في المجمع العلمي الفرنسي سنة 1841، ومنح رتبة «بيردو فرانس» سنة 1845، ثم خاض غمار السياسة إلى أن صار رئيسا لحزب الشمال الديمقراطي وخطيبه الأعظم، ثم حارب ضد لويس بونابرت، فحملته يد الاستبداد سنة 1851 إلى بروكسيل، حيث نفته هناك، ثم انتقل إلى جيرسيي، ومنها إلى جيرنزيي - وهما جزيرتان إنكليزيتان في بحر المانش - ولبث في منفاه ثماني عشرة سنة، ولم يرجع إلى وطنه إلا في سنة 1870، حيث بر بقسمه بأن لا يطأ أرضه ما قامت لعرش الملك قائمة.
ولقد أسعده النفي بنفحات مدهشات البيان، فراق له جو الخيال، وأوحت إليه الموجودة ببدائع البدائه وأحاسن المحاسن؛ فزف إلى القراء من بنات أفكار النظم والنثر ما خلب العقول وسحر الألباب، فنظم كتابه الذي وسمه ب «نابليون الصغير»، وكتاب «العقوبات» سنة 1853؛ فكان كأفعى تنفث سما زعافا فاغرة فاها نحو نابليون الثالث، ولم يجر يراع كاتب في الحقد والضغن بمثل ما أتى به قلمه في هذا الكتاب، ثم وضع كتاب «المشاهدات» سنة 1856، و«سير القرون» سنة 1859، وهو من أبلغ ما خطه بنان الشاعر. حشر فيها سير القرون الخوالي من أغلب الأمم؛ مما يدل على سعة اطلاعه في التاريخ، وأظهر فيها رقي الأمم من طور إلى طور، وتدرجهم في الكمال، ثم كتاب «البؤساء» سنة 1862، وهو نثر وخير ما كتب في درس الإنسانية والحياة الاجتماعية، مما تذوب له القلوب حنانا ورحمة وتذرف لهول بؤسه العيون الجامدة دما، وما لم يستطع كاتب أن يأتي بمثاله أو ينسج على منواله، و«عملة البحر» سنة 1866، و«الرجل الضاحك» سنة 1869، و«ثلاث وتسعون» وغيرها.
ولما آب إلى وطنه بعد سقوط المملكة وضع كتاب «العام الأسود» سنة 1872، ثم الحلقة الثانية من «سير القرون» سنة 1877، والحلقة الثالثة منها في سنة 1883، و«تاريخ جناية»، وقد ذكر فيه حوادث الهيئة الاستبدادية وغيرها من كتب: تاريخية، وفلسفية، وقصصية، ورسائل، وأفكار، وخواطر. وصار من رؤساء الحزب الجمهوري، وكان يطربهم بخطبه الشائقة في العدل والإنسانية والتقدم الأدبي والاجتماعي إلى أن توفي بباريس سنة 1885، وهو في الثالثة والثمانين من عمره، ومشى في جنازته ألوف مؤلفة؛ مما دل على عظم مكانته في قلوب قومه وتمجيدهم له.
نابليون الثاني
Napoléon II
7
سنة 1811: عام وما أدراك ما العام؟! ماجت فيه أمم لا يدركها الحصر، وقد أضجرهم الانتظار وفني منهم الصبر. يظلهم غمام مكفهر. مبتهلين إلى الله أن يستجيب دعوتهم وينيلهم أمنيتهم.
وكانوا يشعرون أن هذا الملك الواسع الأكناف المترامي الأطراف، يمتد تحت أرجلهم رعبا، ويرتعد خشية ورهبا، محدقين بأبصارهم إلى قصر اللوفر، وقد زمجر فوقه الرعد حتى كاد يدكه كطور سيناء، مطرقين كجواد بصر بصاحبه يقول بعضهم لبعض: ستتمخض الأيام بمولود ذي شأن ينتظره هذا الملك العظيم ليليه ويأخذ بزمامه.
ليت شعري! ما الذي أعده الجد لهذا الرجل الذي يفوق قيصر ورومية؟ ومن سيضيف حظوظ البشر إلى حظه فيسعدون بسعده ويشقون بشقائه؟!
وبينما هم يتحدثون إذ انقشع الغيم المربد،
8
وأشرقت السماء رافلة في حلتها اللازوردية. يتلألأ في كبدها بدر هذا المولود الذي اختاره القادر؛ ليقبض على صولجان هذا الملك الفخم، فما كان لهذا الشعب الصاخب
9
إلا أن صمت واستكان لظهور هذا المولود في عالم الوجود.
نفخت ريح هذا الرضيع في قبة دار العجزة،
10
فخفقت فيها الأعلام المسجونة، واهتزت كالسنابل حركتها الرياح، وكان صياحه الرخيم هو الذي أطلق من المدافع المتربعة ببابه أصواتها المزعجة.
نفخت الكبرياء بعرنين والده الأشم،
11
وكان مطبقا بذراعيه على صدره ثم فتحهما، تحوط يده ابنه الذي تنبعث من عينيه أنوار أضاءت ما حوله، وارتد عنها كل طرف كليلا. •••
ولما عرض الأب وارث عرشه على رءوس الأشهاد من أمم تابعة وملوك خاضعة، هاجت به شجونه
12
ونظر شزرا وازدراء لمن حوله من الملوك؛ إذ لم ير غير ابنه كفؤا لهذه المملكة الشاسعة، كنسر حط من عل
13
فوق قلة
14
صائحا مستبشرا بصوت ملؤه الكبرياء والعظمة: المستقبل لي وحدي وطوع بناني! كلا ثم كلا، فالمستقبل ليس لأحد بل لله الواحد القهار، ولا تمر ساعة إلا وتودعنا الكائنات. المستقبل سر مكنون، والأرض وما عليها من مجد وسعادة وقوة وتيجان ونصر متنازع لطمع أشعبي حقيق، وهذه المنح كلها عواري
15
كطير حط على دورنا فما هو إلا لمحة ويطير.
مهما بلغ المرء من الحول والقوة، ومهما ضحك وقهقه، أو بكى وأعول لا يستطيع أن يطلع على الضمائر والسرائر، ولا أن يقضي على أحد قبل أجله وساعته. •••
أيها الخيال الأخرس والطيف الملثم! يا من هو أتبع لنا من ظلنا! يا من يدعونك الغد.
إنما الغد حارت فيه الأفهام، وضلت في مفاوزه الظنون والأحلام. يبذر الإنسان السبب، فينضجه القادر غدا؛ فيستحيل من عالم الذر إلى عالم الظهور والقوة. غدا برق محتجب، ونجم مستتر في السحب، وخائن يزيح اللثام، ومنجنيق يدك الحصون والمعاقل، وكوكب ينتقل من منطقته وباريس تتبع بابل. غدا تنوب
16
العرش واليوم مخمله، غدا جواد يخوض المعامع مرغيا مزبدا. غدا - أيها الفاتح - تلتهب موسكو في الليل الحالك كالمصباح في يد المدلج. غدا تغطي جثث حرسك القديم السهول والبطاح. غدا واترلو. غدا القديسة هيلانة. غدا الرمس!
إنك لتستطيع أن تطأ المدن بسنابك خيل فرسانك، وتحل مشكلات الحروب بصمصامك، وتسد نهر التاميز والنصر حليفك بحولك وقوتك ، وتحطم الأبواب المغلقة بسطوتك وقدرتك، ثملا بنشوة الظفر، يرنح عطفيك صوت نفيرك، ساحبا ذيل النسيان على كل صيت طائر.
أمد الله في أيامك ! إنك لقادر أن لا تترك من الأرض ذراعا، وأن تنزع أوروبا من شارلمان، وآسيا من آل سام، ولكن هيهات أن يخضع لك الغد إلى الأبد. •••
يا للنائبات الواعظات! لما أخذ شبل هذا الأسد تاج رومية بدل اللعب حتى ذاع شأنه، ولما أظهره أبوه للملأ وجبينه الملوكي يهتز، دهشوا لعظمة هذا الصغير وهيبته.
وقد ظفر والده لأجله بوقائع عديدة وفتوحات عظيمة، فجلس بجانب سرير طفله مبتسما بادي البشر، وقد كان كبان يعرف كيف يؤسس بناءه؛ إذ أجهز على الدنيا بضربة معول فأقبلت خاضعة طائعة حسب أمانيه.
ولما أتم الوالد ما أعده ليمهر الطفل الحقير بالعظمة الدائمة. هيأ له قصرا وطيد الأساس متين الدعائم؛ ليحفظ حياة ابنه من العوادي والغوائل.
ولما ظمئ النسر وجد أمام فرنسا كأسا مفعمة
17
بخندريس
18
الأمل، وقبل أن يدني هذا السم المموه من شفتيه ويذوقه انقض فارس من القوزاق على الطفل انقضاض العقاب على الظبي، وأردفه خلفه على الجواد، وفر كالسهم قذفته القوس.
وفي ذات ليلة كان المضرحي
19
صافا
20
في القبة الزرقاء إذ اكتنفته ريح صرصر عاتية كسرت جناحيه، فهوى إلى الغبراء هوي الصواعق، وانقضت عليه الذئاب الضارية عند وكنه تتقاسمه وتنهشه بأنياب حداد، فكان من نصيب إنكلترا القشعم
21
والنمسا الهيثم.
22
لم يغب عنك ما فعل بهذا العظيم الهائل، فقد زج به في أعماق السجون ست سنين وراء أفريقية والبحار.
النفي ممقوت كافر! كان هذا البطل العظيم متربعا في قفصه، منحنيا تلعب أسنانه بركبتيه، ولو كان قلب هذا الطريد خلوا لكان أنعم بالا، ولكن قلوب الآباء لهي قلوب الآساد؛ إذ كان ابنه آخذا بشغاف قلبه، ولم تبق له الدنيا إلا ذخيرتين في عرينه: صورة ابنه وخريطة الدنيا، وبعبارة أخرى مرمى فكره ولبه وجميع قلبه.
وفي المساء كان يسرح الطرف في مخدعه؛ إذ كانت تدور في رأسه الصلعاء أعماله وفتوحاته الماضية، وكان السجانون والديادبة له بالمرصاد ليل نهار ليقرءوا ما يرتسم على جبهته من الفكر والآمال.
ما كان يفكر ساعتئذ في ملحمة كتبها بظبة حسامه؛ إذ يصف أركول وأوسترلنز ومونميراي.
23
لا ولا الأهرام وباشا القاهرة وصافناته الجياد التي عضضن صدور خيله. لا ولا الجلل والمدافع التي لبثت تحت قدميه عشرين سنة وأذكت الوغى بقتامها وسحبها السود، ولما هبت ريحها على هذا اليم الهائج كانت الأعلام الخافقة مائلة في الملحمة الشعواء.
لا ولا مجريط
24
أو قصر الكرملين
25
أو الفنار، لا ولا موسيقاه تعزف في الصباح لإيقاظ الجند. لا ولا جنوده المعسكرة في السهول من خيل ورجل بملابسهم الحمراء كزهور أرجوانية نابتة في حقل من الحنطة.
بل كان شغله الشاغل عسجد شعر طفله الجميل، وورد خدوده وهو نائم مطمئن بفم يكاد ينطبق وهو كالشرق في بهائه وحسنه، وقد انحنت عليه مرضعة متهللة تلقمه ثديها ضاحكة.
رزح الوالد تحت أثقال همومه وشجونه، وقد تيمه حب ابنه، فأسند بمرفقيه إلى كرسيه، وهاجت بقلبه تأوهات مستعرة؛ فتفجر الدمع من آماقه واسترسل على خدوده.
بوركت
26
من طفل مسكين أثلجت شعوب رأسه، وإنك وحدك القادر على تسلية أبيه وعزائه لملك ضاع وأفلت من بين يديه. •••
أناخ الدهر بكلكله على النسر وفرخه فألحقهما بخبر كان، فيا له من زمان قاس ابتدأ بقهار الجبابرة، وغلاب القياصرة! ثم ختمه بعظام رفات نخرة، وقد كفت عشر سنين لنسج أكفان الأسد وشبله.
احتوى اللحد مجدا وصبا وكبرياء، والمرء يود لو يترك له الموت خلفا، ولكنه لا يسمع له نداء، وكل عنصر يرجع لأصله: فالهواء يأخذ الدخان، والأرض الرماد، والنسيان الاسم. •••
يا للهياج والاضطراب الذي أجهله، وأنا أحقر الملاحين إذ لا أدرك كنه ما يعمله القادر في الغياهب تحت اللجج
27
الهائجة الحاقدة عليك الهازئة بك. وأسرار الخالق غامضة يضل فيها النهى. ليت شعري أهذه الأمواج الثائرة، وأصوات هذه الحفر المرة المزمجرة، وهذا التيار الدوار بمخالبه الهائلة، والبرق ولألاؤه، والرعد وقصفه ودويه، أليست اللهم صالحة لدرر البحار؟!
وهذه الأنواء والعواصف المخوفة لترتعد أمامها الخلائق من أمير وحقير. يا لليم من أعمى أصم أضل من شعب ثائر هائج، وماذا ينفعك نشيدك يا شاعري وأغانيك التي يمليها عليك الخيال ويرددها الصدى في هذه اللجج الحائرة المضطربة، وقد صمت آذانها؛ فلا تسمع لك نداء ولا غناء، ويذهب صوتك صرخة في واد.
وأنت أيها الطير المسكين الذي تتقاسم ريشك الرياح، وأنت تغني فوق زبد ذلك الجبار العتيد على سارية جارية
28
ضلت سبيل النجاة! ليل طويل. وعذاب مستمر، وسماء مكفهرة لا يرى بها ركن رائق، وقد اختلطت الأشياء بالناس اختلاط الحابل بالنابل،
29
وهووا في مهاوي الفناء، وابتلعهم الخضم الغشمشم فكانوا من المغرقين.
كل من عليها من ملوك وأمراء ونابليون العظيم والصغير طوتهم الأرض في جوفها طي السجل للكتب، ومحتهم كما تمحو اللجة اللجة، و
كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام .
الغريق
Le Naufragé
واأسفا للمرء المسكين تلعب به الكائنات والعوالم لعب الشمأل بالشجر، ثم تفترسه كالسنور يلاعب الفأرة ريثما تنبه منه شهوة الطعام، ثم يمزقها كل ممزق بأنياب حداد وأظافر كالأسنة. تصعقه الزرقاء
30
وتبتلعه الغبراء
31
ضعيف تعس منكود، ولد محاطا بنحس يثقل كاهله، ويحني عاتقه، يسترشد عقله فيضله ويغره، وإن أبرق له الإلهام ببعض أشعة ضئيلة ليهتدي بها في حنادس ضلاله، أدركها القضاء الغامض فطفق يجالدها وتجالده حتى تنطفئ وتنعدم.
أنعم النظر في البحر، واعطف على رابية من الصفا ناتئة من الماء فوقها كوخ حقير لصائدي الأسماك. عرشه من بقايا السفن التي حطمتها الأمواج الثائرة، يحيط به الماء إحاطة السوار بالمعصم، وتضمه اللجج ضما عنيفا كالأفعوان
32
يلتوي على فريسته ببأس حتى يكاد يهشم منها الأضلاع، تود لو تزعزع الصخر من مكانه لتفترس الصائد.
انكمش هذا البائس الضعيف في كوخه، فاصطلحت عليه الأنواء والأعاصير؛ فلم يستطع أن يبرح مكانه ليكدح لرزقه. عظم واتسع أمامه المحيط لينصب له شراكه. اكفهرت السحب فخاف منها كل نسر قشعم، واسود من الفضاء الإهاب، ثم أومض البرق، وقصف الرعد، وصفرت العواصف، وهاجت الأمواج، وطفقت تحطم في جدار هذا المنكود، وما وراء هذا الفضاء وعظمته والليل وظلمته إلا الحتف المميت .
ماذا تفكر أيها الشقي البائس لتنجو من مطاردة هذه العوالم الحاقدة عليك وأنت عدوها الألد؟ أتتخذ لك نفقا في الأرض أم سلما في السماء؟! أتراك تستطيع الصعود وقد حالت دونه العواصف والأنواء، وأنى لك وأنت ترتعد مكانك من هول المنظر؟! وإني لا أخالك إلا مقبورا ضليلا طريدا. ليت شعري كيف تنازل هذه القوى العظيمة التي ما لها من نفاد وأنت أسير حفرتك؟!
حسبك دفاعا مع العظمة التي أقبرتك في كوخك، وأهاجت عليك السماء وما حوت والأرض وما وعت حتى اغبر وجه الكون عليك أسفا، وأظلمت الدنيا حدادا؛ فاخضع أيها الغريق للقضاء واستسلم لهذا اليم الجبار العتيد.
وهذه الشمأل
33
العاتية التي أوشكت أن تقوض أركان مأوالك، وهذا الوابل الذي كاد يجرف ذراك.
34
وتلك الغياهب التي تهلع لها القلوب تبذل الوسع لمحوك وفنائك، وهذا الليل المقبل بالويل الذي ترتعد منه رعبا سيصب فوق رأسك الأعاصير الهوج
35
مع الظلمات؛ فاجمع أعضاءك والتصق بالأرض، وطأطئ رأسك لما يهب فوقها من العلا دون أن تسأل السماء المعتمة عن السبب، ودع الهلاك يسيل فوق أعضائك التي تثلجت من الهول؛ إذ لا قوة لك ولا حول.
إن للرمال للينا خائنا كلين النساء
يشاهد في بعض المواطن من شواطئ بريطانيا الفرنسية واسكتلندا أن المسافر أو الصائد يأخذ طريقه في مستنقع بعيد عن الشاطئ، لا يكاد يظهر ماؤه على الصعيد
36
فيلاحظ بغتة أنه منذ هنيهة يحس بثقل قدميه، وأن العراء
37
تحتهما كالفار
38
تلتصق به نعلاه، بيد أنه لم يصادف بللا في طريقه ينذره بما يضمر له من السوء هذا الرمل الناعم الذي يفوق في الفتك خضراء الدمن،
39
وكلما خطا خطوة غارت قدمه قليلا وتركت أثرا لا يلبث أن يمتلئ ماء.
نبع هذا الماء لينذره بسوء المنقلب، ولكن أسبل القضاء على عينيه سترا فلم يبصره. أمامه الشاطئ الرحب سهل ساكن لا يفرق بين صلبه ورخوه، فأخذ يواصل سيره ليبلغ الشاطئ، كاد يعتريه القلق، ولأي أمر يقلق؟ غاية ما هنالك أنه أخذ يشعر أن قدميه تزدادان ثقلا كلما خطا خطوة، وعلى حين غفلة يجدهما غائرتين في الرمل أصبعين أو ثلاثة.
أوشك أن يشعر الآن بضلاله؛ فألقى عصا الترحال ليبحث عن الطريق الأمين، ثم نظر فجأة إلى قدميه فوجدهما غائصتين في الرمل. نزعهما راجعا القهقرى، ولكنهما غابتا ثانية إلى الكعبين. تخلص وارتمى يسرة فأخذه الرمل إلى نصف ساقه. انتشلهما وانطرح يمنة، فغاص إلى ركبتيه. تحقق الآن من ضلاله فسقط في يده، وكاد يقطع سبابته من شدة الندم. عرف أن قد غره السراب، وتقطعت به الأسباب، فوقع في حبالة هذا الوسط الهائل الذي لا تثبت عليه الأقدام، بل لا تستطيع أن تسبح فيه الأسماك.
يحار الكاتب في تسميته، ليس ببر ولا ببحر، أخذ يفكر في سبيل للنجاة، فرأى أن يطرح حقيبته كالسفين، أخذها الموج من كل مكان، فقذف الركب عرض البحر ما تحمله من كل مرتخص وغال لينجوا بأنفسهم. جعل يعالج النجاة وقد أعيته الحيل، فابتلعه الرمل إلى ركبتيه. طفق يصيح مستغيثا مشيرا بمنديله، ولكن الرمل مستمر في اختطافه. فإن كان الشاطئ مقفرا، والديار بعيدة، وعدم النصير؛ فقد حم القضاء، وذهب صرخة في واد فريسة لهذا القبر السحيق، مستمرا في هويه البطيء في جوف الأرض، التي لم تمهله وابتلعته واقفا حرا في عنفوان صبوته وشرخ شبابه، كلما عالج وقاوم واشتد في صياحه وصراخه أسرعت الأرض في ابتلاعه.
بخل الثرى بالتعجيل بالتقامه ليترك له من الوقت ما يكفيه لوداع هذا العالم ليزداد حسرة على حسرة ومصابا فوق مصاب. أخذ يسرح الطرف، فرأى أمامه الأفق والأشجار والرياض الزاهرة ودخان القرى يتصاعد كالسحب وشرع السفن الماخرة في عباب البحر والطير الصادح والشمس المشرقة والسماء اللازوردية. •••
وهذه الرمال لهي القبر خرج من بطن الثرى على شكل مستنقع خفي ليختطف الأحياء الأصحاء.
يحاول هذا التعس الوقوف والقعود والاستلقاء بغير طائل. بل كل حركة يفعلها تزيد في غرسه، فيزأر كالأسود وينهب الأرض بذراعيه من اليأس، حتى إذا التقمه الرمل إلى صدره رفع ذراعيه وزاد زئيره. ينشب أظافره في الرمل، ويتكئ على مرفقيه لينسل من هذه الهاوية، ولا يزال الرمل حتى يصل إلى كتفيه ثم إلى عنقه، فلا يرى منه إلا الرأس، لم يبق منه إلا فم يصيح ويستغيث، ولكن حنق عليه الرمل فألجمه وسده؛ فلا تسمع له همسا ولا لمسا. بقيت عيناه تتوسلان بذرف العبرات، ولكن سئم منهما الرمل فأقفلهما، وصار يتخبط في ليل أليل، بقي منه شعر يلعب به الهواء، ثم خرجت من الرمل يده، واختلج بعض خلجات فاضت بعدها روحه فكان من الهالكين، وإن هي إلا هنيهة التأم فيها الرمل، وعاد كما كان سويا، وطوت الأرض في جوفها بائسا كأنه لم يك شيئا.
طرفة من الموسيقي
Un Peu de Musique
أرعني سمعك، وانظر هذا الغاب، وأصخ
40
لتغريد الطيور في أوكارها المحجوبة عن الأبصار، وهذه الجلبة تقترب منا، من ضحك، وأصوات، ووقع أقدام منبعثة من أعماق هذه الأدغال السحيقة، وقد رمى البدر لألاءه الفضي على سوادها، وفيها يسمع رخيم نغمات مزاهر جبال «انسبروك»، التي تمتاز بجلجل مقبضها التي ترن فيه حبة من الرمل، فيختلط هناك صوت الإنسان بهذه النغمات مما يحدث أشبه بلحن مبهم.
هيا إن أردت أن نتيه في عالم الأحلام، فنركب جوادين من حسان الخيل المطهمة، وإنك لتجذبين إليك قلبي إذ أريد أن أنتشلك من بين أسرتك.
نحن سائران يطربنا شجي شدو العنادل
41
في هذا الغاب إذ أنا سيدك وفريستك، فلنسافر فقد اقترب النهار من الرحيل، وسيكون جوادي الفرح وجوادك الحب، وسيسيران جنبا لجنب ورأسا لرأس، وسنطعمهما في رحلتنا هذه الشائقة قبلا بدل الشعير، وإنهما يترافسان إذ يضرب فرسي برجله في أحلامي، ومهرك يرفس في كبد السماء، ونحن في سفرتنا هذه في حاجة لرحل يتركب من دعواتنا وسعادتنا وبؤسنا والزهرة التي في شعرك الجميل.
خيم الظلام واسودت أشجار البلوط، وقد ضحك منا الشحرور ساخرا من وسواس
42
السلاسل التي ربطت بها قلبي، وليس الذنب ذنبي إن لم تهمس إلينا الأدغال
43
والأطواد، ونحن سائران متكاتفين قائلة: فلنحب.
كوني لينة حنونة. فما أبهج الغاب المبلل وقد نجيت
44
أغصانه على أجمل شكل!
أرى الفراش يتبع أنفاسك الشذية، وطيور الليل الحواسد يفتحن عيونها المستديرة وقد أكمدها الحزن والحور،
45
وقد أملن آنيتهن مبتسمات في المغاور متسائلات: «هل أصبنا في عقولنا؟» فهذان «لياندر
46
وهيرو» إذ انسكب ما حملناه من الماء ، ونحن منصتات لحديثهما الشجي.
فلنعرج على النمسا، ونستقبل سنا القمر بجباهنا، وسأكون عظيما وأنت غنية، حيث ربطنا الحب بعرى متينة لا انفصام لها، ولنسر على الأرض بمهرينا الجميلين، ثم نطير في الفضاء بل في الأسرار بل في الذهل، ثم نعوج بالخان وننقد صاحبه أجره من ابتسامك، وناهيك بابتسام العذارى ومن سلامي، وحبذا سلام التلميذ، وستكونين سيدة وأكون «كونت»، وسيفتح قلبي لما ستقصينه من الحديث، كما تتفتح الزهرة من كمها ونحن نسامر نجوم الليل المتألقة.
النغم شجي يتردد صداه تحت الخمائل
47
التي ازرقت من لألاء القمر، ثم يضعف اللحن فينعدم النغم ويخمد صوت الصادح، كطير حط وسكن صامتا.
أما وقد وضع شفتي
أما وقد وضعت شفتي على كأسك الدهاق
48
وأسندت بجبهتي الشاحبة بين يديك؛ فاستنشقت عرف زفير روحك الشذي الذي غيب في بطون الغياهب.
وحيث أسعدني الجد بأن تصيخي إلى الكلمات، التي بها تنكشف أسرار القلب الغامضة، ورأيت ثغرك يضحك فوق ثغري، وعينك تبكي فوق عيني، وشاهدت شعاعا يلمع فوق رأسي من كوكبك الدري الذي احتجب، وبصرت بورقة من الورد نزعت من أيامك وسقطت في لجج حياتي؛ فالآن أستطيع أقول للأعوام التي تكر: مري وسيري فلست أخاف الشيخوخة، واذهبي بأزهارك الذابلة فإن لي في الروح زهرة ناضرة يعجز الكل عن اقتطافها، وإن اصطدم جناحك بكأسي التي أرتوي منها فلا يسيل منها شيئا وإن ملأتها حتى طفحت، وإن روحي لكثيرة النار وأنت خلو من الرماد، وبقلبي من الحب أكثر مما عندك من النسيان.
ألفونس دو لا مارتين1
نابغة من شعراء الفرنسيس ولد بماسون سنة 1790، وبدئ بتهذيبه في قصر أبيه ببلدة «ميللي» تحت رعاية أم حنون لم ترد منه إلا أن يكون مستقيما طيبا، وبعدما أتم دراسته في معهد اليسوعيين خرج من بلده سائحا متجولا في إيطاليا وسويسرا سنة 1811، ومكث فيهما سنتين إلى أن سقط عرش الملك، ورجع فانتظم في سلك الحرس، ثم ترك الخدمة عندما أسس «الريستوراسيون
2
الثاني»، وبعد بضع سنين عاشها بلا انتظام وضع في سنة 1820 كتاب «تأملات الشعر الأولى»، التي أعلت شأنه ورفعته إلى مصاف فحول الشعراء، ونشر بعده بثلاث سنين «التأملات الجديدة»، ثم «موت سقراط» و«آخر غناء الحج» و«شيلد هارولد»، وفي سنة 1829 ظهر مؤلفه «الانسجام الشعري والديني»، وفي سنة 1830 انتخب في المجمع العلمي الفرنسي، وبعدما تجول في الشرق بترف ورفاهية عين نائبا في مجلس النواب؛ فلعب دورا عظيما في الخطابة والشعر، ولشهامته وعلو أفكاره تبوأ منه المحل الأرفع.
ثم وضع تباعا «رحلة الشرق» سنة 1835، و«جوسلين» سنة 1836، و«هبوط ملاك» سنة 1838، و«التفرغ للقريض» سنة 1839، ثم عرج على التاريخ فوضع كتاب «الجيرونديين»
3
سنة 1846، وإن كان كثير الخياليات، لكنه آية في البلاغة ومن الكتب الخالدة.
وبعد قليل كان في رأس الحركة الثورية، ولما أسست الجمهورية الثانية كان عضوا في الهيئة الحاكمة المؤقتة ووزيرا للخارجية، وقد حازت الخطبة التي ألقاها في 25 فبراير ضد الثورة استحسانا وشهرة.
ووجد نفسه في 15 مايو عاجزا عن مقاومة الجمعية العمومية، وقد أجهزت عليه أيام شهر يونيو، فلم يحز في الجمعية التشريعية إلا انتخابا جزئيا، ثم أبعده استبداد شهر ديسمبر عن السياسية نهائيا.
وأشهر مؤلفاته بعد سنة 1848 «المسارات» سنة 1849، و«جينفييف» و«نحات أحجار سان بوان» سنة 1851، و«جرازييلا» سنة 1852، و«دروس علوم الأدب» سنة 1856.
وكانت أواخر أيامه كلها بؤسا متواصلا، وعاقبه كده واجتهاده بالفقر المتواصل، وألجأه نكد الأيام لأن يقبل من الحكومة الملوكية 500000 فرنك هبة يعيش من ريعها سنة 1867، ومات بعدها بسنتين سنة 1869 في دار بباسي «من ضواحي باريس القديمة» التي منحها من مدينة باريس.
وكان كتابه «تأملات الشعر الأولى» لفرنسا شعرا جديدا خرج من صميم فؤاد الشاعر، حاويا لدقة الصناعة وحماسة اللهجة وسلاسة النظم، ترجم فيه عن انفعالاته وآلامه غير ما حوى من المباحث الفلسفية والدينية، أما كتابه «الانسجام الشعري والديني» فيعوزه كثير من صفات السابق، ولقد بهر الناس بكتابه «جوسلين»، وهو رواية نظمية من أبدع ما كتبه، وإن كان انتقد في بعض مواضع منه لتقصير في صوغ القريض، فإن عددا عظيما من صفحاته كان نموذجا للنظم ومثالا للبلاغة والفلسفة. وأما مؤلفه «التفرغ للقريض » فإن العيوب تشوبه من كل ناحية، وهو غزير المادة عظيم الفكرة، ولكنه ضعيف الصياغة وبه بعض قطع رقيقة العبارة دققية الإشارة.
وقد انتقده أحد الأدباء العصريين «المسيو لانتيلاك» في كتابة «علوم الأدب الفرنسية»؛ فأنحى عليه بمر الانتقاد، ولكنه مصيب في رأيه، حيث قال: «كان لا مارتين نائبا وخطيبا، ولكنه ليس بالرجل السياسي، وكان في آخر عهده بمجلس النواب يجلس بينهم وكأنه في عالم آخر، ويتكلم ويذهب قوله من النافذة أدراج الرياح، ومؤرخا وليس من فرسان ميدان التاريخ، وروائيا كثير التكلف دون أن يكون له صفة في الفن، ومنتقدا وليس للانتقاد أهلا، وناثرا ولم يوهب سلامة الذوق في النثر، ورغما عن تقلبه في جميع هذه الفنون، فإنه لم يتقن غير صناعة القريض التي امتاز بها وحدها، وبرز فيها على الأكثرين من فحول الشعراء.»
كلب المنفرد
Le Chien Du Solitaire
لهفي على من يلج داره القفرة الموحشة، ولا يرى عند اقترابه نافذة مفتوحة، أو تحدثه نفسه بمن يلقاه عند قدومه بالإيناس والترحاب، أو يحفل به من أخت أو حليلة أو أم يرقبن عودته رقبة الأعياد، ويستطلعنه بالطلائع والرواد، ويعددن خطواته، ويتهللن بشرا وفرحا عند إقباله حتى تكاد جدران البيت تنتعش وتدب فيها الحياة لتكلأه
4
بصنوف الوقاية والحنان.
شتان بين سعادة هذا وشقاء وحيد منفرد يدخل ذراه صامتا؛ فلا يسمع وقع خطوات تلقاه أو صوتا يرن في أذنه، أو يجد فردا يشاطره آلامه ويقاسمه شجونه غير هذا الكلب الودود القديم الذي ينبح حينما يسمع خطاك. ولا قلب يفكر فيك وينتظر مجيئك سواه.
وعينه التي تشاهدك في حلك وترحالك وإن كانت لا تستطيع البكاء، لكنه حينما يراك باكيا يفهم حالتك؛ فيكاد يتفطر منه القلب رحمة وحنوا لك، لا يرفع عينه من مرمى نظرك، ولا يحولها عنه، وإن غبت أصبح حائرا يقلب طرفه في أنحاء البيت كأنه ينشد ضالة. وإن هذا ليأخذ بمجامع القلوب، بيد أنه من الغرابة بمكان.
أيها الكلب الأمين! إن الله يعلم ما بيننا من البون الشاسع والفرق البين بين إلهامك وعقل سيدك، وهو وحده الذي يدري سر ارتباطنا.
حياتك في النظر إلى سيدك وموتك في موته، وأي شفقة وحنو منحتهما من الخالق حتى إنك لتحب من يكرههم جميع الناس؟!
وإن كنت - أيها الحيوان - راقدا في مواطئ النعال، فلا أذكر أن قدمي مستك يوما ما احتقارا، كما أني لم أزجرك قط بكلمة تجرح حنانك ورأفتك، لم أرغب عن ملاطفتك أو أمل منها، وما برحت محترما طيبتك وإخلاصك اللذين لا يوصفان، وحامدا الخالق على هذه المنحة التي أودعها فيك وجملك بها.
وكما ينبغي لنا أن نحترم أحقر مخلوقات الله أجد منك بجامع الخلقة والعواطف الشريفة مخلصا وصديقا حميما.
وحينما تقع عينك على عيني تتناجى النواظر وتترجم عن القلوب، وإن ألم بي السهاد، وتجافى جنبي عن الوساد، وأنت بجانب سريري بالمرصاد، يكفي لإيقاظك نفس مضطرب مني.
تقرأ شجوني في عيوني الكسيرة، وتبحث عن همومي في ثنيات أسرة جبيني، وتجتهد في تسليتي بمداعبتي عاضا بلطف يدي المتدلية بجانبك.
وعينك كالمرآة الرائقة إذا واجهتها لا يلبث أن يرتسم فيها حزني وفرحي، ونفسك شريفة عالية، وحبك لا تدركه العقول.
لست في القلوب شيئا وهميا تحتقره العواطف، أو جسما حيا تحركه الملاطفة، يخدع الناظر بحركاته وتصنعه الوداد والرفق.
وحينما تنطفئ هذه العواطف الشريفة من عينك لا أعلم في أي سماء تنشر وتحشر، ولا ريب أن الإنسان والنبات لا يموتان وتنعدم منهما الروح، بل يميتهما الخالق زمنا ما ليبعثهما بعد أمد، ويجمع بين الأرواح وأجسامها، وقدرته عظيمة تسع جميع الخلائق وسنتحاب في الآخرة كعهدنا في الدنيا.
ومهما كان البون
5
عظيما بين الإنسان والعجماوات والنباتات، فإن الحب المتبادل بينه وبينها سيخلد ولا يتغير في الدار الآخرة، كما أن القادر لا يطفئ نوره الذي يتلألأ في نجوم الليل الشائقة، وكذلك نظر هذا الكلب الأندلسي الفاتر الذي يشف عن الحنو والشفقة والأمانة، وهو الذي كان يقود الأعمى الفقير وأودى حزنا على لحده .
تعال أيها الصديق الحميم الذي يأنس ويطرب من وقع أقدامي وأنا داخل البيت، ولا تظن أني سيحمر مني الوجه خجلا أمام الخالق لحبي لك ، هيا جفف مدامع عيني المغرورقة بأسانك، وأدن قلبك من فؤادي لنتمتع بحبنا ونثمل برحيقه.
العزلة
L’lsolement
طالما كنت أجلس في الجبل تحت ظل شجرة من البلوط، وقد خيم الحزن على صدري، فكنت أسرح الناظر في السهول التي نشرت أمامي أحاسن محاسنها يتلو بعضها البعض، وقد أخذت زخرفها وازينت وأنبتت من كل زوج بهيج، وقد آذنت ذكاء بالغروب مرتدية حلتها الصفراء تعلوها الكآبة، ولا أدري إن كان ما ألم بها توجعا ورحمة لي أو من ألم البين والفراق.
أمامي النهر يزمجر بأمواجه الزاخرة المزبدة، وينساب كالأفعى وسط الرياض، وهناك البحيرة الساكنة كالمرآة الصقيلة، وقد ارتسم كوكب المساء على صفحات الماء، وكانت الجبال التي تحوطني متوجة بغابات قاتمة رمى عليها الشفق أشعته الأخيرة.
لم تك هذه المناظر الجميلة لتروقني أو تنفحني ببعض سرور ينعش القلب، بل كنت أشاهد الأرض كظل متنقل، كما أن شمس الأحياء لا تدفئ الأموات.
كنت أنقل الناظر من أكمة لأكمة، ومن الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب؛ فلم أظفر بهناء يخفف ما بي من ألم الكآبة والوحشة.
ماذا تفيدني هذه الوديان والقصور والأكواخ التي لا أعبأ بها؛ إذ لا أجد فيها ضالتي المنشودة، وما كانت لتشرح صدري هذه الأنهار والصخور والغابات مع ما أنا فيه من الانفراد والعزلة، وإن غاب عن عيني عزيز واحد فالدنيا بأجمعها تكون أمامي قفرة موحشة.
لا أحفل بشمس تتبعها عيني في مسيرها من الشرق إلى الغرب جارية في سماء صافية أو مكفهرة؛ إذ لا أنتظر شيئا من الأيام.
وإن استطعت أن أتبعها في مجراها لكنت أشرف على الجو والصحاري، ولكني لا أرغب في شيء من جميع ما تنيره ولا أطلب أمرا من هذا العالم العظيم.
ولكن ربما كان بعد هذا الكون عالم آخر تضيئه الشمس وتظله سماء أخرى، ولو تسنى لي أن أترك جثماني في الأرض، وأصعد بروحي إلى السماء لأنظر بعيني ما أراه في الأماني والأحلام، فهناك أنتشي من رحيق المنبع الذي آمله، وأجد ما أتطلبه من الأمل والحب، وهذا غاية ما تشتهيه الأنفس، وليس له اسم في المقام الدنيوي؛ فلم بعد ذاك أمكث في الدنيا دار النفي؛ إذ لا علاقة لي بها ولا شأن لي فيها.
مثلي كمثل الورق الذابل حينما يتساقط من الغابات في المروج، فتحمله الريح إلى الوديان، فاحمليني مثلها أيتها الشمأل العاتية!
الخريف
L’Automne
سلام أيها الغاب المتوج ببقية من الخضرة، وقد اصفرت منك الأوراق وذبلت فتناثرت على العشب. سلام أيتها الأيام الأخيرة من دولة الجمال والهناء، وإني ليروقني النظر إلى حداد الطبيعة على محاسنها التي انقضت وفاتت إذ أجرع ما تجرعه من الألم، وبودي لو أنظر النظرة الأخيرة لشمس باهتة تكاد أشعتها الضئيلة تنير ما تحت قدمي من ظلمة الغاب، وفي هذه الأيام من الخريف التي تحتضر فيها الطبيعة أجد في نظراتها التي يغشاها الموت ارتياحا وابتهاجا، وإن هذا لوداع من حبيب وابتسامة أخيرة من شفتين اقترب منهما دبيب الموت ليطبقهما إطباقا لا انفتاح بعده.
وحري بي وقد كدت أتأهب لفراق أفق الحياة باكيا أياما طوالا وأملا لم أدركه أن أرجع على عقبي، وأشاهد بعين ملؤها الحسد نعما لم أتمتع بها.
أيتها الطبيعة الجميلة الحلوة بأرضها وشمسها ووديانها، لك عندي دمعة أؤديها وأنا على شفا الرمس؛ فالهواء يتضوع نشره والضوء زاه نقي، والشمس تحلو وتجمل في عين المائت.
إني أود أن لا أبقي في هذا الكم
6
قطرة مما امتزج فيه من الرحيق ومرارة العيش، ولكن ربما بقيت في هذه الكأس التي شربت منها الحياة قطرة من العسل، أو ينظر إلى المستقبل بعين عنايته ويرجعني إلى السعادة والهناء، اللذين خاب فيهما الرجاء، أو أجد بين هذه الجموع روحا لا أعرفها علمت جلي حالي فأقبلت لتنيلني مناي.
وحينما تسقط الزهرة ترد طيبها إلى الصبا، وحياتها إلى الشمس، وتودع الدنيا بين يديهما، بينما أموت وروحي وهي في النزع يسمع لها نغم شجي تذرف له العيون وتخفق منه القلوب.
قرية من جبال الألب
Un Village des Alpes
يرى الناظر جبال سافوا الشواهق وقد اكتست بحللها السندسية، وتجلببت برياضها الأريضة الغناء، وسد الصخر مسالكها؛ فلا يشاهد فيها الإنسان غير المهاوي التي ترتعد منها الفرائص، وتقشعر منها الجلود؛ إذ يرى نفسه معلقا في الفضاء، فوقه السماء وتحت قدميه مهوى سحيق تهلع من هول رؤيته القلوب.
لم يترك الصفا محلا للطين إلا الصدوع
7
فتكاد تنشب فيها الأشجار جذورها والبزور شطأها، وقد عظم بهذه المواطن القسطل، ورسخت أصوله في فروج
8
الصخور، وتدلت أفنانه فوق المهاوي السحيقة المظلمة، وانتثر فيها المنثور وتضوع شذاه.
ترى ما استوى من أعالي الجبال وهي في لونها الأزرق ومسالكها البيضاء، وعلى كثب منها حقول البر على وشك الحصيد، وقد أزرت صفرته بالعسجد، والغابة الحالكة وهي وسطه كنقطة من العنبر في صحيفة من الذهب، وانعكست ألوان السماء على صفحات ماء البحيرات، وهو في سكونه كماوية
9
الحسناء، وقد نبت تحت ظلال القسطل
10
الوارفة الكلأ
11
الأخضر الغض، فترى سوقه التي قرضتها ثنايا الغزلان والأروى؛ فغلظت واخشوشن زغبها، وتخلله قطر الندى كمنثور الدرر أو دمع العاشق.
وفي فصل الربيع - وهو أقصر من ابتسام البرق - يثمل نسيمه من أريج وروده وأزهاره، وقد أحاطت بالأفق جبال من الثلج بيضاء ناصعة، تأخذ بالأبصار كقوارير البلور، وحينما تهدأ العواصف وتظهر قمم الشواهق ترى السماء صافية لابسة ثوبها اللازوردي.
وفي هذه العزلة لا تسمع إلا أصوات الصبيان وخوار العجول وصوت الجلاجل المعلقة برقابها، فترن من قفزاتها وطفراتها، وخرير السيول المتحدرة من أعالي الأطواد مما ينساه السمع لكونه اعتاده وألفه. وهذه الأصوات بمجموعها أشبه بصوت صادح لا ينقطع غناؤه الجهوري الرنان.
وانتثرت الأكواخ تحت الأشجار في ظلها الظليل من غير نظام ولا ترتيب، وكأنها نبتت كما تهوى مع هذه الغرائس، وترى أهلها المساكين يتقاسمون بينهم الدعة والسكون، راضين بعيشهم الهنيء، وكل يمرح تحت ظل شجرته وأمامه حقله، فتراه في الصباح على باب داره، وفي المساء داخلها وقد اكتنفهم الصفاء وخيم عليهم الهناء.
زهرة جافة في كتاب
A une Fleur séchée dans un album
عاودتني الذكرى فتذكرت يوما اختلسناه وذهبنا إلى شاطئ البحر وقد رقت وراقت السماء، ولم يشب صفاءها غيم ولا إعصار، تظلنا شجرة من البرتقال كاسية من زهرها الأبيض الناصع تضوعت رياها فثملنا من عرفها الشذي.
أمامنا بحر أزرق يعب عبابه ولا يرى له ساحل، وكانت أزهار البرتقال المتناثرة تهاوى على رأسي وتجللني كمطر من الثلج، وقد جمل الكلأ الأرض ببساطه الأخضر وتخللته أزهار جميلة متنوعة ينبعث منها عبق لطيف عطر الأرجاء والأندية بنشره.
أيتها الشجرة النابتة بجانب المعبد الدارس الذي بطش به كر الغداة ومر العشي. لقد توجت هذا العماد بأفنانك النضرة، وازدان هذا الطلل البالي بزهرك المونق، ولقد قطفتك أيتها الزهرة البديعة البيضاء، ووضعتك فوق صدري لأنتعش من استنشاق طيبك ونشرك، والآن وقد انقضى ذاك اليوم بسمائه ومعبده وبحره وشاطئه، وحملت السحب عرفك وسارت به إلى حيث تشاء؛ أجد وأنا أقلب صفحات كتابي رسوما عفت وآثارا درست من يوم جميل هنيء.
ألفريد دوموسيه1
نادرة من فحول شعراء الفرنسيس، ولد بباريس سنة 1810، ومات بها سنة 1857، وهو ثاني أنجال «موسيه باتي»، تعلم في كلية هنري الرابع، فكان من أقرانه فيها «الدوق دورليان»، وبعدما تردد بين الحقوق والطب والرسم والموسيقى انقطع لعلوم الأدب.
وفي الثامنة عشرة من عمره ألحق بالمعهد الأدبي عند «نودييه»، وكان مخصصا للمذهب المطلق
2
فوضع بعد دخوله بسنتين كتاب «قصص إسبانيا وإيطاليا» سنة 1830؛ فكان له استحسان عظيم و«دون بايز» و«الأندلسية» وقصيدة في القمر وغيرها، فكانت من نفثات أقلامه وهو في شرخ شبابه، مما سحر الناس برقته المتناهية في الشعر ورشاقته البديعة في صوغ القريض؛ حتى نهض بالمذهب المطلق ورفع شأنه.
وقد حلى طروس «مجلة باريس» ببدائع رواياته مثل: «أدعية لا تجدي»، و«أوكتاف»، و«فكر رفاييل السرية»، ثم ظهرت رواياته التمثيلية: «ليلة في فينزيا»، و«منظر في كرسي» سنة 1832، و«الكأس والشفتان»، و«فيم تحلم الفتيات؟» رواية لطيفة، و«شجرة الصفاف» مرثية، و«نامونا» قصيدة طلية بلهجة تهكم رقيقة.
وعلاوة على اقتداره النادر في بث تأوهاته التي تكاد تسمعها من بين سطوره، فإنه كان يجاري بعض الشعراء في مذاهبهم، لا سيما «بيرون» الشاعر الإنكليزي المشهور، ونخص بالذكر «رولا» سنة 1833؛ فإنها من أسلوب الشاعر السابق، ولها رنة مؤثرة فخم فيها الهيام.
ثم أصابته نوبات وقلاقل حولت ذكاءه من طور إلى طور أرقى منه سببه له الحب؛ إذ أحب «جورج صاند» الروائية الشهيرة وأحبته، وسافر معها في شتاء سنة 1833 إلى إيطاليا متنقلا بين جنوه وفلورنسا وبولونيا وفيرار، ثم ألقى عصا الترحال في فينزيا، وهناك شجر بينهما خلاف شديد أفضى إلى الانفصال بسبب انقلابها وخيانتها عهده؛ فرجع إلى باريس وحده في أبريل سنة 1834، وقد أنهكته الشجون وتيمه الهوى المبرح وسحقته هذه التجارب، ولكن كان لها الفضل لكونها صيرته شاعرا مجيدا من أوائل الشعراء، كما أشار بذلك في عرض كلامه في قصيدة «ليلة من تشرين الأول» حيث قال:
وقصارى الكلام أن بليتك هي التي أنارت قلبك، فالفادحات والأوصاب بمثابة المعلم، والإنسان كالطفل المتعلم وبقدر الرزايا تكون المعارف؛ وإنها لشرعة قاسية ولكنها حكمة بالغة قديمة كالدنيا ونكدها.
ومن سنة 1835 إلى 1840 ظهرت معجزات قريضه ونثره وصوت آلامه في الحب والشك والسلوان، وهي «لياليه الأربعة» التي سارت بذكرها الركبان: «ليلة من أيار» و«ليلة من كانون الأول» و«ليلة من آب» و«ليلة من تشرين الأول».
ففي الأولى يبكي «موسيه» من خيانة حبيبته، ويعرض عن الطيف الذي يدعوه إلى الغناء، وفي الثانية يبحث في العزلة عن شفاء آلامه وأوصابه، وفي الثالثة يعاود قسمه بأن لا يفتح قلبه للحب، وفي الرابعة يزعم أنه طاب ويود أن يقص أخبار آلامه التي يدعي أنه برئ منها، ولكنه عندما سردها كادت تجهز عليه وطأة الانفعال، فأخذ الطيف عليه موثقا بالغفران والنسيان.
وهذه الليالي مع «رسالته إلى لا مارتين» و«تذكار» هي التي رفعته إلى مصاف فحول الشعراء الذين يشار إليهم بالبنان، ولم يلهم شاعر غيره أن يوفق للإتيان بمثلها ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.
يأخذ العجب القارئ لم خص هذا الشاعر وحده بهذه الهبة الجليلة؟! هذا لأنه أحرقه الجوى، وبرى أعظمه الهوى، وأذاب ما على فؤاده من الحجب؛ فاستنار بنور الحب عقله وجنانه، فكان يعبر عن وجدانه وشعوره كما يصف الناظر المرئيات، وغيره لم يجمع بين الوجد المبرح والبلاغة الساحرة ؛ فتراه مهما كان مقتدرا على القريض، وحاول أن يصف الهوى، فإنه لا يصفه إلا وصفا خياليا سمجا تمجه الأذواق وتزدريه الأذهان.
وبعد «الليالي» ظهرت قصيدته «الأمل في الله» ورواية قصصية كبيرة كتبها نثرا وسماها «اعتراف طفل من أبناء الجيل» سنة 1836، سرد فيها الشاعر - وقد قارب الشفاء - ما انتابه من مضض الآلام، ثم «نعمة طيبة» وهي بديعة النظم شائقة المعاني.
وكتب عددا عظيما من الروايات التمثيلية كان لها نصيب وافر من الرقة والبلاغة تماثل في أسلوبها روح شكسبير، منها: «فانتازيو»، و«أهواء ماريان» سنة 1833، و«لورينزاشو»، و«لا يمزح بالحب» سنة 1834، و«باربيرين» سنة 1835 وغيرها.
وفي أواخر أيامه أنهكه التعب والمرض من الإفراط في الملذات
3
فضعف ذكاؤه، وفي سنة 1852 انتخب في المجمع العلمي الفرنسي بعدما وهت قواه الجسدية والعقلية، وما فتئ مرعيا في فرنسا بأنه أكبر الشعراء في الحب وأصدقهم وأشدهم تأثيرا.
ليلة من تشرين الأول
La Nuit d’Octobre
الشاعر :
أصبحت والحمد لله لا أتذكر مما تكبدته من الآلام فيما سلف من الأيام. إلا كطيف خيال أو ضباب خفيف أهاجه الفجر، ثم لاحت بعده تباشير الصباح ونفحات النسيم العليل بين الندى البليل.
الطيف :
ما الذي دهاك يا شاعري؟! وأي عناء خفي أن منه قلبك حتى صرمت حبالي وصرت أتلهف لسبر هذا الداء الكمين الذي طالما أنضب مني الدمع؟!
4
الشاعر :
قد كان ألما معروفا بين الخاص والعام، ولكنا إذا شعرنا ببعض السأم حل القلوب تصورنا لقصر العقول أننا أول من أحس بالداء.
الطيف :
إنك لأرفع مما اتصفت به، فالنفس العلية لا تتألم من الحادث الجلل، وما الذي حرك منك الآن أيها الحبيب ما سكن من أليم الذكرى؟! فافتح لي صدرك وخبرني عن موضع دائك فقد لقيت من لا يضيع عنده السر، وإن السكوت لأخو الموت، وفي الشكوى إلى أخي المروءة سلوان وعزاء، كما قد ينجي الكلام من وخز الضمير والندم .
الشاعر :
وحيث لا مناص لي الآن من بث الشكوى، وشرح ما صدع الفؤاد من الهم والبلوى، وإني لأحار في تسمية هذه الآلام أحب أم جنون أم كبرياء؟! ولا أدري إن كان أصاب أحدا قبلي ما أصابني منه، وحيث خلت بنار الدار فاجلس لأقص عليك الحديث وهاك الكنارة
5
فأيقظ مني الفكر بنغماتك العذبة.
الطيف :
خبرني يا شاعري قبل سرد أوصابك وأشجانك إن كنت برئت منها وعوفيت، فتكلم ودع الحب والحقد جانبا، ولو فكرت أني وسمت بأحب الأسماء وألطفها ألا وهو المعزي المسلي نافي الأحزان والأتراح؛ فلا يجربك الظن أني كنت قرينك فيما ذهب عنك من الجوى المبرح.
الشاعر :
قد انقشع الداء وتم الشفاء، ولم يبق منه في الذاكرة إلا خيال، وحينما يدور بخلدي ذكر المواطن التي خاطرت فيها بروحي أتخيل أني أرى مكاني إنسانا غيري، وأني لست بطل القصة؛ فهيا نتجاذب أطراف الحديث باطمئنان ونتساجل بث الشكوى، فما أحلى البكاء والابتسام عند تذكار الأوصاب التي يتسنى لنا نسيانها.
الطيف :
أحنو وأعطف على قلبك المنفطر كأم حنون ساهرة بجانب ولدها المحبوب، وإني لأرتعد كالريشة في مهب الريح فوق هذا القلب الذي طالما كاتمني ما انتابه من مضض الوجد ولوعة البين، وهأنا يقظ وكنارتي مهيأة لرقيق النغم وشجية لتتبع لهجة صوتك الحزين علي أنفي عن قلبك ما علق به من الهموم والآلام.
الشاعر :
لا يعد من عمري إلا ما قضيته في العمل؛ فحبذا الوحدة وحمدا لله الذي حبب إلي الانقطاع عن العالم وانعكافي في غرفة مطالعتي هذه كمسكين بائس، ولكم أقفرت بي الدار، وافترش الغبار المقاعد، ولا أنيس لي إلا المصباح؛ فنعم هذا القصر بل كوني وعالمي الصغير ... وأنت أيها الخيال الخالد، هلم نغني فإني أحب أن أطلعك على أعماق قلبي، وسأقص عليك ما تحدثه المرأة من المصائب، وما رمتني بها إحداهن وربما لا تجهلها. قد سلبتني النهى وصرت لها كالرقيق فاقد الإدارة والقوة. بيد أني كنت أحسبني راتعا في بحبوحة الهناء والسعادة، وكنا نتمشى على كثبان الرمل الفضي على مقربة من الغدير ، وأمامنا على مرمى النظر شجر الحور الأبيض، يعبث النسيم بقامته الطويلة الهيفاء، التي كانت بمثابة دليل على الطريق الذي نؤمه، وكنت أرى في ضوء القمر هذا الجسم الجميل يتثنى بين ذراعي كماء الجداول ونحن سكوت والهوى يتكلم.
وما كنت لأفكر لأي شأو تطوح بي السعادة والهناء، ولا ريب أن نار الغضب التي اتقدت في قلوب الآلهة كانت في حاجة لقربان تأكله؛ لأنها حنقت علي واقتصت مني لكوني أردت من باب التجربة أن أكون سعيدا.
الطيف :
إن خيال التذكار الهنيء جاء طارقا ذاكرتك ليخيم في رسومه القديمة، فلم لا ترغب أن يسير سيرته الأولى، وذلك خير من جحود أيامك الحلوة الرغدة، وإن كنت قد عثر بك الجد أيها الفتى فاعمل على شاكلته وابتسم لأيام حبك الأولى.
الشاعر :
كلا فخليق بي أن أبتسم لأيامي المنكودة كما أنبأتك من قبل أيها الخيال، وإني أود أن أقص عليك بلا تأوه ما انتابني من الأماني والآلام والبحران
6
والزمان والمكان.
ففي ليلة على ما أذكر من تشرين الأول كئيبة قرة
7
هي وليلتنا هذه صنوان أو توأمان، وكانت رياحها تعصف بنغمة واحدة؛ فتحرك من رأسي التي أجهدها النصب ما سكن من مر الشجون والأتراح، وكنت مشرفا من النافذة منتظرا حبيبتي منصتا كأن على رأسي الطير في ظلام حالك؛ فجاش القلق بخاطري وساورتني الظنون والأوهام، حتى مثلت أمامي الخيانة، وكان الحي الذي أسكنه معتما قفرا لا يرى فيه إلا نفر قليل من السابلة
8
بأيديهم مصابيح.
وكان كلما هب النسيم من الباب يسمع له على بعد صوت أشبه بأنين إنسان، وما أدري كيف أعبر عما دار بخلدي من التشاؤم حتى غبت من القلق والحيرة عن الصواب. وأذكر أنه بقي لي مسكة من القوة فلما دقت الساعة اقشعررت وارتعدت فرائصي ولم تقبل بعد؛ فبقيت وحدي مطرق الرأس أسرح الطرف في الطريق، وإني لم أخبرك بعد بأية جرأة أضرمت هذه المرأة المتلونة في قلبي نار الحب؛ إذ كنت لا أحب غيرها في العالم ولا أستطيع أن أحيا بدونها يوما واحدا، فتمثل لي النحس بصورة أبشع من الموت، ولأفصم ما بيني وبينها من عرى الألفة والمحبة لم أدع في جعبة اللعن لفظا أو معنى للغدر والخيانة إلا ووسمتها به، وانتظمت أمام ناظري جميع المصائب التي رمتني بها فلم يفتني العد والحصر؛ فوا أسفا على ذكرى جمالها المشئوم! فكم سببت لي من بث وهم لم يلطفهما سلوان ولا عزاء.
فما عتم أن لاح الفجر وأنا منتظر بغير طائل ولا جدوى، وكنت بجانب الشرفة وقد داعب النعاس عيني فأغفيت، ثم صحوت فرأيت تباشير السحر، فرددت طرفي فجأة في أطراف الطريق الضيق؛ فسمعت وقع أقدام خفيفة فقلت: اللهم تداركني بقوتك، فإني أراها وهي عينها، فدخلت فقلت لها: من أين أقبلت وما فعلت الليلة؟
أجيبيني.ماذا تبتغين مني؟! وما الذي طوح بك إلي في هذه الساعة؟ وأين استلقى هذا الجسم اللطيف إلى الصباح مع أني لم أبرح مكاني وحيدا ساهرا باكيا؟ أين اضطجعت ولمن جدت بابتسامك؟ يا لك من غادرة خائنة جسورة! أمن الممكن أن تجيئيني لتقديم ثغرك لقبلي؟! فهيهات هيهات لما تبغين، وبأي شوق قبيح تجترئين أن تعانقيني بأذرع مل منها وملت؟! فاذهب واغرب عني يا خيال الخليلة، وارجع إلى رمسك إن كنت أنشرت منه، ودعني أنسى زمن صباي مدى حياتي، وإذا تذكرتك تحققت بأن لست إلا في عالم الأحلام.
الطيف :
ناشدتك الله أن تلطف ما بك؛ فإني أقشعر من حديثك، وإن جرحك أيها الحبيب مهيأ للانفجار ثانية إذ اندمل على الصديد والأذى، واها لدنيا لا تنسى مصائبها عاجلا إلا بعد كر السنين، فانس جهد استطاعتك مضض الأيام واطرد اسم هذه المرأة التي لا أريد تسميتها من ذاكرتك.
الشاعر :
خزيا لك يا من هي أول من علمتني البغض وأفقدتني الرشد من الغضب والانزعاج. تبا لك أيتها المرأة التي سحرتني بعينيها فوقعت في حبالة هذا الحب المشئوم الذي أقبر ربيعي وأيام هنائي في عالم الخيال، وإن صوتك وابتسامك ونظرك المفسد المضل لهي التي علمتني اللعن والسباب، ورماني في مهاوي اليأس صباك الفتاك وجمالك الفتان.
عار عليك فإني لم أك بعد إلا ساذجا كالطفل، وكان قلبي كزهرة في الفجر لم تتفتح من أكمامها إلا لحبك، ولا ريب أن هذا القلب الذي لم يجد له غوثا ذهب فرطا، ولو تركته براء لكان أسعد حظا، فضحا لك يا علة ضري ووسواسي يا من فجرت ينابيع الدمع من آماقي وجفوني، ولبث سائلا مسترسلا لا مجفف له نابعا من جرح لم يبرأ بعد، ولكني سأتطهر في هذا الينبوع المر علي أترك فيه درن تذكارك الممقوت.
الطيف :
حسبك ما قاسيته من هذه الخائنة، وحيث إن أمانيك لم تلبث إلا عشية أو ضحاها؛ فلا تفضح هذا اليوم حينما تذكرها، وإن أردت أن تحب فاحترم الحب.
خلق الإنسان ضعيفا فتراه لا يقوى على الغفران لمن أساءه إلا بجهد جهيد، فاغنم الراحة من عذاب البغض والحقد، وإن أعوزتك المسامحة فعليك بالنسيان، وكما أن الموتى نائمون هامدون في بطون اللحود يلزمنا أن نخمد عواطفنا في رموس القلوب. وذخائر الأفئدة المغبرة يجب علينا أن لا نمد يدا إلى بقاياها المقدسة، ولم أراك تئن من سرد مصابك وعذابك، وتبتغي أن لا تراه إلا في عالم الرؤيا أو كحب كاذب كبرق خلب. أتخال أن القضاء يسير بغير حكمة ولا سبب، وتظن أن الضربة التي أصابتك ضربة طيش، كلا فعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم، وربما كان ما أصابك واقيا لك من أعظم منه، وقصارى الكلام أن بليتك هي التي أنارت قلبك؛ فالفادحات والأوصاب بمثابة المعلم، والإنسان كالطفل المتعلم، وبقدر الرزايا تكون المعارف، وإنها لشرعة قاسية ولكنها حكمة بالغة قديمة كالدنيا ونكدها. نحن في حاجة للبكاء لنحيا ونشعر كالحصيد يعوزه الندى ليدرك، والسرور رمزه نبات مقطوع مغطى بأزهار تميل أعناقها من الندى. ألم تشف من جنونك ولم تزل في عنفوان شبابك سعيدا محبوبا؟! وهذه المسرات الصغيرة هي التي ترغب الناس في الحياة، وإذا كنت لم تذق طعم البكاء ماذا تكون حالك؟ أكنت تهنأ بآصال تمرح فيها بين شجيرات الخلنج مع صديق قديم تشربان وتتسامران؟! أكان يسوغ لك كأسك إن كنت لم تذق طعم البشر والفرح؟! ألا تحب الأزهار والمروج والرياض وشعر بترارك
9
وتغريد الطيور الصادحة وميكيل إنج
10
والفنون الجميلة وشكسبير
11
ومحاسن الطبيعة؟! ولولا بعض تأوهات قديمة لما كنت تفهم شجو السموات وطربها الذي لا يوصف، وسكون الليل، وخرير الأمواج، ولو لم تعتورك الحمى والسهاد ما كنت في الراحة الأبدية ولما كانت لك خليلة جميلة تقاسمها صنوف المسرات والملذات.
12
الشاعر :
لقد قلت حقا فالحقد ممقوت، وما كان ذاك إلا قشعريرة ملؤها الانزعاج تحدثها هذه الأفعى حينما تزحف في القلوب، فأصخ لي أيها الخيال وكن شهيدا لهذا اليمين: قسما بعيني حبيبتي المزريتين بالزمرد، والجو والسماء، والشمس المشرقة في الأفق كدرة متدحرجة، والطبيعة وعظمتها، والخالق وقدرته، والنور ولألائه، والنجم العزيز عند المسافر، والمروج ونضرتها، والغابات ورهبتها، والحياة وسلطتها، والعالم وحركته، إنني لطاردها من ذاكرتي، وسأعيش مسلوب الحجى من الوجد والشغف. والساعة السعيدة هي التي أنساها فيها وأغفر لها ما قدمت وأخرت، وليعف بعضنا عن بعض، ولنفصم عرى الحب الذي جمعنا أمام الخالق بآخر العبرات التي ستكون وداعا إلى الممات.
والآن أيها الخيال البهي الطلعة أسمعني بعض الأغاني الشجية المطربة، أغاني الأيام الهنيئة السعيدة، إذ الرياض تنفح بأريج شذاها، وقد اقترب الصباح، فهيا أيها الخل الوفي نقتطف أحاسن أزاهير هذه الجنات. تعال نمتع الناظر بمحاسن الطبيعة الخالدة التي تطرح الآن نقاب النوم، ولنعتبر أننا سنولد الساعة مع أشعة الغزالة.
الفرس الوحشية
La Cavale Sauvage
كاد يودي بها الظمأ في مفازة
13
تستعر منها الرمضاء،
14
فهامت على وجهها ثلاثة أيام تبحث عن الماء؛ فلم تظفر به في أرجاء هذه البطحاء، ثم أملت أن تجود عليها السماء بوابل يدرأ عنها غاثلة الغلة
15
في صحراء افترش الغبار نخلها وركد هواؤها، فترى جريد النخل متدليا لا حراك به، وقد حمي وطيس الشمس، وأضحى الفضاء كتنور أكلبه السجر.
16
سارت متخبطة في هذه الجرداء
17
ترتاد بئرا تبل منها صداها، وأنى تجدها وقد جففته ذكاء،
18
وترى الأسد مضطجعة فوق الصفا
19
تحرق الأرم
20
من الغيظ.
شعرت هذه المهرة البائسة أنها رزحت تحت كلكل القضاء، وقد غلى الدم في عروقها، وانفجر من منخرها؛ فخانتها قواها ووقعت مغشيا عليها، وشرب الرمل دمها بنهم فارتوى، وعرفت أنه ما ضن عليها بالماء إلا وهو أظمأ منها، ثم تمددت وانطفأ نور عينيها النجلاوين؛ فأسلمت الروح وأدرجت الصحراء فرسها - بل ابنتها - في أكفان من رمالها المضطربة.
أفات فرسنا المنكودة أن ترقب القوافل وهي مارة تحت ظلال الأشجار الوارفة، فما عليها لتفلت من شقائها إلا أن تتبعها مطأطئة الرأس لتجد في بغداد الإسطبلات الرطبة المنعشة والمذاود المذهبة والبرسيم المزهر الغض وآبارا باردة لم ترها السماء.
وإن كان البارئ قد خلقنا من طين واحد؛ فلابد أن يكون عجننا في آنية مختلفة الصلصال وجففنا في شمس تكاد تتميز من الغيظ.
ومهما يكن المخلوق نسرا أو خطافا، فلا يستطيع أن يحني عاتقه أو يخفض جناحيه من الذل؛ إذ ليس له من السعادة والهناء أعظم من كلمة واحدة، وهي الحرية.
زهرة
A Une Fleur
ما تبتغين أيتها الزهرة العزيزة التي هي أحب وألطف تذكار؟ ومن طوح بك إلي وقد بقي فيك مسحة من النضارة والحياة؟!
قطعت طريقا طويلا طي قرطاس مختوم فماذا سمعت؟ وبم همست إليك اليد التي قطفتك من الخمائل؟
هل أنت إلا ضغث
21
يدب فيه الموت؟ أو متهيئ لأن يزهر مرة أخرى، أم أدرجت فيه فكرة؟ لهفي على زهرتك أيها الضغث التي تماثل ببياضها الوداعة المحزنة. وورقك بلونه يشابه الأمل الخائف المتهيب.
تكلم إن كنت تحمل إلي رسالة فقد لقيت من لا يضيع عنده السر. ليت شعري أخضرتك سر من الأسرار ورياك
22
لغة من اللغات؟ فإن كان الأمر كما تحدثني به النفس؛ فناجني أيها الرسول الخفي، وإن لم يك عندك شيء، فابق صامتا ونم على قلبي خفيفا رطبا.
إني لأعرف حق المعرفة هذه اليد التي ملئت فضلا وولعت بالأهواء، وعقدت كمك الباهت بهذا الخيط الناعم، وإن هذه اليد لم يجد «فيدياس ولا براكسيتيل»
23
لها أختا؛ ليتخذاها نموذجا لما يصنعان من بديع التماثيل إلا يد الزهرة ربة الجمال.
إنها لزهراء حلوة جميلة صادقة ويقال: إنها ستكون كنزا لمن أسعده الحظ فكانت له عروسا، ولكنها حكيمة قاسية أخاف غضبها وشرها، فصه
24
أيتها الزهرة ودعيني أتيه في بيداء الأماني.
لوسيا
Lucie
كنت ذات ليلة جالسا بجانبها ، فانحنت على البيانو وتسربت إليه يدها البيضاء، وهي غارقة في بحار أمانيها؛ فخيل إلي أني أسمع خرير الماء، أو أن النسيم مر على مقصبة
25
مشفقا أن يوقظ ما حط عليها من الطير.
وكانت ملذات الليالي الشجية تنبعث حولنا من أكمام الأزهار، وعلى كثب منا حديقة غناء، بها القسطل والبلوط العتيق، تميل منها الجذوع تحت غصونها الميادة، ونحن منصتان لسكون الليل، وكانت النافذة مفتوحة يمر منها أريج الخريف المنعش فعطر غرفتنا، وكانت الرياح ساكنة والسهل قفرا، ونحن وحدنا تساورنا الشجون، ولم يك لنا من العمر إلا خمسة عشر ربيعا.
نظرت إلى لوسيا فإذا هي بيضاء ذهبية الشعر، بعينيين لم أر أجمل منهما، تزريان بصفاء السماء، فسرت في دمي نشوة جمالها؛ إذ كنت لا أهيم بغيرها وحبي لها كحب الأخ لأخته، وكان الحياء يخامر كل بادرة منها.
وبينا نحن سكوت إذ مست يدي يدها؛ فرأيت جبينها الوضاح وقد ارتسم عليه الحزن، وكنت أشعر أن لنضارة الوجه وشباب الفؤاد وهما توأمان ورضيعا لبان تأثيرا عظيما في شفاء تباريحنا وآلامنا.
أشرق القمر في سماء نقية رائقة، وما لبث أن اشتملته مزنة
26
بيضاء كنسيج من اللجين.
27
وكانت ترى في صورتها مرتسمة تتلألأ في عيني، ويخيل إلي أن ابتسامها أشبه بابتسام الملائكة، ثم غنت بصوتها الرخيم العذب: ... أيتها الموسيقى، إنك لبنت الألم! ولغة ابتدعها العقل لتترجم عن الحب، أنزلها الله من سمائه إلى إيطاليا، ومنها جاءتنا بآياتها البينات، وهي ألطف لسان للقلب يحمل فكره التي هي أشبه بالعذارى الخفرة
28
المتهيبة التي تخاف من ظلها وتمشي مختمرة
29
دون أن تخشى العيون.
ومن يعلم مبلغ ما يعقله أو يقوله غلام مثلي، حينما يسمع تأوهاتك التي تولدت من الهواء الذي يستنشقه؟ تنهدات لها رنة حزن أشبه بقلبه لطيفة كصوته.
إن فاجأتها وجدتها ساجمة العبرات، وهذا غاية ما تعرفه، والباقي سر يجهله الناس كأسرار اللجج وغياهب الغابات!
كنا وحدنا تخامرنا الشجون وأنا ناظر إلى لوسيا، وقد خيل إلينا أن صدى أنشودتها يكاد يذيب القلوب، ثم أسندت علي رأسها المثقل بالهموم ، فسألتها هل يشعر قلبك أنك في موقف «ديسديمونا»
30
فلذلك تغالبك الهموم من كل صوب؟! إنك تبكين أيتها المسكينة، وقد تركت شفتي تلثم ثغرك اللطيف إذ أنت هائمة في مفاوز الشجون؛ فكأنني ما قبلت إلا الحزن، وعانقتك فوجدتك مثلوجة الجسم شاحبة اللون، واليوم ولم يمض إلا شهران أراك رهينة الرمس!
أيتها الزهرة النضرة الطاهرة! أرى موتك قد تمثل ابتساما يماثل حياتك عذوبة ورقة، وأصبحت وقد حملك الله بمهدك إلى رحمته.
يا ما أحيلى سرا منك يسكنه الطهر والعفاف من شجي الأناشيد وأماني الحب وابتسامات تخجل وميض البروق وفعال في السذاجة
31
كفعال الأطفال!
وأنت أيها الحب! يا من لم تدرك له العقول كنها، ولا يقدر أن يعتصم منه أحد، ويا من أوقف «فوست»
32
مترددا على باب «مرجيريت»، فكيف أصبحت يا صفاء الأيام الأول الهنيئة؟ خيم السكون على روحك أيتها الكاعب! فوداعا لذكراك وسلاما على يدك البيضاء، التي كانت تحدث من «البيانو» في ليالي الصيف تلك النغمات التي لا يزال رنينها مرفرفا في أركان البيت.
أوصيكم أيها الأحباب الأعزاء أن تغرسوا على قبري شجرة صفصاف؛ فإني أهوى لونها الباهت كالحزين الأسف وأغصانها المرسلة كدمع الباكي، فنعم ظلها الظليل على أرض سأنام فيها نومي الطويل.
أندريه شينييه1
واسطة عقد شعراء زمانه، ولد سنة 1762 بالآستانة من أم يونانية وأب فرنسي، كان سفيرا لدولته بالقسطنطينية، فعلمته أمه في صغره اللغة اليونانية، حتى إنه حصل على نصيب وافر منها وطالع في الرابعة عشرة من عمره دواوين شعراء اليونان، وفي السادسة عشرة ابتدأ يترجم الشعر اليوناني إلى الشعر الفرنسي؛ فتشبعت قريحته من روح النظم القديم، فكان شعره يماثل المقيد في الشكل، ولكنه جديد الفكر عصري الخيال.
أتي به إلى فرنسا وهو في حوله الثاني، وأتم دراسته بمدرسة «نافار»، وعالج قرض الشعر مبكرا في شرخ شبابه وهو في السادسة عشرة من عمره، وبعدما قضى بضعة شهور في ستراسبورج وهو ضابط برتبة ملازم ثان أقام طويلا بباريس، ثم اتصل بالسفارة الفرنسية في إنكلترا، ولبث فيها ثلاث سنين ثم آب إلى فرنسا سنة 1790.
كان محبا للفكر الجديدة ومن نصرائها، شديد العارضة ببلاغة ملؤها الحماسة نحو الهيئة الثورية المسماة «لا تيرور
La Terreur »، وقد قبضت هذه الفئة الطاغية على زمام الملك في 31 مايو سنة 1793، وكان رائدها الظلم العسف؛ فأهلكت الحرث والنسل، وضربت أعناق آلاف مؤلفة من نصراء الحرية، الذين انبروا للدفاع عنها في ظرف الثلاثة عشر شهرا، التي مكثتها هذه الطغمة العاتية، وانقشعت بقتل رئيسها «روبيسبيير
Robespierre » في 8 يوليو سنة 1794.
طفق يحارب هؤلاء الجبابرة بنفثات أقلامة في الجرائد تارة وفي الخطابة طورا، مدافعا عن الحرية، معددا مساويهم وعسفهم إلى أن قبضوا عليه في مارس سنة 1794، وسجن في «سان لازار»، ثم ضربت عنقه هو و«روشيه
Roucher » الشاعر في آن واحد، وذهبا كمن سبقهما من الألوف المؤلفة شهيدين للحرية والوطنية في 25 يونيو سنة 1794.
وكان موته خسرانا لفرنسا؛ إذ فقدت به البلاغة والشعر نابغة في عنفوان شبابه، ولم يكد يبلغ الثانية والثلاثين، ولو عاش لأتى بمعجزات البلاغة ومدهشات القريض، وجر ذيل النسيان على أغلب شعراء قومه من السلف والخلف.
ولم يطبع ديوانه إلا في سنة 1819، وهو يشمل: الغزل، والرثاء، والهجاء، والأناشيد الوطنية، والرسائل، وعدة مقاطيع شعرية من الأهمية بمكان، لا سيما «هرمس
Hermés »، وهي ملحمة فلسفية شائقة.
وكان شينييه أعظم شعراء القرن الثامن عشر، وفلسفته تشابه فلسفة «بوفون
Buffon »
2
أو «كابانيس
Cabanis »
3
وكان جاحدا لا يتدين بدين.
وقد مهر في الشعر وأتى فيه بآيات بينات، ولم يتفرد بمذهب الشعر المقيد، الذي كان يقلده تقليدا تزينه الرقة والانسجام، وكان له ذوق سليم في الميتولوجيا
4
والتعبير عن الكلمات بالجمل؛ لتسع ما يبثه فيها من نفثات البلاغة، ولم يستعمل في كتابته غير الألفاظ الفخمة الفصيحة.
وقد أعاد هذا الشاعر المجيد للقريض الفرنسي شبابه بعدما كاد يودي به الضعف وملأه حمية وحماسة، فجدد الشعر الخلوي بعواطف صادقة تمثل الطبيعة تمثيلا حقيقيا، وأحيا الرثاء بما تمليه إليه نفس أضنتها الآلام، وأصلح الهجاء بنفحات روحه المتوقدة، وهو أول من أنشأ الشعر المطلق وآخر شعراء المذهب المقيد وأعظمهم.
الفتاة الأسيرة
La Jeune Captive «يحترم المنجل السنبلة قبل نضجها غاضا أمامها الطرف، ويرشف جديد الغصون من الكروم ما يهديه إليه الفجر في أيام الصيف من الندى البليل غير خائف من ألم العصر، وإني لجميلة فتية مثلها أكره الموت ولو أني الآن هدف لقلق البال والسأم.
ليطر إلى الموت الزؤام من عصى دمعه من الصبر والجلد وعدم المبالاة، ولكني أنوح والأمل ملء فؤادي، وحينما تهب الشمأل أخفض رأسي حرصا، ثم أرفعها إذا مرت، وإن كان لبعض الأيام مرارة فلغيرها حلاوة تنسي نكدها وتبرئ أوصابها. وهل رأيت شهدا شهيا لا تعافه النفس إن واظبت عليه وبحرا خلوا من الأنواء والأعاصير؟
تبيض وتفرخ بقلبي الأماني والآمال في سجن تكاد جدرانه تنيخ علي لئلا أفلت منها، ولكن ساء زعمها؛ فإني راكبة جناحي الأمل، كالعندليب تسرب من قفص بائع الطيور القاسي، طائرا منتعشا متهللا في فسيح الخلاء ومزهر الرياض، وقد اكتنفه الهناء من كل صوب، يغرد ثملا بنشوة الحرية والسعادة.
أيموت مثلي؟ من تنام والدعة غطاؤها، وتسهر والسكون أنيسها، ولم يخالجها توبيخ الضمير في اليقظة ولا في النوم.
وكان حسن لقائي نهارا باديا في العيون، وكأنه يبسم لي ظاهرا على الجباه التي اكفهرت من البؤس والعناء، وقد أنعش مرآي الجميع في هذه الأماكن، وهللهم بشرا وسرورا.
إنني في مبدأ رحلتي الشائقة مسافرة تحت ظلال الأشجار الجميلة، التي تحف طريقي من الجانبين، ولم أكد أمر على أولاها وقد مدت أمامي مائدة الحياة، وما أوشكت أن افتتحها ممسكة كأسا ما فتئت مفعمة إذ لم تكد تنضم عليها شفتاي، ولست إلا في الربيع، وأشتهي أن أدرك الحصاد أو كالشمس تنتقل من فصل لآخر لتتم سنتها.
إني لزهرة متلألئة فوق غصني، مزرية بما حولي من الأزهار في بستان دولة الجمال، ولم تتمتع بأشعة الغزالة إلا عند شروقها، وأبغي أن أحظى بها لغاية غروبها.
أيها الموت! إنك لتستطيع أن تنظرني
5
فاغرب عني، واذهب لتريح القلوب التي يفترسها الخزي والرعب ويميتها اليأس، فإن «باليس»
6
يعد لي النضر من ملاجئه الخضر، و«أمور»
7
المنعش من قبله الحلوة، و«موز»
8
الشجي من حفلاتها الموسيقية، ولست أبغي الموت قبل التمتع بهذه الاحتفاءات الهنيئة. •••
كنت مشاطرا لها في الحزن والأسى، فاستيقظت مني مخيلة الشعر، وأصغيت لهذا الصوت الشاكي وهذا الاعتراف الذي تبوح به هذه الكاعب الأسيرة، ثم هززت أثقال الحياة المضنية، ونظمت ما تناثر من فمها اللطيف المحبوب من غرر الدرر في سلك عقود القريض؛ فأصبحت أناشيد تشجي العشاق وسلوانا ولهوا لهم يقتلون بها أوقات فراغهم.
ولقد تساءل من معها من المسجونين من تكون هذه الحسناء التي زانت الرشاقة جبينها وحديثها؟ وإنا لمشفقون أن تنقضي أيامنا، وحبذا لو طال علينا الأبد فما نحن بجانبها إلا في السعادة والهناء لا في السجن والعناء.»
الكونت ألفريد دوفيني1
ممن يشار إليهم بأطراف البنان من فحول الشعراء الفرنسيين، ولد بلوش سنة 1797، وتوفي بباريس سنة 1863.
كان سنة 1814 ملازما ثانيا في فرسان الشرطة «الجندرمة»، ثم عين سنة 1815 في حرس المشاة الملوكي، ورقي سنة 1823 إلى رتبة يوزباشي، وأرسل إلى الحدود مدة حرب إسبانيا، ثم استعفى من الخدمة سنة 1828، وقد تزوج قبل هذا العهد بسنتين بفتاة إنكليزية تسمى ليديا بونبوري.
عاد إلى باريس، وكان من المطبوعين على الشعر المطلق، وابتدأ في نظم الشعر من سنة 1815؛ أي في الثامنة عشرة، وظهر أول مؤلفاته سنة 1822 بعنوان «منظومات»، وفي سنة 1826 طبعه طبعة جديدة وسماه «المنظومات القديمة والحديثة»، وأضاف إليه بعض قطع من ضمنها: «موسى»، و«أيلوا»، و«الطوفان»، و«البوق»، وفي سنة 1837 أتبعها بأخرى وهي: «الجليد»، و«مدام دوسوبيز»، و«الطرادة»، و«باريس»، و«عشاق مونمورانسي».
وقد كتب نثرا «5 مارس» سنة 1826، وهو رواية تاريخية شائقة كانت آية في البلاغة، أجاد فيها وأعطى الحوادث حقها من الاستيفاء، يزينها وصف جميل بطريقة لم يجاره فيها مجار. وقصص في مجلدين سماهما «ستيللو» سنة 1832 و«الاستعباد والعظمة في الجندية» سنة 1835، وعدة روايات منها واحدة نظمية، وهي «مغربي فينيزيا» سنة 1829، و«لا ماريشال دانكر» سنة 1831، و«شاتيرتون» سنة 1835، وقد حازت إقبالا باهرا، ولما مثلت مدام «دورفال» الممثلة الشهيرة دور «كيتي» في هذه الرواية، كانت لها اليد الطولي في زيادة شهرتها؛ إذ اجتمعت مهارة التمثيل ورقة الإلقاء ببلاغة الإنشاء وما حواه من العواطف المؤثرة.
وقد انتخب في المجمع العلمي الفرنسي سنة 1845، وقضى أيامه الأخيرة في العزلة كئيبا كاسف البال، ومات بعد الآلام النفسانية والمتاعب الدنيوية حولا كاملا، وقاسى من نكد الأيام ما ترزح لثقله الأطواد بصبر يحسده الصبر.
وظهر بعد موته جزء ثان من الشعر باسم «الأقدار»، ونشر في مجلة العالمين سنة 1864، و«يومية شاعر»، وهي حاوية لشروح في التراجم وتأملات طبعها «لوي راتيسبون» سنة 1867.
تفرد هذا الشاعر النابغة دون غيره من شعراء المذهب المطلق بأنه شاعر نفسه، فترى جميع ما كتبه نظما كان أو نثرا لا يدور إلا على شكواه من الزمن ووصف ما يقاسيه من الهموم والآلام وتقلبات الدنيا، فترى جميع أقواله مترجمة عن وجدانه وشعوره بمرمى عام لا عن خيال، وجميع رواياته نموذجات لسحر البيان ورقيق العواطف وشدة التأثير.
وكانت الأفكار الرئيسية لهذا الفيلسوف الحكيم تحوم حول: الوحدة التي تقهر النوابغ، وخلو بال الخلق وجمودهم، وغدر المرأة وخيانتها، وعدم إحساس الطبيعة وتأثرها، والجلد والصبر على هذه المصائب والإحن، والخضوع لإرادة الخالق ومشيئته.
وكان من المجدين حزينا كئيبا، ولم يبلغ حد الكمال في روائع الابتداع ومدهشات الإلهام، ولا تزيد قصائده عن الأربعين، وأغلبها غامض معقد المعاني، ولكن اثنتي عشرة منها سارت بذكرها الركبان، وعدت من روائع البلاغة وسحر البيان، مثل: «موسى»، و«قارورة في البحر»، و«مصرع الذئب»، و«بيت الراعي»، و«جبل الزيتون»، و«غضب شمسون» وغيرها مما سبق ذكره من قصائده، وإن كان هذا الشاعر أقل شهرة من فيكتور هوجو ولا مارتين وألفريد دوموسيه، ولكنه معدود من صفهم.
بيت الراعي
La Maison du Berger
إن كان قلبك يئن من وطأة أثقال الحياة، مضطربا من ألمه كنسر جريح يحاول أن يطير مرفرفا بجناحيه فيقعده ضعفه وتخونه قواه، يحمل كقلبي على جناحه المستعبد عيشا ملئ نكدا؛ فتارة ينيخ عليه بكلكله حتى يكاد يسوي به الأرض، وآونة يثلج
2
صدره فيوشك أن يطير فرحا، أو كان لا يدق دون أن يسيل جرحه، أو لم يشعر بالهوى وهو نجمه الذي ينير أمامه الأفق فيهتدي به.
أو كانت نفسك كنفسي أنهكها ما تحمله من: متاعب الدهر، ومرارة الحياة، وهوى إلى الماء مجذاف سفينتك، التي لبست ثوب الحداد؛ فهامت على وجهها في الماء والأمواج تلعب بها كما تشاء. فهناك أطرقي برأسك، ونوحي على نفسك، والتمسي في اللجج طريقا لم يطرق، وانظري وأنت مرتعدة الفرائص إلى كتفك العارية؛ لتقرئي ما خطه الدهر عليها من أسطر القضاء المبرم بأحرف من حديد مصهر.
3
أو كان جسمك يقشعر من هول آلامه الخفية؛ فيكاد ينشق منه الفؤاد كمدا، وقد غلب عليه الحياء مما أحاط به من الأنظار، فترينه يبحث عن مكنون الخدور ليواري فيها جماله، وليأمن مما يهينه من الأعين التي أفعمتها القحة.
أوجفت شفتاك من سم المين،
4
واحمر جبينك حينما يسبح في يم أحلام دنسة لا يحوم عليها طائر الخيال وهي ناظرة مصغية إليك؟! فارحلي رابطة الجأش، قوية العزم، واطرحي المدن ظهريا تنعى من بناها، ولا تدعي غبار الطرق يفترش قدميك، وانظري بعين المفكر إلى الأمصار المستعبدة والجبال التي أتعسها الإنسان باسترقاقه، ويممي
5
الغاب العظيم والحقول الفسيحة؛ فإنها نعم الملجأ الحر كجزر معتمة يحفها الماء، وسيري بين المروج وبيدك زهرة جميلة؛ فإن الطبيعة تنتظرك بسكوت رهيب. والعشب يرفع على قدميك ما تكاثف من ظله، وأنين وداع الشمس للأرض يؤرجح جميل الزنبق
6
كمباخر من لجين، وقد حجبت الدحال
7
جذوع أشجارها، التي امتدت على بعد سحيق، واختفى الطود عن الأبصار، واسترسلت أفنان الصفصاف، ونام عسجد الشفق المحبوب في الوادي على بسط العشب الزمردية تحت ظلال ما نبت من الخيزران حول العين المنعزلة، ثم يتمايل الشفق في الأحراش
8
الميادة في الأفق، راكبا متن الفرار، باسطا عباءته السوداء على الشواطئ، وقد فتح الظلام سجنه للأزهار.
وكانت على شاهقنا خمائل ملتفة من الخلنج، لا يستطيع الصائد أن يخترقها فترينها وهي أعلى من جباهنا رافعة رأسا تتيه كبرياء وإعجابا، وتؤوي في الليل الراعي والغريب، فتعالي لتستري فيها هواك وزلتك، وإن كان الكلأ مضطربا فيظهرك أو قصيرا فلا يجللك
9
فإني أجر إليك بيت الراعي ، فيسير إليك الهوينا على عجلاته الأربع.
10
وسقفه ليس بعال عن جبينك وعينيك، وإن لون المرجان وخديك هما اللذان صبغا
11
هذه العربة الليلية ومحاور عجلاتها الصامته ومدخله معطر ومخدعه فسيح مظلم، وهناك في هذا الليل البهيم نجد لنا بين الأزاهير سريرا، يحفه السكون ويضم رأسينا اللتين اختلط منها الشعر.
وسنرى إن كنت ترغبين في بلاد الجليد، التي حينما يظهر فيها الكوكب المحبوب يفترس بأشعته ما يجده أمامه من الثلوج فيزهو ويشرق، ومواطن تنتهبها الرياح ويحاصرها الجليد بأسوار منيعة، وبها القطب اللعين وثلوجه الممقوتة، وسنقتفي سير المصادفات الطائش، ولا يهمني ضوء النهار ولا الدنيا إلا إذا راقا في عيني.
من أنت يا حواء؟ أتعرفين كنهك؟ أتعلمين غايتك وواجبك في الدنيا؟ أتدرين أن الخالق ليعاقب الإنسان مخلوقه لعصيانه وأكله من الشجرة التي نهاه عنها، اقتضت إرادته أن يسلط عليه حبا لذاته لا يسبقه حب آخر في كل الأزمان وأطوار الأعمار، وإذ كان أقصى هنائه شغفه بنفسه ترينه معذبا منغصا منه.
أتعلمين يا أم الخلائق، لم سمحت مشيئة القادر بأن جعلك للرجل قرينة لطيفة؟ ذلك لينظر صورته مرتسمة في مرآة روح أخرى، ويسمع منك هذا الصوت الجميل المزري بتغريد العنادل والذي لا يصدر إلا منك، وليشنف سمعه بصوت رخيم عذب ملؤه الحماس، ولتكوني قاضه ورفيقه فتتولين حياته وتعيشين خاضعة لشريعته.
كلامك اللطيف السار به بعض كلمات استبدادية، وعيناك لهما نفوذ عظيم، ومنظرك ذو رواء
12
فخم كما قال ملوك الشرق في أغانيهم، وكل يجتهد أن يحيد عن سهام حكمك العاجلة، ولكن قلبك يكذب هيئتك الجريئة، ويخضع بلا جدال لشقاء الحظ ونكد العيش.
فكرتك لها طفرات
13
كالغزلان، ولكنها لا تستطيع السير بغير دليل ولا سند؛ إذ يميت رجليها الثرى وتتعب جناحيها الرياح، تغمض منها العين نهارا بمجرد أن يسفر الصبح، وتارة تصل إلى حالق بوثبة واحدة فتزعجها الرياح، وفكرتك المتحركة لا يتيسر لها أن تسهر وحدها دون خوف وملل.
لم يشب صفاتك التبصر الذي يمليه الجبن
14
لأن قلبك يهتز ويرن لسماع صوت المضطر المكروب كا «لأرج »
15
في الكنيسة، ساد عليها السكوت والرهبة، فترينه يردد صدى الأنين فيئن كأنه يتوجع لصاحبه.
كلامك كالنيران يهيج الجموع، ودمعك يطهر الإهانة ونكران الجميل، وإنك لتدفعين الرجل من ذراعه فيهم واقفا مسلحا، وإنك لخير من يهرع إليه لبث الشكاوى الكبيرة التي تنبعث من الإنسانية الحزينة بصوت مختنق.
وحينما يكاد القلب يتميز من الغيظ الطاهر ترين هواء المدن يخنقه عند كل ضربة من ضرباته، ولكن أنين عذابها الاجتماعي يشاهد مجتمعا فوق دخانها مكونا كلمة يسمعها من شط
16
أو دنا بصوت جلي.
تعالي فما السماء إلا كأنها هالة من نور تحيطك بزرقتها إذ تضيئك وتحميك، وما الجبل إلا معبدك والغاب قبابه، وما الطير يميله الهواء على الغصون الميادة والأزهار وعرفها والعصافير وأنينها إلا لتنعش الهواء الذي تستنشقينه ولتحفه بالبشر والابتهاج، وما الأرض إلا بساط جميل مد تحت أقدام بنيك اللطيفة.
أحب يا حواء كل شيء في المخلوقات إذ أشاهدها منعكسة في نظرك التائه في مهامه الأماني، والذي يبث أنى تنقل لهبه المزدان بجميع الألوان، وإن استراح بعد تقلبه زاد بهاؤه وانبعث سحره ففاق هاروت وماروت.
هيا ضعي يدك النقية المزرية بدمى
17
العاج فوق قلبي المتمزق، ولا تذريني وحدي مع الطبيعة التي أعرفها حق المعرفة لئلا يتطرق إلي الوجل منها، فقد قالت لي بلسان فصيح:
إني لدار تمثيل لا تعرف للتأثر معنى، ولا تضطرب تحت أقدام ممثليها. درجات سلمي من الزمرد، وفناؤها من المرمر الأبيض، ونحتت الآلهة أعمدتها؛ فلا أسمع صراخكم ولا أنينكم، وأكاد أحس بمرور تمثيل رواية المجتمع الإنساني، وأنشد في السماء المتفرجين البكم بلا طائل.
أجوب البلاد كالأعمى الأصم، وأجول بين الأمم التي يخطئها الحصر مزدرية بهم لا أميز بين دورهم وقبورهم، وشتائي يحصد النفوس له قربانا، كما لا يشعر ربيعي بشغفكم به.
كنت قبلك أيها الإنسان جميلة معطرة، تاركة شعري يلعب به الهواء كما يهوى، متتبعة في السموات طريقي الذي اعتدته فوق محورها المنتظم؛ فتميلني المشيئة حيث شاءت يمنة ويسرة ككفتي الميزان، ثم بعدك كنت أخترق الفضاء، الذي يندفع كل فيه سائرة وحدي بوجه باش، وصمت يزينه العفاف شاقة الهواء بجبيني الوضاح ونهدي اللذين ارتفعا شمما وكبرياء.
هذا ما سردته علي الطبيعة بصوت جهوري، لبسته رنة الحزن، وإني لأمقتها وحانق عليها؛ لكوني أرى دمنا يخالط أمواج بحارها وموتانا تحت عشبها، فترين أجسامنا بعد تحول مادتها تمتص جذور الأشجار عناصرها السمادية بشره ونهم، فتنمو وتعظم وتزهو، فكنت أقول لنفسي التي راقها هذا البهاء الممقوت: «خير لك أن تحولي نظرك عنه، ولا تذرفي دمعة واحدة أسفا عليه، بل أحبي ما لا يشاهد إلا مرة واحدة.»
من يسعده الحظ ويشاهد لطفك وحنانك أيها الملاك الجميل الشاكي بصوت خافت كأنما هو محتضر؟
18
من ولد مثلك وولدت معه الملاطفة كأنهما توأمان، إذ نراها تلمع مع البرق الذي يتلألأ في نظرك الفاتر، وتمايل رأسك اللطيف وقامتك الرشيقة التي لا تكاد تماسك من لينها وتبسمك الذي أنعشه الهوى ونغصه بأوصابه. •••
عيشي وانتعشي أيتها الطبيعة الباردة، وتحكمي فينا كيف شئت فهذه سنتك، وازدري بالإنسان إن كنت في مصاف الآلهة، فما هو إلا عابر حقير جعله الله سلطانا عليك.
أحب عظمة الآلام الإنسانية أكثر من ملكك وفخامته التي لا تجدي نفعا، وإنك لن تؤملي مني حبا.
ألا تبغين أيتها السائحة المكسال أن تسندي بجبينك إلى كتفي لنطير في جو الأماني؟! فتعالي من هذا البيت المتحرك الذي كسي ببردين من دعة وسكون؛ لتشاهدي ما مر وما سيأتي من صور العالم ومناظره التي أحضرتها في ذاكرتي روح طاهرة من الله، وستحيا هذه الصور وتلبسها الأرواح لأجلك أمام هذا الباب، وترين البلاد العظيمة ممتدة أمامك وهي صامتة.
وسنتبع السلف غير مخلفين سوى ظلنا على هذه الأرض الناكرة للجميل، والتي جابها من مات قبلنا، وسنتحادث عنهم في الساعة التي يظلم فيها كل شيء؛ إذ يسرك سلوك منهج عفت رسومه واندرست معالمه، فتسيرين وأنت غارقة في بحار الأماني ، مستندة على غصون لا تعلم حقيقتها باكية كإرطميس
19
على حافة عيونها حبا صامتا ما فتئ عرضه للحدثان.
مصرع الذئب
La Mort du Loup
كان المزن يمر فوق القمر الملتهب كحريق يتصاعد منه الدخان، وقد حلك الظلام في الغاب وغاب الأفق عن العيون، ونحن سائرون سكوتا على العشب المبلل، تحفنا خمائل كثيفة من الخلنج وشجر التنوب، الذي يكاد يناطح السماء، فلمحنا آثار أظفار كبيرة خطتها أرجل الذئاب السيارة التي أخذنا عليها المسالك.
أصغينا حتى كدنا نقطع التنفس، ولم تهمس منا الأقدام ولا السهل أو الغاب بأدنى صوت غير مزولة الهواء،
20
التي كانت تبعث بصريرها في الجو، وكان النسيم يمر على أعالي الأبراج وأشجار البلوط، التي اضطجعت على ما يحيط بها من الصخور. وبينا نحن في هذا السكون والصائدون بالمرصاد؛ إذ لمح شيخ منهم أثرا جديدا لمخالب عظيمة لذئبين وجروين؛ فأنبأنا همسا فجهزنا الخناجر وحشونا البنادق، وسرنا الهوينا فارقين ما يعترضنا من الغصون المشتبكة، فوقف ثلاثة منا ولبثت مكاني لأرى ما استلفت أنظارهم؛ فلمحت عينين براقتين، ومن أمم أربعة أشباح ترقص في سنا القمر بين خمائل الخلنج كديدنها اليومي، ولما أقبل الرئيس كانت الكلاب متهللة تشبه صغار الذئاب في فرحها ورقصها، ولكن الأخيرة كانت تمرح دون لغط، وقد خيم عليها السكون حذرة لا تنام إلا غرارا؛ إذ على كثب منها الإنسان عدوها اللدود.
وكيف تنام الطير في وكناتها
وقد نصبت للفرقدين الحبائل
وكان الذئب الكبير واقفا، وعلى بعد منه أنثاه مضطجعة على جذع شجرة، كأنها تمثال المرمر الذي كان يعبده الرومان، ممثلا ذئبة حاضنة «ريموس ورومولوس»
21
اللذين وضعهما الرومان في مصاف الآلهة الصغيرة.
ثم أقبل الذئب وقعد باسطا ذراعيه منشبا أظافره في الرمل، ولما استيأس وخاب رجاؤه في النجاة؛ إذ سدت عليه طرائقه، أمسك أقوى الكلاب من رقبته بفكين قويين كأنهما قدا من حديد، وجالد قرنه جلاد المستميت، ولم يتركه رغما عما اخترم جسمه من رصاصنا المتدفق من بنادقنا كالمطر وخناجرنا المغمدة في أحشائه، ولم يزل ممسكا خصمه غير مبال بما أصابه؛ حتى دق عنقه وتركه جثة بلا روح، وكانت الخناجر الغائرة في جسمه أشبه بمسامير سمرته على الكلأ، وقد ارتوى العشب من دمه وتحيط به بنادقنا كرزايا قامت على سوقها، وما فتئ ناظرا إلينا وهو يلعق ما سال من دمه حول فمه، وبدون أن يتأمل كيف هلك أطبق عينيه ومات، ولم ينبعث منه صراخ ولا أنين.
أطرقت إلى الأرض مسندا برأسي إلى بندقتي مفكرا بغير وصول لغاية، إذ حدثتني النفس أن أقتفي الذئبة وجرويها التي كانت في انتظاره على ما أظن، ولولا ولداها لما تركت أرملتنا الجميلة الحزينة إلفها يحتسي وحده صاب المصاب، ولكن واجبها حتم عليها أن تحرس صغارها وتكلأها بعين عناينها ولتدربها على النفور من عهود المدن، التي ارتبط بها الإنسان مع الأنعام، التي استخدمها مهما أودى بها السغب؛ فتراها تطارد أمامه أول من امتلك الغاب والجبال لتحصل على ركن تأوي إليه.
أسفي حينما أفكر في الإنسان ولو طاولت عظمته السماء، فإني أخجل من ذكره لضعفه وخور عزيمته، وإنك وحدك أيتها العجماوات
22
الفخمة العظيمة التي تعرف كيف تفارق الدنيا وآلامها، وإن تأمل الإنسان وجد أن أفضل أعماله السكوت، وما سواه ضعف وخور.
لقد عرفت حقيقتك أيها السائح إذ اخترقت نظرتك الأخيرة أعماق قلبي، كأنها تقول لي بلسان فصيح: «إن استطعت أن تبلغ نفسك مبلغ روحي، فثابر على الاجتهاد والتأمل لتصل إلى هذه الدرجة القصوى من الجلد والصبر والإعجاب بالنفس، فإني ولدت في هذه الدحال ونشأت بها، وقد علمتني صروف الدهر أن الصراخ والعويل والتوسل لهي صفات الجبن والعجز، والواجب يقضي عليك أن تقوم بأعباء ما عهد إليك وكلفت به وناداك إليه حظك بعزيمة، تسبق العضب في المضاء مهما بلغ الأمر منتهاه من الشدة والمضض، وبعد اللتيا واللتي كن مثلي كاظما آلامك، ثم مت صامتا دون أن تنبس ببنت شفة.»
فرنسوا كوبيه1
نابغة من شعراء وروائيي العصر الفرنسيين ممن يفتخر بهم الشعر المطلق، ولد بباريس سنة 1842.
ظهرت أول مجموعة من نظمه بعنوان «صندوق البقايا المقدسة» سنة 1866، وكان أول ظهوره في عالم الشعر عاطلا من مميزاته ونفحاته، فلما صدرت روايته النظمية «جواب الآفاق» سنة 1869 رفعت قدره، واستلفتت إليه الأنظار من كل فج عميق حتى عد من فحول الشعراء، وهي من معجزات نظمه ودرة يتيمة في بابها، لم يأت أحد بمثالها غير ما حوته من رقيق العواطف ودقيق الإشارات.
وكتب عددا عظيما من الروايات التمثيلية والمجموعات الشعرية، ومن أشهر رواياته التمثيلية: «عواد كريمون» سنة 1876، وهي شائقة مؤثرة، و«سيفيروتوريللي» سنة 1883، و«اليعقوبيون» سنة 1885، و«لأجل التاج» سنة 1895، وهي رواية تاريخية نظمية من أبدع ما كتبه الشاعر، سحرت العقول ببلاغتها ومتانة قريضها وما شملته من النفحات العلوية والفيوض الربانية.
ومن نخب شعره: «المودات» سنة 1868، و«المساكين» سنة 1872، و«بين المنازل والنزه» سنة 1875، و«الدفتر الأحمر» سنة 1874، و«المقاطيع الشعرية والمراثي» سنة 1878، وعدد وافر من القصائد نشرت على حدة، لا سيما «أوليفييه».
وما كتبه نثرا مثل «القصص»، وهي في خمسة أجزاء، واشتهرت برقة العواطف وجملة روايات نثرية، وعدد من مجموعات الحوادث التاريخية، منها: «الألم العظيم» سنة 1898، وهي تنبئ بحصول بعض من الانتقال الديني للمؤلف، وقد انتخب في المجمع العلمي الفرنسي سنة 1884، ثم اشتغل بالسياسة، وعين رئيس شرف لحزب «الوطن الفرنسي» سنة 1899، ثم استقال عقب انتخابات سنة 1902، ومن هذا الوقت أمسك اللسان وطرح القلم ولم يكتب إلا ما ندر.
وظهر في هذا العهد الأخير له ثلاثة أجزاء: الأول منها «في الصلاة والحرب»، وهو نظم سنة 1901، والثاني «قصص لأيام الأعياد» سنة 1902، والثالث «أشعار فرنسية» سنة 1906، وجملة مواضيع وقصائد ظهرت في الجرائد والمجلات وكان لها استحسان باهر.
وقد تبرع للمجمع العلمي الفرنسي بجائزة للشعر قدرها ألف فرنك تمنح كل سنتين.
مهر وبهر شاعرنا هذا في أغلب أنواع الشعر، لا سيما المراثي والملاحم، وكان من الشعراء المحققين، وحاز القدح المعلى في الشعر القصصي المألوف وأنواع الشعر المبتكرة في بابها، وقد أجاد في وصف المناظر الطبيعية كقوله في وصف ضواحي باريس: «أرض فضاء جرداء، وأشجار هيفاء، وطرق سوداء، افترشها ما يلفظه
2
دوحها
3
من اللحاء،
4
ولكن لها نصيب وافر من الشجو والطرب يأخذ بمجامع القلوب.»
وكان مقتدرا في وصف أخلاق القرويين وعاداتهم وصفا صادقا رقيقا شجيا يهز القلوب طربا، حينما يصف البؤس المتواصل والفقر المدقع والفضائل المجهولة؛ فلذلك وسموه ب «شاعر المساكين »؛ لأنه في هذه الطبقة الصغيرة الحقيرة أسعده القريض وحده بنفحات مدهشات قلدته زعامة
5
هذا النوع الذي ابتكره.
وقد وفق في التمثيل بين المذهب المطلق والمذهب المقيد؛ فأعطى للأخير العويص الفهم رقة تعبير الأول وسلاسة تركيبه.
وهو في الأدبيات يشبه شعراء المذهب المقيد، لا سيما «كورنيي
Corneille »، وقد رزق منها قسطا وافرا ومكانا رفيعا؛ إذ تعد رواياته التمثيلية من أعظم الروايات الأخلاقية.
وكان من أمهر الناثرين، وكتب في الجرائد في قسمي: الأخبار، والملحقات الروائية نثرا سلس العبارة رقيق التعبير ملؤه العواطف والوجدان الحي، كما أنه أجاد أيضا في المواضيع الفكاهية.
وقد توفي بباريس في 23 مايو سنة 1908، واحتفلوا بجنازته احتفالا شائقا يليق بمقامه الرفيع وبكاه القريض الفرنسي قبل الشعراء.
جواب الآفاق
Le Passant
رواية تمثيلية ذات فصل واحد (يحتوي المرسح على روض بهيج خلوي، يضيئه القمر، وعلى يمينه بيت جميل، توفرت فيه أسباب السرور بصنوفه، قائم على سفح أكمة، وبجانب الحائط مقعد خشبي قديم، وتظهر من بعد داخل المرسح معالم مدينة فلورنسا، ولا يكاد يحققها الرائي، والسماء صافية تتلألأ في كبدها نجومها.)
سيلفيا (وحدها ترى سيلفيا لابسة ثوبا أبيض عارية الكتفين والذراعين، متكئة على حاجز الممشى، مسرحة نظرها في روضها الجميل) :
لعن الله الحب فقد صير العين جامدة والدمع عصيا. (ثم تنزل ببطء إلى حضيض الأكمة.)
لقد قضيت صباي في سلب العقول واختطاف النهى، وأنا الأميرة الخبيثة، ويقبل يدي الجميع كملكة وهم صاغرون، وكان قلبي لا يشعر ولا يحفل بقبلهم الحارة، فمن يخال أني بعدما بلغت هذا الشأو البعيد أسأم وأمل.
السماء باقية على صفائها الجميل، مضى عليها شهران ولم تمطر، والصيف وسكونه ولياليه المحبوبة، ولا ريب أن الشعراء والمغنين يسعدهم الحظ وينفحهم بتشبيهات سمجة، وأرى اسمي تتقاسمه القوافي مع أسماء الأزهار؛ فلا تكاد تقع عيني على قصيدة إلا وأبصر اسمي فيها، حتى امتلكت القلوب وصرت أغبط على هذه المنحة الجليلة.
وهؤلاء المتملقون الصاغرون لا أنظر إليهم إلا بعين ملؤها الازدراء والاحتقار، وهذا «التوسكاني» بطل الوقائع والحوادث المتقلب في النعم الجزيلة، يطرح تحت قدمي الحلي من ذهب وجوهر، وذاك القاضي يتيه كبرياء وإعجابا، والآخر وزير مال «جنوة» يتنافسان في عرض نفيس الماس وغرر الدرر أمام ناظري؛ لينظرا لمن يكون الغلب والظفر، فيستلفت عيني نحو هديته الغالية، ولكن هيهات لما يؤملون، فإني أبغضهم واحتقرهم، وكل هؤلاء الرجال ذوي القلوب الخوالي ليتهم يحبونني مفاخرة كحبهم لي لقضاء مآربهم.
إنني لأتألم من هذه الحياة؛ إذ الموت خير من حياة بلا حب، وقد أصبحت لا أملك شيئا من ذخائر الحب حتى زهرة جافة أحفظها في كتاب، أو خصلة من شعر، أو كلمة حلوة تسترق القلوب يفكر فيها الإنسان قبل نومه؛ حتى صارت الحياة خلوا من المسرات، كما لا يشوبها ضر أو فزع أشكو أو أستغيث منه؛ فوا أسفا صرت لا أستطيع البكاء ولو خفية، أواه من حزن ضاق به الصدر ذرعا، وهم يكاد يتفطر منه القلب. (مشيرة إلى المدينة التي تظهر من بعد)
هذه فلورنسا، والليل صافي الأديم، والسماء مقمرة، ولربما نظرني تلميذ مرة فوقع في حبائل غرامي، وغلبه حياؤه فعف وكتم حبه، وجلس بجانب نافذته شاخصا إلى السماء يناجي النجوم، فيصعد الزفرات تارة ويثمل من نشوة أمانيه طورا.
ليت شعري كيف يحفظ العهد لحب لست له أهلا، ولكن لو عثر به الجد ورماه في طريقي المنكود؛ فلا يظن أن قلبي يطاوعني على خذلانه وتركه ليتيه في بيداء هيامه.
وإني لأعاهده على أن يشاطرني آلامي، كما سأهبه وحده نفسي وأضن على كل من يخطبني حبي.
زانيتو (يغني على بعد) :
أحبب بفصل جاء بعد شتاء
فصل الربيع ووصل كل هناء
غارت ذكاء لحسنه فتألقت
ورمت أشعتها على الغبراء
وكذلك الأوكار دب دبيبها
والجو خامره نسيم صفاء
والريش من قمريها أنى مشى
ماش رآه فوق وجه الماء
سيلفيا :
كل ينغصني ويغيظني حتى هذا الصوت الرخيم في الليل البهيم وسرور الخلق يتبعني ويقتفي مني الأثر، فيا لقلب حزين وبال كاسف، وإني وذاك الصادح على طرفي نقيض؛ فأنا ألعن الربيع وهو يترنم بتمجيده.
زانيتو (يغني وقد اقترب صوته) :
فاسلك بنا سبل الفراش لنلتقي
يا ابن الكرام بكاعب هيفاء
فهناك نمرح في ظلال خميلة
بالقرب من عين تروق الرائي
ونشاهد الغزلان غزلان النقى
تروي الصدى في هذه البطحاء
6
سيلفيا :
النغم شجي والصوت عذب يستهوي الأفئدة، ولكني لا أعلم حال هؤلاء الذين يدعون الحب؛ فلندخل ولنترك الميدان فسيحا للذين أسعدهم الحظ والهناء. (ثم تصعد إلى بيتها وهي تنظر حائرة إلى الجهة التي ينبعث منها الصوت، ويأتي زانيتو ومزهره
7
على كتفه متأبطا عباءته، وطرفها يكنس الكلأ وراءه، ويدخل متهللا دون أن يلمح سيلفيا)
زانيتو (وهو واقف في صحن الدار) :
رعى الله ليالي الصيف التي تمكن المسافر من الرحل الشائقة، إذ يتناول عشاءه في قرية حقيرة تحت دوالي الكروم، وأمامه منظر الغروب البهيج، ثم يتمم ترحاله في شروق القمر، ولا مطية له إلا قدماه يسير مترنما برقيق الأناشيد كي لا يشعر بالنصب. سقيا لليالي الصيف إذ السماء صافية، تتلألأ بها دراريها مبتسمة للمسافر، لامعة من خلال أشجار الطريق.
عشت ونعشت يا ليالي الصيف أنت والأمل، وهأنذا على مقربة من فلورنسا، وسأعرف غدا إن كان العهد باقيا على حبها لسماع نغام العود وشجي الأغاني الغزلية، ولكني أرى النهار بعيدا وثيابي رقيقة.
ومزهري هذا أحمله على كتفي كضغث على أبالة، وأهل الخان الآن في دعة واطمئنان، يطرق بابهم الطارق حتى يكل ساعده وهم كأنهم صم، وبعد الجهد الجهيد يفتحون وقد علا وجوههم السأم والضجر، فمن لي بركن آوي إليه وأقضي فيه ليلتي هذه. (ثم يلمح المقعد القديم بجانب الحائط.)
هذا مقعد عتيق ولو أنه مضجع خشن لكن الليل هادئ رائق، ونعم العشب من وسادة، وإن شعرت ببرد الليل فستصلح الشمس في الصباح ما أفسده المساء، وما علي إلا أن أرقص قليلا فأدفأ وأستأصل من جسمي شأفة البرد. (ثم يتهيأ للمنام.)
سيان عندي هذا المضجع القض
8
وفراش وثير،
9
فما أجمل النجوم وما أحلى خان الخالق الذي لا يكلف أجرا! (ثم يمتد على المقعد ملتحفا بعباءته وينام.)
سيلفيا (ناظرة من سفح فناء دارها) :
يا لك من غلام مسكين قد فعل كما قال. كنت أشكو منذ هنيهة من جمال الليل فما أخبثني! (ثم تنزل مسرعة إلى الحضيض.)
10
يلزمني أن أدعوه لأني لم أقم بواجب الضيافة ولم يفتني الوقت بعد. يشكو الإنسان من الصيف؛ لأنه يكون فيه عرضة للشجون، ويود لو يكون الليل حالكا معتما، فينسى جميع هؤلاء البؤساء الذين يطوح بهم الحظ المنكود في كل شرق وغرب ولا من يؤويهم ويواسيهم. (ثم تنظر إلى زانيتو وهو نائم.)
إنه لنائم نوما هنيئا سائغا ولا ريب أنه اعتاده وألفه، ولكني صامتة مضطربة أمام هذا المشهد الرهيب من عزلة ووحدة وليل أريج، وغلام نائم بهيج، وإني ليخيل إلي أني أسمع دقات قلبي وكأن عاملا جديدا يحرك منه ما سكن ويثير ما هدأ حتى كدت أفقد صوابي. (ثم تقترب من زانيتو وتطيل إليه النظر.)
وا أسفا إنه لمماثل لأماني. (ثم تأخذ بيده بلطف.)
هيا استيقظ فإن هواء الليل ضار. (زانيتو يستيقظ ويرى سيلفيا، فيدهش ويأخذه العجب.)
أأنت من بنات الجن؟! لقد كنت الساعة أراك في أحلامي، وكنت أنظر أشباحا بيضاء تمر علي تلو بعضها.
سيلفيا :
واها لك! لم تكن إلا أشعة الكواكب تتخلل الأشجار.
زانيتو :
لا، فما رأيته في عالم الرؤيا هو عين ما أشاهده الآن، وإني لأتصور أنني عرفت صوتك أيضا، ولو أن النائم لا يعي شيئا لكن روحه تسبح في عالم الخيال؛ فترى وتسمع وتتحدث، وكنت أسمع أيضا أنغام موسيقى شجية لم أسمع مثلها في المقام الدنيوي.
سيلفيا :
ما سمعته من الألحان الموسيقية لم تكن إلا الأشجار تعبث بها الصبا؛ فتتمايل غصونها ويسمع حفيفها.
زانيتو :
ولكن من تكونين إذن؟
سيلفيا :
إنني مفاجئة أعرض عليك طعاما ومأوى إن كنت في حاجة إليهما
زانيتو (وهو مطيل النظر إليها) :
شكرا لك فقد تناولت عشائي متأخرا واستكفيت من النوم.
سيلفيا (تخاطب نفسها على حدة) :
اتقي الله وكوني عفوة أيتها المرأة القاسية! ألا تفكرين أن الكل يؤاخذك بل يصب لعناته عليك إن مس حبك هذا الغلام الغر بسوء. (ثم تخاطبه.)
ألا يحق لي معرفة من ينام تحت نافذتي؟
زانيتو :
لك ما تبغين فإني لا أروم الخفاء، ومهنتي موسيقار
11
واسمي زانيتو، ومنذ طفولتي وأنا أجوب الآفاق، وحياتي أسفار ورياضة، وأذكر أنني لم أبث ثلاثة أيام تباعا تحت سقف، وأعيش من وراء عشرين مهنة صغيرة لا يحتاج إليها، ولكن أحقرها عندي أجلها نفعا.
أعرف كيف أنزل السفينة في البحيرة وكيف أسيرها، وأعلم كيف أنتفي من الحديقة الغناء غصنين لدنين أشد عليهما الشباك بمثابة سرير وثير، وأدري كيف أطلق الكلاب السلوقية مثنى مثنى وراء الصيد، وأعرف كيف أذلل الصعب من الجياد، وأعلم كيف أصوغ القوافي وأنضدها كعقود الجمان في جياد الحسان، وفضلا عما ذكرته من الفضل الذي لا يدانيني فيه مدان، في حلبة الرهان، أدري كيف أربي البزاة والصقور وأدربها الصيد، وفي الموسيقى - لا سيما المزهر - أعد من الرؤساء الفضلاء.
سيلفيا (وهي باسمة) :
أنت حائز لكل هذه المهن والفنون وتقضي أغلب لياليك طاويا.
12
زانيتو :
لقد صدقتك فيما سردت، وإني لا أعرف لنفسي ترتيبا ولا قاعدة أسير عليها، وساعة طعامي ليست محددة إذ طالما نسيتها؛ لأن بلادنا لا تعرف للضيافة حقا، وكثيرا ما أكون بعيدا عن بيوت الهناء والنعيم منزويا في ركن من غابة، وقد رددت قبل مجيئي غائلة السغب
13
بقليل من البندق، وذلك جعل في روح السنجاب
14
ورشاقته.
وبعد فكان الناس يحسنون وفادتي، ويلقوني بالإيناس والترحاب لأني لا أشغل مكانا عظيما ويكفيني الشيء النزر.
ألج القصور ليلا وأعرض على أهلها أن أشنف أسماعهم برقيق الأغاني وشجي الألحان وهم على المائدة، ثم أصدح بصوتي الرخيم الرنان؛ فأسترق الأسماع والقلوب، وأنال كل مرغوب ومطلوب، ويعطف علي رب القصر وينفحني بذراع من الأروى
15
الشهي وطير سمين، وإن اشتهيت شيئا من الصحاف الحارة، فما هي إلا نظرة إليه تكفيني مئونة الطلب، وإن هو إلا لمح البصر أو هو أقرب ويكون أمامي الصنف الذي تاقت نفسي إليه.
سيلفيا :
قد وعيت جميع ما سردته، وأظنك متمما ترحالك إلى فلورنسا.
زانيتو :
سأيممها بلا ريب، ولكن لو اتفق وتقاطع أمامي طريقان أقصد أجملهما وأضرب عن عزمي السابق. أتبع أهوائي في أسفاري وأجوب البلاد كالسحاب أو كالأوراق الذابلة تطير كما تهوى الرياح. لا يعلم من أين أتيت ولا أين ألقي عصا الترحال؛ فمثلي كمثل الشاعر أو المجنون يهيمان في كل واد. أتبع الطير في مسيره وتسمع أغاني مرة واحدة؛ لأني لا أمكث في البلدة إلا ريثما أبتاع بعض الأزهار الجميلة لأزين بها مزهري.
أنا الرحالة العجيب الذي حكم عليه الناس بالخفة والطيش، ويمرح في ربيعه السادس عشر، إن أمطرت السماء استترت تحت الخمائل المتكاثفة ريثما يسكن المطر، ثم أخرج من الغابة المبللة ضاحكا من قوس قزح.
لم أجشم نفسي للحصول على الغنى والسعادة، كما أنني لم أصادفها قط، وإني كالحاج المسافر في ضوء القمر يشرب من الينبوع المنفجر، ويخوض النهر من المخاضة. مداوم سيره لا يقعده تعب ولا نصب.
سيلفيا :
ألم تفكر قط في الإقامة بعد هذا السير المتواصل الذي تبثه فيك روح النزق والطيش؟! وإنك لتؤمل الأماني والآمال من الغد الخفي المبهم. أما بصرت في ترحالك بمنعطف الطريق ببيت صغير خيم عليه السكون والدعة، وهو في حلته البيضاء الناصعة تكسوه النباتات المتسلقة، التي حوت من أحاسن الأزهار وأريج الورود، وببابه كلب جميل أمين.
ينام بإحدى مقلتيه ويتقي
بأخرى المنايا فهو يقظان نائم
وبنافذته المفتوحة فتاة هيفاء دعجاء تحييك وأنت مار.
زانيتو :
طالما تيقنت أن أناشيدي أشبه بحجر يقذف به في خميلة؛ فهيج منها ما كمن من الأفاعي كبيرها وصغيرها، وإني أمام هذا المنظر الذي لا يميل إليه إلا كل حوشي سوقة أراني لا آلفه؛ لكوني أحب أن أترك الأسر وشأنهم من الدعة والسكون.
سيلفيا :
ألا تغرق في بحار أمانيك حينما تبتسم لك الفتيات الحسان بما يخجل البدور، ويطرحن عليك من الأزاهير التي يعلقنها بصدورهن؟!
زانيتو :
وما الفائدة من جراء ذلك؟ بل كنت أرسل إليهن قبلة من بعيد وأذهب لشأني، وقد بينت لك أن أثمن الأشياء عندي الحرية، وإن أحببت وأطلقت لنفسي العنان في الحب صرت أسيره وأفقد رحلي الشائقة، وإني الآن خفيف العبء لا أحمل إلا ريشة أزين بها قلنسوتي ومزهري على كتفي، وأما الحب فحمل ثقيل ترزح من ثقله القلوب الشداد.
سيلفيا :
إنك لطير صعب المراس، لا يستطاع إمساكه في قفص ليستأنس ويستألف.
زانيتو :
إن ذلك لمحال.
سيلفيا :
ألا يفكر طيرنا أن يصنع له عشا يوما ما يأوي إليه؟!
زانيتو :
لا لا! فإنني أرتعد خوفا حينما أسمع اسم الحب، وإنك لا تعرفين حلاوة السفر ولذته، كالفراش
16
المتنقل على جميل الأزهار لا يلبث على إحداها إلا ريثما يمتص رحيقها.
17
سيلفيا :
ليست السعادة ما تظنه. إنك ذاهب إلى فلورنسا ولا أمل يقودك، يرشدك الاتفاق وتأخذ بيدك المصادفات، وقد استعذبت الطريق الجميل، ونسيم الليل العليل البليل، تتبع خطافا
18
طائرا، أو صبا
19
سائرا.
زانيتو :
الأمر كما وصفت.
سيلفيا :
قد عرفت سيرك، ولكن غاب عني مقصدك.
زانيتو :
إنه لمبهم.
سيلفيا :
وماذا يكون؟
زانيتو :
إني لا أعلم ما في الغد.
سيلفيا :
أود أن أمد إليك يد المعونة.
زانيتو :
لست في حاجة إليها، وربما لا أخطو خطوة واحدة بعد جميع ما مضى، وإن نفسي تحدثني بأمر ذي بال، وذاك أن مثلي من لا يعلم له أبا ولا أما لا يبعد أن يكون ابن قروي حقير أو ابن سيد أمير، ولكن يغلب على ظني أني ولدت في صبيحة يوم جميل من أيام الربيع؛ لأن شعاع السرور المرتسم في رأسي يمنعني أن أظنني يتيما، ولغاية الآن، وأنا جائل كالفلو
20
فرحا مرحا، لا أطمع في عيش أرقى مما أنا فيه، ولكنني يلزمني أن أبوح لك يا سيدتي بما يخالج صدري لما آنسته منك من اللطف والرقة في مخاطبتي، فقد عاودتني الذكرى القديمة المبهمة، فتذكرت أختالا أعلم الآن خبرها وما فعل بها الدهر.
وحينما أفهمتني حقيقة المأوى الذي تكتنفه السعادة من كل صوب وهو بعيد عن أعين الناس تظله النباتات الجميلة التي اكتست بأبهى الأزاهير، أراني الآن قد ابتدأت أن أشعر بوطأة التعب والنصب مما تكبدته من مشاق الترحال والأسفار.
ولقد تاقت نفسي لما عرضته علي، وأراني منقادا طائعا لنصحك، فكوني طيبة القلب كما أنت جميلة الطلعة، أفلا تجربين إذن أن تحفظي هذا الطير الشارد بجانبك ليألف ويستأنس بعد نفوره؟!
وإني أعاهدك بأن أهجر عيشتي السابقة التي لا نظام لها وأعيش هنا، ولا قصد لي أن أقضي عامة اليوم جالسا على وسادة تحت قدميك، أسامرك بما يقتل الوقت وأشنف منك السمع بأناشيد ترنح منك الأعطاف وترقص ما يجول بخاطرك من الأماني والآمال.
سيلفيا :
ما أنت إلا طفل! (ثم تناجي نفسها على حدة.)
ما لي أراني مضطربة خائفة من أن أحوزه بجانبي وأحوطه بصنوف الاعتناء والحنان، ويستهوي سمعي حينما يناديني: يا حبيبتي، وهنالك محط آمالي!
زانيتو :
فهل لك فيما بحت به إليك؟!
سيلفيا (على حدة) :
وإن قبلت؟ لا فذاك محال! ولكنه هو الذي عرض علي الأمر بنفسه.
زانيتو :
أعلم يا سيدتي أن هذا منك كريم عظيم، ولكن هل تسمح إرادتك؟
سيلفيا (على حدة) :
سيعلم غدا من أنا.
زانيتو :
ما رأيك أخيرا؟
سيلفيا :
لا أستطيعه.
زانيتو :
ولم لا تسطيعينه؟
سيلفيا :
لست المرأة التي تظنها؛ إذ لا يقوم بأعباء ما تتمني إلا سيدة سرية لتعول أمثالك من الشعراء والموسيقيين وترعاهم بعظيم عنايتها، أما أنا ففقيرة يعوزني المال والرجال.
زانيتو :
أما لك حاجب من الشرفاء؟
سيلفيا :
لا.
زانيتو :
ولا خادم؟
سيلفيا :
كلا.
زانيتو :
إنني أقنع بثمرة واحدة أتناولها في العشاء، ويكفيني كرسي أنام عليه.
سيلفيا :
ليس في الإمكان.
زانيتو :
ولكن.
سيلفيا :
إنني أرملة لم تقض أيام حدادها وعائشة وحدها.
زانيتو :
وا أسفاه يا سيدتي، فإني لا أتطلب إلا أن أعيش تحت قدميك.
سيلفيا :
قد طلبت محالا.
زانيتو :
وداعا لحظ سعيد هنيء تمناه القلب واشتاقت إليه النفس، ولكني لا أيأس من رحمة الله؛ فلربما صادفت من سيلفيا من الهناء أسعده ومن النعيم أرغده.
سيلفيا (على حدة) :
ماذا يقول؟
زانيتو :
حيث استحال العيش بجانبك في الدعة والسكون مما حدثتني به النفس، وأنا مصغ لما سردته علي من الحديث ، فعلى الأقل جودي علي برأيك ومحضيني النصح؛ فقد أنبئت منذ أيام أن فلورنسا سيدة لم يثبت أمامها قلب من القلوب، ونظرة منها أشد فتكا من السهم المريش، وكافية لأن تطرح تحت قدميها أشد الرجال بأسا، ولا ريب أنك تعرفين اسمها، وهو «سيلفيا»، ويقال: إنها تعيش ببذخ ورفاهية، والناس تفد عليها من كل فج عميق، والسعيد من وفق لأن يمكث عندها بضعة أيام، وهي تهوى الموسيقى الشجية من يد عالم ماهر، ولا سيما المزهر، وقد صممت أن أيممها.
سيلفيا (على حدة) :
اللهم رحمتك!
زانيتو :
إني لا أستطيع أن أجد لي مهنة في قصرها، ولكن نفسي تثور فيها عواطف الكبرياء والإعجاب، ويشاع أنها ذات جمال ساحر وحسن باهر، ومن عاش بجانبها لا يستنشق إلا نسيما مشئوما مسموما، وإني لموجس خيفة، فما قولك يا سيدتي وقد ائتمنتك وجعلتك موضع ثقتي؟
وإنك نبذت ما عرضته عليك، ولكن مهلا؛ فإنك لم تبتي الأمر بعد، وليت شعري لم ارتسمت هذه الفكرة في مخيلتي، وهو أن قلبك نحوي مفعم بحب يفوق حب الأم لولدها، وتودين لي الهناء والسعادة، وإني لتابع لإرشادك ما عشت، فهل أقصد سيلفيا؟
سيلفيا (على حدة) :
قد فهمت الأمر، وسيعود غدا هذا العابر الذي يسمى الحب بلفظه ومعناه، بل هذا الخفي الذي ملأ قلبي حنوا ورقة، وقد طوح به إلي الحظ، وإن هو إلا السعادة المارة وأنا أطردها! لا لا، فالنفس لا تقوى على إخماد عواطفها الثائرة، وإني أريد أن ...
زانيتو :
ألا تعيرينني سمعك قليلا؟! فإنك التزمت الصمت.
سيلفيا (على حدة) :
إن هذا لعار، ولكني سأعتذر بأن حظينا السيئين اختلطا مع بعضهما. (على مسمع منه.)
أتريد رأيي ونصحي؟
زانيتو :
أجل.
سيلفيا (بعد سكوت برهة تتكلم بتكلف عظيم وشدة) :
أطعني ولا تقصد هذه المرأة التي تدنست بالعار، وإنك لغر لا تعرف هذه الأمور، حدث سليم القلب بسيطه، لا تدري بما يحفك من الضرر والسوء.
ولو أني لما لم أستطع أن أؤويك وأواسيك؛ كنت والأسف ملء فؤادي أول رافضة لبغيتك، ولكني قادرة أن أنجيك الآن مما سيحيق بك من المكروه لو أنقدت لرأيك.
وكيف وأنت ابن الغاب الذي يسير فرحا مرحا تداعب الصدى،
21
وتعدو وراء الطير، ويظلك الغمام، ويرويك الينبوع بزلاله البارد.
أنت الذي تيمتك الطبيعة بمحاسنها؛ حتى خلا قلبك من كل شيء تصنعه يد الإنسان، وتغني متهللا كالطير في سمائه، وأنت مبلل الخدين بالندى تود أن تلج هذه الدار المشئومة المحتقرة.
أتدخل مع شمس الصباح بهوا
22
لم تكد تنتهي فيه وليمة الخلان؛ لتدنس شفتيك النقيتين بكأس ابتذلتها الرفاق والإخوان، وتأكل فضلتهم الفاضحة الممقوتة.
أتود أن تقع في مهاوي الفسق بالنظر إلى عينيها اللتين أذبلهما السهر وذهب بطلاوتهما العهر؟! فاتق الله في عينيك المزريتين بصفاء السماء وشعرك البهي العسجدي.
أتطمع أن تنال من سيلفيا طعاما ومأوى بأنشودة أو لحن؟ فعفوا أيها البريء الطاهر الذيل، فإني أخاطبك بلهجة حادة قاسية مع أني في حاجة إلى العفو والإغضاء، وتراني الآن مضطربة، ولكن ذلك من فرط حبي لك، كطفل تريد أن تنتشله أمه من مخالب الهلاك.
فابق على حالك من جوب البلاد، راتعا في المروج النضرة الزاهرة والرياض الأريضة المونقة، يصدح فيها مزهرك كتول
23
من النحل، وإن اكفهرت السماء فما عليك إلا أن تذهب إلى صاحب القصر الهرم أو القروي ريثما يروق الجو، ثم تتمم ترحالك، وإن صادفك في طريقك في يوم باسم الصباح صافي السماء، فتاة حقيرة ضربت من الملاحة والطهارة بسهم وافر، وتليق لأن تكون لك عروسا فعندها تلقي عصا الترحال، وتحط الرحال، وتعيش معها مطمئنا خالي البال، والحصاد مهنتك؛ فهناك ترى السعادة التامة والهناء العميم، والنعيم المقيم.
زانيتو :
إنني لك مطيع، ولكن ربما كانت هذه المرأة براء مما ألصقته بها الألسنة الحداد، ومن أخبرني بنبئها قال لي: إن قصرها يكاد أن يكون هادئا مطمئنا، وإني أعاهدك أن لا أيممها ما دمت تعلمين طلعها
24 ... (يلمح من سيلفيا إشارة تألم.)
عفوا فقد مسست منك جرحا داميا على ما أظن، أما قلت لي منذ هنيهة: إنك تقضين الحداد، وذاك لا يكون إلا لفقد حبيب عزيز أو أخ أو خطيب ؟ وربما كان ذهب ضحية لسيلفيا هذه.
ألم يكن ما جاش بخاطري قريبا من الحقيقة؟! فكوني طيبة القلب، وعفوا إذا تصورت أنك تتسرب إليك عقارب الغيرة، ظانة أنني أرمي إلى زواجها.
سيلفيا (وقد أكفهر وجهها.) :
لقد غرك يا صديقي الشك؛ فإني لا آسف على أخ ولا حبيب، ولكنه طبيعي رحمة وشفقة على سيلفيا، عالمة أنها في الحقيقة أهل الآن لكرم يحمي براءتها، ولكن واها لغرض قاس من مسير على الثلوج لا تستطيعه الأقدام! وهي في الباطن تكره الرشيق القوام الطاهر الذيل، فارحل واعلم أن جل نصحي لك أن لا تعرج عليها فهيا اذهب بسلام. (ثم تسمع بلهجة الألم.)
إنك لا تعلم حرج الموقف، وما يشق علي من أمرك، وأجري عظيم إن ضللت خطواتك عن هذا الطريق، وإني لأستحق على هذا البر الجليل أكثر من الشكر والثناء الجزيل. (على حدة.)
قد قضي الأمر، ولكن وا أسفاه أن وقف على حقيقة أمري.
زانيتو :
إني لا أعرج عليها إذا كنت حكمت عليها بحكمك هذا، وسأرحل ولو أني لا أجد اليوم إلا قليلا من السعادة عما سبق لي من الحياة المشحونة بالوقائع، التي صادفت فيها كل الابتهاج والبشر، وتصعب الراحة والمقام لمثلي؛ لأني لمع لي بارق أمل ضئيل من السعادة.
وحينما رفضت ما عرضته عليك شممت من لهجتك حنوا ورقة، يخالطهما تأثر استنبطت منه أنك تكتمين شجونا عظيمة دليلها القاطع لفظة التأسف الحلوة.
سيلفيا (تناوله خاتما) :
لقد صدق ظنك! فخذ هذا الخاتم تذكارا.
زانيتو (بإشارة رفض) :
لا يا سيدتي، وإنه لعلى طراز قديم من ذهب جيد ومزين بفص كبير من الماس النادر، وهذا ما لا أستطيع قبوله فشكرا لك، وكيف أقبله وأنت أرملة فقيرة.
سيلفيا (على حدة) :
ليت شعري هل عرف جلي حالي، وعلم من أين جاءتني هذه الحلي المشئومة؟ أراه التزم الصمت وينظر إلى نظرة تغض مني الطرف حياء وخزيا. (بصوت عال.)
ماذا تود أن أن أعطيكه؟
زانيتو :
أشتهي تذكارا لا عطاء وإحسانا، شيئا لا يقوم بقيمة ولكنه عزيز عندك، أبغي هذه الزهرة الذابلة التي كادت أن تجف في شعرك الفاحم.
سيلفيا (تعطيه الزهرة) :
وا أسفاه! فخذها، وقبل طلوع النهار ستذبل هذه الوردة في يدك، وأملي أن تذكرك عهدي بأن تنساني عندما تذبل، وإني أودعك الآن أيها العزيز.
زانيتو (يقترب من سيلفيا وهي تبتعد عنه) :
سيدتي! لي كلمة أقولها والاضطراب يلعثم لساني، وأخاف أن آخذ طريقي الأبدي، وكما يخيل إلي أني ضللت طريق السعادة، ولا مسلك هنا يوصل إليها؛ فعليك اختيار أحب الطرق لأسير فيه، فأمعني الفكرة والبصيرة، وسأستقبل الجهة التي تشيرين إليها متكلا على الله وحسن حظي.
سيلفيا (وقد صعدت إلى وسط سفح البيت، مشيرة إلى الجهة المقابلة للمدينة) :
اذهب إلى ناحية الفجر. (ثم يخطو إلى سيلفيا بعض خطوات ولكنها توقفه بإشارة منها فيذهب يائسا.)
سيلفيا (وهي وحدها، تمكث آونة متكئة على مرفقها ناظرة إلى زانيتو وهو يبتعد، ثم تغطي وجهها وتبكي بكاء مرا) :
بارك الله في الحب، فإني الآن أستطيع البكاء.
إيدمون روستان1
بدر بزغ في سماء الشعر وفن الروايات التمثيلية، ولد بمرسيليا سنة 1868، وقد ابتدأ في عالم التأليف بمجموعة في النظم سماها «اللهو بالترهات والسفاسف» جمعت بين البلاغة والرقة، ثم ظهرت أول رواياته التمثيلية «المولعون بسير أبطال القصص» سنة 1894، وهي نظمية ذات ثلاثة فصول حوت: روح «ماريفو
Marivaux »
2
وأسلوب «بانفيل
Banville »
3
ثم اتبعها برواية «الأميرة البعيدة» سنة 1895، وهي طلية النظم منسجمة العبارة، استخرجها من سيرة من القرون الوسطى، وبعدها بسنتين مثلت رواية «السامرية»، وهي مستنبطة من الإنجيل بديعة القريض رقيقة العبارة.
وأهم مؤلفاته رواية «سيرانودو بيرجيراك» سنة 1897، وهي شعرية حماسية ذات خمسة فصول، اهتزت لها أعطاف البلاغة طربا، وسارت بذكرها الركبان. أوجد فيها مشربا في الشعر مضادا لمذهب المحققين الفاضحين، الذين يكشفون جميع ما استتر بلهجة تهكم قارصة، وهي في النظم بيت القصيد من شعر المؤلف، تضم بين سطورها حماسة وحمية وشجاعة ومروءة منسجمة القوافي شائقة المعاني.
وفي سنة 1900 كتب رواية «الهيثم»،
4
وبطلها «الدوق دوريشتاد»؛ أي نابليون الثاني، وقد صادفت إقبالا عظيما وتحلت بمحاسن السابقة.
وقد انتخب المترجم في المجمع العلمي الفرنسي سنة 1902، وأصبح أمير الشعراء، وله عدة قصائد نشرت على حدة وكان لها استحسان عظيم.
وفي سنة 1890، ظهر ديوان في الشعر لإحدى الآنسات، وهي في ربيعها التاسع عشر، باسم «المزامير»، بديع النظم رائق المعاني، لا يشوبه التكلف؛ فدهش المجمع العلمي حينما قارن بين عمر الفتاة وديوانها العظيم، ومنحها جائزة عظيمة، فتزوجها شاعرنا هذا في السنة التي ظهر فيها ديوانها، وهي السيدة «روزموند أيتيينيت جيرار» من الشعراء المشهورين، ولدت بباريس سنة 1871، وهي ابنة «الكولونيل كونت جيرار»، وحفيدة الماريشال «جيرار». (1) ملخص رواية سيرانو
رواية حماسية ذات خمسة فصول، بدئ بتمثيلها بباريس في 28 ديسمبر سنة 1879 بمرسح «بورت سان مارتين»؛ فحازت إقبالا باهرا، وكانت مجدا وفخرا للشاعر؛ لما انطوت عليه سطورها من: الفكاهات، والهزل الرقيق، والأسلوب الأدبي الطلي، ومتانة القريض، والحماسة الشائقة، والمعاني الرائقة، والروح الفرنسية الصريحة. وهاك الموضوع:
تتبع سيرانو دوبير جيراك - وهو من مشاهير شعراء القرن السابع القرن السابع عشر - إلى «نزل البورجوني»، وهناك احتشدت الجموع من: سكارى، وسراة، وممثلين، وموسيقيين، وغيرهم. ثم نعرج على طاهي الشواء وأصناف الحلوى «راجنو»، وكان شاعرا يضحك من رآه؛ إذ كان يملأ أكياس الورق الذي يلف فيه الحلوى بقصائده، وعندما يأتي مشتر يقف أمامه زمنا طويلا، ريثما يقرأ الطاهي قصائده المكتوبة على الأكياس، وينتقي واحدة منها؛ إذ كان يضن بها وتذهب نفسه حسرات عليها.
وهناك يدري سيرانو أن «روكسان» التي تيمه هواها تميل إلى «كريستيان دونوفييت»؛ فيصطحب مع هذا المنافس المزاحم، ويدعوه ليسمع مع الجميع القصيدة المضحكة التي يصف بها أنفه الكبير؛ فيغرق الجميع في الضحك من هذه القصيدة، التي حوت من الملح والفكاهات أرقها ويزينها الإلقاء البديع والفصاحة التي منحها هذا الشاعر.
وصار سيرانو يساعد كريستيان في استمالة روكسان بأن يمليه الرسائل البليغة لحبيبته؛ حتى اغترت به وظنته أنه هو المحرر لها وازداد حبها له بفضلها.
ثم ننتقل بالقارئ إلى بيت روكسان، فنرى كريستيان واقفا بعد الغروب تحت طنف البيت، وقد علته الكآبة وأكمده الأسف، فينظره سيرانو وهو مار فيستغيث به كريستيان لينتشله من ورطته؛ لأنه كان عيا فظا، وقد أردت روكسان أن يجالسها للسمر، فكان لا يعرف أن يخاطبها بكلمة غير قوله: «أحبك»، وصار يكررها حتى سئمت منه، وقالت له: حدثني عن الحب، وكيف يكون ؟ فلم يحر جوابا، فقالت له: عبر عن وجدانك وشعورك على الأقل. فما كان منه إلا أن لبث أمامها كالبهيمة، لا يدري غير قوله: «أحبك.» حتى ضايقها وطردته.
ثم رق له سيرانو ووعده بالمساعدة، واختبأ تحت الشرفة، وأشار عليه بأن يناديها، فأطلت من نافذة الطنف، وصار يلقنه سيرانو الجواب بعبارة بليغة وإشارات دقيقة؛ حتى أدهشها بفصاحته ومنحته القبلة التي طلبها منها في عرض كلامه، حينما رآها رضيت عنه بعد نفورها وغضبها، ثم تزوجت به بعد مدة قصيرة.
ثم سافر سيرانو هو وكريستيان إلى معسكر «إخوان الجاسكونيين» ضمن الجند الذين سافروا، وتبعت روكسان زوجها، وهناك قتل كريستيان برصاصة من الأعداء، ودفن معه سر الغش والخداع الذي رتبه سيرانو، ولعب دوره برشاقته المعهودة، وبعد موت كريستيان لبست روكسان ثوب الحداد ودخلت الدير.
وبعد أربعة عشرة سنة التقت بسيرانو، وصار يتردد عليها في بعض الأوقات، ويقص عليها سيرته الماضية وأخباره سنة بسنة، وحبه لها ما فتئ يجري في عروقه مع دمه؛ إلى أن أتى يوما من الأيام وقد اغتاله أحد الخدم، وضربه بالسيف على أم رأسه، فضمد جرحه وذهب إلى روكسان لينظرها النظرة الأخيرة قبل موته، واعترف لها استدراجيا بحبه، وأنه هو الذي لعب هذا الدور الختال، وخلب روكسان، وأنه ما برح كاتما حبه؛ فتأثرت روكسان ورقت له ورثت لما قاساه هذه الأعوام الطوال بسببها، وبكت وكان بودها لو يعيش وتقاسمه هذا الحب العذري والوفاء والإخلاص، ثم قبلته في جبينه، وهو يعترف لها بآخر كلمة إلى أن أسلم الروح بين يديها. (1-1) سيرانود وبيرجيراك
Cyrano de Bergerac
منظر الطنف
Scéne du Balcon
5
روكسان :
بخ بخ أهذا أنت؟ قد خيم الظلام، فانتظر إذ ابتعد الجمع والهواء لطيف والطريق قفر، فلنجلس لنتجاذب أطراف الحديث، وهات ما عندك فإني مصغية.
كريستيان (يجلس بجانبها على المقعد وبعد سكوت برهة يقول) :
أحبك.
روكسان (تقفل عينها) :
نعم فحدثني عن الحب.
كريستيان :
أحبك.
روكسان :
هذا هو الموضوع فانسج القول.
كريستيان :
أنا ...
روكسان :
صغ القول.
كريستيان :
أحبك كثيرا ...
روكسان :
بلا شك. ثم ماذا؟
كريستيان :
ثم ... إنني أكون مبتهجا إذا أحببتني! أجيبيني يا روكسان إذا كنت تحبينني.
روكسان (عابسة الوجه) :
إنك تقدم لي الحساء
6
بينا أشتهي الزبدة! فخبرني ببعض كليمات كيف تحبني.
كريستيان :
ولكن ... كثيرا.
روكسان :
أواه! ... صرح بوجدانك وشعورك!
كريستيان (وهو مقترب منها وناظر لعنقها الوضاء بعين ملؤها الشره والنهم) :
بودي لو ألثم جيدك! ...
روكسان :
يا كريستيان!
كريستيان :
أحبك.
روكسان (وقد همت أن تقوم) :
رجعت إلى النغمة الأولى.
كريستيان (وقد أمسك بها) :
لا! فإني لا أحبك!
روكسان :
إن هذا لمن حسن الحظ!
كريستيان :
أحبك حبا شغف فؤادي.
روكسان (وقد همت واقفة وابتعدت عنه) :
أواه!
كريستيان :
نعم ... فقد صرت أحمق!
روكسان (بخشونة) :
هذا لمما تعافه نفسي، كما أنك تزداد قبحا في عيني من وقت لآخر.
كريستيان :
ولكن ...
روكسان :
هيا اجمع فصاحتك الهاربة المشتتة.
كريستيان :
أنا ...
روكسان :
أعرف جيدا أنك تحبني، فأستودعك الله.
كريستيان :
لا تتسرعي فسأقول لك ...
روكسان (تدفع الباب لتدخل) :
بأنك تحبني ... نعم وأعلم ذلك. لا لا! فاذهب بسلام.
كريستيان :
ولكني ... (ثم تقفل في وجهه الباب.)
سيرانو (وقد دخل منذ هنيهة دون أن يرى) :
هذا فوز باهر!
كريستيان :
أغثني.
سيرانو :
لا يا سيدي.
كريستيان :
إنني أموت إذا لم أحظ منها الساعة بالقبول والرضا.
سيرانو :
وكيف أستطيع أيها الأحمق؟! إذ ليس في الإمكان حتى إرشادك الآن.
كريستيان (وهو ممسك ذراع سيرانو) :
هاك انظر! (يرى نافذة الشرفة مضاءة غرفتها) .
سيرانو (وهو مضطرب) :
نافذتها!
كريستيان (صائحا) :
سأموت!
سيرانو :
خفض صوتك.
كريستيان (بصوت خافت) :
الموت.
سيرانو :
أرى الظلام حالكا ...
كريستيان :
وما العمل؟
سيرانو :
الأمر متدارك ولكنك لست أهلا له ... فقف أيها التعس أمام الطنف، وإني سأختبئ تحته، وألقنك ما ستخاطبها به من الكلمات.
كريستيان :
ولكن ...
سيرانو :
اصمت.
الحاجبان (وقد ظهرا من بعيد يشيران إلى سيرانو) :
من ذا؟!
سيرانو :
صه! (ثم أشار إليهما بخفض صوتهما) .
الحاجب الأول (بصوت منخفض) :
نحن آتيان من مونفلوري، إذ كنا نترنم تحت نوافذ الحسان على نغم العيدان.
سيرانو (مسرعا في كلامه) :
هيا اكمنا في جوانب الطريق وإن مر أحد مضايق فاضربا لنا لحنا!
الحاجب الثاني :
أي لحن أيها السيد الجاصاندي؟
7
سيرانو :
لحن مطرب إن مرت امرأة. ومحزن إن مر رجل! (يفترق الحاجبان وينزوي كل منهما في ركن من أركان الطريق، ثم يوجه خطابه إلى كريستيان.)
ادعها!
كريستيان :
روكسان!
سيرانو (وهو يلتقط الحصى ليرمي به ألواح زجاج النافذة) :
انتظر ريثما نجمع بعض الحصى.
روكسان (وهي تفتح نافذتها) :
من يناديني!
كريستيان :
أنا.
روكسان :
وما أنا؟
كريستيان :
كريستيان.
روكسان (باحتقار) :
أهذا أنت؟
كريستيان :
أريد أن أخاطبك.
سيرانو (وهو تحت الشرفة مشيرا إلى كريستيان) :
حسنا فتكلم بصوت خافت.
روكسان :
إنك لا تفصح الكلام فاذهب بسلام.
كريستيان :
عفوا ...
روكسان :
لا! فإنك لا تحبني أبدا.
كريستيان (يلقنه سيرانو الجواب) :
يالله! تتهمني بادعاء الحب بينا حبي في ازدياد واشتعال.
روكسان (وكانت عازمة أن تقفل النافذة فتوقفت) :
عجبا! فإن هذا أفصح من ذي قبل.
كريستيان (ملقنا) :
الحب يشب في قلبي متأرجا في مهد روحي الحائرة، فما أقسى هذا الطفل الذي اتخذ روحي مهدا له!
روكسان (وقد تقدمت إلى حافة الطنف) :
هذا من الحسن بمكان! ولكنك أحمق لكونك لم تخنق هذا الحب في مهده إذ وجدته قاسيا!
كريستيان (ملقنا) :
لقد سولت لي نفسي ذلك وهممت به، ولكن بغير طائل؛ فإن هذا الطفل يا سيدتي أشبه بهرقل
8
صغير.
روكسان :
ما أحسن هذا القول!
كريستيان (ملقنا) :
حتى إنه خنق ثعباني الكبرياء والشك بدون أدنى مبالاة.
روكسان :
لا فض فوك! ولكن لم تسرعت في الاندفاع في القول دون استدراج؟ فهل أصبت في عقلك؟
سيرانو (وقد جر كريستيان تحت الشرفة ووقف محله) :
صه! فقد أصبح الموقف حرجا! ...
روكسان :
أراك اليوم تتكلم مترددا في القول فما الذي عراك؟
سيرانو (متكلما بصوت خافت مقلدا صوت كريستيان) :
قولي متردد؛ لأنه يتخبط في الغياهب باحثا عن أذنك.
روكسان :
ولكن كلماتي لم تتعثر في مخارجها كما تعثر كلماتك.
سيرانو :
ستلقى هذه العثرات في القريب العاجل، وهذا يأتي بطبيعته ، وإن فؤادي لواع وحافظ لجميع قولك، وهذا مما يدل على عظم قلبي وصغر أذنك؛ إذ يلقف كلماتك أسرع من البرق، ولكن كلماتي يا سيدتي حينما تصعد إليك يلزمها وقت كاف.
روكسان :
ولكني أجد أنها تصعد إلي منذ هنية أطيب من قبل.
سيرانو :
قد تعودت من هذا التمرين!
روكسان :
إني أحدثك من علو شاهق!
سيرانو :
صدقت وإنك لو رميتني من حالق
9
بكلمة قاسية لقتلتني!
روكسان (وقد همت أن تنزل) :
أنزل إليك؟
سيرانو (بنشاط) :
لا!
روكسان (مشيرة إلى المقعد تحت الطنف) :
أسرع وتسلق المقعد.
سيرانو (وقد زاد اضطرابه) :
دعيني أنتهز ما تنفحني به الفرص من استطاعة التكلم بلطف دون مشاهدة.
روكسان :
دون مشاهدة؟
سيرانو :
نعم فإن هذا ليجذب القلوب، وإنك ترين هذا الظلام المعتم وقد مد رواقه، وإني ألمح بياض ثوب من ثياب الصيف، وما أنا إلا الظلمة وأنت الضياء! وإنك لا تدرين فضل هذه الدقائق علي أن انبعثت في بعض الأحيان من فمي الفصاحة والبيان ...
روكسان :
لقد أسعدتك البلاغة بنفحاتها.
سيرانو :
إلى الآن لم يصدر كلامي من فؤادي ...
10
روكسان :
ولم؟
سيرانو :
لأني إنما أخاطبك وأنا بين ...
روكسان :
بين أي شيء؟
سيرانو :
بين صواب مفقود وفكر ضال، إذ لا يثبت أحد أمام ناظريك! ...
ولكني يخيل إلي أني سأخاطبك الآن للمرة الأولى!
روكسان :
صدقت، فإنك تتكلم بصوت متغير.
سيرانو :
نعم متغير لأني في هذا الليل الأليل الساتر الذي يحميني أستطيع أن أكون أنا نفسي وأستطيع أن ... (ثم يتوقف وقد كاد أن يغمى عليه) .
أين كنت؟ لا أعلم ... كل هذا، عفوا عن اضطرابي؛ فقد ثملت من لذة هذا الموقف ... لأنه لي جديد غريب!
روكسان :
جديد غريب؟
سيرانو (وقد أنهكه التأثر والاضطراب، وهو مجتهد في تدارك كلماته) :
نعم جديد غريب أن يكون صادقا؛ فإن خوفي من أن يهزأ بي ويسخر مني
11
ليلدغني في سويداء قلبي ...
روكسان :
ولم يهزأ بك؟ من عامل جاذب! ... نعم فقلبي يكتسي دائما بعقلي، ونفسي تحدثني بأن أقتلع النجم من سمائه، ولكني أتوقف لغرابة الأمر، وأستبدله بالزهرة.
روكسان :
إن الزهرة جميلة.
سيرانو :
فلنحتقرها الليلة.
روكسان :
إنك لم تخاطبني قط بمثل ما آنسته فيك الليلة من الرقة والبيان!
سيرانو :
آه! إن جرينا شوطا آخر في الكلام فهناك الكنائن
12
والشعل والسهام، والنجاة مقرونة بالأشياء الرطبة! ولنشرب نهلا بدلا من التعلل بكأس صغيرة من الذهب الإبريز من ماء «لينيون» العديم الطعم، وإن سولت لنا النفس بأن ترى كيف تروى الروح إن شربت نهلا وغبت من النهر العظيم.
روكسان :
ولكن أين النكات الأدبية اللطيفة؟ ...
سيرانو :
كان ما كان لأطيل مكثك معي، والآن إن تكلمنا كما ترومين؛ فكأننا نهين هذه الليلة، وهذا الطيب الزكي والساعة الهنيئة بل الطبيعة البديعة مثل: «فواتور
Voiture » وقصائده الصغيرة الرقيقة.
ولندع السماء تجردنا من كل ما تتكلفه من القول بنظرة من دراريها، وإني لمشفق أن يكون في كيميائنا اللذيذة ما يخشى عليه من تبخر العواطف، أو أن النفس تنفد من ملاهيها التي تقتل بها وقتها بغير طائل، وأن لا يكون المكر العظيم غاية الغايات.
روكسان :
ولكن أين النكات الأدبية؟ ...
سيرانو :
إني لأمقت النكات في الحب، وإنه لمن الجرم في الهوى أن يستغرق فيه في المجالدة بالبيض الصفاح، وفضلا عن ذلك فإنه يأتي في بعض الأحيان قسرا، ولا يغني منه حذر.
لهفي على الذين لم يدركوا هذه الأحايين القهرية! التي نشعر فيها بحبنا الشريف، الذي تشجينا منه كل كلمة رقيقة!
روكسان :
وإن وافتنا هذه الأويقات فماذا تخاطبني به من الكلمات؟
سيرانو :
كل ما يجيئني منها أرمي به إليك مكوما دون تنضيده كباقة الزهر؛ فإني أهواك وأكاد أختنق من الحب، وقد شغفني هواك وجننت منه، وليس في الجهد احتمال أكثر من هذا، واسمك في قلبي كأنه في جلجل، وإني لأرتعد حينما يهتز الجلجل فيرن داخله اسمك.
لم أنس ذكراك ومحب لكل بادرة منك، وأذكر أنني في العام الماضي في اليوم الثاني عشر من شهر أيار رأيتك وأنت خارجة من البيت صباحا، وقد غيرت ترتيب شعرك الذي كنت أستضيء بسناه الساطع مثلما يحدق الإنسان ببصره إلى الشمس، فإنه يرى هالة ذهبية على كل ما يقع طرفه عليه.
روكسان (بصوت مضطرب) :
نعم، فإن هذا من فرط الحب.
سيرانو :
حقيقة فإن هذا الشعور الذي يغالبني لغيور مزعج، ولا مرية أنه ناشئ من الحب وبه كل أوصاف الحدة المحزنة، وفضلا عن ذلك فإنه ليس معجبا متكبرا.
ولو كان ينفعك أن أضم سعادتي وهنائي إلى نصيبك منهما ليكون لك سهم وافر لفعلته؛ لأني أسمع من بعيد ضحك ما تولد منهما مما ضحيته من حظي.
كل نظرة من نظراتك تحدث فضيلة جديدة وتعودني الجرأة، فهل فهمت الآن وصرت على بينة من الأمر؟ أتشعرين بروحي وهي صاعدة إليك في هذا الديجور؟ وإني لأحار في وصف جمال ليلتنا هذه؟ وإني أقص عليك كل هذا الحديث وأنت مصغية إلي، ولم يحم أملي القانع على أكثر من هذا، ولم يبق لي إلا أن أموت حيث بلغت غاية الغايات من الأماني والآمال!
وإن كلماتي لهي التي هزت منك الأعطاف بين هاتيك الغصون كورقة يحركها الهواء بين أوراق الخمائل، وقد شعرت بارتعادك وعلمت أنه وفق رغبتك إذ نمت أغصان الياسمين المتدلية بارتعاش يدك! (ثم يقبل وهو تائه طرف غصن متدل من الياسمين.)
روكسان :
نعم وإني لأرتعد كالريشة في مهب الريح وأبكي؛ إذ أحبك وأنا لك فقد ثملت من حديثك.
سيرانو :
والآن فليأت الموت! وإني الذي عرفت كيف أحدث هذه النشوة ولا أتطلب سواها إلا شيئا واحدا ...
كريستيان (وهو تحت الشرفة) :
قبلة!
روكسان (ترجع القهقري) :
ماذا تقول؟
سيرانو :
أواه.
روكسان :
إنك تطلب؟ ...
سيرانو :
نعم أنا ... (ثم يوجه خطابه إلى كريستيان بصوت خافت.)
لقد تسرعت وجريت لأبعد شأو.
كريستيان :
يجب أن ننتهز فرصة اضطرابها وننتفع بها.
سيرانو (مخاطبا روكسان) :
نعم ... طلبت ... حقا ... فيالله! لقد عاودني صوابي، وعلمت أنني زادت جرأتي.
روكسان (وقد انخدعت قليلا) :
ألا تلح بعدها في طلب شيء آخر؟
سيرانو :
نعم! ألح ... بل بغير إلحاح؛ فإني أرى الهموم تغالب حياءك! وأخيرا لا تمنحيني هذه القبلة!
كريستيان (وقد جر سيرانو من عباءته) :
ولم؟
سيرانو :
صه يا كريستيان.
روكسان (وقد أطلت من الشرفة) :
ماذا تقول بصوت خافت؟
سيرانو :
لأني جريت شوطا بعيدا، فزجرت نفسي قائلا: صه يا كريستيان. (يسمع صوت العيدان.)
مهلا! ... فقد جاء مار. (تقفل روكسان النافذة وينصت سيرانو إلى نغم المزاهر.) (وقد ضرب أحد الحاجبين لنا مطربا والآخر لنا محزنا.)
لحن مطرب ولحن محزن؟ ... فما قصدهما؟ هل أتى رجل أم امرأة؟ لا فهذا راهب. (لنضرب صفحا عن دخول هذا الراهب ومحادثته فليس فيها أقل أهمية.)
كريستيان :
نل منها قبلة لي! ...
سيرانو :
لا لا!
كريستيان :
هل فات الوقت أو لم يحن؟
سيرانو :
ستجيء هذه الآونة التي تنتشيان فيها من لثم الثغور لكونك ذا شارب ذهبي وهي ذات شفة وردية. (ثم يخاطب نفسه.)
وددت لو كانت هذه القبلة لسبب ... (ثم يسمعان صوت النافذة وهي تفتح، فيختبئ كريستيان تحت الشرفة.)
روكسان (وقد تقدمت إلى الطنف) :
أهذا أنت؟ كنا نتكلم عن ... عن ...
سيرانو :
عن القبلة! وإنها لكلمة لطيفة لا أدري لم لا تستطيع شفتاك النطق بها، وإن أحرقتها فماذا يكون الأمر؟ فلا تزعجي نفسك لأجلها.
أما كنت تتركين بغير أن أشعر المزح، ثم تتسربين دون ارتباك إلى الابتسام متنقلة إلى التأوه ومنه إلى ذرف العبرات، فما عليك إلا أن تنتقلي. برشاقتك المعهودة من البكاء إلى القبلة فما يخشى منها إلا ارتعاد خفيف!
روكسان :
أطبق فاك أيها الأفاك.
سيرانو :
القبلة ما القبلة؟ وما أدراك ما القبلة؟ قسم أو وعد أو اعتراف يحقق أو نقطة وردية توضع تحت باء كلمة الحب، بل سر مكتوم يلقفه الفم بدل السمع، أو لحظة جمعت فأوعت من الهناء ما لا يبلغه الوصف والحصر، لها دوي كدوي النحل، بل تناول طعمه معطر كالأزهار، بل إنها وسيلة يستنشق بها رائحة القلب، ويذاق بها من حافة الشفاه طعم الروح.
روكسان :
مه!
سيرانو :
إن القبلة لأشرف مما تتصورين يا سيدتي، ولقد منحتها ملكة فرنسا لأسعد لوردات الإنكليز.
روكسان :
والنتيجة إذن!
سيرانو :
عندي ما كان عند بوكنجام
13
من خفي التباريح والآلام، وإني أحب مثله الملكة وما هي إلا أنت وإن هو إلا أنا مبلبل البال أمين مثله.
روكسان :
أضربت من الملاحة بسهم وافر مثله؟
سيرانو (على حدة) :
حقا لقد نسيت أني جميل!
روكسان :
هيا اصعد لتقطف هذه الزهرة التي ما لها من نظير ...
سيرانو (دافعا كريستيان نحو الشرفة) :
اصعد!
روكسان :
نعم تذاق منها القلوب ...
سيرانو :
اصعد.
كريستيان (مترددا) :
أرى إنها ليست ملائمة الآن!
روكسان :
نعم لحظة جمعت فأوعت من الهناء ما لا يبلغه الوصف والحصر ...
سيرانو (وقد دفعه) :
اصعد أيها الحيوان الأعجم! (كريستيان يصعد متسلقا المقعد، ثم يمسك بالأغصان ومنها يخطو إلى الطنف.)
كريستيان :
آه يا روكسان! ... (ثم يعانقها ويقبل ثغرها.)
سيرانو :
أواه! أية لدغة غريبة أصابت فؤادي أيتها القبلة! بل يا مأدبة الحب التي أنا محييها، لقد تساقط علي في هذا الغيهب بعض من فتات هذه المأدبة، نعم يشعر قلبي أنه هو الذي حظي بهذه القبلة؛ حيث إنه على هذه الشفة التي اغترت بها روكسان لتقبل الكلمات التي فهت بها منذ هنية.
ألفونس دوديه1
روائي فرنسي من النوابغ الذين يعدون على الأصابع، ولد بمدينة نيم سنة 1840، وتوفي بباريس سنة 1897.
وبعدما لبث أستاذا لكلية «أليه» مدة يسيرة رجع إلى باريس سنة 1857، وفي السنة التالية نشر كتاب «العاشقات»، وهو مجموعة نظمية وإن كانت بها بعض مواضع ضعيفة لكنها من الرقة والسلاسة بمكان.
ومكث نحو عشرة أعوام يحرر في الجرائد وللمراسح، وكتب«رسائل ثرثاري»
2
سنة 1866. وأهم قصصه ورواياته: «الشيء الصغير» سنة 1868، «وتارتارين تاراسكون» سنة 1872، و«قصص يوم الاثنين» سنة 1873، و«فرومون الصغير وريزليه البكر» سنة 1874، و«جاك» سنة 1876، و«الناباب»
3
سنة 1877، و«الملوك في المنفى» سنة 1879، و«نوماروميستان» سنة 1881، و«كتاب الإنجيل» سنة 1883، و«سافو» سنة 1884، و«تارتارين جبال الألب» سنة 1885، و«الخالد» سنة 1888، و«مرفأ تاراسكون» سنة 1898، و«دائرة وظيفة الكاهن الصغيرة» سنة 1895، و«عائل الأسرة» سنة 1890، و«تذكار كاتب»، و«ثلاثون سنة بباريس»، و«خلال حياتي ومؤلفاتي» سنة 1888.
وكتب عدة روايات تمثيلية نخص بالذكر منها: «لارليزيين»، وهي المؤلف الرئيسي للمترجم، وقد طار صيته في عالم الأدب، وزاده جمالا الموسيقي الفرنسي الشهير «بيزيه
Bizet » مؤلف «كرمين»؛ بأن وضع لها موسيقى شائقة شجية ترقص القلوب طربا وترنح الأعطاف بنشوة نغمها.
ويعد كاتبنا هذا في مذهب المحققين حتى إن غالب قصصه تمثل الحقائق مرئية ومحسوسة بعين شاعر، ولو أنصفنا في وصفه لقلنا: إنه شديد التأثير في كتابته، وكان مقتدرا في وصف الأشياء وصفا صادقا، عارفا بالعادات والأخلاق وعلم النفس، ومجيدا في المعاني المبتكرة وفن التمثيل، ولم يظهر في عالم الروايات القصصية في عصرنا هذا مؤلف يفضل «سافو» و«كتاب الإنجيل».
الدرس الأخير
LaDernière Classe
هذا الموضوع وإن كان بسيط الإنشاء، لكنه يضم بين أسطره غيرة وحماسة على اللغة والتمسك بها والتفاني في صيانتها والعناية بها؛ إذ هي مفتاح سعادة الأمة وسلم ترتقي به إلى أوج المجد والفخار، وقد دعاني لكتابة هذا ما شاهدته من إهمال الناشئة للغتهم العربية، وبذل ما في وسعهم لإتقان الإنكليزية؛ حتى إن كثيرا منهم وإن كانت درجاتهم في العربية أقل بكثير من الإنكليزية فإنما يعطونها بكرم حاتمي.
حدث صبي من الألزاس عن نفسه قائلا: قمت متأخرا صبيحة يوم إلى المدرسة، وقد أخذ الخوف مني كل مأخذ، وخشيت أن يعذرني أستاذي بما يحمر منه الوجه خجلا، ويغض الطرف حياء وخزيا؛ لأنه نبه علينا بحفظ اسمي الفاعل والمفعول، اللذين لا أعرف منهما حرفا واحدا؛ فخالجتني الفكرة بأن لا أذهب إلى المدرسة، وأمرح في الحقول والرياض، وكان الوقت دافئا والسماء رائقة، والشحارير تغرد على الغصون بما ينسي الشجون، وكان الجند الجرمانيون يتمرنون في مرج «ريبير» وراء معمل نشر الخشب، ولكني غالبت نفسي ويممت المدرسة، وحينما مررت على دار العمدة لاحظت جمعا عظيما مزدحما يقرأ إعلانات منشورة، ومنذ عامين وهذه الدار هي التي تنبئنا بأسوأ الأنباء من حروب خاسرة وأوامر جديدة مضايقة، فقلت: ترى ماذا جرى؟
ثم ذهبت عدوا إلى قاعة الدرس، فرأيت أستاذنا المسيو هامل يمشي جيئة وروحة، ثم قال لي: اغنم مكانك فقد أوشكنا أن نبدأ الدرس دونك يا بني.
فهرولت إلى مقعدي، وقد انصرف عني بعض الروع، وشاهدت أستاذنا لابسا حلته الرسمية، وكان لا يلبسها إلا في يوم الاحتفال بتوزيع الجوائز أو عند قدوم أحد المفتشين.
ورأيت بعضا من أهل القرية جالسين في قاعة الدرس؛ فذهب بي العجب كل مذهب، وشاهدت الجمع ساكتا ساكنا كأن على رءوسهم الطير بوجوه حزينة مكفهرة، ثم صعد المسيو هامل على منبره، وقال بصوت حوى بين الحلاوة والشدة:
أولادي! هذا درسكم الأخير الذي يجمعني وإياكم، فقد صدر الأمر من برلين بتعليم اللغة الجرمانية وإلغاء الفرنسية في الألزاس واللورين ... وسيقدم غدا أستاذكم الجرماني الجديد، وإذ كان هذا درسكم الأخير الفرنسي؛ فأرجو منكم أن تعيروني آذانا صاغية وقلوبا واعية.
فانقطعت نياط قلبي من هذه الضربة الفاجعة، وعلمت فحوى الإعلانات المعلقة بدار العمدة، فوا أسفاه على لغتي الفرنسية!
وأنا الذي لا أحسن الكتابة قد وقف بي الطالع المنحوس والجد العاثر إلى هذا الحد، وكنت منذ هنيهة أود أن أنقطع عن الدرس وأجوب الخلاء، وكتب اللغة التي كانت تضايقني ظهرت أمامي الآن كأعز صديق لا أقوى على مفارقته، وكما أن المسيو هامل سيفارقنا من الغد ولا نراه بعد فقد نسيب عقابه وضربه.
لبس كسوته الرسمية احتراما واحتفاء بهذا الدرس الأخير، وكذلك حضر رجال القرية آسفين على أن لم ينتابوا المدرسة في أغلب الأحايين؛ وليقدموا واجب الثناء والشكر لهذا الأستاذ الجليل الذي ربى أولادهم وصيرهم رجالا منذ أربعين عاما.
ثم جاء دوري وسألني في درسي، فياليتني كنت ذاكرته، وألقيت الآن أمام هذا المجمع اسمي الفاعل والمفعول بصوت جهوري واضح ولسان فصيح، دون لحن أو خطأ، ولكني تلعثم مني اللسان بعد الكلمات الأولى، وصرت واقفا أهتز بقلب غليظ مطرق الرأس خجلا متوقعا زجر أستاذي إذ قال لي:
لا أعنفك ولا أزجرك يا بني، وإنك لتستحق العقاب، وهاك ما سيحيق بك، تقصرون في حفظ دروسكم وتؤخرون عمل اليوم لغد؛ حتى ألمت بكم هذه الفادحة وهي أعظم فاجعة داهمت الألزاس لتسويف قومه في عمل واجبهم.
اليوم يحق لأعدائنا أن يقولوا لنا كيف تدعون أنكم فرنسيون وأنتم لا تحسنون قراءة لغتكم وكتابتها، ولكنك يا بني لست وحدك الملوم، بل نحن جميعنا.
إن أهلك لم يوجهوا جل عنايتهم لثقيفك، بل كانوا يفضلون أن ينتفعوا من ورائك ببعض دريهمات بأن تشتغل في أحد المغازل أو تفلح الأرض، ويحق لي أن أرشق نفسي بسهام اللوم والتعنيف؛ لأني كنت أعطلك في بعض الأوقات لتروي حديقتي.
ثم انتقل أستاذنا إلى التحدث عن شأن اللغة، وأنها أفضل اللغات الأجنبية وأمتنها، ويجب علينا أن نعض عليها بالنواجذ؛ لأن الأمة إذا نشبت فيها مخالب الاستعباد يكون أملها في الخلاص والسعادة بقدر تقدمها في لغتها وتمسكها بها.
ثم طفق يلقي علينا الدرس ويشرحه، وقد رأيت أني فهمت جميع ما سرده بسهولة لم أعهدها، وأذكر أنني لم أضع مدة وجودي في المدرسة إلى الدرس كذاك اليوم ولم يصبني ملل، وكأن أستاذنا أراد قبل مبارحته لنا أن يلهمنا جميع معلوماته في درس واحد.
ولما انتهى الدرس ابتدأنا في الكتابة، وهيأ لنا أستاذنا نموذجا جميل الخط كتب عليه: فرنسا. ألزاس. فرنسا. ألزاس. وقد عمل منه جملة صور فرقها علينا.
فكانت أمامنا أشبه بأعلام تخفق، نبهت منا القلوب، وأثارت الشعور، وأهاجت العواطف، وهزت الأفئدة؛ حتى عم السكوت، فكنت لا أسمع إلا صرير الأقلام على الطروس.
وبينما نحن سكوت إذ حط على سقف المدرسة سرب من بنات الهديل، وأنشأ يغني فقلت في نفسي: ليت شعري أيلزمون يوما ما هذه الحمائم بأن تغني باللغة الألمانية أيضا؟
كنت من وقت لآخر ألمح خفية المسيو هامل، فكان جالسا لا يبدي حراكا، كاسف البال، مرددا طرفه في بيته الصغير بالمدرسة، تعاوده الذكرى القديمة من تمضية أربعين سنة في هذا البيت، وأمامه قاعات الدروس، وبفناء داره شجر الجوز الذي زرعه صغيرا من هذا العهد؛ حتى شمخ وملأ فضاء المدرسة، وبجانبه حشيشة الدينار وقد تسلقت على الحائط وزينت النوافذ، ثم تسربت إلى العرش، وبينما هو على هذه الحالة من أسف لفراق معاهد شابت فيها نواصيه إذ نادته أخته ليساعدها في تجهيز الأمتعة والحقائب ليسافرا في الغد.
ولقد تشجع وأعطانا الدرس إلى نهاية الوقت، ثم دقت ساعة الكنيسة مؤذنة بالظهر، وأعقبتها موسيقى الجرامانيين وهم قادمون من التمرين؛ فوقف أستاذنا وقد علاه الاصفرار وظهر بمظهر العظمة والهيبة قائلا:
أيها الأحباب الأعزاء إني ...
ثم اختنق صوته من شدة انفعاله، ولم يقو على إتمام حديثه، فأخذ قطعة من الطباشير واتجه نحو اللوح الأسود وكتب بحروف متناهية في الكبر:
لتحي فرنسا!
ثم مكث في موضعه ورأسه مسند إلى الحائط، وقد كاد أن يغشى عليه، ثم أشار إلينا بيده دون أن ينبس ببنت شفة بإشارة تؤذن بالانصراف.
تييوفيل جوتييه1
من فحول النظم والنثر الفرنسيين، ولد بتارب سنة 1811، وتوفي بنويي سنة 1872، دخل باريس في مقتبل عمره، فعالج أولا فن التصوير، ثم انتقل إلى الشعر وقرض بعض قصائد حازت استحسانا عظيما.
ولقد أعجب به الكاتب الشهير في الانتقاد «سانت بوف
Sainte Beuve » هو وفيكتور هوجو، ومن وقتئذ أوجد له مكانا رفيعا في عالم الأدب مدة الأربعين سنة التي مرت بعد ظهوره.
وقد حرر في جملة مجلات وجرائد، ووضع عدة كتب، وكان شاعرا وروائيا وكاتبا في الروايات التمثيلية مشهورا، وعالما بالآثار والفنون الجميلة، مما شيد له مجدا حصينا وفخرا رفيعا، وكان له ابنتان إحداهما من مشاهير الكتاب، وهي «جوديت جوتييه» تزوجت بالشاعر العصري الشهير «كاتول منديس
Catule Mendès »، وانفصلت منه سنة 1869، ولها من المؤلفات ما يزيد عن العشرين كتابا.
أما مؤلفات تييوفيل جوتييه فعديدة جدا ومتفرقة، وقد قدرت في ثلاثمائة مجلد، ونخص بالذكر منها الأهم.
ففي الشعر: «ألبيرتوس» سنة 1833، و«رواية الموت» سنة 1838، و«إسبانيا» سنة 1845، و«الفصوص المنقوشة والميناء»
2
سنة 1852، وهو من روائع البلاغة متين القريض منسجم العبارة.
ومن أشهر رواياته: «ليجون فرانس» سنة 1833، وفيها يضحك ويهزأ بعنفوان شباب المذهب المطلق، و«مدموازيل دموبين» سنة 1835، وبها مقدمة مؤثرة، و«فورتونيو» سنة 1838، وأخبار وقصص، لا سيما «الملك كاندول وأريا مارشيلا»، و«رواية الجثة المحنطة» سنة 1858، و«القبطان فراكاس» سنة 1863، وهي شائقة مضحكة فريدة في بابها من أسلوب رواية «الرواية المضحكة»، التي وضعها «سكارون
Scarron » الشاعر المشهور وصاحب الروايات الهزيلة.
ووضع في الانتقاد الأدبي: «من يهزأ بهم» سنة 1833، وهو دفاع عن الشعراء الذين كادوا يسقطون من انتقاد «بوالو
Boileau » مثل: «سانت أمان
Saint-Amant »، و«سكارون» وغيرهما . وكان الفضل في إرجاع مكانة هؤلاء الشعراء وقدرهم وشهرتهم راجعا لهذا الكتاب، و«تقرير على القريض الفرنسي» سنة 1868، و«تاريخ المذهب المطلق» سنة 1874، و«تاريخ فن وضع الروايات التمثيلية من 25 سنة » سنة 1858، وجملة محلقات روائية وتراجم خصوصا للروائي الشهير «بلزاك
Balzac » والشاعر الشهير «بودلير
Bodelaire ».
وأنشأ عدة كتب في الانتقاد الفني على معارض الصور والرحل في إسبانيا والروسيا وإيطاليا والآستانة وعددا من الروايات التمثيلية النظمية الصغيرة وغيرها.
وشاعرنا هذا وإن كان في بعض المواضع قليل الفكر والعواطف، لكنه متين الإنشاء رقيقه، ولقريضه شجو جديد، وقد أعاد شباب الشعر المبتكر، وكان كما وصفه «بودلير» شاعرا مجيدا خاليا من العيوب وعالما كاملا أتى بالمدهشات في عالم الأدب.
حذاء كورنيي
Le Soulier de Corneille
هذه النكتة التاريخية وربما كانت فكاهة خرافية تمثل شاعر الفرنسيس مورنيي، وقد شاخ وافتقر، واقفا أمام حانوت إسكاف حقير؛ ليخصف نعلا لا يملك غيرها ودعاه الحال لينتظرها ريثما يصلحها الإسكاف.
في منعطف طريق بوسط باريس ازدحمت فيه السابلة، وعلت جلبتهم، كان شيخ ماشيا الهوينا بقدم متثاقلة وشكل غريب، غارقا في بحار تأملاته وخياله، غائصا في الوحول وهو غير شاعر، مرتديا بعباءة لم يبق بها مسكة، وكان نظره كنظر النسر، وفوداه
3
أبيض من لجين، يمثل بكبريائه وخيلائه الصور القديمة التي ابتدعتها بنان المرة من المصورين، الذين لو رأوه لاختاروا وجهه نموذجا للأوسمة النحاسية التي تمثل وجوه القدماء من المشاهير.
وكان يخيل للناظر أن كل ثنية من ثنيات خده الغائر تدل على فكرة، ويقرأ في عينيه السوداوين ضجر وملل.
أشرقت الشمس بعد احتجابها وصفت السماء، وكانت النواظر تغضي مهابة أمام عطارد الذي يسمونه الدينار، وقد قضى «بوالو»
4
لياليه الثمينة في تمجيده، وأتى «منصار»
5
بالعجب العجاب للحصول عليه.
ثم وقف كورنيي العظيم أمام حانوت صغير بمكان قذر حافي القدمين منتظرا الإسكاف ريثما يخصف له نعله.
ولقد كان يمشي هوميروس
6
في أرضه المباركة على الرمل الذهبي، عاري القدمين في طرق يونية، وهو بثوبه الأبيض الناصع كتمثال من المرمر صنعته يد «فيدياس» مصور التماثيل المشهور.
ولو أتى هوميروس باريس ومشى بخفه دون أن يخشى الفضيحة لألجأه يوم مطير لأن يرقع خفه، كما حصل لمؤلف «أوراس» و«سينا»، وهو الذي بفضله أسعدت إلهة الشعر المصور الطائر الصيت «ميكيل إنج» بنفحاتها العظيمة؛ فأبدع في تصوير عظماء اليونان أيما إبداع.
لويس أيها الملك العظيم! إن هذا القصص الذي يعافه كل ذي ذوق سليم، أو بكلمة واحدة: هذا الحذاء المرقع لتجعل رقعه وصمات في ملكك بينما العشاق ترفل في الدمقس وفي الحرير.
وإني ليحزنني أن أرى كورنيي يعاني البؤس ألوانا، وكيف هذا الحانوت القذر وعرشك الفخيم رفيع العماد، تزينه أزهار الزئبق، ويختال في بردين من زخرف وبهاء، وطيلسانك من المخمل الأرجواني. فهلا - رعاك الله - تعطفت بشيء على أمير شعراء عصرك وقد أناخت عليه الشيخوخة؛ حتى كاد يموت فقرا في زوايا النسيان، ولقد خلفت نقطة سوداء في صحائف تاريخك البيضاء، وكلفا في وجه شمسك من تركك كورنيي بلا حذاء وموليير بغير قبر.
ولكن علام نغضب إذ ستتساوى الحظوظ ويجمعنا الموت سواء، ويجر النسيان ذيله على الملك، ويطويه في خبر كان، ويبقى ذكر الشاعر حيا خالدا.
وقد حفظ قصر فرساي تماثيل الندماء، وذهب ما كان فيه من التملق، وغاض ماؤه الذي كان يزينه بنوافيره المتنوعة العديدة بعدما كان مقر الملوك؛ فمن خلد بعد موته العظمة أم العقل الراجح؟ طلع الفجر على أحدهما وخيم الظلام على الآخر، وظهر طيف لويس في حديقة فرساي التي اختطها «لونوتر» الشهير هائما على وجهه يتخبط في ليل أليل، وخلد ذكر كورنيي كإله من آلهة القدماء، وما فتئ يرى وهو على منبره النيران والأضواء الموقدة احتفاء بعيده وإعلاء لشأنه.
وحينما يبلى تاج الملك الذهبي ويصير رمادا، نرى غار
7
الشاعر معمرا
8
ناميا مخضرا، بينا نرى الشاعر على مر الأعوام يعظم ويخلد ذكره، والملك يتضاءل حتى ينسى.
بيير كورنيي1
نادرة زمانه وغرة دهره في الشعر، ولد بمدينة روان سنة 1606، ومات بباريس سنة 1684، وقد تلقى دروسه بمسقط رأسه بمدرسة اليسوعيين، ثم أتم دراسة الحقوق.
وأول رواية تمثيلية ظهرت له «ميليت» سنة 1629، وأعقبها برواية «كليتاندر»، و «الأرملة»، و«بهو القصر»، و«التابعة»، و«الميدان الملكي»، وقد اتصفت هذه الروايات بحسن التعبير وشريف العادات.
وفي سنة 1633 قدم كورنيي إلى الكردينال «ريشليو»، وصار ضمن «الخمسة المؤلفين» الذين عهد إليهم الكردينال وضع الروايات التي رتب موضوعها بنفسه، ولكنه انفصل بعد مدة صغيرة لأنه لم يوافق مشربه.
وفي سنة 1635 ظهرت روايته المحزنة «ميديه» ولو أن بها بعض عيوب، ولكنها تضم بين سطورها ما بثه خيال الشاعر وهو في عنفوان شبابه من القوة والحماسة والعظمة.
ولعلمه بفن وضع الروايات التمثيلية الإسبانية وضع تباعا روايتي «الغرور المضحك» سنة 1636، وفي السنة نفسها كتب رواية «السيد»، التي رتب له موضوعها الشاعر الإسباني «جيلهيم دوكاسترو»، وبهذه الرواية افتتحت الروايات المحزنة الفرنسية وأرخت بها، ودخلت في دور كمالها وتهذيبها، ولاتباعه لهذا الشاعر الأسباني صار نابغة في الشعر المقيد وأميره في عصره، وهذب ما كان في المؤلفات الإسبانية من الركاكة والضعف.
وقد قوبلت «السيد» من الجمهور بحماسة وحمية خارقة للعادة، ولكن أغلب الشعراء وكتاب النقد في عصره تألبوا على انتقاده، ودونوا كتابا سموه «النزاع في السيد» انتقدوا فيه على الشاعر؛ لأنه لم يدقق في مراعاة الأصول والقواعد، وإن الموضوع غير متين، ولكن ذلك الانتقاد الموهوم لم يؤثر على فخر الرواية ومجدها الرفيع، والذي حرض الشعراء والمنتقدين على الشاعر هو «ريشليو»؛ لأنه كان يحسده على هذا النجاح والفخر ويغار منه، ولم يقتنع هذا الرجل العظيم الداهية، الذي كاد أن يفترسه الطمع والنهم بالاستبداد بالسيطرة والهيمنة على فرنسا والخفض من الأسرة المالكة النمساوية، التي كانت منها ملكة فرنسا «آن دوتريش»، واضطراب جميع أوروبا أمامه من سياسته ودهائه، بل أراد أن يضم على هذه السعادة والسلطة والعظمة نظم الروايات؛ ليبث فيها ما يهوى من سياسته الجهنمية لتكون معينا وممهدا جديدا في التأثير على العقول وفق إرادته، فابتدأ يعالج نظم بعض روايات، ولكنه لم يفلح ورأى أن رواية «السيد» قد سحبت ذيل النسيان على جميع مؤلفات عصره؛ فالتهب قلبه حسدا وقام محاربا كورنيي بخيله ورجله إذ سلط عليه الشعراء والكتاب.
وقد ثبط هذا الانتقاد همة الشاعر مدة من الزمن، وضن على المراسح برواياته نحو ثلاث سنين، ثم عاد إلى الكتابة ووضع عدة روايات مواضيعها منتظمة استنبطها من التاريخ الروماني.
فابتدأ برواية «أوراس»، و «سينا» سنة 1640، و«بوليوكت»، و«موت بومبيه» سنة 1643، و«رودوجون» سنة 1646، و«إيراكليوس» سنة 1647، و«الكذاب» سنة 1643.
وفي سنة 1647 انتخب كورنيي في المجمع العلمي الفرنسي، وكتب من ذاك الحين: «إندروميد»، و«دون صانش داراجون»، و«نيكوميد» سنة 1651، و«سيرتوريوس» سنة 1662، و«أوتون» سنة 1664.
وقد أبعده عن المراسح بضع سنين سقوط رواية «بيرتاريت»، ثم ترجم من اللاتينية شعرا كتاب «تقليد المسيح» سنة 1656؛ وكان له إقبال عظيم ونجاح باهر.
ثم عاد إلى دور التمثيل بعد أن تركها ست سنين، وظهر على المرسح ومعه رواية «أيديب» سنة 1659 قائلا:
إني لأحس بنفس الشعور والجرأة التي انتقدت «السيد» وحاربت «أوراس»، ولكني أجد اليد عينها التي خطت روح «بومبيه» العظيم ودهاء «سينا».
امتاز شاعرنا هذا برنة الحزن المؤثرة في قريضه، ولو أن شعره في بعض المواضع به بعض إهمال ونقص في الطلاوة والبهجة، ولكنه رنان القافية وآية في: الحماسة، والحمية، وشهامة النفس، والإباء، وقوة الإرادة، وثبات العزيمة، والتفاني في حب الوطن؛ مما يدهش السامع ويأخذ بمجامع فؤاده ويحدث له نشوة طرب لا توصف. (1) أوراس
Horace : رواية محزنة «سنة 1640»
الملخص
كان شيخ من رومية يسمى «أوراس»، وله من البنين ثلاثة شبان وفتاة تسمى «كاميي»، وكان في مدينة «ألب» التي كانت قديما المدينة المنافسة لرومية، وقريبة منها شيخ آخر يقال له «كورياس» وله مثل أرواس ثلاثة فتيان وفتاة اسمها «سابين»، وكانت الفتاتان مخطوبتين كل منهما لشاب من هاتين الأسرتين.
ولما انتشبت الحرب بين رومية وألب، وكل منهما تتنازع الصولجان والسلطة، وطالت بينهما الوغى، أرادا أن يجعلا حدا لها ويحقنا الدماء، واتفقا أن ينتخب كل من الفريقين ثلاثة أبطال ينازلون بعضهم، والفريق الغالب تكون لمدينته حق السيادة على الأخرى.
فانتخب عن مدينة رومية أولاد أوراس الثلاثة، وعن «ألب» أولاد كورياس؛ فوقعت الأسرتان في حيص بيص، وتجاذبهما عاملان قويان : أيراعيان أواصر النسب وذمامه ويرفضان طلب الوطن وذاك محال، أم يشهران السيوف في وجه أصهارهم وذاك صعب الاحتمال، وأخيرا فضلا تلبية نداء الوطن. وبينا النضال مستعر بين فتيان الأسرتين كان أوراس الكبير في منزله مع ابنته كاميي وسابين ابنة كورياس ينتظرون بفارغ الصبر نتيجة هذا القتال، إذ دخلت عليهم سيدة رومانية اسمها «جوليا» وهي خليلة الفتاتين لتخبرهم بخبر المعركة. [المنظر] (أوراس الكبير - سابين - كاميي - جوليا)
أوراس الكبير :
ما وراءك يا عصام؟ أجئت يا جوليا مبشرة بالنصر والظفر؟
جوليا :
كلا! بل بما حاق بهذه المعركة من الشؤم والنحس، إذ أصبحت منه رومية خاضعة لألب بعد هزيمة أولادك وقتلهم إذ لم يبق منهم غير الخاطب.
أوراس :
يا لخطب عظيم ومصاب أليم وقتال مشئوم أصبحت منه رومية تابعة لألب، ولو جالد لآخر رمق لحماها وصانها. لا لا فذاك محال فقد خدعت يا جوليا؛ إذ لا يتأتى سقوط رومية إلا إذا كان ابني في بطون الرموس، فإني أعرف دمي حق المعرفة وهو يعلم ما يفرضه عليه الواجب.
جوليا :
لقد رآه ألف مثلي من أبطالنا، وأدهش الجموع إقدامه وبسالته قبل موت أخويه، ولكنه لما لبث وحيدا أمام ثلاثة أقران عتاد، وقد أوشك أن يقع في قبضتهم، لم يجد بدا من الهروب لينجو بنفسه.
أوراس :
ألم يجهز عليه ويخمد أنفاسه جندنا المخدوعون؟! أمهدوا له سبيل الفرار من بين صفوفهم؟
جوليا :
إني لم أرد أن أنظر شيئا بعد هذا الخذلان.
كاميي :
وا حسرتاه على أخوي.
أوراس :
كل ذلك عظيم مقبول فلا تبكي الجميع؛ لأن اثنين منهما تمتعا بحظ جميل يحسدهما عليه أبوهما. جلل الله لحدهما بأفخر الورود والأزهار، وقد استعضت عن فقدهما مجدا وسؤددا، وسعادتهما التي تبعت بسالتهما التي خانها الدهر إن رأوا مدى حياتهما رومية رافلة في حلل الحرية القشيبة، ولم يشاهداها خاضعة لغير أميرها أو تابعة لمملكة بجوارها.
ابكي الآخر ونوحي على ما لحقنا من العار الذي لا يمحى، اندبي فراره الفاضح الذي وصمت به جباهنا، وارثي للشنار الذي دنس أمتنا والفضيحة الدائمة التي التصقت باسم أوراس.
جوليا :
ماذا تبتغي أن يعمل فرد ضد ثلاثة؟
أوراس :
أبتغي أن يموت أو أن يعتريه يأس جميل فيعضده ويغيثه، هلا أرجأ هزيمته آونة لينظر
2
فيها استعباد رومية، ويحفظ وقار شيبي ، وكانت هذه البرهة ثمنا عظيما لحياته، وإنه لمدين لوطنه بدمه إذ كل قطرة يضن بها منه تذهب بنضارة مجده.
وما من لحظة تمر بعد هذا الدور الشائن إلا وتظهر خزيي وعاره للملأ كالشمس في رابعة النهار، وسأقطع هذه الصلة وأصب جام غضبي على ولد ليس للبنوة أهلا، وأريه حق الوالد وأقتص منه بأن أتبرأ منه على رءوس الأشهاد جزاء فعلته هذه.
سابين :
أرعني سمعك وهون من غلواء حميتك وحماستك، ولا تجعلنا في غاية التعس وسوء الحظ.
أوراس :
يسهل السلوان والعزاء على فؤادك يا «سابين»؛ فإن مصابنا لم يمسك بشيء يذكر ولم تشاطرينا في بؤسنا، وقد نجى الله بعلك وإخوتك، فإن أصبحنا خاضعين مستعبدين فلبلادك إذ ظفر إخوتك حينما خاننا نكد الطالع، وإنك ترين أرفع ذرى
3
فخارهم ولا تنعمي النظر فيما لحقنا من الخزي، وهواك المبرح لهذا الحليل
4
العرة سيجعلك في القريب العاجل تئنين منه مثلنا، وبكاؤك لأجله دفاع ضعيف، وأطلب من الآلهة العظام وقدرتهم السامية أن تغسل وتطهر عار الرومان بدمه.
ثم يدري أوراس من فالير بالخدعة الحربية التي رتبها ابنه، إذ لم يقصد بهربه إلا تفريق الكورياس الثلاثة، ثم تفرد بهم واحدا بعد الآخر وقتلهم جميعا، ولا يعاب بحيلته هذه فليس في استطاعة الفرد أن يكافح ثلاثة أقران.
ولما رجع ظافرا إلى دار أبيه كان أول من قابله أخته كاميي، وقد أيأسها وقطع آمالها موت حبيبها، ولم تخش بكاءه أمام أخيها، فتوسل إليها أن تفضل حب الوطن على هوى حبيبها؛ لأن الروماني مدين بحياته لوطنه، ولم يولد إلا ليحميه فأجابته بصب اللعنات على رومية.
لعنات كاميي
رومية وهي بيت القصيد في إثاره غضبي وحقدي! رومية التي لأجلها قتلت يدك الأثيمة حبيبي! رومية التي شهدت مولدك وعبدها فؤادك! رومية التي أمقتها لأنها منحتك هذا المجد والشرف! سلط الجبار عليها جيرانها فتعاونوا على تقويض أساسها الذي كاد ينهار، وإن لم تكفها أمم إيطاليا فليتألب عليها أهل المشرقين، بل مائة أمة متحدة من أطراف العالم هي والبحار والأطواد تأتي لتخريبها، ولتنقض عليها أسوارها حتى تمزق بأيديها معالمها ومحاسنها، وأن تمطر عليها غضب القادر المستعر من دعواتي طوفانا من نار متوقدة، وأتاح الله لي أن أشاهد الصواعق تهوي عليها وأرى بعيني دورها وقد استحالت رمادا وغارها
5
وقد صار غبارا، وأشاهد آخر روماني وهو يحتضر في النفس الأخير، وأكون أنا وحدي السبب في دمارها، ثم أموت من شدة وطأة السرور. (ثم يعدو أوراس الصغير وراء أخته والسيف بيده مسلول.)
قد طفح الكيل ولم يبق في القوس منزع، والحق وحده الذي يفسح للصبر مجالا؛ فهيا اذهبي إلى الجحيم لتأسفي هناك على حبيبك كورياس.
كاميي (وهي مجروحة وراء المرسح) :
آه يا لك من خائن غادر!
أوراس (وقد عاد إلى المرسح) :
هذا جزاء وفاق لكل مجترئ مهما بلغ شأنه تجاسر أن يبكي عدوا رومانيا.
ما أعظم الحقيقة تتكلم باطن القلب دون أن تلغط بقول
Que la Vérité parle au dedans du Coeur Sans aucun bruit de paroles
ناجني ناجني يا رباه! فعبدك مصغ لك، مقر بعبوديتي لأني عبدك، وأود أن أكونه وأسير على سننك ليل نهار، أفض علي بروح منك لتعلمني ما تفرضه علي إرادتك العلية القدسية، ووحد رغائبي في سمع فضائلك الكريمة، وجرد بلاغتك الإلهية من ساطع أنوارها وصبها داخل فؤادي بغاية السكون مخضلة بالندى البليل جزيلة لطيفة.
تخشون بلاغة القادر يا بني إسرائيل، وتظنون أن الصواعق والموت تتبعها مدمرة كل شيء، وأنتم الذين لم توفقوا في الصحراء لاستماع كلامه العلي إذ قلتم لموسى:
خاطب ربك والتمس منه أن لا يكلمنا؛ فإننا نخاف أن تعترينا غشية الموت من صوته الجهوري الرنان.
إنني بعيد عن هذا الفزع والرعب؛ فأتوسل إليك ربي إذ أتمنى غير ما تمناه بنو إسرائيل، وقد هرولت إليك والأمن ملء فؤادي لأتضرع إليك مع صموئيل
6
بكل خشوع إذ يقول:
ولو أنك الفرد الذي أخشاه لكنك الأحد العلي الذي آمل أن يسمعني: ناجني يا إلهي فعبدك منصت مطيع.
لست في حاجة لموسى ليهديني سبيلك أو لنبي غيره يفسر لي شريعتك؛ إذ أنت الذي تعلمهم وترسلهم ولا أتطلب إلا صوتك العلي، وحيث إنك مصدر ما جاءوا به من الأنوار التي كان لها الفضل في إنارة ضمائرنا؛ ففي استطاعتك إن تمنحني إياها كاملة دون توسطهم فإنهم لولاك لما كانوا شيئا يذكر.
إنهم يستطيعون أن يعيدوا كلامك، ولكنهم لا يقدرون أن يلقوا روح معناه وتأثيره؛ إذ لولاك لكان حديثهم صرخة في واد يهزأ به ويسخر منه.
ومهما صاحوا وأتوا بالعجائب في حديثهم وصدعوا بأمرك بحمية وعزيمة قوية؛ فإنهم لولا كلامك لدخل قولهم من أذن وخرج من الأخرى دون أن يؤثر على القلوب أو يجد إليها سبيلا، وإنهم يبذرون الكلم الغامض البسيط العاطل، ولكنك تنير البصائر في ظلام الجهالة الحالك، وتفيض من أعلى سمائك على رسالتهم المسئمة المملة روحا تحييها وتجعل لها قوة وتأثيرا.
أفواههم تبلغ رسالتك كالمعميات والأسرار، ولكنك تعلمنا ما خفي من المعاني، ولولا نفحاتك الربانية وفيوضك العلوية لما فهمنا ما يلقونه إلينا من شرعك وسنتك. يدلوننا على الطريق، ولكنك أنت الذي تعطينا من القوة ما تستطيع به أقدامنا سلوكه لنهايته. وكل ما يجيئنا منهم لا يتجاوز إلا الظاهر، ولكن قدرتك تنفذ إلى أعماق كل شيء.
لولاك لما سقوا إلا ظاهر النفس، ولكنها تستمد خصبها من قوتك؛ إذ كل ما ينيرها ويحمسها لا يصدر إلا من قدرتك وإرادتك.
وقصارى القول: إن هؤلاء الأنبياء الذين ملئوا الأرض قولا وصياحا إذا كانوا لا يؤثرون على عقولنا مما أفضت عليهم من نفحاتك القدسية لما عددناهم إلا في عداد الأصوات الصائحة.
صه إذن يا موسى! وتكلم بدله أيها الدائم الثابت. ناجني يا حق؛ لئلا أموت مدفونا في ثلوج تجردي من الفضائل، وإن تزد نعمك العميمة وأفضالك العظيمة رغبتي واشتياقي إلى مناجاتك فالموت خير لي.
وإن لم يؤثر الوعظ على القلوب ولم يمس إلا الظواهر كانت عاقبته وخيمة؛ لأنه يسمع برغبة وقتية، ويعرف من غير أن يحب، ويؤخذ قضية مسلمة دون مناقشة، وهذا مما يميت القلوب؛ ولذلك اقتضت حكمتك وعدالتك أن تعاقب الجاحد وتجازيه جزاء وفاقا.
ناجني إذن يا رباه؛ فعبدك الأمين المخلص قد جمع حواسه وأيقظها لتنصت إلى مناجاتك؛ إذ تجد حلاوة الحياة الدائمة في لهجتك العلية.
ناجني لتعزي نفسا أضنتها الحيرة، ناجني لتقودها إلى ما يرفع شأنها، ناجني إذن فمجدك الرفيع ما زال ناميا ساميا.
قصيدة إلى المركيزة
Stances à la Marquise
إن كان وجهي أيتها «المركيزة» جعده الكبر، فاعلمي أنك لا تفضلينني حينما تبلغين ما بلغت من العمر. ومن شيمة الأيام سرورها من إهانة
7
الإنسان، وستعبث بورد خدودك كما جعدت جبهتي، وكذلك تكون الكواكب بمسيرها أيامنا وليالينا، وقد رآني الناس وأنا مثلك، وسوف تصيرين مثل حالتي الآن.
إني الآن حائز لمحاسن ومفاخر
8
شائقة ترد عني غائلة المخاوف والهموم من سطوات الدهر وحملاته،
9
وأنت مزدانة بما يحب ويعشق،
10
ولكن ما تحتقرينه مني يستطيع أن يستمر على الدوام، بينا يذهب بهاء ما عندك وتنقضي نضرته
11
ويقدر على نجاة فخر عينين تروقني ملاحتهما وتخليد ذكر ما يعجبني منك آلافا من السنين.
12
وهذه الأمة التي تجلني لا تعتبرك من ربات الجمال إلا بقدر ما قلته فيك، وافتكري أيتها المركيزة الحسناء أنه ولو كانت النواظر تنفر من الشائب؛ فجدير به أن يلاطف ويستمال إذا كان مثيلي.
يجب على الناس أن يساعد بعضهم بعضا
Les hommes doivent s’entre-secourir
تألم وتوجع من عيوب الناس دون أن تنبس بسخط أو شكوى مهما أتوا من كبائر العيوب، واعلم أن كلامنا به منها ما يجعل الناس تئن منه. وإن كان ضعف عزيمتك يضع أمامك من العقبات ما يحول دون أمانيك؛ فكيف تطلب هذه المعجزة من غيرك كما تريد وتهوى؟
أليس من الظلم البين أن تبتغي من غيرك أن يكون كاملا بينا أنت مغموس في مساوئك، ولا تروم أن تطهر نفسك منها لتكون نموذجا لغيرك؟!
ولو كان الكل كاملا لاستراح الناس ولم يلاقوا في الدنيا ما يتألمون منه ويحتملونه لوجه الله، ولم يجد هذا الصبر المشبع بالفضائل مسوغا له، ولكن حكمة الحكيم اقتضت غير ذلك.
لم يحرز أحد نهاية الكمال في الطيبة والجمال، وما برأنا
13
الخالق ليعفينا من أن يحمل البعض عن الآخر أثقاله وأعباءه بدوره.
ما من أحد خال من العيوب وضعف العزيمة، غير محتاج للمعونة، ويكفيه عقله وحده لأن يكون عاقلا كيسا أو عزيمته وحدها لأن يكون قادرا قويا.
فالواجب علينا إذن أن نتحاب ويعلم بعضنا بعضا، ونتعاضد في أعمالنا، ونتبادل اليقظة في سلوكنا ونتعاون في الاستشفاء من الأدواء.
14
جان راسين1
نادرة من الشعراء المفلقين الفرنسيين الذين مهروا في الشعر المحزن، ولد بمدينة «لافيرتيه ميلون» سنة 1639، ومات بباريس سنة 1699. مات أبوه وأمه وتركاه يتيما في الرابعة من عمره، وأدخل في العاشرة مدرسة «بوفيه»، وفي السادسة عشرة ألحق بمدرسة «بوررويال» لتتميم دراسته، وكانت أساتذته فيها «نيكول» و«هامون» و«لانسيلو»، وقد صيره هذا الأخير من نوابغ العارفين بأحوال قدماء اليونان وتاريخهم وآدابهم، ثم درس الفلسفة بكلية «أركور».
كان هو و«لافونتين
La Fontaine »،
2
و«موليير
Moliére »،
3
و«بوالو
Boileau » تربطهم عرى الوداد والصداقة، ففي سنة 1664 مثل له «موليير» هو وجوقه روايته الأولى «لاتيباييد»، ثم أعقبها برواية «إسكندر الأكبر».
وفي سنة 1667 وهو في السابعة والعشرين ظهرت روايته الشهيرة «أندروماك»، وبها طارت شهرته وأثبتت اقتداره الفائق في فن وضع الروايات؛ ومن ذاك الحين تتابعت مؤلفاته، وكلها آيات معجزات تعاقبت في ظرف عشر سنين وهي: «المحامون» سنة 1668؛ رواية مليحة النكات، وست روايات محزنة، وهي: «بريتانيكوس» سنة 1669، و«بيرينيس» سنة 1670، و«باجازيت» سنة 1672، و«ميتريدات» سنة 1673، و«إيفيجيني» سنة 1674، و«فيدر» سنة 1677.
دخل في المجمع العلمي الفرنسي سنة 1673، وكان من المقربين عند الملك لويس الرابع عشر؛ إذ جعله مستشارا له ومؤرخا.
وبعدما بلغ هذا المجد الرفيع اعتزل المراسح وهو في السابعة والثلاثين؛ من حملات الكتاب والشعراء الظالمة على رواية «فيدر»، ورموه بوساوس دينية بالنسبة لعواطفه ووجدانه في اعترافاته في هذه الرواية.
ثم تزوج بفتاة ساذجة تقية تدعى «كاتيرين رومانيه»، ورزق منها بخمس بنات ترهبت منهن اثنتان، وولدين أحدهما «لوي راسين»، وكان من مشاهير الشعراء والكتاب.
لبث هاجرا المراسح اثني عشر عاما، ثم ألحت عليه مدام «مانتينون » بأن يكتب روايتين لفتيات مدرسة «سان سير»، ويكون موضوعهما مستنبطا من التوراة؛ فأجاب طلبها ووضع رواية «إيستير» سنة 1689، و«أتالي» سنة 1690، ومثلتهما بنات المدرسة السابقة؛ فحازت الأولى إقبالا عظيما، ولكن الثانية لم تصادف ما أحرزته الأولى، ولو أنها أبلغ ما خطه بنان الشاعر، والسبب راجع إلى التمثيل؛ لأن الفتيات لم يحسن تمثيلها وأطفئوا بلاغتها المتوقدة.
وكتب نثرا «ملخص تاريخ بوررويال»، وجملة رسائل بليغة وقطعا تاريخية، ويشاع أن الملك لويس الرابع عشر غضب عليه في أواخر أيامه؛ فاغتم غما شديدا أودى بحياته.
إن قارنا رواياته المحزنة بروايات كورنيي نجدها مطابقة مثلها القاعدة «الواحدة» المتبعة في الشعر المقيد، وهي تشترط في ثلاثة أمور: «بساطة الموضوع»، و«حصوله في يوم واحد»، و«وقوعه في مكان واحد أو مدينة واحدة».
وتماثلها أيضا بقلة أشخاصها؛ إذ كان يهمه أن يمثل موضوعا أدبيا يتجاذب قلب الأبطال تمثيلا صادقا يقرب من الحقيقة، وتفترق روايات راسين عن روايات كورنيي في خمسة أمور:
أولا:
أنها أقل حماسة وتأثيرا، وأشخاصها القريبون من الحقيقة ضعاف العزيمة كأغلب الناس، وعواطفهم ليست دائما شريفة ولا أعمالهم خارقة للعادة؛ فلذلك قال «لا برويير
La Bruyére »
4 «كان كورنيي يمثل الناس كما يليق ويجدر بهم، وراسين يصورهم كما هم عليه.»
ثانيا:
مؤلفاته كلها ما عدا «إيستير» و«أتالي» مفعمة بالعواطف العادية العامة من حب يختلف بين: الرقة، والحياء، والشدة، والنحس، والجرم. ولكن كورنيي وضع الحب في صف ثانوي، وأتبعه بعواطف راقية شماء كالشرف وحب الوطن، وترى في روايات راسين أن النساء تحرز المكان الأرفع؛ فلذلك تحدث الناس بأبطال كورنيي الذكور وفرسان راسين الإناث.
ثالثا:
أنها لا تثير من النفوس حميتها وحماستها وإعجابها مثل كورنيي، ولكنها تحدث تأثيرا مغايرا كإيقاظ الشفقة في القلوب والهموم والمخاوف، وبث عواطف الحب، ولكن كورنيي ترنم بشعور العظمة والإباء وعزة النفس.
رابعا:
أن كورنيي كان يمنح أشخاص مؤلفاته الذين استنبطهم من العصور القديمة مبادئ الشهامة والمروءة والتبجح بأعمالهم الجليلة، ولكن راسين كانت رواياته مرآة تنطبع فيها أحوال عصره وأخلاقهم وعواطفهم ومبادئهم الاجتماعية تحت حكم لويس الرابع عشر.
خامسا:
إنشاء راسين متين متساوي الأطراف شائق نقي شجي تلبسه جرأة متوارية. (1) نبذة من رواية إيفيجيني
Iphigénie
اختطف «باريس» بن «بريام» - ملك طروادة - «هيلانة»، زوجة «منيلاس» - ملك إسبرطة - فاستشاط غضب اليونان ، وأجمعوا على حصار طروادة وتخريبها، وحشدوا جيشا عظيما، وجهزوا أسطولا في ميناء «أوليس» بقيادة «أجاممنون» أخي «منيلاس» وأبي «إيفيجيني»، ولكن خانتهم الرياح ولم يستطع الأسطول أن يقلع؛ لأنه كان شراعيا فأصبح الكل يتلهب غيظا لما طال المدى عليهم هم منتظرون بلا طائل، فاستشار أجاممنون الوحي بواسطة العراف «كلكاس»، فرد عليه قائلا: إن الرياح لا تهب إلا إذا ضحت اليونان فتاة من دم يوناني قربانا للآلهة، وظهر له أن هذه الفتاة هي إيفيجيني.
وقد طلب أجاممنون ابنته في المعسكر ليحميها من الهلاك، مدعيا أنه ما طلبها إلا ليزوجها أشيل أعظم أبطال جيشه، ولكنه وبخه ضميره فأرسل أركاس تابعه الأمين ليمنعها عن المجيء، وكان ذلك بعد فوات الوقت؛ إذ حضرت ابنته ووالدتها «كليتيمنيستر» والفتاة «إيريفيل» أسيرة أشيل، وكانت هذه الأخيرة هائمة بهذا البطل؛ فبذلت وسعها لتستحوذ على فؤاده وتنسيه إيفيجيني.
ورغما عما بذله أجاممنون من التكتم، فقد أنبأ أركاس والدة إيفيجيني بأمر الآلهة، وخضع أجاممنون لمشيئة الوحي، وجاء يطلب ابنته بنفسه ليقودها إلى كلكاس.
ولم سمع أشيل هذا الخبر أقسم بأن يدافع عن إيفيجيني، بينا تعاتب كليتيمنيستر زوجها على هذه الخيانة، وكان الملك في أول الأمر متكبرا معجبا غير متأثر، ولكنه رق أخيرا وتعطف على الفتاة وأمها، وأشار عليهما بالهرب لينجوا من هذا المصاب الأليم، ولكن إيريفيل نمت بما تم من أمر الملك إلى اليونان، وبينا إيفيجيني ماشية بعزم قوي إلى المذبح إذ قال العراف كلكاس: بأن إيريفيل من دم يوناني أيضا، وهي التي تجب تضحيتها؛ فانتحرت الفتاة حينما سمعت هذا، ونجت إيفيجيني وهبت الرياح كما اشتهت السفن، وسافر الأسطول واشتفت قلوب أبطاله بعدما يئسوا من الانتظار الممل. [المنظر] (أجاممنون - كليتيمنيستر - إيفيجيني - إيجين)
5
كليتيمنيستر :
تعالي بنيتي فإنهم لا ينتظرون غيرك؛ إذ أنت ضالتهم المنشودة. تعالي لتشكري أبا يحبك ويود أن يقودك بنفسه إلى المذبح.
6
أجاممنون :
مالي أراك بنيتي ساجمة العبرات غاضة أمامي الطرف؟ ما الذي أثار منك هذه الشجون وأبكاك أنت ووالدتك؟ لقد خانني التعس أركاس.
إيفيجيني :
سكن من اضطرابك وكن هادئ البال يا أبت، فأمرك مطاع عند أول إشارة، وما حياتي إلا من طولك ونعمتك وعارية تريد أن تستردها، ونحن مستمعون لإرادتك بعين قريرة وقلب خاضع، كما قبلت الزوج الذي وعدتني به، وتراني إذا لم يكن لنا مناص من الأمر ضحية مطيعة، تعرف أن تمد رأسا بريئا إلى سيف كلكاس محترمة هذه الضربة القاضية التي سمحت بها إرادتك لأرد إليك دما منحتنيه.
وإن كنت ترى أن هذا الاحترام والطاعة يستحقان أن يكافآ بجزاء آخر، وإنك مشفق على آلام هذه الأم ورائف بها؛ فإنني أتجرأ أن أقول: إنه ربما صادفني من المجد والشرف ما أحاط بحياتي من كل صوب مما لا يجعلني أتمنى الموت ولا أبغي أن القضاء المبرم يصل طرفي حياتي ويقرب مولدي من مماتي.
أنا ابنة أجاممنون، وأول من ناداك بالوالد، بل بهذا الاسم الجميل، وأنا التي مضى علي ردح من الزمن وأنا قرة عينك، وإنك لهذا الاسم
7
كنت تحمد الآلهة على نعمهم، ولأجله كنت تغمرني بملاطفاتك التي ما ألجأك إلى الإسراف فيها إلا موضع الضعف
8
من الأبوة وحنانها، وللأسف كنت أسرد والسرور ملء فؤادي أسماء البلاد التي ستدوخها متفائلة بانتصارك على اليون،
9
وكنت أعد معدات عيد هذا الظفر، وما كنت منتظرة أن يفتتح بأن تهرق دمي ولا خوفي من هذه الضربة هو الذي يذكرني بطيبتك الماضية.
لا تخش أمرا فإن قلبي ليغار على مجدك وشرفك، ولا يجترئ أن يقترف ما يحمر من أب مثلك الوجه خجلا، ولو كنت لا أفكر إلا في الدفاع عن حياتي لكنت أستطيع أن أحفظ تذكارا جميلا، ولكنك تعلم لسوء حظي وعثار جدي أن هناء أمي وحبيبي مرتبط بي، وأن ملكا يجلك يود لو يرى يوما يشهر فيه زفافنا الفخم.
وثق حبيبي بقلبي الذي وعد بهواه، وقد عد نفسه سعيدا حينما وعدته بزواجي، فما قولك في خوفه وإشفاقه إذ يعلم قصدك، وترى والدتي أمامك تذرف وابل الدمع؛ فعفوا عما سولت لي به الآن نفسي لتدارك عبرات تسيل بسببي.
أجاممنون :
لقد قلت حقا يا بنيتي، وليت شعري لأي جرم يطلب غضب الآلهة قربانا لتكفيره، ودعاك باسمك هذا الوحي القاسي ليهدر دمك على المذبح، وما كان شغفي بك منتظرا توسلاتك للذود عن حياتك، بل طالما قاومت هذا الأمر.
أتظنين أن هذا الحب الذي تعترفين به بنفسك، وفي هذه الليلة أخبرت بأني أعلنت بطلان هذه الإرادة التي جعلوني أقبلها لفائدة اليونان التي سينالونها منك، وذهب أركاس ليمنعك عن المجيء ولات حين مناص؛ إذ لم تشأ الآلهة أن يصادفك، وخدعوا ما بذله أب تعس سيئ الحظ، يحميك بلا طائل ولا جدوى مما صبوه عليك من العقاب الأليم.
لا تعتمدي على قوتي الضعيفة في حمايتك والدفاع عنك؛ فلا أحد يستطيع أن يوقف حرية شعب عند حد إن أرادت الآلهة رفع نير الاستعباد عن عاتقه؟
فإذن يجب عليك بنيتي أن تخضعي فقد أزفت ساعتك، وفكري جيدا في أي مرتبة ربيت ونشأت، وإني أعظك بهذه النصية التي لم أكد أتلقاها. واعلمي أن موتك أهون مما سأعانيه بعدك من الحسرات والآلام التي تهد شوامخ الأطواد.
أظهري عند موتك من أين أتيت، وأخجلي الآلهة الذين ظلموك بهذا العقاب الأليم، واذهبي ليعرف اليونان دمي وهو سائل منك حينما يضحونك.
كليتيمنيستر :
إنك لم تكذب أسرة منحوسة مشئومة، ومن أشبه أباه فما ظلم، نعم إنك من دم «أتريه»
10
و«تييست». ألم يرق لك يا جلاد ابنته إلا أن تولم بها وليمة فظيعة لأمها وإنك أيها الوحش الضاري الذي دبر هذه الضحية بفنونك وحيلك؟! ألم يمنعك قبح هذا العمل وفظاعته عن قبول هذه الإرادة البربرية القاسية؟!
عجبي منك كيف تتصنع أمام أعيننا بهذا الحزن الكاذب؟ أتفكر أنك تخدعنا بهذه الدموع لتبرهن على حنانك وشفقتك؟! وأي حرب خضعت غمارها لأجل ابنتك أو دم أسلته لها؟ أم أي أثر هنا يدل على مقاومتك أو ميدان غطيته بأشلاء الموتى يلجمني ولا يدع لي وجها للكلام؟ وبأي شهود تثبت أن حبك لها سول لك نجاتها.
حكم القضاء المبرم بقتلها، ولا أظن أن الوحي يؤخذ من ظاهر قوله، وهل الآلهة العدل يشفون أوار غليلهم بهذا الموت الشريف وهذا الدم البريء؟
وإن كان بجرم هيلانة تؤخذ أسرتك وتنشد «أيرميون»
11
والدتها في أرجاء إسبرطة، ويجعل منيلاس يسترد بثمن ناهيك به نصفه
12
الأثيم الذي هام به وتيمه.
عجبي لك! فأي جنون ألجأك لأن تكون ضحية له، وأن تحملنا تبعة جرم أخيك، ولم أدعني أمزق جيوبي غما وأعطيه دمي النقي ثمنا لحبه الأحمق؟
ماذا أقول في هذا الأمر الذي أثار غيرة الجميع، وتظن أن هيلانة التي عكرت صفو أوروبا وآسيا تستأهل أن تكون ثمنا لحروبك العظيمة؟ كم من مرة حمرت وجوهنا خجلا لأجلها قبل ارتباطها المشئوم بزواج أخيك؛ إذ اختطفها تيزيه
13
من أبيها كما علمت، وأنبأك به كلكاس، وائتلف بها سرا وأولدها بنتا أخفتها عن اليونان وكانت برهانا ساطعا لإثمها.
وإني لا أصدق أن حب الأخ وشرفه الموصوم هو الذي دعاك لهذا الاهتمام وعجلت لأجله، كلا بل أمانيك في الملك التي لا تنطفئ من قلبك، والإعجاب برؤية عشرين ملكا تخدمك وتخشاك، ويعهد إليك بمقاليد أمور المملكة التي عبدها فؤادك، وتريد أن تضحي لأجلها ابنتك أيها القاسي الغليظ القلب، ولا يحركك قلبك لترفض هذه الضربة الفاجعة التي تريد أن يكون لك بها فضل وحشي.
تغار على ملك تحسد عليه أن نلته، وتود أن تبتاعه بدمك راغبا أن تفحم كل مجترئ أراد أن ينازعك فيه. أتعد إذن والدا؟ آه! إن فكري يسلم ويقر بقسوة هذه الخيانة.
وذاك الكاهن الذي التفت حوله فئة ممن لا قلوب لهم ولا خلاق يريد أن يمد يدا أثيمة إلى ابنتي، ويمزق أحشاءها، ويستشير الآلهة بعين زائغة وقلب خفاق، وأنا الذي أتيت بها وهي متهللة مستبشرة معجبة بجمال يسلب النهى، أرجع على عقبي وحدي بخفي حنين يائسة بائسة! وأرى الطرق ما برح عرفها الشذي متضوعا مما نثر تحت أقدامها من الأزهار.
كلا فإني لا أقودها إلى العذاب أو تضحى لليونان ضحيتان، ولا خوف أو احترام يستطيع أن يفصلها مني أو ينزعها من بين ذراعي إلا بعد أن يدميهما، يا لك من بعل وحشي وأب قاس ! تعال لتريني كيف تقدر أن تنتشلها من بين يدي أمها؛ فادخلي إذن يا بنيتي وأطيعيني على الأقل للمرة الأخيرة. (2) فيدر
(2-1) الملخص
رواية محزنة ذات خمسة فصول، مثلت للمرة الأولى على مرسح «الكوميدي فرانسيز» في أول يناير سنة 1677، وقد مثل فيها راسين غرام فيدر المحرم، وهي زوجة «تيزيه» لابن زوجها «أببوليت»، الذي كان نموذجا للشرف والعفاف والطاعة النبوية، وكان هذا الشاب عاشقا لفتاة تدعى «أريي»، رقيقة العواطف ذكية الفؤاد قوية العزيمة، وكان «تيزيه» يمثل أبا يرثى لحاله لما انتابه من المصائب، كما يمثل «تيرامين» وهو مؤدب أببوليت الفصاحة والبلاغة، و«إينون» مرضع فيدر ذات نفس منحطة تخلص ولو في الاشتراك في الجرم.
وأهم ما تدور عليه الرواية وبيت القصيد فيها هو أحوال فيدر المدهشة، التي ربما كانت الأولى في بابها في جميع الروايات الفرنسية.
كانت عواطف فيدر وغرامها المبرح قاسية شديدة، دارت على جميع أوجه الحب من: توسل، ولعن، وغضب، وغرور، وخرف حقيقي. وكانت فيدر ليست عديمة الضمير بالمرة، بل كان يجعلها تقاوم وتناضل وتتألم وتئن إلى أن تابت قبل موتها، ولا داعي للتطويل في سرد هذه الحوادث؛ لأن أغلبها موجودة في النبذة التي عربناها. (2-2) نبذة من رواية فيدر
المنظر الثالث من الفصل الأول (فيدر - إينون)
فيدر :
فلنقف عند هذا الحد يا عزيزتي إينون؛ فإن جسمي لا يكاد يتماسك، وخانتني قواي المضمحلة، وكل مني الطرف من النور الذي أراه، وترين ركبتي المرتجفتين توشكان أن تختفيا تحتي ولا يحملانني، فوا أسفاه على حالتي (ثم تجلس) .
إينون :
أيها الآلهة القادرون! لترضكم عنا وتسترحمكم دموعنا المنهملة.
فيدر :
ما أثقل علي من هذه الخمر
14
والحلي والحلل التي لا طائل منها، ولا أكاد أستطيع حملها؟! وأي يد منغصة عقدت مني الشعر ورتبته فوق جبيني؟ إذ كل شيء أصبح يؤلمني ويؤذيني.
إينون :
يا لهذه الأماني التي خيبت بعضها بعضا، وإنك ساخطة على مقاصدك وهي غير عادلة؛ إذ كنت تحرضيننا على تزيينك، وحينما تعاودك ذكرى قوتك الأولى تريدين أن تظهري للناس وتشاهدي الضوء، وإنك لترينه ويوشك أن يحجبك إذ تكرهينه وأنت التي سعت إليه قدمك وأتيت تطلبينه؟
15
فيدر :
أيها الجد الشريف المجيد لأسرة حزينة بائسة. أنت الذي افتخرت وأعجبت بك أمي بأن كانت لك ابنة، وربما تخجل مما أنا فيه من الاضطراب، وأنت أيتها الشمس قد أتيت لأتزود منك بالنظرة الأخيرة.
إينون :
ما لي أراك لا تفارقك هذه الرغبة القاسية سائمة من الحياة، مستعدة لها استعدادا مشئوما؟
فيدر :
أيها الآلهة! ألست الآن جالسة في ظلال الغاب؛ فمتى أستطيع أن تتبع عيني خلال غبار شريف عجلة
16
فارة إلى المحجر؟
إينون :
ما هذا يا سيدتي؟
فيدر :
ما أحمقني! أين أنا وماذا قلته؟ أين ضلت مني الأماني والحجى؟ فقدت صوابي: والآلهة هي التي نزعته مني.
إن وجهي يا إينون علته حمرة الخجل؛ إذ تركت آلامي المخجلة ظاهرة للعيان، والعين غارقة بعبراتها رغما عني.
إينون :
إذا كنت خجلة فاخجلي من صمتك الذي يزيد في آلامك ومتاعبك، يثور ثائرك أن رعيناك باعتنائنا وتصم أذناك لحديثنا، أتريدين أن تعجلي على البقية الباقية من أيامك دون رحمة؟ أي غضب يحول دونها
17
في ميدان السباق عن بلوغ شأوها؟
خيم الليل ثلاثا وكر عليه النهار ثلاثا فبدده، ولم يطرق الكرى لك عينا مذ رزح جسمك تحت وطأة الألم والسقم دون طعام، ماذا تسول لك به النفس من سيئ المقاصد؟ وبأي حق تريدين أن تفتكي بنفسك، مهينة الآلهة الذين تفضلوا عليك بنعمة الحياة، وتخونين زوجا ربطتك وإياه عرى العهد، والميثاق، وأولادا بؤساء يحملون بعدك نيرا قاسيا. أتؤملين أنه في اليوم الذي فيه تفارقينهم يتعطف عليهم ابن الأجنبية عدوك وعدو أسرتك، هذا الولد التي حملته «إحدى الأمازون»
18
في أحشائها وهو إيبوليت.
فيدر :
آه يا رباه!
إينون :
هل يجرح عواطفك هذا العتب؟!
فيدر :
يا له من اسم خرج لسوء الحظ من فمك!
إينون :
إنك محقة في استعار غضبك؛ إذ أحب أن أراك وأنت مرتعدة من سماع هذا الاسم المنكود. عشت وأنعشك الحب والواجب وطالت حياتك؛ لئلا تتألمين من أن يقهر أولادك أحد أبناء «السيت»،
19
ويتأمر على أشرف دم في اليونان . تجنبي الكدر والغيظ؛ فإن كل لحظة تودي بحياتك، واجتهدي في إصلاح ما تلف وانتهك من صحتك وقوتك المضمحلة؛ حيث أوشكت أن تتصرم أيام حياتك ولكنها ستطول وتصبح زاهرة ناضرة.
فيدر :
لقد أطلت كثيرا هذه المدة الأثيمة.
إينون :
هل يمزق فؤادك تعذير السريرة؟ أم أي جريرة أحدثت لك هذا الاضطراب العاجل؟ مع أن يديك لم تنغمسا في دم بريء.
فيدر :
إنني بفضل الله لم تقترف يداي إثما، وربي راض عني لبراءة قلبي كيدي.
إينون :
أي عزم فظيع يرتعد منه قلبك ويرتعد؟
فيدر :
لقد صرحت بما فيه الكفاية؛ فوفري علي الباقي فإني أود لو أموت لئلا أقر باعتراف مشئوم.
إينون :
موتي إذن وأقبري معك هذا الصمت القاسي، وابحثي عن يد أخرى لتغمض منك العينين؛ إذ لم يبق لك إلا نور ضئيل، وستكون روحي البادئة باللحاق بالموتى؛ إذ أمامي ألف سبيل يوصل إليهم وستختار آلامي أقربها وأقصرها.
متى غرتك ذمتي أيتها القاسية؟ ألا تعلمين أن ذراعي هما اللذان تلقياك عند الوضع؟ أتجهلين أني فارقت وطني وأولادي لأجلك؟ أبذلك تكافئين إخلاصي ووفائي؟!
فيدر :
أي ثمرة تؤملينها من القسوة والشدة؟ وإنك لترتعدين من فظاعة الموقف أن بحت لك بالأمر بعد الصمت.
إينون :
بربك قولي لي من يطاوعه قلبه ويستطيع أن يشاهدك وأنت تسلمين الروح أمام ناظري.
فيدر :
حينما تعلمين إثمي والحظ السيئ الذي يثقل كاهلي، ترين أن ذلك ليس وحده المسبب لموتي، بل علمك بجريرتي يزيدني إثما وجرما.
إينون :
بحق ما ذرفته لأجلك يا سيدتي من العبرات وركبتيك الضعيفتين، اللتين ألثمهما أن تخلصيني من هذا الشك الممقوت.
فيدر :
انهضي فلك ما تبغين.
إينون :
حدثني فإني صاغية.
فيدر :
إلهي ماذا أقول لها؟ وبأي طرف أفتتح الحديث؟
إينون :
أتحبين؟
فيدر :
نعم، ومن الحب عراني ما عراني.
أيون :
ولمن؟
ستسمعين نهاية القبح فإني أحب ... ولهذا الاسم المنكود أرتجف وأرتعد. أحب ...
إينون :
من؟
فيدر :
ألا تعرفين ابن «الأمازون» هذا الأمير الذي طالما اضطهدته؟
إينون :
إيبوليت! يا رباه!
فيدر :
أنت التي ذكرت اسمه.
إينون :
اللهم إن جميع دمي تثلج في عروقي؛ فيا لخيبة الأمل والجرم! ويا لأسرة يرثى لها! ورحلة منحوسة هل اقترب منك إذن أيها الشاطئ التعس؟
فيدر :
أتاني مصابي من أبعد من ذلك؛ فإني ما كادت تجمعني وابن إيجيه
20
روابط الزواج واستتبت راحتي وسعادتي؛ إلا وأظهرت لي «أتينه» عدوي الألد، شاهدته فاحمر وجهي خجلا، ثم صار شاحبا بمرآه.
ثار بنفسي الحائرة ثائر الاضطراب، وأصبحت العين لا تبصر ولا أستطيع التكلم، وكنت أشعر أن جسمي يتثلج تارة ويحترق طورا، وقد عرفت الحب ونيرانه المخوفة وما يطاردني به من العذاب الأليم الذي لا يؤمن شره، وظللت أوالي الدعوات لأحيد عما يؤلمني ويؤذيني.
بنيت للهوى معبدا واعتنيت بتزيينه، وكنت محاطة بالضحايا في كل آونة باحثة بين جوانبهم عن صوابي الضال، ولكن الدواء لا ينجع فيما أزمن واستعصى من الأدواء، وكنت أحرق البخور على المذبح بلا طائل ولا جدوى، وعندما يتوسل فمي إلى الزهرة كنت أكاد أعبد إيبوليت، وأراه بلا انقطاع بجانب المذبح الذي كنت أبخره.
كنت أقدم جميع ما لدي لهذا المعبود من دون الله، ومن لا أستطيع أن أسميه فكنت أتجنبه في كل مكان؛ فيا لمنتهى الشقاء إذ كنت أرى ملامح أبيه مرتسمة في وجهه فأضطرب وأثور.
كنت أبذل الجهد في اضطهاده لأبعد عني عدوا أصبحت أهيم به وأعبده وأتصنع الحزن والهم كعادة نساء الآباء الظالمات مجتهدة في نفيه وإبعاده، والفضل في انتزاعه من أحضان أبيه راجع إلى صياحي المستمر.
وقد استنشقت الحياة منذ غيابه، وقضيت أيامي في الدعة والسكون، خاضعة لبعلي كاتمة عنه قلقي، واستثمرت هذا الثمر من زواجه المشئوم، ولكن لا يغني حذر من قدر!
وحينما ذهبت مع زوجي إلى «تريزين» بصرت هناك بعدوي الذي كنت أفر منه، وانفجر جرحي الذي لم يندمل، وليس الحب مختفيا في عروقي، بل الحب أجمعه الذي اقتنصني غنيمة له ولم أفلت من مخالبه، وقد سبب لي جرمي فزعا عظيما؛ حتى أبغضت الحياة وكرهت الحب، ووددت لو أقضي نحبي لأحفظ مجدي، وأداري غرامي المشئوم عن العيون؛ ولم أستطع أن أوقف دموعك وأدفع مقاومتك ، وقد بحت لك بكل شيء ولا داعي إذن للتوبة حيث أقترب الأجل؛ فلا تؤلميني بعتبك الظالم، وأن تكفي من إسعادك وغياثك الذي يذكرني بالبقية القليلة من حياتي التي أوشكت أن تنقضي.
المنظر الخامس من الفصل الثاني (فيدر - إيبوليت - إينون)
فيدر (تخاطب إينون داخل المرسح) :
هاك من إذا رأيته يهرع جميع دمي إلى قلبي وأنسى ما أريد أن أفاتحه به.
إينون :
ألا تفكرين في ولد لا أمل له إلا فيك؟
فيدر (تخاطب إيبوليت) :
يقال إن سفرا عاجلا سيحرمنا منك أيها الأمير، وقد جئت لأشاطرك آلامك وعبراتك ولأشرح لك مخاوفي وإشفاقي على ولد أصبح فاقدا لأبيه، وسيشهد موتي القريب، وإن له بالمرصاد ألفا من الأعداء، يريدون أن يبطشوا بطفوليته، ولا أحد يقدر أن يحميه من مكائدهم غيرك، ولكن في النفس قلق يضطرب منه فكري، وهو خوفي من أن تصم أذناك عن استغاثة ولدي، وأخشى أن تصب عليه جام غضبك العادل وتتبعه بأمه القبيحة.
إيبوليت :
ليست هذه العواطف الدنيئة من شيمتي يا سيدتي.
فيدر :
إن كرهتني فلا أشكو منك أيها الأمير، فقد رأيتني باذلة الوسع في إيذائك، وإنك لا تستطيع أن تقرأ في أعماق فؤادي ما حفظته لك من الضغن والحقد، ولم أستطع أن أجعلك تئن وتتألم ونحن على شاطئ واحد؛ فكدت لك وعملت ما في الجهد سرا وعلنا لأبعدك عني وتفصلنا بحار عجاجة، وأمرت أن لا يذكر أمامي اسمك، فلو قيست الإهانة والحالة هذه بالعقاب، أو كان الحقد وحده يستطيع أن يثير الحقد، لما استحقت مرأة الشفقة والحنان وكانت أهلا لما تفرغه عليها من ضغائنك أيها الأمير.
إيبوليت :
من شيمة الأم أن تكون غيورة على حقوق أولادها؛ فترينها لا تعفو عن ابن زوجة أخرى إلا نادرا، وأعرف حق المعرفة يا سيدتي أن الظنون الشكوك الممقوتة هي ثمرة الزواج الثاني ، وقد ينالني من غيرك ما لحقني منك من الإهانة، بل ربما تحملت سواك ولو كانت أشد وطأة.
21
فيدر :
أيها الأمير! إنني أستشهد الله الذي سمحت قدرته أن أكون مستثناة من هذه القاعدة العامة ، ولكن قلقا آخر ينغصني ويفترسني!
إيبوليت :
لا أود الآن يا سيدتي أن تزيدين اضطرابا على اضطراب، وربما كان أبي حيا وتسترحم الآلهة دموعنا المنسجمة ويمنون علينا بأوبته، رعاه «نيبتون»
22
بعين عنايته، ولا أظن أن دعاء أبي وتوسله إلى هذا الرب الحفيظ يذهب صرخة في واد.
فيدر :
لا ينظر شاطئ الأموات مرتين أيها الأمير، وحيث رأى «تيزيه» هذه الضفاف السود، فإن أملك في الآلهة برجوعه يذهب أدراج الرياح، وهيهات أن يفلت الحريص أكيرون
23
غنيمته.
ماذا أقول؟ لم يمت أبوك قط إذ يحيا، وإني أتصور أني أشاهد بعلي وأحادثه، وقلبي ... قد ضللت وضاع مني النهى أيها الأمير، وظهرت حميتي رغما عني.
إيبوليت :
أرى حبك مبرحا متيما، وإن كان تيزيه أصبح في عداد الأموات، لكنه ما برح نصب عينيك، والحب يحرك دائما ما سكن من آلام نفسك وأشجانها.
فيدر :
أجل أيها الأمير، وإني لأتململ وأحترق لأجل تيزيه، ولست أحبه
24
كما رأوه في الجحيم
25
متقلبا متغيرا لا ثبات له عاشقا لألف واحدة، ومن ذهب أخيرا ليدنس عرض إله الموتى، بل أهواه أمينا معجبا به شيء من القسوة، يختطف اللب بجماله، فتيا جذابا للأفئدة، متحليا بما توصف به الآلهة أو مثلما أراك رأي العين، كان شبيهك شكلا وقدا وعينا وحديثا، وحياؤك هذا الشريف صبغ وجهه حين خاض غمار اللجج للوصول إلى كريت؛ فكان كفؤا وأهلا لبنات مينوس، فماذا كنت تعمل إذن؟ ولم لم يقع انتخاب أبطال اليونان على إيبوليت؟ ولم كنت صغيرا ولم تستطع أن تركب السفينة التي أقلته وأوصلته إلى شواطئنا، وكنت أنت
26
الذي أهلكت وحش كريت
27
رغما عن جميع تعاريج مأواه الفسيح.
وقد سلحته أختي بالخيط المشئوم، بل أنا التي سبقتها في هذا العزم؛ لأن الحب أنار بصيرتي. فأنا إذن أيها الأمير التي هدتك السبيل في مسالك «لابيرنت» المضلة، وكم كلفني من الشجون والآلام هذا الرأس الجميل! ولم يك هذا الخيط ليضمن لك حبيبتك وقرينتك في الخطر الذي ذهبت إليه، وقد أردت أن أسير أمامك فتلج معك فيدر «اللابيرنت» لتشاطرك النجاة أو الهلاك .
إيبوليت :
آلهتي! ماذا أسمع؟ أنسيت يا سيدتي أن تيزيه أبي وزوجك؟
فيدر :
أتحكم على قول فهت به وأنا فاقدة الصواب أيها الأمير؟ فهل أضعت مجدي وشرفي؟
إيبوليت :
عفوا سيدتي، وإني مقر والخجل يصبغ وجهي بأني اتهمت حديثك البريء بغير حق، ولا أستطيع من الخجل أن أمكث أمامك فلذلك أبارحك ...
فيدر :
لقد سمعتني طويلا أيها القاسي، وقلت لك ما فيه الكفاية لانتشالك من هذا الضلال! أتعرف إذن فيدر وغضبها: قد شغفني الحب، ولا تفكر أني في الوقت الذي أحبك فيه أعد نفسي بريئة. كلا، وإني واثقة بزلتي، ولا تظن أن مجاملتي الفاضحة هي التي ولدت آلام هذا الحب الذي خلط مني الحجى.
انتقمت مني الآلهة بأن سلطت علي هذا الحب، وإني أمقت نفسي أكثر مما تبغضني كما تشهد الآلهة الذين أشعلوا نار هذا الحب المنكود في دمي. ظن هؤلاء الأرباب أنهم أتوا بمجد عظيم بأن فتنوا فؤاد امرأة ضعيفة فانية.
يذكرك الماضي بأنني كنت أطاردك لأهرب من حبك أيها القاسي، وكنت أستثير حقدك لأقاوم حبك؛ ولكن كل ذلك لم يجد نفعا، فإنك كلما زاد بغضك لي زاد حبي لك وكانت مصائبك لي فتنة وسحرا جديدا.
ضنيت ونحلت من نار الهوى والبكاء، ويكفي لإقناعك أن تشاهدني بعينيك إن استطاعتا أن تحدقا في وجهي؛ فماذا تقول في هذا الاعتراف المخجل؟ وهل تظنه إراديا؟
جئتك مضطربة راجفة لولد لا أقدر أن أبغضه، متوسلة إليك بأن لا تحقد عليه، ولكن لكون القلب مفعما بالحب أهمل عزمه فلم أتكلم إلا عنك؛ فانتقم واقتص مني لهذا الحب الممقوت، وخلص العالم من وحش يغيظك؛ لتكون أهلا لأبوة بطل عظيم أوجدك في الدنيا.
أتقدم أرملة تيزيه على حب إيبوليت؟ أتظن أنني هذا الوحش الهائل الذي تفر منه. هاك قلبي وهو الموضع الذي يجب على يدك أن تطعنه، فرغ مني الصبر لتكفير الإهانة، وأشعر بأن قلبي يتقدم نحو ذراعك.
اضرب وإلا أن ظننت أنه ليس أهلا لضربتك، أو كان حقدك يحسدني على هذا العذاب الذي أستعذبه وأستمرئه أو كنت تستنكف أن تدنس يدك بدم حقير، فأعرني سيفك إن أعوزني ذراعك.
إينون :
ماذا تصنعين يا سيدتي؟ قد أقبلت الناس فتداركي أن يلمح أحد على وجهك ما ارتسم عليه من هذه الشهود الممقوتة، فهيا ادخلي واهربي من هذا الخجل البين.
المنظر الثالث من الفصل الثالث (فيدر - إينون)
إينون :
ينبغي لك أن تعدمي من مخيلتك فكرة حب لا طائل منه يا سيدتي، واذكري فضيلتك السابقة؛ فإن الملك الذي ظن أنه مات سيظهر أمام ناظريك إذ أقبل تيزيه، وهو الآن في هذه المواطن، والشعب يحتشد ويعدو لرؤيته، وحينما خرجت اتباعا لإشارتك لأبحث عن إيبوليت شاهدت آلافا من الأصوات بلغت عنان السماء ...
فيدر :
زوجي حي يا إينون وكفى، وقد اعترفت اعترافا دنيئا بحب يهينه ويفضحه، إنه عائش، ولا أبغي أن أعرف أكثر من ذلك.
إينون :
ماذا؟
فيدر :
لقد أنبأتك به ولكنك لم تصدقيني، وقد تغلب دمعك على تعذير سريرتي، وسأموت هذا الصباح وأكون أهلا لأن تبكيني العيون؛ إذ اتبعت إرشادك، وسأقضي نحبي فاقدة شرفي.
إينون :
تموتين؟!
فيدر :
أيها الإله العادل! ماذا أعمل اليوم؟ سيظهر بعلي وابنه بجانبه، وسأرى كيف يبصرني شاهد غرامي الفاحش وهو متشوق لأن يعرف بأي جبين أستطيع لقاء أبيه، وقلب مفعم بتأوهات جعل في أذنه وقرا عن استماعها، وعين مغرورقة بدموع مل منها وسئم؛ أتظنين أنه مشفق على شرف أبيه ويكتم عنه هذه الحمية التي أهاجت مني كامن الآلام ويسمح بخيانة أبيه وملكه؟ أتراه يستطيع أن يضبط ما عنده من الحقد علي؟
سيلتزم الصمت بغير جدوى، وإني أعرف خيانتي يا إينون، ولست من النساء المستهترات اللاتي نضب منهن ماء المحيا؛ فلا يبالين بالفضائح والمعرات، ويستمرئن مرعى الجرم، ويذقن فيه الدعة والسلم؛ حتى عرفن أن يحملن جبينا لا يضرجه الخجل.
إني أعلم حدتي وأذكرها، ويخيل إلي أن هذه الجدران والقباب ستنطق وتتهمني منتظرة بعلي لتوقفه على حقيقة الأمر؛ فلنمت لتخلصنا شعوب من جميع هذه الأهوال.
هل الموت مصيبة عظمى؟ كلا؛ فإنه لا يحدث أقل فزع للتعساء المنكودين، ولا يعبئون به، ولست أخشى غير الاسم الذي أتركه بعدي ميراثا مروعا لأبناء عثر بهم الجد!
إن دم «المشترى» يجب أن يجرئهما؛ إذ يحق لهما أن يفتخرا بنسب عظيم، ولكن إثم الأم عبء ثقيل، وأخاف أن يعيرهما أحد بجرم والدتهما يوما ما؛ فيضاما بهذا الحمل الشنيع، ولا يستطيع أحد منهما أن يرفع عينيه من الخجل.
إينون :
هذا مما لا يريب فيه، وإني مشفقة على كليهما كما أنك محقه بوجلك العادل، ولكنك تعرضينهما لإهانة يا لها من إهانة، وتشهدين على نفسك معترفة بجريرتك. وإن تم ما أنت عازمة عليه يقولون: إن فيدر أتت عظائم الإثم والجرم، وهربت من أمام زوجها المغدور ومرآه المرعب؛ وسيهنأ إيبوليت بموتك؛ إذ به يؤيد قوله، ماذا أستطيع أن أجيب به متهمك؟ إذ سيفحمني بسهولة وأراه متمتعا بهذا النصر الفظيع، ويقص خزيك على من أراد استماعه. آه! أولى بي والحالة هذه أن تمحقني صاعقة من السماء، ولكن اصدقيني إن كان لم يزل عندك معززا، وبأي عين تنظرين هذا الأمير الجريء؟
فيدر :
أراه أمام ناظري كوحش مزعج.
إينون :
ولم تتنازلين إليه عن نصر تام؟ أتخشينه؟! ألا تطاوعك الجرأة بأن تكوني السابقة في اتهامه بالجرم الذي يستطيع اليوم أن يلصقه بك؟ ومن يفند قولك؟ والكل يعاونك على اتهامه، وحبذا الدليل الذي يؤيد قولك أن ترك لحسن حظك سيفه بين يديك، وعلم أبوه من أمد مديد بما سببه لك من الاضطراب الحاضر والمتاعب والآلام السابقة ونفاه وفقا لإرادتك.
فيدر :
ما أشد جرأتي إذن على اضطهاد البراءة وتعكير صفوها!
إينون :
إن همتي ليست في حاجة إلا لصمتك، وإني مثلك أرتعد من تبكيت الضمير، وستبصرينني مسرعة في اقتحام ألف موتة، وحيث لا سبيل إلى نجاتك من مخالب الموت غير هذا الدواء المحزن، ترينني أضحي لأجل حياتك كل مرتخص وغال. وسأخاطب تيزيه حتى إذا هاج هائجه من إرشادي قصر انتقامه على نفي ابنه، والوالد يا سيدتي حينما يعاقب يكون كما تعهدينه رءوفا رحيما، ويكفيه خفيف القصاص لتسكين غضبه.
ولو قدر وسفك دمه فإنه يكون فداء لشرفك المهدد، وإن الابن لكنز ثمين لا يستطاع الفتك به؛ فأطيعي إذن جميع ما يتطلبه منك شرفك يا سيدتي؛ إذ لأجل نجاته مما حاق به يجب عليك أن تضحي لأجله كل شيء حتى الفضيلة. قد أقبل الناس وأرى بينهم تيزيه.
فيدر :
آه! إني أشاهد إيبوليت، وأرى فنائي مسطرا في عينه الجامدة الوقيحة، فاعملي ما شئت فقد فوضت إليك الأمر؛ إذ ذهب صوابي من اضطرابي.
المنظر الثاني من الفصل الرابع (تيزيه - إيبوليت)
تيزيه :
آه! ها هو أيها الأرباب العظام! وأي عين لا تنخدع مثلي في هذه الهيئة الشريفة؟ هل تتلألأ على جبين الزاني النجس سيما الفضيلة المقدسة؟! ألا تعرف بالدلائل الصادقة قلوب الخائنين؟
إيبوليت :
أيتيسر لي أن أسأل الأمير عما كدر صفوه واكفهر منه وجهه الجليل؟ ألا تستطيع أن تثق بي وتأمنني على هذا السر؟!
تيزيه :
أتجسر أيها الخائن أن تظهر أمامي؟ لم تركتك الصواعق أمدا طويلا أيها الوحش الضاري والبقية النجسة من قطاع الطرق الذين طهرت منهم الأرض؟ وبعد أن قادتك حدة حبك الفظيع إلى مضجع أبيك تجترئ أن تريني وجها أقبح من وجه العدو! أتظهر في مواطن ملئت بفضائحك بدلا من أن تبحث لك عن بلد مجهول لم يصله اسمي. اهرب أيها الغادر، ولا تقدم على حقدي وإهاجة غيظ لا أكاد أضبطه، وكفاني عارا أبديا أن أوجدت في الدنيا ولدا أثيما مجرما، وإن قتلك أيضا يكون لي ذكرى مخجلة تدنس مجدي وجليل أعمالي.
اركب متن الفرار إن كنت تريد أن تنجو من قصاص مفاجئ يلحقك بالمجرمين، الذين اقتصت منهم يدي هذه، وحذار أن تراك الشمس التي تضيئنا واطئا بقدمك الجسورة هذه الأماكن، عجل بهربك دون أن تؤمل العودة لتطهر ممالكي من مرآك الشنيع.
وأنت يانيبتون، أتذكر أن شجاعتي التي قطعت بها دابر العرر من سفاكي الدماء وطهرت منهم شاطئك، وقد أردت أن تكافئني على ما بذلته من الجهد بأن تستجيب لي أول دعاء، ولم أتوسل إليك لتنقذني من شدائد السجن القاسي؛ إذ كنت حريصا على معونتك وإسعادك، فأرجأت دعائي وادخرته لما هو أهم وأعظم. فالآن أبتهل إليك أن تنتقم لأب سيئ الحظ، وقد تخليت عن هذا الخائن وتركته لغضبك؛ فاخنق ما جرى في دمه من وقيح الآمال، وسيعترف تيزيه بأفضالك ونعمك عندما تستشيط غضبا.
إيبوليت :
أتتهم فيدر إيبوليت بحب أثيم؟! يا لمنتهى الفظاعة التي حارت منها النفس، كم من ضربة لم تكن بالحسبان تثقل كاهلي وتلجم لساني وتخنق صوتي.
تيزيه :
أتزعم أيها الخائن أن فيدر تطوي وقاحتك الوحشية في زوايا الصمت الفاضح؟ كان الأجدر بك عندما هربت من أمامها أن لا تترك سيفك؛ إذ هو بين يديها مساعد على نفي قولك، بل كان خليقا بك أن تزيد جرمك بأن تجهز على كلامها وحياتها.
إيبوليت :
لقد هاج غيظك من كذب ممقوت، وكان الواجب علي أن أنطق بالحقيقة أيها الأمير، ولكني أغض الطرف من سر يمسك فيضيق صدري ولا ينطلق لساني؛ فارض بالاحترام الذي يطبق فمي بدون أن تزيد في همومك بيدك، وألق نظرة على حياتي وافحصها وفكر من أنا؟ أفاتك أن الجرائم العظيمة تسبقها أصغر منها؟! ومن يستطيع أن يتعدى الحدود الشرعية، أو يخرق حرمة الحقوق المقدسة؟! والجرم كالفضيلة له درجات؛ إذ لم يسمع أن البراءة الحيية انتقلت فجأة دون استدراج إلى منتهى الوقاحة والضلال، ويوم واحد لا يصير صاحب الفضيلة خائنا قاتلا نذلا يأتي المنكر مع محارمه.
حملتني في أحشائها طاهرة عفيفة من الشجاعة والإقدام بمكان رفيع، فلم أكذب دمها وأظلمها، وكان بيتيه موصوفا بالكياسة والذكاء بين جميع العالم، وقد تفضل بتهذيبي، وإني لا أود أن أصف نفسي بأكثر من ذلك، وأظن يا أميري أن حظي الذي أحرزته من الفضائل هو الذي أشعل الحقد علي؛ فرموني بهذه الكبائر الفظيعة، وإن إيبوليت لمعروف في جميع اليونان بأنه بلغ منتهى الفضيلة، وإنك تعرف من شجوني ثبات عزيمتي في الشدة والجفاء، وليس النهار بأنقى من قلبي؛ أبعد ذلك يريدون من إيبوليت أن يفتن بنار حب دنس؟!
تيزيه :
نعم، وهذا الكبر والإعجاب هما اللذان أوقعاك في شر عملك أيها النذل! وأرى في جفائك وأنفتك المبادئ الشنيعة؛ إذ فتنت فيدر وحدها عينيك الوقيحتين، وكانت نفسك خالية البال عمن سواها، مستنكفا أن تحترق لأجل حب بريء حلال.
إيبوليت :
لا يا أبت؛ فإن هذا القلب كتم عنك كثيرا هواه البريء، ولم يستنكف أن يلتهب منه، وإني أعترف بين يديك بهفوتي الحقيقية: إني أحب وأهوى رغما عن دفاعك، وقد استرقتني أريسي، وصار ابنك أسيرا لابنة بالانت، شغفني هواها وأصبحت نفسي عاصية لأوامرك، لا تتأوه ولا تحترق إلا لأجلها وحدها.
تيزيه :
أتحبها؟ إلهي! لا لا فتصنعك شنيع: تتظاهر بالجرم وتتكلف لتبرر نفسك.
إيبوليت :
منذ ستة شهور وأنا أتجنبها وأحبها، وقد أقبلت إليك مرتجفا لأطلعك على أمري. عجبا! ما لي أراك لا يؤثر عليك شيء لانتشالك من أوهامك! فأي يمين هائل تصدقه؟ أبالأرض أم السماء أم جميع الدنيا ...؟
تيزيه :
يلجأ المجرمون دائما إلى الحلف الكاذب، فأقصر ووفر علي حديثا ممقوتا إذا لم يكن لفضيلتك الكاذبة معين آخر.
إيبوليت :
أتظهر لك فضيلتي بأنها كاذبة ومفعمة بالتصنع، مع أن فيدر نفسها يناجيها قلبها بإنصافي وتبريري.
تيزيه :
آه! ما أشد وقاحتك وأقواها تهييجا لغيظي!
إيبوليت :
ما الزمان والمكان اللذان تحددهما لنفيي وإبعادي.
تيزيه :
أتذهب إلى ما وراء «أعمدة السيد»؟ وأظنها قريبة بالنسبة لغادر.
إيبوليت :
إذا كنت أهمل جرما فظيعا تتهمني به، فأي صديق يرثي لحالي إن تخليت عني وهجرتني؟!
تيزيه :
اذهب لتفتش عن صحاب يشرفون الزنا ويستحسنون إتيان المنكر مع المحارم؛ إذ لا يحمي خبيثا مثلك إلا كل خائن كنود عاطل من الشرف والدين.
إيبوليت :
ما برحت تحدثني عن الزنا وهتك المحارم: إني ملازم السكوت، وإن فيدر ولدتها أم، وهي أيها الأمير من دم تعرفه حق المعرفة، وله من الفضائح والمعرات أكثر مما عندي.
تيزيه :
بخ بخ! أتخرجك حدة غضبك أمام عيني عن حد الاعتدال؟ فاغرب من وجهي للمرة الأخيرة. اخرج أيها الخائن الغادر، ولا تنتظر من أب يتميز من الغيظ أن يطردك من هذه الأماكن مهانا مرذولا.
المنظر السادس من الفصل الخامس (تيزيه - تيرامين)
تيزيه :
أهذا أنت يا تيرامين؟ ماذا صنعت بابني وقد عهدت به إليك منذ نعومة أظفاره؟ ولكن ما الذي يسيل منك هذه العبرات؟ وماذا عمل ابني؟
تيرامين :
يا لعناية فات وقتها ولا حاجة إليها؟ حنان لا يجدي! إذ فارقكم إيبوليت.
تيزيه :
آلهتي!
تيرامين :
ما رأيت أحدا مات أكثر منه حبا لدى الناس، وأتجرأ أن أقول لك أيها الأمير: إنه أخف الناس ذنبا.
تيزيه :
هلك ابني؟ عجبا! متى أمد إليه ذراعي لمعانقته؟ هل نفد صبر الآلهة وعجلوا بموته؟ أي ضربة اختطفته مني، أم أي صاعقة مفاجئة؟
تيرامين :
لم نكد نحرج من أبواب تريزين وابنك راكب عجلته وحراسه تعلوهم الكآبة ملتفون حوله مقلدون صمته، فسار وهو فريسة الشجون والهموم في طريق «ميسين»، وقد أرخت يده العنان على ظهور خيله.
ولما كانت جياده الحسان كما عهدها الناس ملئت حمية، لبت صوته وزاغت منها الأبصار، وطأطأت الرءوس يحسبها الإنسان أنها وفق فكرة الحزين؛ إذ خرج من اللجج صوت مزعج عكر صفو الهواء، فأجابت الصافنات الجياد هذا الصياح المرهب بصهيلها، فتثلج دمنا في أعماق أفئدتنا، وانتصب شعر أعراف الخيل، وارتفعت على ظهر اليم لجة كالطود واقتربت، ثم تكسرت وقذفت بين الزبد وحشا هائلا عريض الجبين مسلح الرأس بقرنين مزعجين، وجسمه مغطى بقسور مصفرة، كأنه ثور صعب المراس أو تنين عظيم البأس، التف عجزه فأحدث ثنيات معوجة ملتوية، وقد ارتجف من هول زئيره الشاطئ ومادت الأرض وأوبأ الهواء، وتقهقرت اللجة التي حملته وهي مروعة منه، وهرب الجمع، والتجأ إلى المعبد المجاور دون أن يتسلحوا بشجاعة لا تعني ولا تنفع، ولبث إيبوليت وحده فكان أهلا لأن يكون ابنا لبطل حلاحل. فأوقف خيله وقبض على حرابه وطعن الوحش بيد لا تخطئ طعنة نجلاء أصابته في عطفه طفر من حر ألمها الوحش، ووقع زائرا تحت أقدام الجياد متمرغا مظهرا فما ملتهبا فغطاها بنار ودم ودخان، فأخذها الفزع وصمت آذانها هذه المرة عن استماع الزجر ولم يغن صاحبها ما بذله من الجهد لكبح جماحها؛ حتى كل ساعده وخارت قواه وضرجت الخيل اللجم بما يخرج من أفواهها المزبدة الدامية، ويقال: إنه شوهد في هذا الهرج الهائل إله يضغط على جنوب الخيل المغبرة بمهمازه وهو بها الوجل بين الصخور ففرقع محور العجلة وانكسر، وشاهد البطل إيبوليت عجلته وهي تتحطم إربا إربا، ووقع هو بنفسه والتفت عليه الأعنة.
فاعذرني لألمي ومصابي، فإن هذا المنظر القاسي سيفجر ينابيع الدمع من شئوني فلا تجف مدى العمر، وقد نظرت أيها الأمير ولدك البائس تجره الخيل التي أطعمها بيده، وكان يود لو يذكرها بحسن صنيعه، ولكن صوته كان يزيد في إزعاجها، واستمرت في عدوها حتى أصبح جسمه داميا كأنه جرح، وقد ملأنا السهل بصياحنا واستغاثتنا، ثم هدأ قليلا جماح الجياد ووقفت على مقربة من المقابر العتيقة التي كانت بالملوك أجداده ذخائر باردة جامدة؛ فهرولت إليه متأوها وتبعني حرسه، وهدانا إليه ما خطه دمه الشريف على الصخور، وأخذ العوسج الممقوت من خيله جلبابا داميا. ولما وصلت إليه ناديته فمد إلي يده وفتح عينا مائتة ثم أطبقها فجأة، وقال: «قضى الإله بأن ينزع مني حياة بريئة فارع بعد موتي «أريسي» الحزينة البائسة بعين عنايتك أيها الصديق العزيز، وإن تبين الرشد من الغي لأبي يوما ما ورثى لمصيبة ابن اتهم كذبا وظلما فقل له إن أراد أن يلطف دمي وخيالي الشاكي فعليه أن يرأف بأسيرته ويعاملها بالرقة والحنان ويرد إليها ...» وعند هذه اللفظة أسلم الروح هذا البطل، ولم يترك بين ذراعي إلا جسما مشوها ممثلا به. فيا لمسكين يرثي له ظفر به غضب الآلهة حتى إن عين أبيه تنكره.
تيزيه :
وا ولداه! وا أسفا على أمل عزيز فجعت به! يالآلهة لا يسكن غضبها ولا ترحم قلوبها ومن استعبدتني أمدا طويلا! مدت في حياتي لتذيقني هذه الحسرات القاتلة!
Unknown page