Balagha Casriyya Wa Lugha Carabiyya
البلاغة العصرية واللغة العربية
Genres
وإلى الآن لا يزال هذا القانون قائما، وإلى الآن لا يزال هذا هو وصف المصانع بل كلمة «مصنع» لا ذكر لها في قوانيننا، فإذا كنت مصريا ناهضا قد تأملت الدنيا وعرفت أن الرقي إنما هو صفة الأمم الصناعية وحملتك وطنيتك على أن تنشئ مصنعا في مصر؛ كي تربح منه وتوفر للشبان عملا وللجمهور بضائع رخيصة؛ فاعلم أنك تؤسس محلا «مضرا بالصحة أو مقلقا للراحة أو خطرا» وبعد أن تؤسس هذا المصنع سيأتيك موظفون من وزارتي الداخلية والصحة وكل منهم مزود بعاطفة قد أحدثتها في نفسه هذه الكلمات: «مضر بالصحة مقلق للراحة خطر». فهو ينظر إلى مصنعك وإليك بهذه العاطفة، ويجب ألا تنسى أنه لا يزورك مع ذلك موظف من وزارة التجارة والصناعة.
تأمل أيها القارئ ماذا كان إحساسنا وأية عاطفة كانت تثار في نفوسنا لو أننا أسمينا المستشفى: «محل يقتل فيه الناس أو تقطع أعضائهم أو يجرحون»؟
فهنا مثال للفائدة التي نجنيها من الاستعمال الإيجابي للغة، فإذا شئنا أن نحب الأنكليس فيجب ألا نسميه ثعبانا وإذا شئنا أن نحب المصنع ونحض الناس على اتخاذ الصناعة؛ فيجب أن نختار له اسما إيحائيا مغريا، كأن نقول بدلا من العبارات السابقة: «كل من أسس محلا مفيدا للأمة يزيد ثروتها ويوفر العمل لأبنائها ويرخص البضائع النافعة، إلخ». ألا ترى القوة الموطرية في الكلمات؟ ألا ترى أن هذه الكلمات كانت ألبق وأشكل بوصف المصنع في عصرنا الجديد؟ ألا ترى أننا هنا نجد الخدمة الاجتماعية العظمى من البلاغة الجديدة؟
أجل إن المصانع في مصر يجب أن تعد مقياس الأمة كالمعابد سواء؛ إذ هي التي سوف تنقلنا من الرقود الريفي إلى التحرك المدني فيجب أن تجد في قوانيننا ولغتنا الوصف الإطرائي المغري بتأسيسها.
الفصل الثاني والعشرون
اللغة العصرية
عرف القارئ من مقال الأستاذ أحمد أمين أن معظم الاضطراب في المعاني يرجع إلى أننا أحيانا نستعمل كلمات وعبارات نشأت في بيئة اجتماعية غير بيئتنا، وهي كلمات أو مجازات أو استعارات اشتقت من أساليب التفكير الذي كان متبعا قبل نحو ألف سنة في بغداد مثلا، أو لا يزال يتبع في إقليم عربي آخر له أسلوب تفكيري يخالف أسلوبنا ولو أنه يعيش في عصرنا، وهذا الأسلوب قد حمل السكان هناك على سلوك لغوي يخالف سلوكنا.
ثم قاعدة تاريخية سديدة يجب أن نذكرها على الدوام، وهي: أن طراز الثقافة يصاغ وفق الوسائل التي تستخدم في تحصيل العيش، فوسائل العيش في القاهرة تختلف عما كانت في بغداد قبل ألف سنة، وتختلف عما هي في مراكش أو صنعاء الآن؛ ولذلك تختلف أيضا ثقافتنا واللغة تسير وراء الثقافة، أو هي تعجز عن حمل هذه المعاني؛ فيحتاج المجتمع إلى غيرها؛ إذ لا مفر من أن نربط اللغة بالمجتمع، ونحن نحاول أن نرقى بأمتنا ولكن ما معنى الرقي؟
هذا الرقي: يعني أننا نعيش المعيشة العلمية حيث تستند الحقائق إلى البينات لا إلى العقائد، ولن نستطيع أن نتجاهل الوثبة الجديدة في هذه الدنيا، وهي أنها قد تقلصت فيها المسافات حتى يمكن أن يقال إنها صغرت؛ فصارت قرية واحدة.
فيجب لهذا السبب: (1)
Unknown page