Balagha Casriyya Wa Lugha Carabiyya
البلاغة العصرية واللغة العربية
Genres
وواضح أن اللغة هي: ثمرة المجتمع الذي يتكلم أفراده بها، ولكن المجتمع أيضا هو ثمرة اللغة التي تعين لأفراده بكلماتها سلوكهم الذهني، والعاطفي. وقد ألتفت إلى عبارة قالها الأستاذ (عباس محمود العقاد) بشأن الاشتراكيين في مصر لها مناسبة هنا. إذ هم يدعون - على غير ما يحب - إلى اللغة العامية. وقد حسب عليهم هذه الدعوة في قائمة رذائلهم؛ لأنه يعتز بفضيلة اللغة الفصحى، ويؤلف عن خالد بن الوليد، أو حسان بن ثابت، ولكنه غفل عن التفسير لهذه الظاهرة الاجتماعية، وهي: أن الاشتراكيين شعبيون، يمتازون بالروح الشعبي، ويعملون لتكوينه، وهم لهذا السبب أيضا مستقبليون، وليسوا سلفيين؛ ولذلك يحملهم احترامهم للشعب على إيثار لغته الحاضرة على لغة السلف، وفي حين هو سلفي الذهن في لغته، وأسلوبه، وتفكيره، وسلوكه، وليس الأستاذ العقاد وحيدا في هذه السلفية؛ لأني أعتقد أن 90 بل ربما 99 في المائة من كتابنا سلفيون، وهذه السلفية هي نتيجة لحرمان الأمة من الرقي الصناعي، وقصرها على الزراعة. وعرقلة، بل عرقبة، كل تقدم صناعي حاولته الأمة في السنيين الستين الأخيرة؛ لأن المجتمع الصناعي كان جديرا بأن يحدث مجتمعا مستقبليا، يكتب مؤلفوه بلغة الشعب، وتنتقل اهتماماتهم الذهنية من التأليف عن قدماء العرب، إلى التأليف عن مشكلاتنا العصرية في الأخلاق، والتعليم، والاقتصاد، ومكافحة الفاقة، وإني بالطبع لا أغفل هنا ارتباط اللغة بالتقاليد، والعقائد، وأن هذا الارتباط؛ من أسباب الكراهة للتطور اللغوي، أعني: أن العقلية الكلاسية في اللغة، عقلية التقاليد التليدة، قد أحدثت لنا مزاجا أدبيا اجتماعيا هو: النظر إلى الماضي، ومحاولة استرداد الأمس، والتبلد والتجمد، في الوقت الذي نحتاج فيه إلى أن نشق طريقنا إلى المستقبل.
وهذه هي إحدى الغايات التي قصدت من تأليف هذا الكتاب، ولكن هناك غايات أخرى، فإني أردت أن أصل بالقارئ إلى تصور جديد للغة من حيث نشأتها، وتكونها إلى نضجها، وما تحمل من رواسب تاريخية قد تعود علينا بالضرر؛ لأنها كانت تخدم مجتمعا ربما كانت فضائله معدودة بين الجرائم في سلوكنا العصري. كما أني ألتفت إلى الضرر الفادح الذي لحق بتفكيرنا حين نستعمل كلمات ليست محكمة المعنى؛ فلا تنعقد الصلة الحسنة بها بين الكاتب والقارئ، وهذا كثير في لغتنا، وهو عقبة في التفكير العلمي الدقيق، ولم أنس أن أنبه القارئ إلى أن بلاغتنا التقليدية التي تعلم لطلبتنا في المدرسة، والجامعة، هي بلاغة الانفعال، والعاطفة في الوقت الذي نحتاج فيه إلى تأكيد المنطق، والعقل، كما أني توسعت في شرح المعنى الذاتي، والمعنى الموضوعي للكلمات، وهذا موضوع تخصب فيه الالتباسات، والشبهات في المجادلات السياسية أو العقدية أو الاجتماعية.
وقد مسست بعض الإصلاحات المقترحة مثل: إلغاء الإعراب، واتخاذ الخط اللاتيني. وأكثرت من المقارنات بين لغتنا واللغة الإنجليزية؛ لكي أبرز للقارئ عيوب لغتنا وإرهاقها للمتعلمين بقواعد وتقاليد لم تعد لها فائدة، وبديهي أنه لو تفشى النظام الصناعي في مصر؛ لاستتبع ثقافة علمية وأدبا مستقبليا، وعندئذ يأخذ «التميع» في اللغة مكان «التجمد»؛ لأن جميع الظواهر الاجتماعية تنهض على أساس من النظام الاقتصادي، واللغة إحدى هذه الظواهر.
ونحن بالطبع آخذون في تعميم الصناعة في بلادنا، على الرغم من العرقلة، بل العرقبة، التي تلاقيها مصانعنا من أولئك المسيطرين الذين يرون أنه لا يجوز لنا أن نعيش على هذا الكوكب إلا مزارعين، وفلاحين ننتج القطن رخيصا وفيرا ولكن ليس من المعقول أننا الذين تنبهنا وأصبحنا على وجدان بالرقي العصري، نسكت ونقول: دعنا من الكلام في رقي اللغة حتى يعم النظام الصناعي، وهو الكفيل بالتغيير المنشود؛ إذ يجب أن نساعد على هذا الرقي بتجديد اللغة. وحسبنا من هذه المساعدة أن نشخص الداء، ونومئ إلى الدواء، وننبه الغافلين، وننصح للمعاكسين وأعظم هؤلاء المعاكسين هم: الذين تخصصوا في درس اللغة العربية، مثل: خريجي دار العلوم؛ فإن تخصصهم هذا قد حال بينهم وبين دراسات بشرية عديدة؛ فضاقت آفاقهم وصاروا ينظرون إلى لغتنا كما لو كانت إحدى اللغات المتحجرة في المعابد ، لا ينبغي تغيير كلمة أو حتى أسلوب التعبير فيها أو خطها.
زد على هذا أنهم قد أصبحوا طبقة لهم وضع اقتصادي، ووجدان طبقي ينهضان استبقاء اللغة العربية في جمودها الحاضر؛ ولذلك يخشون التغيير، ويرون فيه هجوما على مصالحهم الاقتصادية، ولكن يجب أن نذكر أن مصلحه الأمة يجب أن تعلو على مصالح أية طبقة فيها.
وظني أنه حتى هؤلاء، سيجدون في هذا الكتاب أفقا جديدا يتجه إليه تفكيرهم.
وحسبي من تأليف هذا الكتاب التنبيه، ثم المناقشة، ثم العمل.
س. م
12 مارس 1945
راجعت في مارس من 1953 هذا الكتاب، فزدت فيه فصلا عن «علاقة اللغة بالجريمة والجنون». وأصلحت هنا وهناك بما اقتضته الظروف، كما زدت فيه شروحا وتعليقات.
Unknown page