Bakaiyyat
بكائيات: ست دمعات على نفس عربية
Genres
لم يحتج إلى سؤال، فسرعان ما انقض كالصاعقة الكاسرة على كبدي. لم أستطع أن أتحسس الجرح، إذ كانت يداي مربوطتين إلى ظهري. لكنني بصعوبة نظرت إليه. هالني أنه لم يعد يؤلمني؛ إذ بلغ الحد الذي يتخطى الإيلام، ويصل إلى الغيبوبة. أردت أن أفتح فمي وأصيح: أين رسول الآلهة من الأوليمب؟ أين عطارد أو «مركور»؟ لكني يئست من العثور عليه. فربما كان الخمسة الموكلون بعقابي هم: عطارد، مركور. وربما يكون هو نفسه قد نسي دوره، واختفى أثره. وعم أتراجع أو أتنازل؟ جسدي عروه وفتحوا بطني، لم يبق هناك سر، حتى حافظتي يمكنهم أن يفتحوها، ولا بد أنهم سألوا مدير الفندق عني، أو سألوا العازف الصغير، من يدري إن كان مدير الفندق نفسه هو الذي أرسلهم إلي؟ أخذت أنفاسي تتلاحق، غام الأفق بعيني، غطتني سحب الغيبوبة، وأقفت على عزف الناي وريش يتناثر في الجو. هل تذرو الريح جناح النسر؟ ونظرت إليه، كان كجنح الليل، تكوم كالحجر الصلد، وانطفأ بريق المجد، والريش يخلق في الجو، ويصبح أجنحة، تنبت فيه القدم، الرأس، المنقار، العين، وينادي أحد الجلادين علي: انظر ما أخفيت، العش امتلأ ففر الطير.
لم أعرف ماذا يقصد. كان الريش لا يزال يتطاير. وأنا أتابعه شغوفا به، وأراه يتخلق أمامي طيورا مختلفة الأشكال والألوان. رفع جلاد آخر صوته، وأخذ يقول: لأنك أخفيت النار، كتمت السر، لا استدفأت ولا أدفأت الغير، ولهذا ضاق القفص وفر الطير.
أخذوا يرددون وراءه: فر الطير، فر الطير.
عيناي مشغولتان بمتابعة الريش والطيور، والحياة التي تتخلق كالسحر تمنعني أن أكترث بصياحهم. وهم كذلك لا يكترثون بي، ويواصلون غناءهم الرتيب: كتبت وقلت: لكن لم تك أنت، لم تك أنت.
أغاظني كلامهم، فصحت بهم: لم أكتف بالقول، فعلت ، ما كان بوسعي قدمت، ضحكوا واستمروا في الغناء: لكنك خلف قناع عشت.
قلت وأنا أشيح بوجهي: يكفي أني ما قصرت. لم أقس على أحد وقسا الزمن علي.
ضحكوا وأخذوا يصفقون: وعلى نفسك أنت قسوت. انظر هذا الطير الغاضب يخرج من كبدك، يخرج في صمت. نحن فتحنا القفص فرفرف في الجو، وراح يغني عذب الصوت. أما أنت فقد أهملت وترددت. - يخرج من كبدي؟
تؤلمني رقبني وأنا ألويها لأنظر في كبدي. حقا كان الريش يخرج منها. ينتشر في الفضاء كقطع متناثرة من قوس قزح. أسمعهم يضحكون ويقولون: تأمل هذا الطير، وانظر للوجه. وستنكره أو ستعرفه على الفور. تدوي الطيور حول رأسي، تتمهل قليلا أمامي لأتفحصها. أحقا أعرفها؟ أنكر بعض الأوجه، لا أذكرها، أعرف بعض ملامحها: سلطان يعشق جاريته، والجارية تحب العبد. وهذا الطير: إيزيس الملكة تهوى الفلاح المنحوس، وتعلمه، تبعث فيه الروح كما فعلت بأوزيريس. ما هذا أيضا؟ قارون تتبعه سبعة طيور. يا للذاكرة المثقوبة كالغربال! والحكماء السبعة! ومن هذا؟ هو أوديب، أوديب يدافع عن نفسه، إن أجرم في حق الشعب، فإن الشعب كذلك شارك في جرمه. وأب يحتضر ويلقي الأبناء عليه التهمة، تنتظر الزوج، وتغزل ثوبه، حين يعود ويغرق في الدم كفيه تصده، تنكر وجه القاتل، ترجع للمغزل، تنسج ثوب الزوج الحق وتنتظره، أطفال تبحث عن آباء، آباء تبحث عن أبناء، ووجوه أناس أعرفهم، فلاحون وخدم وقضاة، رسامون وشعراء ولصوص مهرة، دجالون وجلادون ونهازو فرص فجرة، أبطال أساطير ومساكين وثوار وضحايا الثورة ... إلخ. كانت الطيور تحلق في الجو، وتقترب مني، وتدوي في أذني، ثم تبتعد وتختفي. لم يمض وقت طويل، حتى كانت كلها قد ذابت كقطع السحاب التي تسوقها الرياح أمامها، وتحرقها أشعة الشمس، فتشف قليلا قليلا، حتى تتلاشى. صفت السماء وهدأ الدوي والطنين. وانكفأ النسر على نفسه، وأخفى رأسه بين جناحيه، واستسلم للنوم، وسكن الألم، فلم أعد أشعر بوخزه واحتراقه. وتطلعت أمامي، فإذا الجلادون الستة واجمون كتماثيل قرود متراصة في مدخل معبد. وانطلق صوت الناي، حنونا، منسابا في شفافية شعاع القمر الذي ازداد توهجا في السماء كتفاحة ذهبية. كانت هي الساعة التي تسبق طلوع الفجر. غلالة تغطي وجه الأرض، رمادية داكنة، تشبه سحابة غبار فوق أرض معركة لم تتضح. كنت قد تعبت وثقلت جفوني، فتراخى جسدي وتمدد، وسرى في كل شيء كما سرى فيه كل شيء. وإذا بالناي يفتح عيني، والصبي الساحر يبتسم عن فم عذب نضيد الأسنان. لولا القيد في ذراعي وساقي، لولا الخدر الباهت الذي يلفني كالضباب، ولولا أن النسر ما يزال في مكانه، والتماثيل الستة صامتة كالأصنام أمامي، لولاها لقلت لنفسي: كابوس زال. ولكن ها هو الصبي يعزف، كأن لم يكن شيء. واللحن يشبه أن يكون تحية ترحيب واستقبال لموكب قادم. ويبعد الصبي الناي عن فمه ويناديني باطمئنان: ها هو قادم! أهمس من مكاني: من؟ يدير الصبي ظهره إلي. يفتح ذراعيه كمن يستقبل ضوء الفجر الطالع بعد هزيم الرعد، وقصف الريح بليل عاصف: بشر لا كالبشر! إله أو شمس!
البطل الشمس
كان يتمشى على الشاطئ في جلال أبوللو وجماله. كيان أسطوري عالي الجبهة، شامخ الأنف كبطل روماني، منسدل الشعر على الكتفين، لا هو بالطويل النحيل الذي يشرئب عبثا للسماء، ولا بالقصير السمين الذي تجذبه العناصر للأرض. يقترب قليلا في مشيته الرائعة كجيش زاحف، تبدو عيناه الواسعتان السوداوان كعيني نسر هبط من الأوليمب لتوه، حلق فوق البشر، وعبر حدود الحياة والموت. وقف الصبي مفتوح الفم يتأمل عينيه، وفمه الدقيق، وذقنه الحاد المدبب، ولا بد أن العينين الواثقتين اللامعتين استغرقتاه، فظل يحدق فيهما ونسي الناي على فمه. كان ينحني على الرمال أحيانا؛ ليلتقط قوقعة أو يفحص حيوانا بحريا، أو يتأمل قطعة حجر. ثم يفتح ذراعيه وصدره القوي العريض للشمس ويهتف: لو لم تكن العين شعاعا من نور الشمس، ما أمكنها أن تبصر ضوء الشمس. أيها الصبي الوديع الجميل، أنت محظوظ إذ تعيش في بلاد الشمس. كانت روحي تتضور جوعا للدفء، فذهبت لروما وصقلية وألقيت العبء، عبء ضباب بلاد تخنق أنفاس المرء. أنت محظوظ، يا ولدي. لم لا تتكلم؟ ألا تحسن غير الغناء؟ وهذا الناي الذي أراه، أتكون صبيا لساحر؟ أغراني هذا الولد الماكر ، واشتهرت أغنيتي عنه. جرب مثله معلمه أن يقرأ بضع تعاويذ تسخر روح الأشياء، نسي حروف السر، ففاض الماء، وأغرق جدران المنزل والأبهاء، يا ولدي، لا تتعجل سير الزمن، ونضج الأشياء، كسلحفاة «زينون» أرادت تسبق خطو أخيل العداء، خذ نايك، واعزف أغنيتك للبحر وللأفق الوضاء: هل تذكرها؟
Unknown page