82

Bahr Mutawassit

البحر المتوسط: مصاير بحر

Genres

وتمر ستون سنة، فيعرض هيرودوتس على قومه صورة جديدة عن ذلك العالم البعيد، فيصف المئات من الجزئيات المنظورة أو المروية بما عرف به من براعة القصص جامعا بعض الأفكار المهمة، وكان على الشعراء في القرون القديمة أن يكونوا من علماء الفيزياء والتاريخ، ومن النادر في أيامنا أن يجمع الرجل في شخصه بين القابليات الأدبية والأهليات العلمية، وهذا ما يجعل مطالعة أشهر الآثار العلمية أمرا شاقا. وكان هيرودوتس وتوسيديد وبلوتارك من أكابر العلماء، وكانوا في الوقت نفسه من الشعراء الحقيقيين مع أنهم لم يركبوا متن الخيال قط.

وبما أن الأغارقة قد ساروا بالعلوم الرياضية نحو الكمال فإن فن صنع الخرائط الجغرافية بلغ من التقدم السريع ما يثير الحيرة. والمرء، حينما يفكر في أن غليلو وكيبلر أصيبا بكثير من الأذى والألم والإهانة لاكتشافهما النظام الشمسي، يرى أن البشرية رجعت القهقرى بعدما كان من جهر فيثاغورس وأفلاطون بكروية الأرض وما كان من إثبات أرسطو ذلك من غير أن يعن لكاهن أن يعارض ذلك. وكان الإسكندر، ككل فاتح، لا يبالي بغير ما استولى عليه من البلدان، فأمر بوصف آسية الغربية وبوصف الهند ولكن من دون أن يرسما على الخريطة.

ولم يحدث إلا بعده؛ أي في القرن الثالث قبل الميلاد، أن أضيف إلى المناهج الدارجة منهاج قياس الدرجات؛ أي الحساب الحقيقي لأي مكان كان. ويرى المستوى العالي الذي بلغته الجغرافية عند اليونان بالمثال الآتي: فقد حسب إراتوستن موقع جبل طارق الجغرافي فوجده 26° 21

25

مع أننا نعينه في الوقت الحاضر ب 26° 0

6 . 30!

وإذ لم يكن عند ملاحي القرون القديمة بوصلة فإنه كان يتعذر عليهم أن يعينوا الاتجاه وفق الخوافق،

126

وإنما كان يمكن هؤلاء الملاحين أن يدلوا على ما يستطاع، أو لا يستطاع، النزول إليه من الرءوس والذرى والصخور والأشجار كما كان يمكنهم أن يعينوا المحال العالية؛ حيث يمكن نيل الماء الصالح للشرب وحيث يمكن اتقاء الريح. وكان لا يمكن في غير الصيف تعرف البروج التي عرفها الفنيقيون قبل غيرهم، ولا سيما الدب الأصغر الذي ينتفع به في تعيين الاتجاه، فكانت الملاحة تقف في الشتاء لهذا السبب تقريبا. وقد وضع الأغارقة مبادئ الملاحة هذه وضعا مضبوطا، فلما أنشئت أول مدرسة بحرية في شلمنقة حوالي سنة 1500 بعد الميلاد انتفعت بمعارف أقليدس وبطليموس التي بلغت من القدم ثمانية عشر قرنا وأربعة عشر قرنا.

وإذا ما قابلنا بين ما وقع من تقدم في القرون القديمة وفي زماننا لم نجد اختلافا عظيما بين أثينة وباريس في النهار، وأما في الليل فعلى العكس يبدو ليل عالم القرون القديمة مظلما محزنا، وما كان الملاح العصري ليستطيع أن يعرف الجهات إذا لم يبصر الشاطئ المنار من مسافة كيلومترات كثيرة إذا أبصر الخط الداجن الذي كان ينتظر طلوع الشمس مكتئبا في ذلك الزمن، حتى في أكبر المرافئ كانت النار التي تسطع قاتمة في الهواء الطلق تقوم مقام المصباح العجيب الدوار الذي تعودناه، ويلوح أن أولى هذه النيران قد أوقدت في البيره على ذروة عمود كورنثي حوالي سنة 400 قبل الميلاد. وكانت تسطع نار القربان المخصص لأتينة في الأسفل قليلا وعلى هيكل مستدير، فبذلك كانت الآلهة الحامية للنار ترسل نورها الخاص إلى الملاح الذي يقترب بادية رمزا لمنبع الأفكار الملائمة للإنسان بما يورث العجب.

Unknown page