وكان عهد الإسكندر في أواخره من الانبساط والهوى ما لا ترى مثله في التاريخ. وكانت الوفود، في زمن خال من وسائل النقل ومن الطرق في الغالب، تأتي من سهوب جنوب روسية فتتدافع في إيوان سيد العالم هي ووفود أخرى آتية من منابع النيل الأزرق كما تتدافع هي والإيبريون والسلت والإتروريون والرومان والقرطاجيون ... وكان الجميع متسولا ملحفا، وكان مهندسو الملك يعملون معا في وضع مشاريع للملاحة حول جزيرة العرب وري بلد الفرات واستعمار جزائر الخليج الفارسي، وكان يقوم بناءون آخرون في البلد الملكي بزخرفة معابد جديدة في مدن بالغة القدم، وذلك إلى وجود ممثلين للمآسي ومشخصين من اليونان.
ومات الإسكندر في الثالثة والثلاثين من سنيه بغتة، وذلك بعد أن قام بأعمال عظيمة مع أنها مجزأة غير قائمة على خطة موحدة.
ومع ذلك كان لطوافه القصير في الأرض من النتائج ما لا يحصى، ومن ذلك أن انتشرت حضارة العصر وأغنى لغاته في مصر ونصف آسية، وأن انتحلتا من قبل أناس مثقفين ومن قبل ملاحين من بعض الوجوه، وذلك على حين عاد سلطان الإسكندر السياسي، سلطان نصف الإغريقي هذا، لا يكون إلا من ذكريات الماضي منذ زمن طويل، وقد ظلت لغة الأغارقة وحضارتهم في أقسام من جزيرة العرب ستمائة سنة، وفي سورية ومصر ألف سنة؛ أي إلى حين الفتح العربي. أجل، وجد الرومان، عند ظهورهم على مسرح التاريخ ممثلين لدور فاتحي العالم بعيد وفاة الإسكندر، الفرس والهندوس باقيين عرقا، غير أنهم أبصروا الثقافة اليونانية منتشرة فوقهم كبساط ثمين، أجل، لم يدخل الإسكندر هذه الثقافة، غير أن الإسكندر كان أول من وطدها على مقياس كبير.
وكان الإسكندر، قبل أن يخامره خمار الفتح العالمي، قد قام بمآثر خالدة تعد دليلا على ثقافته اليونانية، ففي تب صان بيت الشاعر بندار، وفي فارس عامل أم الملك وزوجه وابنته كما كان فرسان القرون الوسطى يعاملون نساء أعدائهم، وفي صور سمح لسفراء قرطاجة بالعودة إلى بلدهم أصحاء سالمين، وفي الألنب نشر في أثناء الألعاب مرسوما حمل فيه مدن اليونان على استرداد جميع مبعديها السياسيين، فأحدث هذا الأمر ذعرا في أثينة لما كان من توزيع أموال مبعديها منذ عشرات الأيام، ويتقاطر المهاجرون إلى الألنب لكي يسمعوا ذلك التدبير المحير الذي اتخذه ملك عادل.
ومهما يكن من أمر فإنه يظل حسن السمعة ما كسرت الحواجز بين الأغارقة والبرابرة، وما نقل تراث اليونان من قبل رجل غير إغريقي ولا نصراني، وقد حمى هذا الرجل بحرارة الهمجي الفتي تراث اليونان الذهني تجاه فتنه وحروبه الأهلية الدائمة.
25
الإسكندرية هي عمل الإسكندر الوحيد الذي ظل باقيا حتى أيامنا، وفي آسية زالت المدن الثلاث أو الأربع التي شادها هذا العاهل وشرفها باسمه كما زال أبناؤه وأزواجه وأمه؛ أي جميع هؤلاء الذين قتلوا، وكذلك لا ترى أثرا للنصب الذي أقامه في الحدود على الهيفازيس بالهند ليرى الأعقاب أين وصل عاهل البحر المتوسط الأول. وعلى العكس ظلت الإسكندرية باقية، لا لأنها ميناء وحيد على البحر المتوسط حيث تكثر الموانئ؛ بل لأنها تنم على فكرة عبقرية، على دستور جديد؛ بل لأنها أول مدينة عصرية في العالم القديم ونموذج للمرافئ في المستقبل.
وذلك الميناء جعل من الإسكندرية عاصمة العالم الثقافية في القرون الثلاثة الأخيرة قبل الميلاد مع أن رومة كانت أقوى مدينة، وتربط الإسكندرية بين ثلاث قارات أحسن مما تربط أية مدينة أخرى. وفي الإسكندرية كانت توجد مكتبة أشهر من مكتبات التاريخ وأكمل من مكتبات العالم الحاضر، وتحرق هذه المكتبة بعد ثلاثة قرون من تاريخ إنشائها فيزول بذلك أثر لا يعوض من آثار العالم القديم، ويمكن تشبيه بليتها بالانفجار الذي وقع على الأكروبول مؤخرا، وبلغ مؤسسو المكتبة من الاغتباط بما جمعوه درجة منعوا بها إصدار البردي عندما حاولت فرغامس
124
نفسها تأسيس مكتبة.
Unknown page