78

Bahr Mutawassit

البحر المتوسط: مصاير بحر

Genres

وقد أعدت أفكار إغريقية ابن البلد الهمجي هذا لأعمال الكرامة والمروءة والبدائع الثقافية التي عدها مقلدوه أهم من فتح الهند. وكان الإسكندر أسدا بربريا يحضر أمورا فظيعة ويتمها بنفسه. وكان الإسكندر يخاطر بحياته في جميع المعارك وينال انتصارات حاسمة بحد سيفه، ومع ذلك كان الإسكندر ينشر في الوقت نفسه أزهار الحضارة اليونانية في جميع البلدان المفتتحة.

ولو كان هذا الأمير يتصرف، كأبيه فليب، بجنود أكثر قوة فقط، أولو كان في معاركه قادرا كبرابرة الوقت الحاضر على الانتفاع بآلات حربية فائقة فقط، ما كان أهلا للالتفات أكثر من جنكيزخان، ولكنه إذ هضم أفكار الأمة الكبيرة المجاورة قبل قهرها صار في وضع الفاتح النادر الجامع بين القوة والروح، ولم يسطع يوليوس قيصر ونابليون، اللذان يشبهان به، غير تقليده تقليدا ناقصا لما كان من مكافحتهما حضارات رفيعة في بعض الأحيان. وكانت أفضلية الحضارة اليونانية القريبة من غاب البلقان البكر قد بهرت ملك مقدونية فليب، الذي عرض سلما لينة على أثينة المهددة من قبله بعد أن قهر تب. وفليب كان بالحقيقة مؤسس أول جمعية للأمم عندما جمع جميع القبائل الإغريقية، خلا إسبارطة، في مؤتمر بكورنث ، وهكذا يصبح ملك أجنبي رئيسا لحلف يوناني.

وشاهد الإسكندر جميع ذلك عن كثب، مع أنه كان وليا للعهد، والإسكندر هو الذي انتزع النصر في كيرونه بشجاعته الشخصية، والإسكندر قد رأى أباه الذي هو من أنصاف البرابرة يدعو الأغارقة إلى محاربة ملك الفرس الذي كان أمدن من هذا المقدوني. وعلى ما أدت إليه أعراس فليب وأعراس ابنته الدامية من زيادة تعطش فليب إلى السلطان، انتهت بمذابح ونهاب للعرش عقبتها مذابح جديدة، ولم يتقلد السلطة ملك في أحوال أكثر شؤما من تقلد الإسكندر الفتان. ويذهب الإسكندر إلى مقاتلة الفرس والفتح، لا لتحرير الأغارقة منهم، ما كادت أثينة وتب ترتبطان مع ملك الفرس في عهد ضد ملك مقدونية. ويبدو الوضع الذي ورثه الإسكندر سيدا للأغارقة من عدم الثبات ما كان عليه أن يتساهل به مع الأثنيين حتى بعد أن ينال نصرا جديدا.

ويرى بغريزته وبحكمته، وليا للأمر، أن يحفظ أثينة وأن يخرب تب. ولما سقطت هذه المدينة البالغة الشهرة والنضج، قال معاصر إن نور القمر قد انطفأ في الفلك كما لاح.

وتقوم شهرة الإسكندر على أن الطالع لم يمن عليه بغير وقت قصير لفتح العالم من جهة، وعلى جماله البدني من جهة أخرى، ولو كان وجه الإسكندر أقل نضارة ما استطاع أن يظهر للعالم إغريقيا، وكان الإسكندر يعرف ذلك، فيعنى بالدعاية مستعينا بالنحاتين والصحافيين والمؤرخين الذين يجمعون ويسجلون للأعقاب شمائله وما يحوم حوله من أقاصيص. والحق أن الإسكندر كان يحب المجد أكثر من حبه للسلطان على ما يحتمل، وكان أجمل أعماله يصدر عن رغبته في بعد الصيت أكثر مما عن المعاني الخلقية، وما كان من سرعة مفاخره واتساع مآثره ينم على عظمة رجل يؤلمه شعوره بالموت قبل الأوان فيجمع في ثلاث عشرة سنة، كما جمع نابليون، ما قسمه قيصر أو شارلكن على ثلاثين.

لم يذهب الإسكندر إلى الحرب لفتح العالم، بل لقهر الفرس، وقد قادته طريقه إلى الشرق إذن. وكانت الأمم الفاتحة، الأغارقة والقرطاجيون والفرس، يولون وجوههم شطر البحر المتوسط على الدوام ؛ ولذا لم ينطلق الإسكندر غير نصف انطلاق من عالم البحر المتوسط، ومن عالم البحر المتوسط الشرقي فقط، وهو لم يجاوز البلوبونيز طولا قط، ولو بدا له أن يعد نفسه رسولا للحضارة اليونانية لكان من المنطق أن يولي وجهه شطر الشرق ما دامت هذه الحضارة قد بلغت مرسيلية وجبل طارق منذ قرون. ويجد الإسكندر الأغارقة على شواطئ آسية الغربية، ويجد آلهتهم وفنونهم، ويسأل في نفسه: هل يفضل هؤلاء الأغارقة جيوش المقدونيين على جيوش الفرس؟ وكان الأغارقة يضطرون إلى مقاتلة إخوانهم الأغارقة في الغالب، وليس القتال في سبيل تحريرهم من نير الفرس إلا وليد تنافس ملكين قويين كانا يهدفان إلى السيطرة على شعوب لا تلبث أن تقهر بالحديد، ويتصادم الإسكندر والقرطاجيون المنافسون للأغارقة، وذلك في أثناء حملاته الأولى على صور الواقعة في شمال حيفا الحاضرة التي كانت جزءا من فنيقية، ويفر ألوف الناس إلى قرطاجة عندما انتشر خبر اقترابه، ومما حدث أن رجلا من أهل صور رأى في منامه استعداد إله هذه المدينة الحامي أبولون لمغادرتها، فقيدوا تمثال هذا الإله بالأغلال، وهل ضحك أبولون على الطريقة الأوميرية أو اكتفى بالابتسام على طريقة الفلاسفة؟

وفي منطقة أقصى شمال البحر المتوسط وسع الإسكندر نطاق فتوحه من الدردنيل إلى النيل، وهنالك أتم أدل أعماله على سعة البصر وأبقى آثاره على الدهر. وذلك أنه عند ظهوره وحده حفز كهنة أمون إلى التصريح بأنه ابن الرب، وذلك أنه أنشأ بعيد ذلك مدينة الإسكندرية في أصلح مكان لهذا المرفأ، في أهم محل على سواحل البحر المتوسط، في موقع لا تزال قائمة عليه منذ ألفي سنة. أجل، نصحه المهندسون بذلك لا ريب، غير أن العبقرية التي أبصر بها هذا الشاب، هذا الجندي، هذا الأجنبي، مستقبل ذلك الشاطئ المهجور فوضع فيه أسس مدينة عصرية ليست أقل إثارة للعجب، والإسكندر هو الذي عرف في ذلك الرأس الغربي الخالي من دلتا النيل ما لم يبصره أحد من سادة مصر الذين ظهروا قبله، والإسكندر هو الذي عرف المكان الذي يمكن ميناء أمينا فيه أن يصل مصر بالبحر المتوسط، من غير أن يبلغه غرين النيل، والإسكندر هو الذي يلوح أنه أدرك ببصيرته صورة تجار من الأغارقة يشحنون قمح مصر، والإسكندر هو الذي وضع، كما يصنع أمريكي الوقت الحاضر، رسما لشوارع ذات زوايا مستقيمة معينا الشوارع بحروف الأبجدية للمرة الأولى كما هي الحال في شوارع وشنغتن الآن، ومعلما مكان معابد إيزس وزوس اللذين هما إلها ذلك المكان المتنافسان، وما فتئت مصر تكون من بلاد البحر المتوسط منذ ذلك الحين، وتقول القصة إن الإسكندر وضع رسمه أمام مهندسيه على أساس من دقيق فوق منضدة في الهواء الطلق فأتى طير كثير فنقرت الدقيق فعد ذلك فألا.

وفي تاريخ للبحر المتوسط يجب أن يذكر، عند البحث في موضوع حملة الإسكندر من فارس إلى الهند، ما هو الوجه الذي نقل به الإسكندر روح الأغارقة إلى آسية؛ وذلك لأن إمبراطوريته العالمية كانت قصفة غير ثابتة من حيث ظهورها عنوانا للقوة، وهنا تنكشف طبيعة الإسكندر الثنائية، ولا أحد يستطيع أن يقول موكدا إن أسد الغابة البكر الهمجي تغلب في عرينه على تلميذ أرسطو.

ويربى الإسكندر جنديا فلا تكون الحياة اليومية عنده غير جهاد متصل تقريبا، ويشابه سيره في الحياة سير سوفوكل في ميدان القتال، فكان يحارب في الصف الأول دوما راكبا حصانا شاهرا سيفه على العموم، وكان له حق القتل من الناحية الأدبية ما عرض للخطر على الدوام. وكانت مهنته تقوم على القتل ونيل النصر، وهكذا يمكن أن يرى مصورا على ناووس فخم يحمل اسمه فيحفظ اليوم في استانبول، وهكذا تجده مصورا على فسيفساء تمثل بها معركة إيسوس حاسر الرأس متموج الشعر مغيرا بحصانه على ملك الفرس.

وأثبت الإسكندر عبقريته بما وفق له من دفع الخطر مجاهدا ومجادلا مناوبة، وحدث أن ظهرت مؤامرة في الجيش بغتة فخطب في الكتائب قائلا: «لكم جميع ما ربحت، لكم سورية ومصر والعراق أيها الأصحاب، أنتم المرازبة أيها القواد! ماذا تركت لنفسي؟! لقد حرمت نفسي النوم لأدعكم تنامون! أروني جراحكم لأريكم جراحي! من شاء الانصراف منكم فلينصرف ، اذهبوا جميعا، وهنالك أتخذ حرسا من البرابرة المغلوبين!»

Unknown page