72

Bahr Mutawassit

البحر المتوسط: مصاير بحر

Genres

ويعسكرون فوق الأكروبول ويهدمون الأسوار الطويلة، ويقبضون على أسطول عدوهم المغلوب، ويطلبون تسليم جميع المستعمرات، ويحملون أهل أثينة على دخول الحلف اليوناني بإدارة إسبارطة، ويقلبون ديمقراطية أثينة بنصبهم بضعة رجال لرقابة شئون الدولة، وما الوجه الذي انقض به البرابرة في ذلك الزمن على المغلوبين من غير أن يأتوا برأي جديد انتصارا لقضيتهم، وما الأسباب التي نكس بها الشعب الأثني التعب، إلا من نوع الحوادث التي تجدها في حروب زماننا. وكان النظام الديمقراطي المسيطر على أثينة قد فسد في الداخل منذ زمن طويل، وكان الصعاليك؛ أي معظم القوم، قد نالوا منحا من بركلس، فغدت مناصب القضاء مفتوحة للفقراء الذين كانوا في ذلك العصر أميين غالبا، وصار بعض الأغنياء ينضم إلى بعض، وكانت طبقة السيكوفان؛ أي طبقة المحامين الشرود، تظهر ممثلة للشعب. والواقع أن أثينة لم تبلغ المجد بنظمها الديمقراطية بل انتهت إلى ذلك خلافا لهذه النظم، والواقع أن الديمقراطية هي التي أدت إلى ذلك السقوط. والواقع أن بركلس لاعب الشعب فاعتقد هذا الشعب أنه يحكم بواسطته، ودستور مثل هذا كان سابقا لأوانه في القرن الخامس قبل الميلاد ... وكيف يمكن ديمقراطية حقيقية أن تنمو في دولة من دول القرون القديمة مع اشتمالها على ثلاث طبقات من السكان وهي: طبقة أبناء الوطن وطبقة الغرباء وطبقة العبيد، ومع وجود حقوق خاصة لكل طبقة تختلف عما للطبقتين الأخريين اختلافا تاما؟ وقد سقطت أثينة ضحية لإسبارطة ذات النظام الاستبدادي؛ لأن أثينة لم تكن ذات ديمقراطية حقيقية.

والرجل الوحيد الذي عاش طويلا ليرى جميع الحروب هو صديق الشعب وعدو الديموقراطية سقراط، وما اتفق له من صيت يفوق الذي تم لجميع رجال القرون الأولى، حتى للإسكندر الأكبر، مدين لأحوال موته، وبين رجال البحر المتوسط الكثيري الميل إلى مطارحة الحياة والموت كان سقراط وحده هو الذي ذهب إلى الموت بمحض إرادته، وذلك عن حب للحرية أو كنبيل كما يمكن أن يقال.

وما كان من انتحار أنطونيوس أو بروتوس مثلا يعد من أعمال المقامرين التعساء الذين لم يكن عليهم غير اختيار الموت أو الرق، ولم يفضل سنيكا الموت إلا ليتفلت من سقوط طالعه، ولم يعش الفيلسوف إنبذقل، الذي قيل إنه رمى نفسه في فوهة بركان إتنة، ولم يمت إلا متشائما، وخر يوليوس قيصر صريعا في أثناء مصارعته القتلة الأنذال، ودعا يسوع الله في الليلة الأخيرة أن يحفظه، وسقراط وحده هو الذي رفض أن ينقذ ضاربا بغريزة حب البقاء عرض الحائط، وقد كان عمره ضعفي عمر يسوع بالحقيقة، وقد أرسل قضاته إليه من يخبره بأنه يستطيع الفرار كالآخرين، وهو لم يكن مصابا بمرض أليم، وهو لم يكن محتاجا إلى البقاء في أثينة ليداوم على أعماله التي كان يأمل أن يواظب عليها في الآدس، وهو قد كان منتحلا لمذهب يسوع في الأخلاق قبل ظهور يسوع بزمن طويل فظل يستوحيه حتى النهاية.

ولو لم ينته إلينا من تاريخ اليونان وثيقة عن الجمال والحكمة غير رسالة «تقريظ سقراط الأثني» لأفلاطون لكان به ما تعلو أثينة فوق حضارات البحر المتوسط الأخرى، بيد أن ما يساور أهل أثينة من خبث وأسف يتجلى رمزه في موت سقراط المجيد.

وكيف هلك جميع عظماء هذه المدينة في الحقيقة؟ لم يخر أحد منهم صريعا وهو يقاتل، ولم يمت أحد منهم حديث السن، والواقع أنهم ماتوا شيبا بعد أن تمت آثارهم منذ زمن طويل، ومات إسشيل ابنا للتاسعة والستين، ومات أوريبيد ابنا للسابعة والسبعين، ومات أريستوفان في الثالثة والستين تقريبا، وقل مثل ذلك عن أولياء الأمور وعن الفلاسفة، فقد مات سقراط في الحادية والسبعين، ومات أنكساغورس في الثانية والسبعين، ومات هيرودوتس في التاسعة والسبعين، ومات فيثاغورس في السبعين تقريبا، ومات أفلاطون في الثمانين، ومات إيزوقراط في التاسعة والتسعين. وليس من الصحيح أن الأغارقة كانوا يجدون الموت قرين الشباب، فما انفك الأغارقة منذ عصر أوميرس يتمنون موتا لينا بعد عمر طويل. وإذا ما نظرنا إلى العظماء بين الأغارقة، وهم الذين يمثلون خيار قرن ونصف قرن في أثينة على الخصوص، لم نجد سوى واحد من سبعة عشرة، لم نجد سوى سوفوكل، استطاع إنماء قريحته طليقة غير مقيدة، وأما ال 16 الآخرون فإن مصيرهم يدل على ثورة المجتمع ضد العبقرية، فهؤلاء الأغارقة ماتوا بين سنة 456 وسنة 322 قبل الميلاد في أعمار تترجح بين ال 55 وال 75، بعد أن كانوا موضع اضطهاد، فمات إسشيل في المنفى، وأبعد أريستيد في مشيبه لمدة خمس سنين ثم عفي عنه، ونفي تمستوكل فمات في بلد الأعداء، واتهم بركلس فعزل، ومات فيدياس في السجن، وفر إختين ومات في بلاد الأعداء، وحكم على أنكساغورس بالقتل فمات في المنفى، ونفي فيثاغورس فمات جوعا على ما يحتمل، ومات هيرودوتس مبعدا، ونفي أوريبيد ضمنا فمات في بلد أجنبي، ونفي توسيديد وقتل، ونفي ألكبياد الذي هو أحدثهم سنا وقتل، وحكم على سقراط بالقتل، وبيع أفلاطون عبدا في البداءة ثم أعتق، واتهم أرسطو وفر ومات بعيدا من بلده، واضطهد ديموستين وشرب السم.

وكان عمل الحوادث في طرد هذين الأخيرين أكثر من عمل أبناء وطنهم، فدل ذلك على حقد الأغارقة وعدم صبرهم وعلى حسدهم وإنكارهم الجميل، ويجنح أحيانا إلى جعل الحق بجانب أريستوفان. ومن سعادة الإنسانية أيضا أن يكون حس الجمال قد حال دون تخريب الأغارقة لآثار المبدعين حين القضاء عليهم.

21

الموسيقى هي أكثر الفنون شهوانية، وهي تلازم تاريخ الحب في كل زمان، تلازم المصريين كما في أفلام

117

أيامنا، ومع ذلك تظل غير ملموسة كأنها متموجة في الهواء، وهي لا تزال تمحي أكثر من امحاء الشعر الذي يمكن حفظه وفحص ما ينطوي عليه من خيال، وليس أثر الرسام أكثر ظهورا، والأوضح منه جزء قليل من بناء، والحق أنه لا يمكن مس غير التماثيل.

Unknown page